حوار مع ألفة يوسف الإيمان الفرديّ ومسؤوليّة التّأويل


فئة :  حوارات

حوار  مع ألفة يوسف  الإيمان الفرديّ ومسؤوليّة التّأويل

حوار[1] مع ألفة يوسف[2]

الإيمان الفرديّ ومسؤوليّة التّأويل

في إمكانات التّأويل الفرديّ

د. نادر الحمّامي: الأستاذة ألفة يوسف، يجد المتابع لكتاباتك وما تضمّنته من أفكار وآراء نقديّة صدى واضحاً في أطروحة الدّكتوراه الّتي أنجزتها حول «تعدّد المعنى في القرآن»، فكأنّها لاحقة عن جميع ما كتبتِ، ما تفسير ذلك؟

دة. ألفة يوسف: أنوّه بهذا السّؤال؛ لأنّ «حيرة مسلمة» الّذي لا أعتبره أحبَّ الكتب إلى نفسي، رغم أنّي أدين له بشهرة واسعة، هو في الحقيقة سابق لكلّ كتبي الأخرى، فهو مجموعة تساؤلات طرحتها على نفسي قبل أن أبدأ الكتابة أصلاً، ولم أفكّر في نشرها إلّا بعد أن اطّلعت نسبيّاً على التّراث التّفسيريّ والفقهيّ والحضاريّ الإسلاميّ بصفة عامّة، فجوهر «حيرة مسلمة» هو تساؤلات فرديّة، ولعلّ هذا الكتاب لقي صدى؛ لأنّه لم يكن أكاديميّاً بالمعنى الكلاسيكيّ، وإنّما هو ثقافيّ فكريّ يحاول أن يتساءل أوّلاً عن أسباب الاقتصار على تأويل واحد، ولماذا شاعت تآويل وقُبرت تآويل أخرى، رغم وجودها في كتب التّراث؟ وهذا أمر مهمّ جدّاً، وأعتقد أنّنا يجب أن نبحث في تلك التّآويل القديمة الّتي قُبرت ووقع تجاهلها ونسيانها. ويتساءل ثانياً حول الموانع الّتي تحول دون أن يُقرأ النّصّ بطرائق مختلفة لا تدّعي طريقة منها أنّها أقرب إلى الحقيقة وأنّها تقدّم الرّأي الفصل، إذ النّصّ قابل لتآويل كثيرة. ولعلّ ما أزعج في «حيرة مسلمة» هو التّآويل الّتي طرحتُها في بعض المسائل، ولم تكن وقتئذ مطروحة بشكل عام، مثل مسألتي المثليّة والمساواة في الميراث اللّتين أصبحتا اليوم متداولتين، إلى جانب مسائل أخرى كالزّواج ومسائل دقيقة في العلاقة الجنسيّة. لذلك صدم هذا الكتاب الكثيرين، لأنّه خرج عن السّائد في إمكان القراءة، وقد قلت في المقدّمة «كأنّني ألقي حجراً في المياه الرّاكدة»، ولم أكن أتصوّر وأنا أكتب تلك المقدّمة أن يكون الأمر ممّا سيتحقّق على أرض الواقع فعلاً.

د. نادر الحمّامي: ما قلتِه يطرح مسألة مهمّة، وهي سؤال الفرد، وجدارة السّؤال في أن يكون فرديّاً وغير منسجم مع السّائد؛ فالسّؤال الفرديّ هو السّؤال الأساسيّ؛ لأنّه نابع من الذّات ومن المشاغل الّتي نطرحها كلّنا في صغرنا، ولكنّنا نتحرّج من طرحها حين نكبر.

دة. ألفة يوسف: في البدء كان الإنسان يغطّي فردانيّته برؤية جماعيّة، وفي ذلك نوع من الحماية، لكنّه أخذ يتحرّر من تلك الرّؤية شيئاً فشيئاً بمفعول تراكم السّنين، لذلك أقول اليوم إنّني لست أكاديميّة معرفة، رغم أنّني أكاديميّة عندما أمارس عملي بالتّدريس، ولكن عندما أكتب لا أريد أن أكون محترفة كتابة، بل أريد أن أكتب ما أشعر به شخصيّاً، وعندما أقرأ كتاباتي الأولى مثل «الإخبار عن المرأة في القرآن والسنّة»، وهو عمل فيه بحث وجمع، أجده ركيكاً جدّاً على مستوى القراءة والصّياغة، وأشعر اليوم أنّني تحرّرت شيئاً فشيئاً من تلك الكتابة الرّكيكة الّتي تحاول أن تنصهر في القالب الجماعيّ، في اتّجاه حرّيّة ربّما بدأت خفيّة، ولكن أتصوّر أنّها ستكون يوماً ما حرّيّة ظاهرة من خلال كتابة الرّواية أو غيرها. المهمّ أنّ الفرد عندما يطرح أسئلته ويقدّمها للآخر، فإنّ ذلك وجه من وجوه البحث عن المشترك، وكلّما غصنا في أعماقنا وصلنا إلى الآخر، وهذا ما يقال أيضاً بالنّسبة إلى الفنّ، فكلّما تحدّثنا عن المحلّيّة نستطيع أن نصل إلى العالميّة، ولا أعتقد أنّ كتاباتي لها فضل بالنّسبة إلى كتابات أخرى، حتّى تنتشر نسبيّا بالمقارنة مع انتشار الكتاب في تونس، ولعلّ ما جعلها تنتشر هو أنّ الآخر دون أن يشعر يجد فيها صدقاً ما وكلاماً قد يكون صادماً، وهذا لا يهمّ ولكنّ المهمّ أنّ هناك محاولة صادقة للكشف عن هشاشتنا التّأويليّة. ورغم أن التّأويل متعلّق بالنّصّ الدّينيّ، إلّا أنّنا في محاولة تأويل مستمرّة للحياة، والتّساؤل في حياتنا اليوميّة هو أمر يسحبنا إليه سواء أكنّا واعين به أم لم نكن، ونحن أمام هذه الهشاشة التّأويليّة لا نستطيع أن نقدّم جواباً عقلانيّاً نهائيّاً، وهذا هو الطّريق الّذي أسير فيه منذ مدّة. فقد أسلمني اليأس من الجواب العقلانيّ إلى البحث عن جواب قلبيّ، وهو ما فتح لي باباً للاطمئنان والرّضا. أمّا إذا ما بقينا داخل الهشاشة التّأويليّة، الّتي لابدّ أن نمرّ بها، فسوف نظلّ دوماً نمارس تأويلاً مقابل تأويل آخر، كأن نقول بوجود تأويل منفتح أو متحرّر في مقابل تأويل منغلق. والحال ألّا أحد منّا أولى أو أجدر أن يفرض تأويله إلّا بحدّ السّيف، وهذا مشكل؛ فالأفضل أن نقبل التّآويل جميعها بصفتها إمكاناً وأن نتعايش، وهذا ما أصل إليه شيئاً فشيئاً. فالسّلطة التّأويليّة لا تأتي من داخل النّصّ، وإنّما هي تأتي من خارجه، ومن يمسك بالسّلطة أو الحكم يستطيع أن يفرض قراءة ما على النّصّ. أمّا خارج النّصّ، فتأويلي إمكان وتأويل القارئ المنغلق الرّاديكاليّ إمكان، وكلاهما تسمح به البنية اللّغويّة للقرآن.

د. نادر الحمّامي: صحيح أنّ هناك سلطة تأويليّة ربّما تؤدّي إلى صراع التّأويلات، وهنا أستعمل الحقل اللّغويّ نفسه الّذي استعملته أنت في أطروحتك «تعدّد المعنى في القرآن»، والّذي يحيل على بول ريكور (paul ricœur) (1913-2005) في إطار صراع التّأويلات، ولكنّ هذا التّأويل مقابل التّأويل وصولاً إلى ما سمّيته التّعايش، ألا يؤدّي إلى سلطة النّصّ، فنسقط بذلك في النّصّانيّة؟

دة. ألفة يوسف: عندما أتحدّث عن التّأويل فلا أعني تأويل النّصّ، فقد مررت خلال تجربتي المتواضعة بمراحل متعدّدة بدءاً من مرحلة التّأويل اللّغويّ اللّسانيّ والسّياقيّ في «تعدّد المعنى في القرآن» و«الإخبار عن النّساء في القرآن والسّنّة» إلى مرحلة أخرى هي التّحليل النّفسيّ الّتي كانت فرديّة أيضاً، إذ كنت يوماً ما على أريكة التّحليل النّفسيّ، ولكن هذا كلّه لا يقدّم جواباً نهائيّاً، واكتشفت أنّ مشكلتنا الأساسيّة؛ أي المسلمين أو المؤمنين أيّاً يكن إيماننا، هي أنّنا نعبد نصوصاً ولا نعبد الله، فنحن المسلمون نعبد القرآن، وهذا يحيلنا على مسألة خلق القرآن، تلك المسألة الجوهريّة الّتي تجاوزناها تاريخيّاً وظننّا أنّها قضيّة فلسفيّة من التّرف الفكريّ، بينما هي قضيّة كبرى. فالخلط بين الله والقرآن مصيبة لأنّ الله ليس القرآن، الله هو كلّ شيء والقرآن هو كلام الله، وحتّى في التّحليل النّفسيّ فأنت لست كلامك، لذلك فحتّى الإنسان البسيط حين يُقال له «من أنت؟» يُدرك جيّداً أنّ ذاته لا يمكن أن تُلخّص في الكلام الّذي سيقوله عن نفسه ولا حتّى الكلام الّذي قاله من بداية التّاريخ إلى الآن. لقد حصرنا الله في هذه التّآويل النّصيّة وبقينا نتجادل في القرآن، ونسينا ما يشير إليه، تماماً مثل الأحمق الّذي يكتفي بالنّظر إلى الإصبع ولا ينتبه أنّ الإصبع يشير إلى القمر. ليس لي إشكال في هذا الجدال بشرط أن نكون واعين بأنّنا لا نتحدّث عن الله عندما نتحدّث عن النّصّ، ومهما تكن التّسمية الّتي يمكن أن نعطيها للإله؛ فهناك من يسمّيه الحياة أو المطلق أو المبدأ الجوهريّ، هذا لا يهمّ، فلا أعتقد أن الله يرضى أن يكون محصوراً في قضبان اللّغة لأنّها مغلقة، ونحن نضرب برؤوسنا على حدود اللّغة كما يقول لودفيغ فتغنشتاين (ludwig wittgenstein) (1889-1951)، والحال أن الله أكبر من اللّغة. ههنا انفتح لي باب في طريق التّصوّف بالمعنى الجوهريّ للكلمة، وإن قُدّر لي أن أكتب شيئاً آخر في يوم ما، فسيكون مختلفاً أو نقضاً تامّاً لما كتبتُ سابقاً ممّا كان يجب أن أمرّ به لأكتشف أنّ التّأويل للنّصّ لا يقودنا إلّا إلى سلطة النّصّ وصراعات لا تنتهي.

