ألفة يوسف: في إمكانات التّأويل الفردي (الجزء الأوّل)


فئة :  حوارات

ألفة يوسف: في إمكانات التّأويل الفردي (الجزء الأوّل)

د. نادر الحمّامي: حوار جديد يجمعنا اليوم بشخصيّة يمكن أن اعتبارها من "أهل الرّأي" بتعبير القدامى؛ أي أنّها متحرّرة من سلطات التّقليد والثّقافة السّائدة؛ وأقصد تحديداً الأستاذة ألفة يوسف التي نسعد كثيراً أن تكون ضيفتنا في هذا الحوار، وأن نفيد من آرائها خاصّة بعد ما اطّلعنا عليه من مجمل أعمالها المتعدّدة والمنشورة. وإن كان من سبيل التّقليد تقديم كلّ باحث استناداً إلى إنتاجه الفكري والبحثي، فإنّنا نختصر حديثنا عن بعض ما نشرته من كتب منذ أوائل التّسعينيات، فقد صدر لها جملة من الأعمال سواء بالاشتراك أو بصفة فرديّة، نذكر من بينها "الإخبار عن المرأة في القرآن والسنّة"، بالإضافة إلى بحثها المنجز في إطار شهادة دكتوراه الدّولة حول "تعدّد المعنى في القرآن" وكتاب بالفرنسية بعنوان (le coran au risque de la psychanalyse) "القرآن على محكّ التّحليل النّفسي"، وقد صدرت لها سلسلة مبسّطة تعرض بعض المفاهيم عنوانها الجامع "والله أعلم"، وهي تنسجم مع اهتماماتها في أطروحة الدّكتوراه، إلى جانب كتاب آخر لعلّه غطّى على بقيّة الكتب، وهو "حيرة مسلمة" الذي صدر سنة 2008، ورغم أنّه متأخّر زمنيّا عن بقيّة الكتب، فإنّنا نجد له صدى فيها، حتى إنّنا حين نقرأ أطروحة الدّكتوراه يتبادر إلى أذهاننا أنّها لاحقة عن هذا الكتاب، فما تفسير ذلك؟

دة. ألفة يوسف: أشكركم بداية على الاستضافة، وأنوّه بهذا السّؤال، لأنّ "حيرة مسلمة" الذي لا أعتبره أحبَّ الكتب إلى نفسي، رغم أنّي أدين له بشهرة واسعة، هو في الحقيقة سابق لكلّ كتبي الأخرى، فهو مجموعة تساؤلات طرحتها على نفسي قبل أن أبدأ الكتابة أصلاً، ولم أفكّر في نشرها إلاّ بعد أن اطّلعت نسبيّا على التّراث التّفسيري والفقهي والحضاري الإسلامي بصفة عامّة، فجوهر "حيرة مسلمة" هو تساؤلات فرديّة، ولعلّ هذا الكتاب لقي صدى، لأنّه لم يكن أكاديميّا بالمعنى الكلاسيكي، وإنّما هو ثقافيّ فكريّ يحاول أن يتساءل أوّلاً عن أسباب الاقتصار على تأويل واحد، ولماذا شاعت تآويل وقُبرت تآويل أخرى، رغم وجودها في كتب التّراث؟ وهذا أمر مهمّ جدّاً، وأعتقد أنّنا يجب أن نبحث في تلك التّآويل القديمة التي قُبرت ووقع تجاهلها ونسيانها. ويتساءل ثانياً حول الموانع التي تحول دون أن يُقرأ النّص بطرائق مختلفة لا تدّعي طريقة منها أنّها أقرب إلى الحقيقة وأنّها تقدّم الرّأي الفصل، إذ النّص قابل لتآويل كثيرة. ولعلّ ما أزعج في "حيرة مسلمة" هو التّآويل التي طرحتُها في بعض المسائل، ولم تكن وقتئذ مطروحة بشكل عام، مثل مسألتي المثليّة والمساواة في الميراث اللّتين أصبحتا اليوم متداولتين، إلى جانب مسائل أخرى كالزّواج ومسائل دقيقة في العلاقة الجنسيّة. لذلك صدم هذا الكتاب الكثيرين، لأنّه خرج عن السّائد في إمكان القراءة، وقد قلت في المقدّمة "كأنّني ألقي حجراً في المياه الرّاكدة"، ولم أكن أتصوّر وأنا أكتب تلك المقدّمة أن يكون الأمر ممّا سيتحقّق على أرض الواقع فعلاً.

