ألفة يوسف: وهم الثّوابت وهاجس التّماثل (الجزء الثاني)


فئة :  حوارات

ألفة يوسف: وهم الثّوابت وهاجس التّماثل (الجزء الثاني)

د. نادر الحمّامي: نجدّد شكرنا للأستاذة ألفة يوسف على قبولها أن تكون ضيفتنا اليوم للحوار معها حول العديد من المشاغل التي نجد لها صدى في مؤلّفاتها وفي ما تصدع به من آراء باستمرار؛ ورغم تأكيدها أنّها لا تحمل مشروعاً، فإنّنا نرى في ذلك ملامح مشروع كبير، ينطلق من مقولة الخلاص الفردي نحو مقولة الفرد المطلق. وهنا صعوبة المسألة، لأنّ الفرد هو المنطلق، وهو المنتهى بكلّ ما يحيل عليه ذلك من واحديّة ربّما، ولكنّها واحديّة في إطار التّعايش لأنّها تستوجب التّعدّد، وهو ما يجعلنا مطالبين بالتّعايش في إطار جماعة ولكن باعتبارنا أفراداً، ذلك أنّ التّخلّص من الجماعة صعب جدّاً خاصّة في ظلّ وطأة موروث وتاريخ يقوم على إنكار الفرد، فهل توافقين هذا الرأي؟

دة. ألفة يوسف: هذا من أعمق الأسئلة التي يمكن أن تُطرح فعلاً، فما يبدو عادة شديد التّعقيد هو في الحقيقة بسيط جدّا؛ فالحديث عن الواحد أو الفرد لا يتعارض مع التّعايش الذي يفيد التّعدّد بالضّرورة، وقد اكتشفت هوَساً بداخلي حول المعنى الواحد الذي يتشكّل متعدّداً منذ أن أنجزت أطروحتي حول ''تعدّد المعنى في القرآن''، دون أن أعي حينها الخلفيّات الصّوفيّة الكامنة وراء ذلك. إنّ الحياة التي تجري في عروقنا واحدة، وهي ما يجعلنا نقول "نحن موجودون"، وعليه يمكن أن ننكر كلّ الأفكار وكلّ ما تعلمناه وكلّ النّظريّات، ولكن لا يمكن أن ننكر الوجود أو الكينونة، لأنّنا موجودون بشكل ما، ولا يهمّ من نكون ولكنّنا جزء من هذه الحياة الواحدة التي تتجسّم عبر عدد لا نهائي من الأشكال المختلفة "بعدد أنفاس الخلائق"، بعبارة ابن عربي، وكلّ واحد فينا يجسّمها بطريقته. هذا "الواحد" بعبارة المتصوّفة، هو ما يمثّل الباطن أو الوفاق الذي يشدّنا جميعاً، وهو ما أُطلقَ عليه حديثاً تسمية الإنسانيّة، والبعد الإنساني فينا يتشكّل ظاهراً في صور مختلفة لا يمكن فصلها في النّهاية عن البعد الرّوحاني، وفي العالم اليوم عودة إلى هذا البعد الرّوحاني، وإن سُمّي أحياناً تسميات أخرى "شبابيّة" مثل التّنمية الفرديّة أو البشريّة. فالحياة هي الشّاشة التي نشاهد عليها صوراً مختلفة وأفلاماً كوميديّة أو عاطفيّة أو مسلسلات أو وثائقيّات أو حوارات... ولكنّها شاشة واحدة في النّهاية، ورغم تعدّد الصّور واختلافها فالجوهر واحد، وقد تحدّث أرسطو عن ذلك. ولعلّ المشكل يكمن في اعتقادنا أنّ الصّور هي الجوهر؛ فما نعتقد أنّه خاتم من ذهب على سبيل المثال هو ليس كذلك في الحقيقة، إنّما هو ذهب في شكل خاتم، لأنّ الجوهر هو الذّهب، ويمكن أن يتشكّل خاتماً أو عقداً أو ما تشاء، وتلك الصّور هي التي تشكّل أوهامنا حول الحياة، فتجعلنا نعتقد أنّنا نختلف عن بعضنا البعض في الجوهر إن اختلفنا في الصّور، وهذا وهم.

د. نادر الحمّامي: ولكنّ أرسطو نفسه يقول، إنّه يستحيل التّفكير بدون صور.