د. نادر الحمّامي: بهذا المنظور وما قدّمته في أطروحتك أساساً، أنت لا تخرجين عن الدّائرة الإيمانيّة، لذلك نجد لديك الكثير من المقولات الإيمانيّة، من قبيل الحديث عن اللّوح المحفوظ، وهي تلتقي تقريباً مع كلّ التّصوّرات الدّينيّة التّمجيديّة بصورة عامّة؛ أي تلك الّتي لا يطرح أصحابها مسألة قدسيّة النّصّ للنّقاش مع المؤمنين أنفسهم توهّماً منهم أنّ القرآن مطابق لما في اللّوح المحفوظ. فالمقولة الإيمانيّة تقول إنّ النّصّ الموجود بين دفّتين هو ذاته النّصّ الموجود منذ الأزل، ههنا أنت تلتقين حتّى مع أكبر عتاة النّصّانيّين في هذه المقولة.

دة. ألفة يوسف: في سؤالك بعدان؛ البعد الأوّل تقنيّ يتّصل بمسألة اللّوح المحفوظ، وهنا أشير إلى أن ما ذكرتُه في أطروحتي حول هذه المسألة، لا يعني أنّ القرآن صورة لما هو في اللّوح المحفوظ، ولكنّ الحديث كان حول تمثّل لمعنى جوهريّ لا ينقضي، على افتراض أنّ المعنى الّذي في اللّوح المحفوظ هو المعنى الأصليّ الجوهريّ في القرآن، وهو ما لا يقال، والّذي يعبّر عنه المتصوّفة بــــ (l'indicible)؛ أي الشّيء الّذي لا يمكن أن تعبّر عنه اللّغة، كأن يُقال كان ما كان، لأنّ ما تعبّر عنه اللّغة هو ما هو كائن؛ أي الواقع كما هو.

د. نادر الحمّامي: وهذا يلتقي أيضاً مع فكرة وحدة الوجود.

دة. ألفة يوسف: وهذا يحيلنا على البعد الثّاني من سؤالك، وليس لي أيّ حرج في أن أقرّ بأنّني أتعامل مع المسألة الدّينيّة من منظور إيمانيّ على غرار بعض الباحثين المختلَف فيهم، مثل فرانسواز دولتو (françoise dolto) (1908-1988) الّتي درست هذه المسألة، وعنوان كتابي (le coran au risque de la psychanalyse) «القرآن على محكّ التّحليل النّفسيّ» مأخوذ من عنوان كتابها (l'èvangile au risque de la psychanalyse) «الإنجيل على محكّ التّحليل النّفسيّ». لقد أزعج البعد الإيمانيّ بعض الأكاديميّين، وأنا أناقشهم في هذا وأحترم قراءتهم، ولكن لا يمكن لي أن أتعامل مع القرآن أو الظّاهرة الدّينيّة تعاملاً خارجاً عمّا يشكّل هذه الذّات، لذلك قلت من البداية إنّني لست محترفة كتابة أو بحث، فأنا لا أستطيع أن أكون مثل الكثير من أصدقائي الّذين هم خارج الدّائرة الإيمانيّة، ممّن يتعاملون مع النّصّ بطريقة عقليّة أو موضوعيّة جامدة؛ لأنّ بحثي اندرج منذ البدء في طريقة إيمانيّة تحافظ على البعد الفرديّ، الّذي بقي ماثلاً في تجربتي بما له من إيجابيّات وما عليه من سلبيّات، ولا يمكنني أن أنفيه أو أتجرّد منه، ولا أملك إلى الفكاك منه سبيلاً. وقد لاحظ لي ذلك الكثير من الدّارسين، ومنهم من يقول لي كيف تؤمنين بالقرآن ومسألة جمع القرآن، والحال أنّه قد عرف أطواراً متعدّدة من المشافهة إلى التّدوين...أعرف هذا كلّه جيّداً وأحترمه جيّداً، ولكنّني أجيب عنه جواباً خاصّاً قد يُقلق البعض، فلا يهمّني أن يؤمن أحدهم بالقرآن أو أيّ شيء آخر، ولكنّني أعتقد أنّ هذا النّصّ الّذي وصلنا بالشّكل الّذي هو عليه كيف ما كان، هو بكلّ بساطة من إرادة الله تعالى. قد يُقال لي ههنا إنّني أشابه المنغلقين أو الرّاديكاليّين في إيمانهم، إلّا أنّ الفرق بيني وبينهم بسيط جدّاً، فأنا أتمتّع بقراءتي هذه وأفرضها على نفسي فحسب دون الآخرين، وقد أقدّمها للنّاس في فيديو أو كتاب، ولكنّني لا أفرضها عليهم.

د. نادر الحمّامي: لعلّ هذا ما يخدم نظرتك إلى مسألة ما يسمّى اليوم بالإيمان الفرديّ، بالنّظر في الكلمات المتردّدة في إجابتك مثل الذّاتيّة والحرّيّة والفرديّة، وبالعودة إلى ما قلتِ من البداية أفهم أنّ القراءة الّتي تقدّمينها في العديد من مؤلّفاتك تحمل الكثير من الأسئلة الذّاتيّة الّتي كنت تطرحينها على نفسك منذ الصّغر حول الوجود والعالم، وربّما يطرحها بعض الأطفال على أنفسهم، تلك الأسئلة الفرديّة والجوهريّة الّتي يتحرّج منها البعض بحكم الثّقافة والمؤسّسات، والتي يمكن أن تُطرح بالتّخلّص من الثّقافة ذاتها؛ أي بالعودة إلى ما هو أقرب إلى الأسئلة الطّبيعيّة.

دة. ألفة يوسف: هذا صحيح تماماً، ففي البداية كنت لسانيّة واشتغلت على فلسفة اللّغة، وهناك فيلسوف أحبّه كثيراً هو لودفيغ فتغنشتاين الّذي يواجه الكثير من الأسئلة الجوهريّة من قبيل «من أنا؟ لماذا أتيت؟ إلى أين أسير؟»... بالقول: «إنّ ما أعرفه لا يتجاوز ما يعرفه أيّ طفل». ولعلّ العمل الّذي أقوم به على ذاتي الآن بعد يأسي المطلق من العثور على الحقيقة في اللّغة أو في النّصّ هو كسر لهذه الثّقافة ولجميع العلوم والمعارف الّتي أمضيت سنوات أجمعها للوصول إلى ما يسمّى فطرة أو جوهراً، أو ما يسمّيه المتصوّفة «ما لا ينقال». لذلك، كثيراً ما أقابل بين البُعدين الصّوفيّ والفقهيّ، وأعتبر أنّ البعد الصّوفيّ يُزعج الفقهاء، لأنّه فرديّ، وقد بيّنت حين اشتغلت على مسألة الأنوثة والذّكورة أنّ البعد الفقهيّ ذكوريّ، وأنّ البعد الصّوفيّ أنثويّ حتّى وإن كان القائم به رجلاً؛ لأنّه حاجة فرديّة تستند إلى التّجربة، ونجد لذلك صدى في التّحليل النّفسيّ، فعندما سُئل لاكان (jacques lacan) (1901-1981) عن ماهيّة التّحليل النّفسيّ قال: «إنّه ما يُنتظرُ من المحلّل النّفسيّ»؛ أي هو التّجربة والتّجربة فرديّة لا تنقال. هذه التّجربة الفرديّة لا تُفرض على الآخر، فلكلّ طريق مختلف. ولقائل أن يقول لماذا ألقى كلّ هذا الصّراع والكراهية من الإسلاميّين المتطرّفين ما دمت أندرج في إطار المنظومة الإيمانيّة ذاتها، وإنّما السّبب في ذلك أنّ قراءة هؤلاء للإسلام قراءة جماعيّة، لا مجال فيها للبعد الرّوحانيّ الفرديّ، وما يعنيهم هو أن يكون الشّكل الخارجيّ مسلماً، من خلال المظهر واللّباس والشّعائر الجماعيّة والتّقاليد والعادات، فلا شيء لديهم يخرج عن الصّورة الجماعيّة، وبذلك فقد قتلوا الجوهر الفرديّ، وتنكّبوا عن كلّ ما يرتبط بالفرد كالحبّ والاطمئنان بالمعنى الفلسفيّ العميق والقبول بالآخر كيفما كان. وقد وجدوا في ما يمارسونه على النّاس من تخويف من النّار، وفي ما يقدّمونه من صور مفزعة لما ينتظر الإنسان من أهوال عذاب القبر سلعة مربحة، يستطيعون بها أن يحرّكوا انفعالات النّاس، وأن يجيّشوا مشاعرهم ويحشروهم في إطار القالب الجماعيّ. لقد شاهدت مؤخّرا فيديو لفرنسيّة أعلنت إسلامها، ولاحظت كيف أنّ النّاس يتناقلون هذا الخبر على شبكات التّواصل الاجتماعيّ، وهم فرحون وسعداء بذلك، وقد جعلني ذلك أتساءل ما الّذي يعنيني في هذا الأمر؟ وما الدّاعي إلى أن أكون سعيدة إن دخل شخص ما الإسلام أو خرج منه؟ فأنا لست مسؤولة عن الكون، وإذا كان الله تعالى أراد لهذا العالم أن يكون مختلفاً، فأن يصبح الإنسان مسلماً أو بهائيّاً أو لا أدريّاً أو مؤمناً أو كما يشاء، فذلك شأنه وحده. أنا أحلم بعالم يكون فيه النّاس أكثر حبّاً وأكثر قبولاً لبعضهم البعض وأكثر إيماناً بالاختلاف. أمّا أن يصبح إنسان ما مسلماً وأكون أنا سعيدة بذلك، فهذا أشبه بأن يصبح أحد ما محبّاً لفريق كرة القدم الّذي أحبّه أنا، ونتحوّل بالتّالي إلى جمهور، وإذا تصوّرنا الدّين في تلك العلاقة الجماهيريّة، فسوف يؤدّي ذلك إلى تقلّص البعد الرّوحانيّ فيه.