د. نادر الحمّامي: ما قلتِه يطرح مسألة مهمّة جدّاً في تقديري، وهي سؤال الفرد، فلا يمكن البحث من دون سؤال، وجدارة السّؤال في أن يكون فرديّاً وغير منسجم مع السّائد؛ فالسّؤال الفرديّ هو السّؤال الأساسي، لأنّه نابع من الذّات ومن المشاغل التي نطرحها كلّنا في صغرنا، ولكنّنا نتحرّج من طرحها حين نكبر.

دة. ألفة يوسف: في البدء كأنّ الإنسان يغطّي فردانيّته برؤية جماعيّة، وفي ذلك نوع من الحماية، لكنّه أخذ يتحرّر من تلك الرّؤية شيئاً فشيئاً بمفعول تراكم السّنين، لذلك أقول اليوم إنّني لست أكاديميّة معرفة، رغم أنّني أكاديميّة عندما أمارس عملي بالتّدريس، ولكن عندما أكتب لا أريد أن أكون محترفة كتابة، بل أريد أن أكتب ما أشعر به شخصيّا، وعندما أقرأ كتاباتي الأولى مثل "الإخبار عن المرأة في القرآن والسنّة"، وهو عمل فيه بحث وجمع، أجده ركيكاً جدّاً على مستوى القراءة والصّياغة، وأشعر اليوم أنّني تحرّرت شيئاً فشيئاً من تلك الكتابة الرّكيكة التي تحاول أن تنصهر في القالب الجماعي، في اتّجاه حرّية ربّما بدأت خفيّة، ولكن أتصوّر أنّها ستكون يوماً ما حرّية ظاهرة من خلال كتابة الرّواية أو غيرها. المهمّ أنّ الفرد عندما يطرح أسئلته ويقدّمها للآخر، فإنّ ذلك وجه من وجوه البحث عن المشترك، وكلّما غصنا في أعماقنا وصلنا إلى الآخر، وهذا ما يقال أيضاً بالنّسبة إلى الفن، فكلّما تحدّثنا عن المحلّيّة نستطيع أن نصل إلى العالميّة، ولا أعتقد أنّ كتاباتي لها فضل بالنّسبة إلى كتابات أخرى، حتى تنتشر نسبيّا بالمقارنة مع انتشار الكتاب في تونس، ولعلّ ما جعلها تنتشر هو أنّ الآخر دون أن يشعر يجد فيها صدقاً ما وكلاماً قد يكون صادماً، وهذا لا يهمّ ولكن المهمّ أنّ هناك محاولة صادقة للكشف عن هشاشتنا التّأويليّة. ورغم أن التّأويل متعلّق بالنّص الدّيني، إلاّ أنّنا في محاولة تأويل مستمرّة للحياة، والتّساؤل في حياتنا اليوميّة هو أمر يسحبنا إليه سواء أكنّا واعين به أم لم نكن، ونحن أمام هذه الهشاشة التّأويليّة لا نستطيع أن نقدّم جواباً عقلانيّاً نهائيّاً، وهذا هو الطّريق الذي أسير فيه منذ مدّة. فقد أسلمني اليأس من الجواب العقلاني إلى البحث عن جواب قلبيّ، وهو ما فتح لي باباً للاطمئنان والرّضا. أمّا إذا ما بقينا داخل الهشاشة التّأويليّة، التي لابدّ أن نمرّ بها، فسوف نظلّ دوماً نمارس تأويلاً مقابل تأويل آخر، كأن نقول بوجود تأويل منفتح أو متحرّر في مقابل تأويل منغلق. والحال ألاّ أحد منّا أولى أو أجدر أن يفرض تأويله إلاّ بحدّ السّيف، وهذا مشكل؛ فالأفضل أن نقبل التّآويل جميعها بصفتها إمكاناً وأن نتعايش، وهذا ما أصل إليه شيئاً فشيئاً. فالسّلطة التّأويلية لا تأتي من داخل النّص، وإنّما هي تأتي من خارجه، ومن يمسك بالسّلطة أو الحكم يستطيع أن يفرض قراءة ما على النص. أمّا خارج النّص، فتأويلي إمكان وتأويل القارئ المنغلق الرّاديكالي إمكان، وكلاهما تسمح به البنية اللّغوية للقرآن.