دة. ألفة يوسف: طبعاً، فما أردت قوله ليس أن ننفي الصّور، ولكن أن نعي أنّ الصّور وحدها لا يمكن أن توجد دون جوهر يشدّها، فنحن في نهاية الأمر مجرّد صور، وحتى من المنظور الفيزيائي السّطحي؛ فالإنسان يعود إلى الذرّة ومن بعدها إلى لا شيء، وهذا ما تقوله الفيزياء الكانطيّة التي تعود بشكل ما إلى ما قاله بيركلي (George Berkeley) (1685-1753) من أنّ العالم الذي نراه هو عالم جُوّاني. لذلك، لا يمكن أن نتصوّر الشّيء في ذاته، لأنّنا نتّصل بكل شيء في الكون من خلال حواسّنا وأدمغتنا، وكلّ ما نراه خارجاً هو مجرّد إسقاطات وصور، وهذه الصّور جميعاً مختلفة، ولكنّها تتعايش وستتعايش رغماً عنّا، ولا إمكان لإقصائها، فكلّ من حاول أن يقصي الآخر كان مصيره الفشل، لذلك فشلت الفاشيّة رغم أنّها تنطلق من فكرة الطّهارة (le purisme)، وكلّ وهم طهارة يؤدي إلى فاشيّة ما، سواء أكانت باسم الأديان أو باسم الدّيمقراطية أو باسم الجنس الأفضل أو أيّة أيديولوجيا. فالأصل أن نقبل هذا التنوّع، لأنّه أساس الكون. ومن تصوّراتي الإيمانيّة البسيطة أعود دائماً إلى الآية الشّائعة ''وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس/99) '' إذا فربّك لم يشأ، وأبدل لفظ ''ربّك'' بالحياة، بالكون، بالإرادة، أو بما شئت، فلا يمكن أن ترفض الاختلاف أو تقتل كلّ المخالفين لك، لأنّك في نهاية الأمر تقتل نفسك، فلا يمكن أن تحيا وحيداً مع ذاتك، تخيّل أنّ شخصاً يحيا مع صور متنوّعة من ذاته، فلن تكون هناك حياة.

د. نادر الحمّامي: لعلّ هذا التّعدّد في الصّور مع وحدة الجوهر، هو ما دفعك إلى الخوض في مواضيع قد تبدو من التّابوهات اجتماعيّاً؛ لأنّ ما يعبّر عنه مثلاً بتابو الجنس هو مجرّد صورة من بين صور متعدّدة تُعطى له من مجتمع إلى آخر، ولكنّه يعود إلى جوهر واحد.

دة. ألفة يوسف: هذا جائز جدّا، لأنّ الحديث عن التّابوهات متّصل بما يسمّى التّكييف (le conditionnement)، كلّنا مكيّف ولا أستثني نفسي من ذلك، فأحيانا أكتب كلاماً على صفحات التّواصل الاجتماعي، ثمّ أنظر وأتساءل كيف قلت ذلك الكلام، ولكن التّجربة الجوّانيّة جعلتني أرضى بأنّ ذاك الكلام قيل في تلك اللّحظة، وهذا تمرّد على النّزعة الطّهريّة بقبول ذاتي كما هي، لأنّها كائنة كما هي، ورفض ما هو كائن لن يغيّر شيئاً.

د. نادر الحمّامي: ولعلّ خصائص الفرد الذّاتيّة التي تعتبر من التّابوهات غير المقبولة اجتماعيّاً، هي نتيجة هذه النّزعة الطّهريّة التي ربّما تكون أحد المعوقات أمام ما يعرف اليوم بالحرّية الفرديّة.

دة. ألفة يوسف: تأكيداً لكلامك، فأهمّ مشكلة لدى الطّفل في أغلب البلدان المسلمة هي أنّه ينشّأ على اعتبار أنّه مسلم وأنّ الآخرين كفّار، فيتصوّر أنّه أفضل من الآخر، وينسى أنّ الإسلام تكييف، وأنّ هناك في بلاد أخرى تكييف آخر يجعل النّاس مسيحيّين أو لا أدريّين أو غير ذلك.