د. نادر الحمّامي: لقد ذكرتِ فتغنشتاين، ولعلّ أهمّ ما يميّز توجّهه الفلسفيّ هو التّعبير ببساطة عن كلّ ما قد يبدو معقّداً، وما أنت بصدد الخوض فيه معقّد جدّاً، ولكنّك تقدّمينه بطريقة بسيطة، فكأنّك تحاولين تبسيط هذا الإيمان الفرديّ الرّوحانيّ المتحرّر من الطّقوس، وما تقولينه بالعودة إلى الأسئلة الطّبيعيّة البسيطة الّتي يطرحها الأطفال حول تصوّر الإله والوجود يواجه الكثير من التّعقيد في ظلّ المؤسّسات الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة السّائدة، ما يجعل مشروعك عرضة لكثير من الانتقادات من الجهة المحافظة أو التّقليديّة أو الدّينيّة تماماً كما من الجهات الأخرى المقابلة، فكلّ يحسبك على الجهة المخالفة له، وأعتقد أنّ هذا يسبّب لك إشكالاً مضاعفاً.

دة. ألفة يوسف: نعم، لقد كان هذا يسبّب لي إشكالاً حين كنت أتصوّر أنّ لي هدفاً؛ ففي البداية كنت أكتب لأغيّر الفكر التّقليديّ، ولأبيّن أنّ هناك إمكانات لقراءة النّصّ الدّينيّ قراءة مغايرة تفتح الرّؤية باتّجاه المساواة بين المرأة والرّجل، ولكنّني اكتشفتُ فيما بعد أنّ التّغيير لا يكون بهذه الطّريقة. فأنا ليس لي أيّ مشروع، والدّليل هو أنّ ليس لي طلبة يواصلون مشروعي، ففي تونس لدينا الكثير من الأساتذة أصحاب المشاريع الفكريّة، مثل الأستاذ عبد المجيد الشّرفي الّذي أحترمه جدّاً وقد تتلمذت له، ومثل الأستاذ هشام جعيّط في التّاريخ وغيره. أمّا أنا، فلا أدّعي أنّ لي مشروعاً ولو كنت أبحث عن مشروع لكان هناك هذا التّسلسل عن طريق الطّلبة. فما أكتبه هو تعبير فردانيّ أو طريقة في طرح تساؤلات وجوديّة لها قراءة روحانيّة، قد تجيب شخصاً أو تساعد آخر في العثور على جواب.

د. نادر الحمّامي: تقولين إنّ ليس لك مشروع، والحقيقة أنّ هذا في حدّ ذاته مشروع، ويمكن تلخيصه في مفهوم كبير هو مسألة الخلاص الفرديّ الّذي قد يكون منطلقاً لخلاص آخر، فهل يمكن أن نطلق على مشروعك الّذي لا تعتبرينه مشروعاً صفة الخلاص الفرديّ؟

دة. ألفة يوسف: الخلاص كلمة جيّدة يستعملها بعض المتصوّفة، كما هناك من يستعمل كلمة اليقظة ومن يستعمل بلوغ الهدف... وهي تسميات مختلفة ولكنّها جميعاً فرديّة، والفرق بين الفقيه والمتصوّف أنّ الأوّل يمكن أن يقدّم لك جواباً في حين أنّ الثّاني لا يستطيع ذلك، ولكنّه يضع قدمك على الطّريق لتكمل التّجربة بمفردك؛ لذلك فكلمة الخلاص الفرديّ جيّدة، لأنّنا لا نغيّر العالم. وهنا أتقابل تماماً مع الفلسفة الوجوديّة الّتي تؤمن بتغيير العالم، بل أذهب أبعد من ذلك وأعتبر أنّ ميمونة في رواية السّدّ لمحمود المسعدي (1911-2004) هي الشّخصيّة المناسبة لي وليس غيلان، لأنّها تسلّم بالواقع وبحدود الإنسان فيه، وقد تحدّث فتغنشتاين عن حدود اللّغة ولاكان عن حدود القانون. وإذا كان الوجوديّون يعتقدون أنّهم يغيرون العالم، فأنا أنتمي إلى تمثّل آخر يعتقد أنّ العالم يتغيّر بنا دون أن نشعر، وعندما كتبت «حيرة مسلمة» لم أكن أتوقّع أن يلاقي ذلك النّجاح، ولم أكن أتوقّع أن ألاقي بعد بضعة أشهر فتاة تقول لي: «إنّ هذا الكتاب غيّر حياتي عندما قرأته»، فلم أكن أعرف تلك الفتاة، ولم أكتب الكتاب لأغيّر حياتها.

د. نادر الحمّامي: ولكنّ ميمونة نفسها الّتي تؤمن بالتّسليم، نجد في تسليمها عقلانيّة أكبر من عقلانيّة غيلان؛ لأنّها تعتقد أنّ المنظورات تُرى ولا تُسمع.

دة. ألفة يوسف: أعتبر أنّ حياتنا بسيطة جدّاً ولكنّنا لا نرى تلك البساطة، بل إنّ مشكلتنا أنّنا نريد أن نحكم الحياة كما نشاء، وهذا مستحيل لأنّ هناك ستّة مليارات نسمة على الأرض رغباتهم متقابلة، فلا يمكن أن يكون كلّ واحد حاكماً للحياة كما يشاء، وليس معنى هذا ألّا نعمل شيئاً، ولكن يجب أن نعمل وأن نعي بأنّ المنظورات تُرى ولا تُسمع؛ أي أن نعمل وأن نعي أنّ هناك قوّة أعظم منّا أشار إليها شوبنهاور (arthur schopenhauer) (1788-1860) بقوله: «إنّ الإرادة هي الّتي تحرّك هذا الكون بما فيه ذواتنا». فاختياراتي هذه ليست اختياراتي ولو لم أولد في عائلتي لما وجدت نفسي الآن هنا، ولما تعرّفنا إلى بعضنا ولما أجرينا هذا الحوار؛ فالحياة تحكمها مجموعة من الظّروف، وهذا الكائن الّذي يسمّيه هايدغر (martin heidegger) (1889-1976) الدازين (dasein) هو الّذي يحرّكنا، وبمقدورنا أن نستسلم له ولكنّنا نكابر، لذلك تبدو لحظات الاستسلام في أوّل الطّريق قليلة في حين تبدو لحظات المكابرة كثيرة، ويوماً ما سوف يموت الفرد بالمعنى الوجوديّ، ليكون هناك فرد آخر بالمعنى المطلق.

وهم الثّوابت وهاجس التّماثل

د. نادر الحمّامي: هذا الفرد المطلق يمثّل في رأيكِ، أفقاً آخر للخلاص الفرديّ، ولعلّ هذا الطّرح قابل لمزيد التّطوير في المستوى الجماعيّ ليعكس جملة من القيم، مثل الحرّيّة والمساواة، الّتي نجد لها صدى في مستوى التّأمّلات الرّوحانيّة، ولكن ألا يبدو التّخلّص من الجماعة صعباً جدّاً في ظلّ وطأة موروث يقوم على إنكار الفرد؟

دة. ألفة يوسف: لعلّ ما يبدو عادة شديد التّعقيد هو في الحقيقة بسيط جدّا؛ فالحديث عن الواحد أو الفرد لا يتعارض مع التّعايش الّذي يفيد التّعدّد بالضّرورة، وقد اكتشفت هوَساً بداخلي حول المعنى الواحد الّذي يتشكّل متعدّداً منذ أن أنجزت أطروحتي حول «تعدّد المعنى في القرآن»، دون أن أعي حينها الخلفيّات الصّوفيّة الكامنة وراء ذلك. إنّ الحياة الّتي تجري في عروقنا واحدة، وهي ما يجعلنا نقول «نحن موجودون»، وعليه يمكن أن ننكر كلّ الأفكار وكلّ ما تعلمناه وكلّ النّظريّات، ولكن لا يمكن أن ننكر الوجود أو الكينونة، لأنّنا موجودون بشكل ما، ولا يهمّ من نكون ولكنّنا جزء من هذه الحياة الواحدة الّتي تتجسّم عبر عدد لا نهائيّ من الأشكال المختلفة «بعدد أنفاس الخلائق»، بعبارة ابن عربي، وكلّ واحد فينا يجسّمها بطريقته. هذا «الواحد» بعبارة المتصوّفة، هو ما يمثّل الباطن أو الوفاق الّذي يشدّنا جميعاً، وهو ما أُطلقَ عليه حديثاً تسمية الإنسانيّة، والبعد الإنسانيّ فينا يتشكّل ظاهراً في صور مختلفة لا يمكن فصلها في النّهاية عن البعد الرّوحانيّ، وفي العالم اليوم عودة إلى هذا البعد الرّوحانيّ، وإن سُمّي أحياناً تسميات أخرى «شبابيّة» مثل التّنمية الفرديّة أو البشريّة. فالحياة هي الشّاشة الّتي نشاهد عليها صوراً مختلفة وأفلاماً كوميديّة أو عاطفيّة أو مسلسلات أو وثائقيّات أو حوارات... ولكنّها شاشة واحدة في النّهاية، ورغم تعدّد الصّور واختلافها فالجوهر واحد، وقد تحدّث أرسطو عن ذلك. ولعلّ المشكل يكمن في اعتقادنا أنّ الصّور هي الجوهر؛ فما نعتقد أنّه خاتم من ذهب على سبيل المثال هو ليس كذلك في الحقيقة، إنّما هو ذهب في شكل خاتم، لأنّ الجوهر هو الذّهب، ويمكن أن يتشكّل خاتماً أو عقداً أو ما تشاء، وتلك الصّور هي الّتي تشكّل أوهامنا حول الحياة، فتجعلنا نعتقد أنّنا نختلف عن بعضنا البعض في الجوهر إن اختلفنا في الصّور، وهذا وهم.