د. نادر الحمّامي: صحيح أنّ هناك سلطة تأويليّة ربّما تؤدّي إلى صراع التّأويلات، وهنا أستعمل الحقل اللّغوي نفسه الذي استعملته أنت في أطروحتك "تعدّد المعنى في القرآن"، والذي يحيل على بول ريكور (Paul Ricœur) (1913-2005) في إطار صراع التّأويلات، ولكن هذا التّأويل مقابل التّأويل وصولاً إلى ما أسميته التّعايش، ألا يؤدّي إلى سلطة النّص، فنسقط بذلك في النّصانيّة؟

دة. ألفة يوسف: عندما أتحدّث عن التّأويل فلا أعني تأويل النّص، فقد مررت خلال تجربتي المتواضعة بمراحل متعدّدة بدءاً من مرحلة التّأويل اللّغوي اللّساني والسّياقي في "تعدّد المعنى في القرآن" و"الإخبار عن النّساء في القرآن والسنّة" إلى مرحلة أخرى هي التّحليل النّفسي التي كانت فرديّة أيضاً، إذ كنت يوماً ما على أريكة التّحليل النّفسي، ولكن هذا كلّه لا يقدم جواباً نهائيّاً، واكتشفت أنّ مشكلتنا الأساسيّة؛ أي المسلمين أو المؤمنين أيّاً يكن إيماننا، هي أنّنا نعبد نصوصاً ولا نعبد الله، فنحن المسلمون نعبد القرآن، وهذا يحيلنا على مسألة خلق القرآن، تلك المسألة الجوهرية التي تجاوزناها تاريخيّاً وظننّا أنّها قضيّة فلسفيّة من التّرف الفكري، بينما هي قضيّة كبرى. فالخلط بين الله والقرآن مصيبة لأنّ الله ليس القرآن، الله هو كلّ شيء والقرآن هو كلام الله، وحتّى في التّحليل النّفسي فأنت لست كلامك، لذلك فحتى الإنسان البسيط حين يُقال له "من أنت؟" يُدرك جيّداً أنّ ذاته لا يمكن أن تُلخّص في الكلام الذي سيقوله عن نفسه ولا حتى الكلام الذي قاله من بداية التّاريخ إلى الآن. لقد حصرنا الله في هذه التّآويل النّصيّة وبقينا نتجادل في القرآن، ونسينا ما يشير إليه، تماماً مثل الأحمق الذي يكتفي بالنّظر إلى الإصبع ولا ينتبه أنّ الإصبع يشير إلى القمر. ليس لي إشكال في هذا الجدال بشرط أن نكون واعين بأنّنا لا نتحدّث عن الله عندما نتحدث عن النّص، ومهما تكن التّسمية التي يمكن أن نعطيها للإله؛ فهناك من يسمّيه الحياة أو المطلق أو المبدأ الجوهري، هذا لا يهم، فلا أعتقد أن الله يرضى أن يكون محصوراً في قضبان اللّغة لأنّها مغلقة، ونحن نضرب برؤوسنا على حدود اللّغة كما يقول لودفيغ فيتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein) (1889-1951)، والحال أن الله أكبر من اللّغة. ههنا انفتح لي باب في طريق التّصوّف بالمعنى الجوهريّ للكلمة، وإن قُدّر لي أن أكتب شيئاً آخر في يوم ما، فسيكون مختلفاً أو نقضاً تامّاً لما كتبتُ سابقاً ممّا كان يجب أن أمرّ به لأكتشف أنّ التّأويل للنّص لا يقودنا إلاّ إلى سلطة النّص وصراعات لا تنتهي.