د. نادر الحمّامي: أذكر أنّ في أحد برامج التّعليم الرّسميّة في مادّة التّفكير الإسلامي درساً حول الصّلاة، يُطلب فيه من التّلميذ شطب الخطأ من بين خيارين هما (المسلم هو من يصلّي/ الكافر هو من يصلّي)، وهذا التّكييف بالطّقوس ساهم في تغييب الوعي لدى الطّفل المسلم بالاختلاف في بعده الأساسي أي دون حكم مسبق.

دة. ألفة يوسف: لاسيما أنّ الوعي بالاختلاف لا يقوم على إلحاق الضّرر بالآخر. هذا التّكييف الخاطئ منذ البدء هو الذي ينتج العنف فيما بعد، مثلما يؤدّي تكييف الطّفل على حبّ فريق رياضيّ إلى ما نشاهده من عنف في ملاعب كرة القدم، وننسى في خضمّ الفخر بالانتماء إلى فريق ما أنّها لعبة في النّهاية تقوم على بعد جماليّ. أذكر في هذا السّياق، رسالة مضحكة جدّاً وجّهها لي شخص ما، ينسب فيها أقوالاً مغلوطة حول المرأة إلى فرويد وأينشتاين ويذيّلها بحديث للرّسول ''النّساء شقائق الرّجال''، قائلاً: ''الحمد لله على نعمة الإسلام، أنا أفتخر أنّني مسلم''، وهنا أرى من المضحك حقّاً أن يقول أحدهم أنا أفتخر بأنني مسلم، تفتخر بماذا؟ هل معنى هذا أنّ الشّخص الذي لم يبلغه تكييف الإسلام بالطّريقة التي بلغتك هو شخص سيّء بالضّرورة؟ لذلك قلت منذ حين لا يهمّني أن يدخل شخص الإسلام، وإنّما يهمّني أن أسمع أنّ هناك شخصاً يحبّ الآخر ويتقبّله ويعمل على مساعدته، بغضّ النّظر عن انتماءاته أو إيديولوجيّته.

د. نادر الحمّامي: ما ذكرتِه حول العنف في ملاعب كرة القدم، وتلك الجماهير التي تمارس العنف على بعضها البعض، هو قياس على من ينتمي إلى عرق ما أو دين ما، ويظلّ يدور في فلك تلك الهويّة الجماعيّة دون وعي بالهويّة الفرديّة.

دة. ألفة يوسف: هو خوف من فراغ الفرد، فالجماعة تمثّل نوعاً من الحماية الوهميّة للفرد الذي يأتي من لا شيء، ويتصوّر أنّه سيموت ويعود إلى لا شيء، لذلك يرغب معظم النّاس في إنجاب أولاد، ليحملوا أسماءهم جيلاً بعد جيل، لتحيا أسماءهم بعد أن يكون قد لفّهم الموت. هذا يدلّ على أنّ الجماعة هي وهم الخلود، والفكر الجماعي يتوهّم أنّ الإنسان عليه أن يكون في صفوف مرصوصة كالبنيان حتى لا يواجه الحياة وحده، وهو لذلك فكر إقصائيّ بالضّرورة، لأنّ الجماعة ستكون حتماً ضدّ جماعة أخرى. والطّريف أنّها ضدّ جماعة أخرى بها تكون، ولكنّها تعمل على إقصائها والقضاء عليها، وهذه مفارقة لا يشعر بها المنتمي إلى هذا الفكر الجماعيّ، لأنّه يتصوّر نفسه أفضل من الآخر. لذلك أرى أنّ على المسلمين، إذا ما أرادوا أن يخرجوا من الحلقة المفرغة التي يدورون فيها منذ قرون، أن يبادروا إلى مراجعة هذا التّكييف التّربوي.

د. نادر الحمّامي: هذا التّصوّر الجماعي هو من العوائق الفكريّة التي تقف حائلاً في مجتمعاتنا اليوم دون الأفكار القائمة على مبدأ الفرد والمساواة والحرّية، وعلينا التّساؤل عن السّبب وراء عدم استساغة هذه المجتمعات لتلك القيم الحديثة.