د. نادر الحمّامي: ولكنّ أرسطو نفسه يقول، إنّه يستحيل التّفكير من دون صور.

دة. ألفة يوسف: طبعاً، فما أردت قوله ليس أن ننفي الصّور، ولكن أن نعي أنّ الصّور وحدها لا يمكن أن توجد دون جوهر يشدّها، فنحن في نهاية الأمر مجرّد صور، وحتّى من المنظور الفيزيائيّ السّطحيّ؛ فالإنسان يعود إلى الذّرّة ومن بعدها إلى لا شيء، وهذا ما تقوله الفيزياء الكوانتيّة الّتي تعود بشكل ما إلى ما قاله بيركلي (george berkeley) (1685-1753) من أنّ العالم الّذي نراه هو عالم جُوّانيّ. لذلك، لا يمكن أن نتصوّر الشّيء في ذاته، لأنّنا نتّصل بكلّ شيء في الكون من خلال حواسّنا وأدمغتنا، وكلّ ما نراه خارجاً هو مجرّد إسقاطات وصور، وهذه الصّور جميعاً مختلفة، ولكنّها تتعايش وستتعايش رغماً عنّا، ولا إمكان لإقصائها، فكلّ من حاول أن يقصي الآخر كان مصيره الفشل، لذلك فشلت الفاشيّة، رغم أنّها تنطلق من فكرة الطّهارة (le purisme)، وكلّ وهم طهارة يؤدّي إلى فاشيّة ما، سواء أكانت باسم الأديان أو باسم الدّيمقراطيّة أو باسم الجنس الأفضل أو أيّ أيديولوجيا. فالأصل أن نقبل هذا التّنوّع؛ لأنّه أساس الكون. ومن تصوّراتي الإيمانيّة البسيطة أعود دائماً إلى الآية الشّائعة {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يُونس: 99] إذاً فربّك لم يشأ، وأبدل لفظ «ربّك» بالحياة، بالكون، بالإرادة، أو بما شئت، فلا يمكن أن ترفض الاختلاف أو تقتل كلّ المخالفين لك، لأنّك في نهاية الأمر تقتل نفسك، فلا يمكن أن تحيا وحيداً مع ذاتك، تخيّل أنّ شخصاً يحيا مع صور متنوّعة من ذاته، فلن تكون هناك حياة.

د. نادر الحمّامي: لعلّ هذا التّعدّد في الصّور مع وحدة الجوهر، هو ما دفعك إلى الخوض في مواضيع قد تبدو من التّابوهات اجتماعيّاً؛ لأنّ ما يعبّر عنه مثلاً بتابو الجنس هو مجرّد صورة من بين صور متعدّدة تُعطى له من مجتمع إلى آخر، ولكنّه يعود إلى جوهر واحد.

دة. ألفة يوسف: هذا جائز جدّا؛ لأنّ الحديث عن التّابوهات متّصل بما يسمّى التّكييف (le conditionnement)، كلّنا مكيّف ولا أستثني نفسي من ذلك، فأحيانا أكتب كلاماً على صفحات التّواصل الاجتماعيّ، ثمّ أنظر وأتساءل كيف قلت ذلك الكلام، ولكن التّجربة الجوّانيّة جعلتني أرضى بأنّ ذاك الكلام قيل في تلك اللّحظة، وهذا تمرّد على النّزعة الطّهريّة بقبول ذاتي كما هي؛ لأنّها كائنة كما هي، ورفض ما هو كائن لن يغيّر شيئاً.

د. نادر الحمّامي: ولعلّ خصائص الفرد الذّاتيّة الّتي تعتبر من التّابوهات غير المقبولة اجتماعيّاً، هي نتيجة هذه النّزعة الطّهريّة الّتي ربّما تكون أحد المعوّقات أمام ما يعرف اليوم بالحرّيّة الفرديّة.

دة. ألفة يوسف: تأكيداً لما قلت، فأهمّ مشكلة لدى الطّفل في أغلب البلدان المسلمة هي أنّه ينشّأ على اعتبار أنّه مسلم وأنّ الآخرين كفّار، فيتصوّر أنّه أفضل من الآخر، وينسى أنّ الإسلام تكييف، وأنّ هناك في بلاد أخرى تكييف آخر يجعل النّاس مسيحيّين أو لا أدريّين أو غير ذلك.

د. نادر الحمّامي: أذكر أنّ في أحد برامج التّعليم الرّسميّة في مادّة التّفكير الإسلاميّ درساً حول الصّلاة، يُطلب فيه من التّلميذ شطب الخطأ من بين خيارين هما (المسلم هو من يصلّي/ الكافر هو من يصلّي)، وهذا التّكييف بالطّقوس ساهم في تغييب الوعي لدى الطّفل المسلم بالاختلاف في بعده الأساسيّ أي دون حكم مسبق.

دة. ألفة يوسف: لا سيّما أنّ الوعي بالاختلاف لا يقوم على إلحاق الضّرر بالآخر. هذا التّكييف الخاطئ منذ البدء هو الّذي ينتج العنف فيما بعد، مثلما يؤدّي تكييف الطّفل على حبّ فريق رياضيّ إلى ما نشاهده من عنف في ملاعب كرة القدم، وننسى في خضمّ الفخر بالانتماء إلى فريق ما أنّها لعبة في النّهاية تقوم على بعد جماليّ. أذكر في هذا السّياق، رسالة مضحكة جدّاً وجّهها لي شخص ما، ينسب فيها أقوالاً مغلوطة حول المرأة إلى فرويد وأينشتاين ويذيّلها بحديث للرّسول «النّساء شقائق الرّجال»، قائلاً: «الحمد لله على نعمة الإسلام، أنا أفتخر أنّني مسلم»، وهنا أرى من المضحك حقّاً أن يقول أحدهم أنا أفتخر بأنّني مسلم، تفتخر بماذا؟ هل معنى هذا أنّ الشّخص الّذي لم يبلغه تكييف الإسلام بالطّريقة الّتي بلغتك هو شخص سيّء بالضّرورة؟ لذلك قلت منذ حين لا يهمّني أن يدخل شخص الإسلام، وإنّما يهمّني أن أسمع أنّ هناك شخصاً يحبّ الآخر ويتقبّله ويعمل على مساعدته، بغضّ النّظر عن انتماءاته أو إيديولوجيّته.

د. نادر الحمّامي: ما ذكرتِه حول العنف في ملاعب كرة القدم، وتلك الجماهير الّتي تمارس العنف على بعضها البعض، هو قياس على من ينتمي إلى عرق ما أو دين ما، ويظلّ يدور في فلك تلك الهويّة الجماعيّة دون وعي بالهويّة الفرديّة.

دة. ألفة يوسف: هو خوف من فراغ الفرد، فالجماعة تمثّل نوعاً من الحماية الوهميّة للفرد الّذي يأتي من لا شيء، ويتصوّر أنّه سيموت ويعود إلى لا شيء، لذلك يرغب معظم النّاس في إنجاب أولاد، ليحملوا أسماءهم جيلاً بعد جيل، لتحيا أسماءهم بعد أن يكون قد لفّهم الموت. هذا يدلّ على أنّ الجماعة هي وهم الخلود، والفكر الجماعيّ يتوهّم أنّ الإنسان عليه أن يكون في صفوف مرصوصة كالبنيان حتّى لا يواجه الحياة وحده، وهو لذلك فكر إقصائيّ بالضّرورة، لأنّ الجماعة ستكون حتماً ضدّ جماعة أخرى. والطّريف أنّها ضدّ جماعة أخرى بها تكون، ولكنّها تعمل على إقصائها والقضاء عليها، وهذه مفارقة لا يشعر بها المنتمي إلى هذا الفكر الجماعيّ، لأنّه يتصوّر نفسه أفضل من الآخر. لذلك أرى أنّ على المسلمين، إذا ما أرادوا أن يخرجوا من الحلقة المفرغة الّتي يدورون فيها منذ قرون، أن يبادروا إلى مراجعة هذا التّكييف التّربويّ.

د. نادر الحمّامي: هذا التّصوّر الجماعيّ هو من العوائق الفكريّة الّتي تقف حائلاً في مجتمعاتنا اليوم دون الأفكار القائمة على مبدأ الفرد والمساواة والحرّيّة، وعلينا التّساؤل عن السّبب وراء عدم استساغة هذه المجتمعات لتلك القيم الحديثة.