د. نادر الحمّامي: بهذا المنظور وما قدّمته في أطروحتك أساساً، أنت لا تخرجين عن الدّائرة الإيمانيّة، لذلك نجد لديك الكثير من المقولات الإيمانية، من قبيل الحديث عن اللّوح المحفوظ، وهي تلتقي تقريباً مع كلّ التّصورات الدّينية التّمجيديّة بصورة عامّة؛ أي تلك التي لا يطرح أصحابها مسألة قدسيّة النّص للنّقاش مع المؤمنين أنفسهم توهّما منهم أنّ القرآن مطابق لما في اللّوح المحفوظ. فالمقولة الإيمانيّة تقول إنّ النّص الموجود بين دفتين هو ذاته النّص الموجود منذ الأزل، ههنا أنت تلتقين حتى مع أكبر عتاة النّصّانيّين في هذه المقولة.

دة. ألفة يوسف: في سؤالك بعدان؛ البعد الأوّل تقني يتّصل بمسألة اللّوح المحفوظ، وهنا أشير إلى أن ما ذكرتُه في أطروحتي حول هذه المسألة، لا يعني أنّ القرآن صورة لما هو في اللّوح المحفوظ، ولكنّ الحديث كان حول تمثّل لمعنى جوهري لا ينقضي، على افتراض أنّ المعنى الذي في اللّوح المحفوظ هو المعنى الأصلي الجوهري في القرآن، وهو ما لا يقال، والذي يعبّر عنه المتصوّفة بـ (l'indicible) أي الشّيء الذي لا يمكن أن تعبّر عنه اللّغة، كأن يُقال كان ما كان، لأنّ ما تعبّر عنه اللّغة هو ما هو كائن؛ أي الواقع كما هو.

د. نادر الحمّامي: وهذا يلتقي أيضاً مع فكرة وحدة الوجود

دة. ألفة يوسف: وهذا يحيلنا على البعد الثّاني من سؤالك، وليس لي أيّ حرج في أن أقرّ بأنّني أتعامل مع المسألة الدّينية من منظور إيماني على غرار بعض الباحثين المختلَف فيهم، مثل فرانسواز دولتو (Françoise Dolto) (1908-1988) التي درست هذه المسألة، وعنوان كتابي (Le Coran au risque de la psychanalyse) "القرآن على محك التّحليل النّفسي" مأخوذ من عنوان كتابها (L'Évangile au risque de la psychanalyse) "الإنجيل على محك التّحليل النّفسي". لقد أزعج البعد الإيماني بعض الأكاديميّين، وأنا أناقشهم في هذا وأحترم قراءتهم، ولكن لا يمكن لي أن أتعامل مع القرآن أو الظّاهرة الدّينيّة تعاملاً خارجاً عمّا يشكّل هذه الذّات، لذلك قلت من البداية إنّني لست محترفة كتابة أو بحث، فأنا لا أستطيع أن أكون مثل الكثير من أصدقائي الذين هم خارج الدّائرة الإيمانيّة، ممّن يتعاملون مع النّص بطريقة عقليّة أو موضوعيّة جامدة، لأنّ بحثي اندرج منذ البدء في طريقة إيمانيّة تحافظ على البعد الفردي، الذي بقي ماثلاً في تجربتي بما له من إيجابيّات وما عليه من سلبيّات، ولا يمكنني أن أنفيه أو أتجرّد منه، ولا أملك إلى الفكاك منه سبيلاً. وقد لاحظ لي ذلك الكثير من الدّارسين، ومنهم من يقول لي كيف تؤمنين بالقرآن ومسألة جمع القرآن، والحال أنّه قد عرف أطواراً متعدّدة من المشافهة إلى التّدوين...أعرف هذا كلّه جيّداً وأحترمه جيّداً، ولكنّني أجيب عنه جواباً خاصّاً قد يُقلق البعض، فلا يهمّني أن يؤمن أحدهم بالقرآن أو أيّ شيء آخر، ولكنّني أعتقد أنّ هذا النصّ الذي وصلنا بالشّكل الذي هو عليه كيف ما كان، هو بكلّ بساطة من إرادة الله تعالى. قد يُقال لي ههنا إنّني أشابه المنغلقين أو الرّاديكاليّين في إيمانهم، إلاّ أنّ الفرق بيني وبينهم بسيط جدّاً، فأنا أتمتّع بقراءتي هذه وأفرضها على نفسي فحسب دون الآخرين، وقد أقدّمها للنّاس في فيديو أو كتاب، ولكنّني لا أفرضها عليهم.