دة. ألفة يوسف: تحدثتُ عن التّربية التّعليميّة، ولكن الأمر يبدأ منذ الولادة؛ فالأبوان يتصوّران أنّ المولود امتداد لهما، وبذلك لا يُنظر إليه بصفته فرداً؛ وأذكر قول جبران في كتابه "النّبي": ''أبناؤكم أبناء الحياة''، وقد توصّل إلى ذلك، لأنّه بلغ مرتبة كبيرة من الرّوحانيّات، فالأب يريد أن يشكّل ابنه بالصّورة التي يتوهّمه عليها، وإن لم ينجح في ذلك يكون ردّ فعله عنيفاً تجاه الابن، لأنّه يخاف أن يخرج عن سيطرته ويكون مختلفاً عنه. يقول لي أبنائي أحياناً أشياء تخالف التّصوّرات الموجودة في محيطنا العائلي، وأتساءل من أين أتوا بها، وهذا يؤكّد أن أبناءنا مختلفون عنّا. فالابن مختلف بالضّرورة، ولكنّه لا يعامل من البدء على أنّه فرد، وإنّما يعامل على أنّه امتداد لتسلسل ما، ويجب أن ينشأ في قالب معيّن، وأن يكون على صورة ترضي الأبوين والمجتمع، ثمّ تأتي المدرسة وتواصل في القالب ذاته، فينشّأ الطّفل على أنّه مسلم في مقابل الكافر، ويعلَّمُ أن ينتمي إلى جهة ما في مقابل من ينتمون إلى الجهة الأخرى. وهكذا تستمرّ الحكاية شيئا فشيئا، والأمر ليس خاصّا بالمتديّنين، فحتّى من يسمّون أنفسهم حداثيين لهم الموقف ذاته، والسّبب وراء ذلك أنّنا نريد من الآخر أن يكون مثالاً لنا. ولنا أن نتساءل في هذا السّياق، على سبيل المثال، ما الذي يزعج شخصاً غيريّاً في أن يكون شخص آخر مثليّاً؟ ففي نهاية الأمر هو مثليّ شئنا ذلك أم أبينا، وقد تحدثّت مع البعض في هذا الموضوع، ولاحظت أنّ ردود أفعالهم تكون عنيفة في البداية، ولكنّهم يقولون في نهاية المطاف بأنّ على المثليّ أن يختفي، على الأقل، أو يمارس ما شاء سرّاً، وهذا لأن كلّ إنسان يخاف على هشاشته من الآخر المختلف عنه، فيغطّيها بوهم الجماعة، فأن يكون مسلماً فذلك يعني لديه ألاّ يرى إمكاناً آخر لشخص غير مسلم، أو أن يكون مسلماً سنّياً، فلا يرى إمكاناً آخر لمسلم شيعيّ، لأنّ ذلك يخلخل اقتناعه، ولأنّ إيمانه ليس نتاج تجربة شخصيّة وآلام وعوائق تجاوزها بشكل ما، ليصل إلى شبه جواب، وإنّما هو نتيجة هذا الوهم أو الحماية الجماعيّة الهشّة، وكل إمكان آخر يذكّره بأنّه كان يمكن أن يكون كذلك، فيقصيه ولا يرى في النّهاية غير إمكان وحيد. وعندما نتحدّث عن الأسرة لا بدّ أن نعي أنّ هذا المفهوم غربيّ جاء مع الثّورة الصّناعيّة، وأنّه ليس موجوداً في الإسلام، وأقصى ما هنالك مفهوم الشّعوب والقبائل "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" (الحجرات/ 13) أو مفهوم الأهل. فالأسرة مجرّد إمكان من الإمكانات، لأنّ المجتمع لا يتكوّن من الأسرة فقط، بل يتكوّن أيضا من المواطنين، فهناك أناس لا يتزوّجون ولا يكوّنون أسرة. ولذلك، فما يتمّ تصوّره على أنّه النّواة الأولى للمجتمع المسلم وما يسمّى "الأسرة في الإسلام" ينبني على خلط مردّه هذا التّكييف الذي تعلّمناه لأنّنا لا نرى إمكاناً آخر لحماية هشاشتنا، فنعبّر عن ذلك بعنف، وكل عنف وراءه هشاشة عميقة.

د. نادر الحمّامي: هذا البحث عن التّماثل يعبّر عن أزمة هوويّة في النّهاية، وهو خوف من رؤية هذا المختلف، وهو نوع من الأنانيّة الجماعويّة.