دة. ألفة يوسف: تحدّثتُ عن التّربية التّعليميّة، ولكن الأمر يبدأ منذ الولادة؛ فالأبوان يتصوّران أنّ المولود امتداد لهما، وبذلك لا يُنظر إليه بصفته فرداً؛ وأذكر قول جبران في كتابه «النّبيّ»: «أبناؤكم أبناء الحياة»، وقد توصّل إلى ذلك، لأنّه بلغ مرتبة كبيرة من الرّوحانيّات، فالأب يريد أن يشكّل ابنه بالصّورة الّتي يتوهّمه عليها، وإن لم ينجح في ذلك يكون ردّ فعله عنيفاً تجاه الابن، لأنّه يخاف أن يخرج عن سيطرته ويكون مختلفاً عنه. يقول لي أبنائي أحياناً أشياء تخالف التّصوّرات الموجودة في محيطنا العائليّ، وأتساءل من أين أتوا بها، وهذا يؤكّد أن أبناءنا مختلفون عنّا. فالابن مختلف بالضّرورة، ولكنّه لا يعامل من البدء على أنّه فرد، وإنّما يعامل على أنّه امتداد لتسلسل ما، ويجب أن ينشأ في قالب معيّن، وأن يكون على صورة ترضي الأبوين والمجتمع، ثمّ تأتي المدرسة وتواصل في القالب ذاته، فينشّأ الطّفل على أنّه مسلم في مقابل الكافر، ويعلَّمُ أن ينتمي إلى جهة ما في مقابل من ينتمون إلى الجهة الأخرى. وهكذا تستمرّ الحكاية شيئاً فشيئاً، والأمر ليس خاصّاً بالمتديّنين، فحتّى من يسمّون أنفسهم حداثيين لهم الموقف ذاته، والسّبب وراء ذلك أنّنا نريد من الآخر أن يكون مثالاً لنا. ولنا أن نتساءل في هذا السّياق، على سبيل المثال، ما الّذي يزعج شخصاً غيريّاً في أن يكون شخص آخر مثليّاً؟ ففي نهاية الأمر هو مثليّ شئنا ذلك أم أبينا، وقد تحدثّت مع البعض في هذا الموضوع، ولاحظت أنّ ردود أفعالهم تكون عنيفة في البداية، ولكنّهم يقولون في نهاية المطاف بأنّ على المثليّ أن يختفي، على الأقل، أو يمارس ما شاء سرّاً، وهذا لأنّ كلّ إنسان يخاف على هشاشته من الآخر المختلف عنه، فيغطّيها بوهم الجماعة، فأن يكون مسلماً فذلك يعني لديه ألّا يرى إمكاناً آخر لشخص غير مسلم، أو أن يكون مسلماً سنّيّاً، فلا يرى إمكاناً آخر لمسلم شيعيّ، لأنّ ذلك يخلخل اقتناعه، ولأنّ إيمانه ليس نتاج تجربة شخصيّة وآلام وعوائق تجاوزها بشكل ما، ليصل إلى شبه جواب، وإنّما هو نتيجة هذا الوهم أو الحماية الجماعيّة الهشّة، وكل إمكان آخر يذكّره بأنّه كان يمكن أن يكون كذلك، فيقصيه ولا يرى في النّهاية غير إمكان وحيد. وعندما نتحدّث عن الأسرة لا بدّ أن نعي أنّ هذا المفهوم غربيّ جاء مع الثّورة الصّناعيّة، وأنّه ليس موجوداً في الإسلام، وأقصى ما هنالك مفهوم الشّعوب والقبائل {وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا} [الحُجرَات: 13] أو مفهوم الأهل. فالأسرة مجرّد إمكان من الإمكانات؛ لأنّ المجتمع لا يتكوّن من الأسرة فقط، بل يتكوّن أيضاً من المواطنين، فهناك أناس لا يتزوّجون ولا يكوّنون أسرة. ولذلك، فما يتمّ تصوّره على أنّه النّواة الأولى للمجتمع المسلم وما يسمّى «الأسرة في الإسلام» ينبني على خلط مردّه هذا التّكييف الّذي تعلّمناه لأنّنا لا نرى إمكاناً آخر لحماية هشاشتنا، فنعبّر عن ذلك بعنف، وكل عنف وراءه هشاشة عميقة.

د. نادر الحمّامي: هذا البحث عن التّماثل يعبّر عن أزمة هوويّة في النّهاية، وهو خوف من رؤية هذا المختلف، وهو نوع من الأنانيّة الجماعويّة.

دة. ألفة يوسف: نعم، وهو نوع من الحماية الجماعيّة والبحث عن الرّاحة السّهلة الّتي تتحقّق بإقصاء الآخر بناءً على الاختلاف حتّى في اللّباس؛ فمسألة الحجاب الّتي تُطرح يمكن أن نناقشها من زوايا مختلفة، ولكن كلّ شخص في نهاية الأمر يجد راحته في ما لا يزعج الجماعة. أمّا مسألة النّقاب، فتطرح إشكالاً يتعلّق بمعرفة الوجه، ولكن في ما عدا ذلك، فأن ألبس الجينز أو أيّ لونٍ، فذلك أمر لا يعني أحداً، وإن أزعجك لباسي، فمعنى ذلك أنّ المشكلة فيك. هذا من مشاكل حضارتنا، فنحن دائماً نلقي باللّوم على الآخر ولا نتحمّل مسؤوليّاتنا أمام أنفسنا، وقلّما يتساءل أحد عمّا يعنيه من أمر لباس المرأة مثلاً؛ لأنّه تعلّم منذ البدء أنّ عليها أن تغطّي نفسها لتحميه من الفتنة، وهو في المقابل لا يعتبر أنّ الفتنة أو الرّغبة كامنة في داخله، وأنّ عليه أن يتعامل معها، وبذلك فهو يُسقط مشاكله النّفسيّة على الآخر ويرى نفسه بريئاً دوماً.

د. نادر الحمّامي: وهذا نوع من القصور العقليّ، الّذي يجعل الفرد يتهرّب من مسؤوليّاته، ويحتاج دوماً إلى من يحميه، والحال أنّ الحداثة لا تكتمل إلّا بالمسؤوليّة، ولكنّ مشكلتنا الكبيرة أنّنا لا نتحمّل مسؤوليّاتنا.

دة. ألفة يوسف: نعم، فإلقاء التّهمة على الآخر جوهره عدم تحمّل المسؤوليّة والخوف من رؤية ذواتنا كما هي؛ ههنا أذكر طرفة جميلة مفادها أنّ رجلَا دين كانا سائرين قرب نهر، فوجدا امرأة تريد أن تعبر النّهر ولا تستطيع السّباحة، فساعدها أحدهما بأن حملها على كتفيه، ثمّ وضعها على الجانب الآخر من النّهر وانطلق في سبيله، في حين بقي الآخر صامتاً ينظر إليه شزراً، فسأله ما بك؟ فقال ألا تستحي، تحمل امرأة على كتفيك وأنت رجل دين؟ فقال له يا أخي أنا حملتها لتعبر النّهر وانتهى الأمر، وأنت ما زلت تحملها إلى الآن. فالمشكل في ما نحمله نحن في ذواتنا وليس في الآخر المثليّ أو المرأة، وإذا كان أحد ما ينزعج من المثليّة أو من لباس المرأة فالمشكل فيه هو، وعليه أن يشتغل على تغيير نفسه لا على تغيير الآخر؛ وإذا كنت أنا على سبيل المثال لا أركب المصعد، فهل أقول إنّ المشكلة في المصعد؟ ومن يخاف ركوب الطّائرة هل يقول إنّ المشكلة في الطّائرة؟ طبعاً لا، لأنّ المشكلة فينا نحن، وليست لا في المصعد ولا في الطّائرة. هكذا لا يكون المشكل جماعيّاً إلّا عندما يبلغ حدود إلحاق الأذى بالآخر، وهذا هو الحدّ القانونيّ؛ أي عندما نخرج من مجال الفرديّة إلى مجال الجوهر القانونيّ الّذي يجمعنا في إطار العقد الاجتماعيّ.

د. نادر الحمّامي: هذا يحيلنا على مسؤوليّة الفرد أمام قضيّة الهويّة، الّتي تنبني اجتماعيّاً على ما يسمّى «الثّوابت»، حيث يكون المجتمع مهدّداً بالانهيار إذا ما تغيّر نمط الزّواج أو الأسرة أو النّسب، وهي قضيّة خطيرة ومؤثّرة في بنيتنا الاجتماعيّة، وما تطرحينه حول مسألة الفرد يخلخل تلك الثّوابت الّتي تقوم عليها الهويّة ويكسرها. فإلى أيّ مدى يمكن لمجتمع ما أن يتعايش بدون ما يسمّى «الثّوابت»؟