د. نادر الحمّامي: لعلّ هذا ما يخدم نظرتك إلى مسألة ما يسمّى اليوم بالإيمان الفردي، بالنّظر في الكلمات المتردّدة في إجابتك مثل الذّاتية والحرّية والفرديّة، وبالعودة إلى ما قلتِ من البداية أفهم أنّ القراءة التي تقدّمينها في العديد من مؤلفاتك تحمل الكثير من الأسئلة الذّاتية التي كنت تطرحينها على نفسك منذ الصّغر حول الوجود والعالم، وربّما يطرحها بعض الأطفال على أنفسهم، تلك الأسئلة الفرديّة والجوهريّة التي يتحرّج منها البعض بحكم الثّقافة والمؤسّسات، والتي يمكن أن تُطرح بالتّخلّص من الثّقافة ذاتها؛ أي بالعودة إلى ما هو أقرب إلى الأسئلة الطّبيعيّة.

دة. ألفة يوسف: هذا صحيح تماماً، ففي البداية كنت لسانيّة واشتغلت على فلسفة اللّغة، وهناك فيلسوف أحبّه كثيراً هو لودفيغ فيتغنشتاين الذي يواجه الكثير من الأسئلة الجوهريّة من قبيل "من أنا؟ لماذا أتيت؟ إلى أين أسير؟"... بالقول: "إنّ ما أعرفه لا يتجاوز ما يعرفه أيّ طفل". ولعلّ العمل الذي أقوم به على ذاتي الآن بعد يأسي المطلق من العثور على الحقيقة في اللّغة أو في النّص هو كسر لهذه الثّقافة ولجميع العلوم والمعارف التي أمضيت سنوات أجمعها للوصول إلى ما يسمّى فطرة أو جوهراً، أو ما يسمّيه المتصوّفة "ما لا ينقال". لذلك، كثيراً ما أقابل بين البُعدين الصّوفي والفقهي، وأعتبر أنّ البعد الصّوفي يُزعج الفقهاء، لأنّه فرديّ، وقد بيّنت حين اشتغلت على مسألة الأنوثة والذّكورة أنّ البعد الفقهي ذكوريّ، وأنّ البعد الصّوفي أنثويّ حتى وإن كان القائم به رجلاً، لأنّه حاجة فرديّة تستند إلى التّجربة، ونجد لذلك صدى في التّحليل النّفسي، فعندما سُئل لاكان (Jacques Lacan) (1901-1981) عن ماهية التّحليل النّفسي قال: "إنّه ما يُنتظرُ من المحلّل النّفسي"؛ أي هو التّجربة والتّجربة فرديّة لا تنقال. هذه التّجربة الفرديّة لا تُفرض على الآخر، فلكلّ طريق مختلف.

ولعلّ لقائل أن يقول لماذا ألقى كلّ هذا الصّراع والكراهية من الإسلاميّين المتطرّفين ما دمت أندرج في إطار المنظومة الإيمانيّة ذاتها، وإنّما السّبب في ذلك أنّ قراءة هؤلاء للإسلام قراءة جماعيّة، لا مجال فيها للبعد الرّوحاني الفردي، وما يعنيهم هو أن يكون الشّكل الخارجي مسلماً، من خلال المظهر واللّباس والشّعائر الجماعيّة والتّقاليد والعادات، فلا شيء لديهم يخرج عن الصّورة الجماعيّة، وبذلك فقد قتلوا الجوهر الفردي، وتنكّبوا عن كلّ ما يرتبط بالفرد كالحبّ والاطمئنان بالمعنى الفلسفي العميق والقبول بالآخر كيفما كان. وقد وجدوا في ما يمارسونه على النّاس من تخويف من النّار، وفي ما يقدّمونه من صور مفزعة لما ينتظر الإنسان من أهوال عذاب القبر سلعة مربحة، يستطيعون بها أن يحرّكوا انفعالات النّاس، وأن يجيّشوا مشاعرهم ويحشروهم في إطار القالب الجماعي. لقد شاهدت مؤخّرا فيديو لفرنسيّة أعلنت إسلامها ولاحظت كيف أنّ النّاس يتناقلون هذا الخبر على شبكات التّواصل الاجتماعي، وهم فرحون وسعداء بذلك، وقد جعلني ذلك أتساءل ما الذي يعنيني في هذا الأمر؟ وما الدّاعي إلى أن أكون سعيدة إن دخل شخص ما الإسلام أو خرج منه؟ فأنا لست مسؤولة عن الكون، وإذا كان الله تعالى أراد لهذا العالم أن يكون مختلفاً، فأن يصبح الإنسان مسلماً أو بهائيّاً أو لا أدريّاً أو مؤمناً أو كما يشاء، فذلك شأنه وحده. أنا أحلم بعالم يكون فيه النّاس أكثر حبّاً وأكثر قبولاً لبعضهم البعض وأكثر إيماناً بالاختلاف. أمّا أن يصبح إنسان ما مسلماً وأكون أنا سعيدة بذلك، فهذا أشبه بأن يصبح أحد ما محبّاً لفريق كرة القدم الذي أحبّه أنا، ونتحوّل بالتّالي إلى جمهور، وإذا تصوّرنا الدّين في تلك العلاقة الجماهيريّة، فسوف يؤدّي ذلك إلى تقلّص البعد الرّوحاني فيه.