دة. ألفة يوسف: نعم، وهو نوع من الحماية الجماعيّة والبحث عن الرّاحة السّهلة التي تتحقّق بإقصاء الآخر بناءً على الاختلاف حتّى في اللّباس؛ فمسألة الحجاب التي تُطرح يمكن أن نناقشها من زوايا مختلفة، ولكن كلّ شخص في نهاية الأمر يجد راحته في ما لا يزعج الجماعة. أمّا مسألة النّقاب، فتطرح إشكالاً يتعلّق بمعرفة الوجه، ولكن في ما عدا ذلك، فأن ألبس الجينز أو أيّ لونٍ، فذلك أمر لا يعني أحداً، وإن أزعجك لباسي، فمعنى ذلك أنّ المشكلة فيك. هذا من مشاكل حضارتنا، فنحن دائما نلقي باللّوم على الآخر ولا نتحمّل مسؤوليّاتنا أمام أنفسنا، وقلّما يتساءل أحد عمّا يعنيه من أمر لباس المرأة مثلاً، لأنّه تعلّم منذ البدء أنّ عليها أن تغطّي نفسها لتحميه من الفتنة، وهو في المقابل لا يعتبر أنّ الفتنة أو الرّغبة كامنة في داخله، وأنّ عليه أن يتعامل معها، وبذلك فهو يُسقط مشاكله النّفسيّة على الآخر ويرى نفسه بريئاً دوماً.

د. نادر الحمّامي: وهذا نوع من القصور العقلي، الذي يجعل الفرد يتهرّب من مسؤوليّاته، ويحتاج دوماً إلى من يحميه، والحال أنّ الحداثة لا تكتمل إلاّ بالمسؤوليّة، ولكنّ مشكلتنا الكبيرة أنّنا لا نتحمّل مسؤوليّاتنا.

دة. ألفة يوسف: نعم، فإلقاء التّهمة على الآخر جوهره عدم تحمّل المسؤوليّة والخوف من رؤية ذواتنا كما هي؛ ههنا أذكر طرفة جميلة مفادها أنّ رجلاَ دين كانا سائرين قرب نهر، فوجدا امرأة تريد أن تعبر النّهر ولا تستطيع السّباحة، فساعدها أحدهما بأن حملها على كتفيه، ثمّ وضعها على الجانب الآخر من النّهر وانطلق في سبيله، في حين بقي الآخر صامتاً ينظر إليه شزراً، فسأله ما بك؟ فقال ألا تستحي، تحمل امرأة على كتفيك وأنت رجل دين؟ فقال له يا أخي أنا حملتها لتعبر النّهر وانتهى الأمر، وأنت ما زلت تحملها إلى الآن. فالمشكل في ما نحمله نحن في ذواتنا وليس في الآخر المثلي أو المرأة، وإذا كان أحد ما ينزعج من المثليّة أو من لباس المرأة فالمشكل فيه هو، وعليه أن يشتغل على تغيير نفسه لا على تغيير الآخر؛ وإذا كنت أنا على سبيل المثال لا أركب المصعد، فهل أقول إنّ المشكلة في المصعد؟ ومن يخاف ركوب الطّائرة هل يقول إنّ المشكلة في الطّائرة؟ طبعاً لا، لأنّ المشكلة فينا نحن، وليست لا في المصعد ولا في الطّائرة. هكذا لا يكون المشكل جماعيّا إلاّ عندما يبلغ حدود إلحاق الأذى بالآخر، وهذا هو الحد القانوني؛ أي عندما نخرج من مجال الفرديّة إلى مجال الجوهر القانوني الذي يجمعنا في إطار العقد الاجتماعي.

د. نادر الحمّامي: هذا يحيلنا على مسؤوليّة الفرد أمام قضيّة الهويّة، التي تنبني اجتماعيّا على ما يسمّى "الثّوابت"، حيث يكون المجتمع مهدّداً بالانهيار إذا ما تغيّر نمط الزّواج أو الأسرة أو النّسب، وهي قضيّة خطيرة ومؤثّرة في بنيتنا الاجتماعيّة، وما تطرحينه حول مسألة الفرد يخلخل تلك الثّوابت التي تقوم عليها الهويّة ويكسرها. فإلى أيّ مدى يمكن لمجتمع ما أن يتعايش بدون ما يسمّى "الثوابت"؟