دة. ألفة يوسف: إنّ مسألة الثّوابت هي جوهر مأساة الإنسان فرديّا وجماعيّاً، وهي وهم، فمن يتأمّل الكون يكتشف ألّا وجود لشيء ثابت، وكلّ شيء يتحرّك في كلّ لحظة، فمنذ بداية حوارنا إلى الآن هناك خلايا في أجسادنا ماتت وحلّت محلّها خلايا أخرى. ومشكل الإنسان أنّه يريد إنشاء ثوابت مطلقة في عالم ليس ثابتاً، وما نعتقد أنّه ثابت ليس سوى مواضعات، فأن نسمّي الكائنات بأسماء، رغم تغيّرها عبر الزّمن، فتلك مواضعات ولا يمكن أن تكون ثوابت. وإذا نظرنا في نظام الزّواج على سبيل المثال، فسنلاحظ أنّه تغيّر عبر الزّمن شئنا ذلك أم أبينا، ولو خصّصنا النّظر في تغيّراته على امتداد الخمسين سنة الأخيرة، سنلاحظ أنّ عدد حالات الطّلاق قد كثر، وإذا كان النّاس يقيّمون ذلك سلبيّاً، فمردّ الأمر إلى التّكييف الّذي جعلهم يتصوّرون أنّ الزّواج أفضل من الطّلاق، حتّى وإن كان يسبّب الكثير من المشاكل والصّراعات بين الأزواج، والحقيقة أنّ الطّلاق أفضل في تلك الحالة حتّى بالنّسبة إلى الأبناء، فضلاً عن الزّوجين، فالنّساء اللّاتي كنّ قديماً يرضين بالظّلم والمآسي هنّ الآن يرفضن ذلك، بل إنّ عدداً كبيراً من النّساء والرّجال أصبحوا لا يريدون الزّواج، ولا ضير من ذلك فالكون سيستمر، فهناك عدد كبير من الرّجال والنّساء لا زالوا يتزوّجون. إن سبب الخوف على نظام الزّواج هو الرّغبة في السّيطرة على العالم، وهذا ضدّ طبيعة العالم نفسها، ومن هنا يأتي الألم والعذاب، فتلك الرّغبة في إنتاج عالم مطابق لما نريد لن تنتهي إلى شيء، لأنّنا مسبوقون في هذا العالم، نحن مسبوقون بالمنظومة كما يبيّن ذلك البنيويّون ومسبوقون باللغة بحسب اللّسانيّين، ومسبوقون بالمقولات الجماعيّة في نظر المحلّلين النّفسيّين، ومسبوقون بفكرة الإله بحسب المؤمنين، ومسبوقون بالتّقاليد الجماعيّة بحسب علماء الاجتماع... ولا يمكن، والحال هكذا، أن نؤثّر في الكون بصفة مباشرة، ونحوّله كما نريد نحن. إنّ ما يمكن أن نفعله من حيث كوننا أفراد هو أن نعمل على تغيير أنفسنا، بهذه الطّريقة أقرأ الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} [الرّعد: 11] وليس ما بأنفسهم بمعنى الجماعة، بل كل واحد يغيّر ما بنفسه، وعندها سيتغيّر الواقع بطبعه كما يقول غاندي: «كن التّغيير الّذي تريد أن تراه في العالم».

الحرّيّات الفرديّة بين ضرورة القطيعة وإكراهات التّأصيل

د. نادر الحمّامي: تبدو نظرتك أبعد من النّزعة الفرديّة أو لنقل إنّها فردانيّة، ربّما لأنّك تحمّلين الفرد مسؤوليّته الذّاتيّة، وتعتبرين أنّ التّأثير في المجتمع لا يكون من المجتمع نحو المجتمع بقدر ما يكون من الفرد نحو المجتمع، وتجدين في البعد الرّوحانيّ الدّينيّ الجوهرانيّ ما يساعد على تغيير هذه البنية بصورة عامّة. وتلك نظرة إيمانيّة بل إنّها مغرقة في الإيمان، ولكنّه الإيمان الفرديّ في مقابل الإيمان السّائد الّذي تكرّسه الثّقافة والمؤسّسات. فهل يمكن فعلاً بهذه القراءة الفرديّة الرّوحانيّة الذّاتيّة أن نؤسّس لقيمة التّعايش على الأساس القانونيّ الّذي نسعى إليه، في سياق ما يحدث في مجتمعنا اليوم من نقاش حول قضيّة الحرّيّات الفرديّة؟ ونذكر ههنا تقرير لجنة الحرّيّات الفرديّة والمساواة، الّذي مثّل موضوع نقاش عامّ بين أطراف متعدّدة، من بينها من يحترز ومن يرفض ومن يقبل.

دة. ألفة يوسف: ما نعيشه اليوم في تونس هو نتيجة تراكم، وهذا يؤكّد على البعد الرّوحانيّ، فلا شيء يحدث من فراغ، الطّاهر الحدّاد جزء من هذا التّراكم الّذي نتحدّث عنه، ولكن سواه كثيرون، أسماء نعرفها وأخرى لا نعرفها، فلا تهمّنا الأسماء، وإنّما المهمّ هو أنّ هذا التّراكم أوصلنا اليوم إلى هذه النّقطة الجميلة في تونس، وهي طرح هذه القضايا بغضّ الطّرف عن نتيجة ما سنصل إليه قانونيّاً. وأوّل ما كتبتُ عن هذا التّقرير يصبّ في ما كنتَ تقول، وقد صدم بعض أصدقائي من المشاركين في التّقرير، لأنّني محسوبة على المؤمنين وعلى مؤوّلي النّصّ الدّينيّ، وربّما لم يفقهوا أنّ تأويل النّصّ الدّينيّ فرديّ يصلح للنّقاش الفكريّ وطمأنة شخص ما أو طرح قضايا فلسفيّة، ولكن لا يصلح لأن يكون تأصيلاً قانونيّاً. وقد أزعجني ما وجدته في التّقرير من مقدّمات تبريريّة، فكأنّهم يقولون نحن سنعتمد الحرّيّات والحقوق البشريّة، ولكن سننظر إليها من منظور الدّين ولن نخرج فيها عن الإسلام أو قراءة الإسلام، وبهذه الطّريقة الدّفاعيّة لا يمكن أن نتقدّم، وهذا ما قلته لبشرى بالحاج حميدة (رئيسة لجنة الحرّيّات الفرديّة والمساواة) في لقاء جمعني بها، وبيّنت لها أنّهم كلّما جاؤوا بنصّ أو قراءة يحاولون بها أن يثبتوا الحرّيّات من منظور الإسلام، سيأتي شخص آخر بنصّ أو قراءة يثبت بها عكس ذلك، لأنّ القرآن قائم على التّقابل واختلاف السّياقات وغيرها. ولعلّ مشكلنا في تونس منذ الاستقلال إلى اليوم، أنّنا نحاول أن نعيش وفق منظومتين؛ وقد أراد بورقيبة أن يستبعد المنظومة الفقهيّة وأن يسبّق المنظومة المدنيّة ولكنّه لم ينجح في ذلك، ما أدّى إلى نوع من التّرميق أو التّلفيق، وتمّ اعتبار أنّ الدّولة دينها الإسلام، والأصل أنّ الدّولة لا يمكن أن يكون لها دين. وعلينا اليوم أن نختار؛ فإمّا أن يكون تصوّرنا للدّولة على اعتبار أنّها دولة دينيّة، سواءً بقراءة داعش أو بقراءة الطّاهر ابن عاشور، وإمّا أن يكون تصوّرنا لها على اعتبار أنّها دولة مدنيّة، فلا يعنيها الإسلام ولا اليهوديّة ولا المسيحيّة ولا البهائيّة ولا أيّ دين آخر، وإنّما يعنيها الأفراد جميعهم، باعتبار أنّهم مواطنون تونسيّون يقومون بواجباتهم وينتظرون حقوقهم. لقد اكتشفت في كتاب «والله أعلم» طريقتي للتّعبير عن هذا كلّه، حتّى أتخلّص من عبء التّأويل الّذي أرّقني، وأنتهي إلى أصل الحكاية، فكلّ شيء متّصل ببعضه بعضاً من وجهة نظر صوفيّة، وكلّ شيء يمكن أن يُعتمد فيه على الحجّة وعلى الحجّة المقابلة، أذكر ههنا فيلماً فرنسيّاً يعود إلى نهاية التّسعينيّات من القرن الماضي بعنوان (beaumarchais, l'insolent) يصوّر شخصاً يخاطب الملك قائلاً: «مولاي الآن أقنعتك بوجود الله اعتماداً على حجج ما وسأقدّم لك الحجج نفسها لأقنعك بعدم وجود الله» فأمر الملك بقتله وأعدم ذلك الرّجل رحمه الله، وكل موضوع طرحته في سلسلة «والله أعلم» سواء الحجاب أو المثليّة الجنسيّة أو قطع اليد أو الإعدام، يمكن أن نجد فيها الحجّة والحجّة المقابلة، فدعنا من هذه الحلقة المفرغة الّتي ندور فيها منذ سنوات ولنناقش القوانين بعيداً عن سلطة الإلهيّ والدّينيّ والمقدّس، فعندما طُرح إمكان زواج المثليّين في فرنسا نوقش الأمر اجتماعيّاً، وهذا يعني أنّ جميع القوانين تخضع للنّقاش الاجتماعيّ في صلب الدّولة المدنيّة، ولكن لا يجب أن يتحوّل النّقاش إلى صراع على المقدّس، لأنّ ذلك يؤدّي إلى الحروب والفتن ولا ينتج عنه سوى نوع من الفصام في علاقة الأفراد بمشاكلهم، وهذا ما أصبحنا نعيشه اليوم في تونس. لقد كنت أنتظر تقرير مساواة وحرّيّات فرديّة يؤسّس ذاته على ذاته؛ أي على الحرّيّات وعلى أساس المواطنة والدّولة المدنيّة الّتي تجمعنا، ولكنّني كنت أحلم فللسّياسيّين حساباتهم الّتي تقوم على تحصيل الأصوات الانتخابيّة وهذا يعقّد المسألة ويجعلنا متناقضين؛ فأنا على سبيل المثال متزوّجة من رجل لم أمنع من الزّواج به، رغم أنّ لا أحد يعلم إن كان مسلماً أم لا، ولا يمكن اعتبار اسمه أو جنسيّته دليلاً على إسلامه، فالكثير من التّونسيّين لا يدينون بالإسلام، وقد أضحكني صديق مؤخّراً حين قال لي: «أعرف ملحدين تونسيّين تزوّجا على سنة الله ورسوله، دون أيّ إشكال من ضابط الحالة المدنيّة» وهذا علامة على تناقضنا.