د. نادر الحمّامي: لقد ذكرتِ فيتغنشتاين، ولعلّ أهمّ ما يميّز توجّهه الفلسفي هو التّعبير ببساطة عن كلّ ما قد يبدو معقّدا، وما أنت بصدد الخوض فيه معقّد جدّاً، ولكنك تقدّمينه بطريقة بسيطة، فكأنّك تحاولين تبسيط هذا الإيمان الفردي الرّوحاني المتحرّر من الطّقوس، وما تقولينه بالعودة إلى الأسئلة الطبيعيّة البسيطة التي يطرحها الأطفال حول تصوّر الإله والوجود يواجه الكثير من التّعقيد في ظلّ المؤسّسات الاجتماعيّة والثّقافية والسّياسيّة السائدة، ما يجعل مشروعك عرضة لكثير من الانتقادات من الجهة المحافظة أو التّقليديّة أو الدّينيّة تماماً كما من الجهات الأخرى المقابلة، فكلّ يحسبك على الجهة المخالفة له، وأعتقد أنّ هذا يسبّب لك إشكالاً مضاعفاً.

دة. ألفة يوسف: نعم، لقد كان هذا يسبّب لي إشكالاً حين كنت أتصوّر أنّ لي هدفاً؛ ففي البداية كنت أكتب لأغيّر الفكر التّقليدي، ولأبيّن أنّ هناك إمكانات لقراءة النّص الدّيني قراءة مغايرة تفتح الرّؤية باتّجاه المساواة بين المرأة والرّجل، ولكنّني اكتشفتُ فيما بعد أنّ التّغيير لا يكون بهذه الطّريقة. فأنا ليس لي أيّ مشروع، والدّليل هو أنّ ليس لي طلبة يواصلون مشروعي، ففي تونس لدينا الكثير من الأساتذة أصحاب المشاريع الفكريّة، مثل الأستاذ عبد المجيد الشّرفي الذي أحترمه جدّاً وقد تتلمذت له، ومثل الأستاذ هشام جعيّط في التّاريخ وغيره. أمّا أنا، فلا أدّعي أنّ لي مشروعاً ولو كنت أبحث عن مشروع لكان هناك هذا التّسلسل عن طريق الطّلبة. فما أكتبه هو تعبير فردانيّ أو طريقة في طرح تساؤلات وجوديّة لها قراءة روحانيّة، قد تجيب شخصاً أو تساعد آخر في العثور على جواب.