دة. ألفة يوسف: إنّ مسألة الثّوابت هي جوهر مأساة الإنسان فرديّا وجماعيّا، وهي وهم، فمن يتأمّل الكون يكتشف ألاّ وجود لشيء ثابت، وكلّ شيء يتحرّك في كلّ لحظة، فمنذ بداية حوارنا إلى الآن هناك خلايا في أجسادنا ماتت وحلّت محلّها خلايا أخرى. ومشكل الإنسان أنّه يريد إنشاء ثوابت مطلقة في عالم ليس ثابتاً، وما نعتقد أنّه ثابت ليس سوى مواضعات، فأن نسمّي الكائنات بأسماء، رغم تغيّرها عبر الزّمن، فتلك مواضعات ولا يمكن أن تكون ثوابت. وإذا نظرنا في نظام الزّواج على سبيل المثال، فسنلاحظ أنّه تغيّر عبر الزّمن شئنا ذلك أم أبينا، ولو خصّصنا النّظر في تغيّراته على امتداد الخمسين سنة الأخيرة، سنلاحظ أنّ عدد حالات الطّلاق قد كثر، وإذا كان النّاس يقيّمون ذلك سلبيّاً، فمردّ الأمر إلى التّكييف الذي جعلهم يتصوّرون أنّ الزّواج أفضل من الطّلاق، حتى وإن كان يسبّب الكثير من المشاكل والصّراعات بين الأزواج، والحقيقة أن الطّلاق أفضل في تلك الحالة حتّى بالنّسبة إلى الأبناء، فضلاً عن الزوجين، فالنّساء اللاّتي كنّ قديماً يرضين بالظّلم والمآسي هنّ الآن يرفضن ذلك، بل إنّ عدداً كبيراً من النّساء والرّجال أصبحوا لا يريدون الزّواج، ولا ضير من ذلك فالكون سيستمر، فهناك عدد كبير من الرّجال والنّساء لا زالوا يتزوّجون.

إن سبب الخوف على نظام الزّواج هو الرّغبة في السّيطرة على العالم، وهذا ضدّ طبيعة العالم نفسها، ومن هنا يأتي الألم والعذاب، فتلك الرّغبة في إنتاج عالم مطابق لما نريد لن تنتهي إلى شيء، لأنّنا مسبوقون في هذا العالم، نحن مسبوقون بالمنظومة كما يبيّن ذلك البنيويّون ومسبوقون باللغة بحسب اللّسانيّين، ومسبوقون بالمقولات الجماعيّة في نظر المحلّلين النفسيّين، ومسبوقون بفكرة الإله بحسب المؤمنين، ومسبوقون بالتّقاليد الجماعيّة بحسب علماء الاجتماع... ولا يمكن، والحال هكذا، أن نؤثّر في الكون بصفة مباشرة، ونحوّله كما نريد نحن. إنّ ما يمكن أن نفعله من حيث كوننا أفراد هو أن نعمل على تغيير أنفسنا، بهذه الطّريقة أقرأ الآية: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرّعد/11) وليس ما بأنفسهم بمعنى الجماعة، بل كل واحد يغيّر ما بنفسه، وعندها سيتغيّر الواقع بطبعه كما يقول غاندي: ''كن التّغيير الذي تريد أن تراه في العالم''.

د. نادر الحمّامي: أظنّ أنّ نظرتك أبعد من النّزعة الفرديّة أو لنقل إنّها فردانيّة، ربّما لأنّك تحمّلين الفرد مسؤوليّته الذاتيّة، وتعتبرين أنّ التّأثير في المجتمع لا يكون من المجتمع نحو المجتمع بقدر ما يكون من الفرد نحو المجتمع، وتجدين في البعد الرّوحاني الدّيني الجوهراني ما يساعد على تغيير هذه البنية بصورة عامّة. ما نريد أن نناقشه لاحقاً هو هذه النّظرة التي لا تخرج عن المنظومة الإيمانيّة، واسمحي لي بالقول إنّها مغرقة في الإيمان، ولكنّه الإيمان الفردي في مقابل الإيمان السّائد الذي تكرّسه الثّقافة والمؤسّسات. فهل يمكن فعلاً بهذه القراءة الفرديّة الرّوحانيّة الذّاتيّة أن نؤسّس لقيمة التّعايش على الأساس القانوني الذي نسعى إليه، في سياق ما يحدث في مجتمعنا اليوم من نقاش حول قضيّة الحرّيات الفرديّة؟ هذا ما سنواصل الحديث فيه في الجزء الثّالث من حوارنا معك أستاذة ألفة يوسف مشكورة.