د. نادر الحمّامي: ما تقولينه صحيح، وأتّفق معك في ضرورة أن يبني التّقرير نفسه على نفسه، أي على مبادئ الحرّيّة والمواطنة، ولكن ألا يؤدّي ذلك إلى قطيعة إبستمولوجيّة فعليّة مع ثقافة سائدة نتعايش في إطارها منذ قرون على أساس الهويّة الجماعيّة الّتي تُعدّ المسألة الدّينيّة من بين أهمّ مكوّناتها؟ ثمّ أليس هذا التّأصيل عملاً ضروريّاً، حتّى يكون التّقرير مستساغاً اجتماعيّاً في مجتمع ينتمي إلى الثّقافة العربيّة الإسلاميّة؟

دة. ألفة يوسف: عندما نتحدّث عن «تقرير الحرّيات الفرديّة والمساواة» فنحن نتحدّث عن القانون. أمّا المسألة الدّينيّة، فستبقى مطروحة دائماً، وأرى أنّ علينا إحداث قطيعة قانونيّة كالتي وقعت في الغرب عندما انقطعوا عن الكنيسة، وأعتقد أنّ هذه القطيعة ستأتي شئنا ذلك أم أبينا، ونرجو أن تأتي بلا دم، وهذا جائز وممكن، وحتّى يتمّ ذلك يجب أن ينشأ نقاش فكريّ ثقافيّ دينيّ حول الكثير من المسائل والقضايا، من ضمنها قضيّة المساواة في الميراث وقضيّة المثليّة الجنسيّة وغيرها. هذا ما قمت به دائماً ولا أزال أقوم به في كلّ يوم، فمنذ مدّة كنت في جمعيّة تُعنى بحقوق المثليّين، وتحدّثت عن قراءتي الدّينيّة للمسألة، فقال لي أحد المتدخّلين: «أنا لا يعنيني هذا، ولا يعنيني ما قال الإسلام»، فأجبته بأنّني أتلقّى تساؤلات من عدد كبير من المثليّين والمثليّات منطلقها شعورهم بالذّنب الدّينيّ؛ لأنّنا في ثقافة دينيّة، وهم يحتاجون إلى هذه القراءة الدّينيّة الّتي لا تتعلّق بالمجال القانونيّ (التّشريعيّ)، وإنّما تتعلّق بالمجال الثّقافيّ والفكريّ والتّربويّ والعلميّ والمعرفيّ والإعلاميّ والنّفسيّ. لذلك قلت إنّ التّأصيل الدّينيّ في «تقرير الحرّيات الفرديّة والمساواة» قد صدمني؛ لأنّه يتعلّق بالمجال القانونيّ، فهو يتوجّه إلى التّونسيين جميعاً، وليس من المفروض أن يكون التّونسيون جميعاً مسلمين، وحتّى إذا افترضنا أنّهم جميعاً مسلمون فليس من المفروض أنّهم يشتركون جميعاً في رؤية واحدة للإسلام، فهناك أحياناً رؤى متقابلة جدّاً للإسلام مثل الرّؤية الصّوفيّة والرّؤية الفقهيّة، وهو ما نلمسه اجتماعيّاً، لذلك كان من الضّروريّ أن يتمّ فتح النّقاش الدّينيّ والثّقافيّ حول هذه المسائل، ولكن للأسف، فإن طرح الموضوع كان سطحيّاً جدّاً، وقد غذّى ذلك الإعلام الّذي لا يهمّه سوى إحداث الضّجّة، وقلّةٌ من قاموا بطرح مسألة المساواة في الميراث أو مسألة المثليّة بطريقة فكريّة. وأن نتحاور ونكون مختلفين فهذا شيء، ولكن القانون شيء آخر، فلا يُقبل اليوم أن يأتي شخص ويقول باسم القراءة الدّينيّة للآية: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزَاب: 33] أنّ المرأة أو البنت يجب أن تبقى في البيت ولا تدرس، هذا لا معنى له، ونحن قد قطعنا مع هذا الموروث الدّينيّ في كثير من المجالات.

د. نادر الحمّامي: لقد قطعنا معه كلّه تقريباً، فلم تبق إلا مسألة أو مسألتين من مسائل الأحوال الشّخصيّة لا غير، ولم يبقَ من الفقه القديم إلّا بعض ما يتعلّق بالأحوال الشّخصيّة فقط.

دة. ألفة يوسف: لذلك هم يخافون لأنّها الأخيرة، فلم يبقَ إلا بعض المسائل المتعلّقة بالأحوال الشّخصيّة وأساسها مسألة الميراث «وللذّكر مثل حظّ الأنثيين»، هذا خوف الإسلام التّقليديّ وهو خوف لا واع، فكأنّ هذه المسائل هي القشّة الأخيرة الّتي يتمسّكون بها، ولذلك يقولون إنّ تشريعنا مستمدّ من الإسلام بدليل أنّ المواريث تعطي للذّكر أكثر من الأنثى. وفي المقابل، نجد أنّ الواقع يفنّد ذلك، فاليوم هنالك عدد كبير من الأسر المتوسّطة الحال وحتّى المفقرة نسبيّاً توزّع أملاكها بالعدل والأبوان على قيد الحياة، حتّى تتجنّب التّمييز بين أبنائها، لأنّ الأنثى في الحياة اليوميّة تقوم بالمهامّ نفسها الّتي يقوم بها الذّكر وتعتني بالأبوين في حال الشّيخوخة. لذلك، فالمجتمع يتطوّر، وزوال هذه القشّة الأخيرة يخيف أولئك التّقليديّين ويزعجهم، فماذا سيبقى لهم من سلطة على المدينة إذا تحقّقت المساواة في الميراث بين الجنسين.

د. نادر الحمّامي: على الرّغم من هذا التّأصيل الفقهيّ والاجتهاد من داخل المنظومة الدّينيّة في «تقرير الحرّيات الفرديّة والمساواة» فإنّ من يتوهّمون أنفسهم قائمين على المؤسّسة الدّينيّة اليوم هم في طليعة المعارضين لهذا التّقرير بصورة جذريّة، ولذلك يمكن القول إنّ هذا التّأصيل لم يؤت أكله. وما أذهب إليه هو أنّ من يمثّلون المؤسّسّات الدّينيّة يواجهون كلّ جديد بالرّفض، ثمّ ينجرّون كرهاً في الأخير، بعد أن يصبح الأمر واقعاً وقانوناً، إلى الدّفاع عمّا كانوا يعارضونه، والأمثلة على ذلك كثيرة في التّاريخ.

دة. ألفة يوسف: ومن بين هذه الأمثلة أنّهم عارضوا مجلّة الأحوال الشّخصيّة بالعبارات ذاتها الّتي يعارضون بها اليوم «تقرير الحرّيّات الفرديّة والمساواة»؛ فبالعودة إلى ما قاله شيوخ الزّيتونة بعد صدور مجلّة الأحوال الشّخصيّة، نجد أنّهم اعتبروها مخالِفة لصريح النّصّ الدّينيّ قطعيّ الدّلالة، ثم عندما أصبح الأمر واقعاً أصبحوا يبحثون عن منفذ لوجودهم ولسيطرتهم وللبقاء، فبرّروا أحكامها واعتبروها اجتهاداً. لذلك أعتقد، وقد شاركتني الرّأي، بأنّ التّبرير الّذي قام به بناة التّقرير لن يؤدّي إلى نتيجة، فأن تسعى إلى إرضاء الآخر، ولا سيّما الآخر الّذي يرفضك ويقصيك، فهذا لن يوصلك إلى نتيجة، وإنّما الأفضل أن تبني على المشترك الّذي هو المواطنة، ففتح النّقاشات الفكريّة والثّقافيّة ضروريّ، وفي الآن نفسه لا بدّ من التّأكيد على مدنيّة الدّولة، وهو ما سيتأسّس عليه تقدّم هذه الدّولة في جميع المجالات التّكنولوجيّة والتّقنيّة والعلميّة...

د. نادر الحمّامي: لعلّ الإشكال هنا يكمن في التّكرار الثّقافيّ التّربويّ القائم على التّمييز بين القيم؛ قيمة الإنسان باعتباره إنساناً من ناحية والقيم المادّيّة من ناحية أخرى، والحال أنّ القيم لا يمكن أن تُفصل عن بعضها البعض، لأنّ هذا التّقدّم التّكنولوجيّ والتّقنيّ والعلميّ... إلخ لا يمكن أن ينشأ دون اعتبار لقيمة الإنسان باعتباره فرداً.

دة. ألفة يوسف: هذا ما يسبّب نوعاً من الفصام أيضاً، فأولئك الّذين يدافعون عن التّمثّل الدّينيّ التّقليديّ الّذي يؤدّي إلى تخلّفنا نجدهم أوّل من يسارعون بالهجرة طلباً للعيش في الغرب، وهذا التّناقض الّذي لدى هؤلاء مردّه الخوف على الغطاء الحامي والسّاتر الوهميّ المتمثّل في الجماعة، وهو تناقض نجده في أمثلة كثيرة، من ذلك أنّهم ينتقدون «تقرير الحرّيّات الفرديّة والمساواة» وأن يُنتقد التّقرير فهذا أمر طبيعي؛ لأنّ كلّ عمل بشري قابل للنّقد، لكن حين نلاحظ نقد هؤلاء، سنجد أنّه قائم في ثلاثة أرباعه على بثّ إشاعات كاذبة في إطار عمليّة تشويهيّة واضحة، من ذلك القول إنّ التّقرير سيمنع ختان الأولاد، وأنّه سيسمح بزواج الرّجل من الرّجل وهذه أكاذيب لا وجود لها في التّقرير، ومردّ ذلك إلى خوف رجل الدّين من فقدان سلطته الوهميّة ما جعله يستعمل كافة الأساليب بما فيها الأساليب الّتي هي نظريّاً ضدّ الدّين مثل الكذب والتّشويه والاختلاق حتّى يحافظ على سلطته.

د. نادر الحمّامي: طبعاً، ولكنّهم يستندون في ذلك أيضاً إلى الجهل، فلو كنّا في مجتمع أكثر تقدّماً فكريّاً لذهب النّاس مباشرة، واطّلعوا على التّقرير بأنفسهم، ولما كان بمقدور المؤسّسات الدّينيّة أن تشوّه محتوى التّقرير ولا القائمين عليه، فهذا التّشويه له سند يعضده، وهو الجهل الاجتماعيّ.