د. نادر الحمّامي: تقولين بأنّ ليس لك مشروع، والحقيقة أنّ هذا في حدّ ذاته مشروع، ويمكن تلخيصه في مفهوم كبير هو مسألة الخلاص الفردي الذي قد يكون منطلقاً لخلاص آخر، فهل يمكن أن نطلق على مشروعك الذي لا تعتبرينه مشروعاً صفة الخلاص الفردي؟

دة. ألفة يوسف: الخلاص كلمة جيّدة يستعملها بعض المتصوّفة، كما هناك من يستعمل كلمة اليقظة ومن يستعمل بلوغ الهدف... وهي تسميات مختلفة ولكنّها جميعاً فرديّة، والفرق بين الفقيه والمتصوّف أنّ الأوّل يمكن أن يقدّم لك جواباً في حين أنّ الثّاني لا يستطيع ذلك، ولكنّه يضع قدمك على الطّريق لتكمل التّجربة بمفردك؛ لذلك فكلمة الخلاص الفردي جيّدة، لأنّنا لا نغيّر العالم. وهنا أتقابل تماماً مع الفلسفة الوجوديّة التي تؤمن بتغيير العالم، بل أذهب أبعد من ذلك وأعتبر أنّ ميمونة في رواية السدّ لمحمود المسعدي (1911-2004) هي الشّخصيّة المناسبة لي وليس غيلان، لأنّها تسلّم بالواقع وبحدود الإنسان فيه، وقد تحدّث فيتغنشتاين عن حدود اللّغة ولاكان عن حدود القانون. وإذا كان الوجوديّون يعتقدون أنّهم يغيرون العالم، فأنا أنتمي إلى تمثّل آخر يعتقد أنّ العالم يتغيّر بنا دون أن نشعر، وعندما كتبت "حيرة مسلمة" لم أكن أتوقّع أن يلاقي ذلك النّجاح، ولم أكن أتوقّع أن ألاقي بعد بضعة أشهر فتاة تقول لي: "إنّ هذا الكتاب غيّر حياتي عندما قرأته"، فلم أكن أعرف تلك الفتاة، ولم أكتب الكتاب لأغيّر حياتها.

د. نادر الحمّامي: ولكنّ ميمونة نفسها التي تؤمن بالتّسليم، نجد في تسليمها عقلانيّة أكبر من عقلانيّة غيلان، لأنّها تعتقد أنّ المنظورات تُرى ولا تُسمع.

دة. ألفة يوسف: أنت تحدّثت عن البساطة والتّعقيد منذ حين، وأنا أعتبر أنّ حياتنا بسيطة جدّاً ولكنّنا لا نرى تلك البساطة، بل إنّ مشكلتنا أنّنا نريد أن نحكم الحياة كما نشاء، وهذا مستحيل لأنّ هناك ستة مليارات نسمة على الأرض رغباتهم متقابلة، فلا يمكن أن يكون كلّ واحد حاكماً للحياة كما يشاء، وليس معنى هذا ألاّ نعمل شيئاً، ولكن يجب أن نعمل وأن نعي بأنّ المنظورات تُرى ولا تُسمع؛ أي أن نعمل وأن نعي أن هناك قوّة أعظم منّا أشار إليها شوبنهاور (Arthur Schopenhauer) (1788-1860) بقوله: "إنّ الإرادة هي التي تحرّك هذا الكون بما فيه ذواتنا". فاختياراتي هذه ليست اختياراتي ولو لم أولد في عائلتي لما وجدت نفسي الآن هنا، ولما تعرّفنا إلى بعضنا ولما أجرينا هذا الحوار؛ فالحياة تحكمها مجموعة من الظّروف، وهذا الكائن الذي يسمّيه هيدغير (Martin Heidegger) (1889-1976) الدازين (DASEIN) هو الذي يحرّكنا، وبمقدورنا أن نستسلم له ولكنّنا نكابر، لذلك تبدو لحظات الاستسلام في أوّل الطّريق قليلة في حين تبدو لحظات المكابرة كثيرة، ويوماً ما سوف يموت الفرد بالمعنى الوجودي، ليكون هناك فرد آخر بالمعنى المطلق.

د. نادر الحمّامي: هذا الفرد المطلق يمثّل أفقاً آخر لما أسميتُه أنا الخلاص الفردي، الذي يكتسب لديك ملامح المشروع، ولعلّ هذا الطّرح قابل لمزيد التّطوير في المستوى الجماعي ليعكس جملة من القيم، مثل الحرّية والمساواة، التي نجد لها صدى في مستوى تلك التّأملات الخالية من الطّقوسيّة والمتّجهة نحو الرّوحانية، وهو ما يمكن أن ننطلق به في الجزء الثّاني من حوارنا معك أستاذة ألفة يوسف، فشكرا لك.