دة. ألفة يوسف: كأنّك تجول في ذهني، لأنّني منذ لحظات كنت أنظر إلى هذه الكتب وأتساءل كم عربيّاً اطّلع عليها أو قرأ بعضها، المشكل أنّنا لا نقرأ ولا نطّلع على ما يثقّفنا ممّا هو مطروح على شبكة الإنترنت، وفي الآن نفسه نحن متسرّعون في الحكم على الأشياء، وكثير ممّا يتناقله النّاس يستندون فيه إلى ما يقوله الإمام أو الخطيب الدّينيّ، وهنا خطورة خطبة الجمعة الّتي هي بدعة في التّاريخ الإسلاميّ ولا وجود لها في القرآن، وإنّما القرآن يشير إلى صلاة الجمعة، وهذا ما بيّنه مفكّرون كثيرون، ومنهم مؤخّراً يوسف الصّدّيق، وهذا يعرفه المختصّون في الحضارة العربيّة الإسلاميّة. فهذه السّلطة تعُطى لإمام جاهل يأتي ليحدّث النّاس عن أشياء مضحكة، وأذكر ههنا ما قاله لي شخص كنت أتحاور معه، من أنّ العدّة ضروريّة حتّى لا تختلط الأنساب محتجّاً بما قاله إمام من أنّ منيّ الرّجل يبقى في رحم المرأة أربعة أشهر، فإذا كانت لها علاقة برجل آخر سيختلط المنيّان، ويأتي الطّفل مجهول النّسب، وكانت هناك بجانبنا طالبة في الطّب وتساءلت كيف ذلك، فالمنيّ لا يعيش إلا ساعات قليلة، فقال لها أنت لا تعرفين فالإمام قال ذلك. المؤسف أنّ النّاس مازالوا يستندون إلى هذه السّلطة الدّينيّة حتّى يومنا هذا، وليس أيّ ناس فأحياناً نجد أنّ من بينهم «مثقّفين» وجامعيّين.

د. نادر الحمّامي: بل إنّ هناك من يعتقد إلى اليوم أنّ المرأة يمكن أن تبقى حاملاً ثلاث سنوات، مستنداً في ذلك إلى الفقه القديم، ولا نزال نعايش هذا الجهل ونلاحظه يوميّاً في مجتمعنا، لذلك علينا نحن أيضاً أن نتحمّل مسؤوليّاتنا تجاه ذلك، فماذا فعل المؤمنون بالمساواة والحرّيّات الفرديّة وحرّية الضّمير في مواجهة الكمّ الهائل من التّشويه والأكاذيب الّتي تعرّض لها «تقرير الحرّيّات الفرديّة والمساواة» غير بعض الحوارات الجانبيّة والخطابات النّخبويّة المعقّدة في مقابل الخطاب الدّينيّ البسيط والمطمئن الّذي يستحوذ على أذهان النّاس.

دة. ألفة يوسف: هناك طرائق مختلفة لمن نسمّيهم «الحداثيين» في التّعامل مع هذه المسألة، فثمّة من يستقيل ولا يهتمّ أبداً، وثمّة من ينظر إليها بنخبويّة، فيعتبر بقيّة النّاس في مرتبة دونيّة، وهذه النّخبويّة «مرض» بين المثقّفين أو الحداثيّين، وثمّة من يمارس الإقصاء ضدّ الآخر بالطّريقة ذاتها الّتي نجدها لدى المسلم المتطرّف، وأشير هنا إلى أنّ بعض أبحاثي تجد رفضاً من هؤلاء ومن أولئك، فبعض الحداثيّين لهم مشكل إقصائيّ مع المؤمن أو مع كلّ من يرى أنّ من حقّه أن تكون له ثقافة دينيّة، فأن يكون شخص ما ملحداً، فهذا لا يعني أن ينظر إلى غيره المؤمن على أنّه متخلّف بالضّرورة، تماماً كأن يكون شخص ما يؤمن بإلغاء عقوبة الإعدام، فلا يجب أن ينظر لمن يطالب بتطبيقها على أنّه شخص متخلّف أو همجيّ. وقد وصلتُ إلى رأي حاسم في هذا، ولكنّه حسم وقتيّ وقد يتغيّر رأيي مستقبلاً، فكلّ شيء من حولنا يتغيّر باستمرار، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في القرآن، ولا يمكن أن ندّعي امتلاكنا لحقيقة أبديّة، فرأيي هو مجرّد رأي وليس الحقيقة، لذلك فأنا أعتقد أنّنا حين نصل إلى قناعة بأنّ الرّأي أمرٌ حاليّ قابلٌ للتّغيّر، سيكون من السّهل أن نختلف دون أن نتصارع ونتخاصم.

د. نادر الحمّامي: لذلك فمسألة المساواة والحرّيّات محتاجة إلى نقاش عموميّ حقيقيّ، يشارك فيه الحداثيّون باعتماد استراتيجيّات خطاب جديدة تتخلّى عن جميع التّعقيدات الّتي تجد فئات واسعة من المجتمع صعوبة في فهمها، فلا يجب أن ننسى أنّنا نعيش في مجتمع ينتمي إلى ما يسمّى العالم الثّالث، ويعاني التّخلّف بجميع مظاهره سياسيّاً واقتصاديّاً وفكريّاً وثقافيّاً، وقد تلاحظين ذلك حتّى في أصداء ما تكتبين وتنشرين على صفحات التّواصل الاجتماعيّ، فأحياناً نظنّ أنّنا ندافع عن شخص ما بأفكارنا والحال أن ذلك الشّخص نفسه يهاجمنا، ولعلّك تتعرّضين إلى الكثير من ردود الأفعال المهاجمة لشخصك من وراء ما تكتبين وتنشرين في سياق مجهود فكريّ ينطلق من إيمان عميق لديك بنوع من المبادئ وجب أن يتواصل، حتّى لا ينقطع حبل الرّجاء كما يقول المتصوّفة.

دة. ألفة يوسف: نعم، وهذا أمر يؤرّقني شخصيّاً، فدائماً ما يؤاخذني البعض على ما أكتبه في صفحات التّواصل الاجتماعيّ، لأنّني أتعمّد الكتابة بلغة عامّيّة وأحياناً بلغة سوقيّة، انطلاقاً من قناعتي بأنّنا يمكن أن نعبّر عن أكثر الأفكار صعوبة وتعقيداً بأبسط الطّرق وأسهلها، المهمّ في ذلك أن يصل الخطاب إلى الآخر وأن يمسّه، ولا يهمّ إن وافقني الرّأيَ أو هاجمني، فأكثر النّاس الّذين يُبدون لي الكره والحقد في ردودهم لم يفعلوا ذلك، إلّا لأنّ رأيي قد لامس فيهم شيئاً بشكل أو بآخر. لذلك، فعلى المثقّف أن ينزل من برجه الوهميّ الّذي يتصوّر فيه نفسه نخبويّاً، حتّى يقوم بدوره في مجتمعه وفي الحياة، فالحياة في التّصوّر الأرسطيّ كما في تصوّر شكسبير ليست سوى مسرحيّة كبرى، وهي في التّصوّر الصّوفيّ مجموعة أدوار، ولا يعني أداء دور فيها انتظار نتائج بالضّرورة. لقد أشرنا في حديثنا إلى من سبقوا الطّاهر الحدّاد إلى الكثير من القيم الّتي نادى بها بعد ذلك، فهم قد قاموا بأدوارهم دون انتظار ما سيكون من بعدهم، وحتّى الحدّاد نفسه حين طالب بالمساواة بين البيض والسّود لم يكن ينتظر أن يرى، على سبيل المثال، باراك أوباما رئيساً للولايات المتّحدة الأمريكيّة بعد عشرات السّنين. لذلك، أقول بأنّ على المثقّف أن يقوم بدوره ولا يهمّ إن كان يدافع عن أشخاص يهاجمونه، فالمسألة أعمق من ذلك، وهي تتعلّق بالوظيفة الّتي يتوقّف عليها وجودنا جميعاً، فلكلّ منّا وظيفة في هذه الحياة، حتّى المجرم فهو يضطلع بوظيفة الشّرّ، وأذكر أنّي كتبت مقالاً تساءلت فيه «لماذا يوجد الشّرّ؟» وانتهيت إلى أنّ وجوده ضروريّ، لذلك علينا أن ندافع عن الآخر مهما كان دوره في الحياة، ولو كان يقوم بوظيفة الشّرّ فلا بدّ أن نقدّم له تصوّراً للحرّيّة يمكن أن يكون غاب عنه بفعل التّكييف الاجتماعيّ، حتّى وإن أدّى ذلك إلى قتلنا، ففي النّهاية كلّنا سنموت. ولكن ينبغي أن نعي أنّ هناك تحوّل كبير جدّاً يحدث اليوم في تونس، فمن كان من عامّة النّاس منذ سنوات يدرك أنّ الحجاب ليس فرضاً؟ أو يتصوّر أنّ هناك إمكانيّة لقراءة الميراث على أنّه حدّ أدنى؟ ومن كان يجرأ على الحديث في المثليّة أصلاً حتّى ليشتمها؟ ومن كان يعرف أنّ الرّقّ غير محرّم في الإسلام، وأنّ منعه تمّ في تونس منذ سنة 1846؟ وأنّها أوّل بلد مسلم يمنع العبوديّة؟ وقس على ذلك الكثير من القضايا المسكوت عنها سابقاً وقد انفتحت عيون النّاس عليها شيئاً فشيئاً. إنّه تغيير رهيب يحدث ويهيّأ لثّورة فكريّة نراها قادمة، ولعلّها بصدد المخاض اليوم في تونس، ولا يهمّ ما يمكن أن تفضي إليه من نتائج، فلعلّنا لا نكون موجودين آنذاك، ولكن المهمّ هو هذا الحراك الاجتماعيّ الإيجابيّ بما فيه من شتم وسبّ وتهديد وصراع وخلاف وأحلى كلام... إنّ ما يحدث اليوم هنا في تونس شيء رائع جدّاً بغضّ النّظر عن الثّمن الّذي يدفعه التّونسيّون اجتماعيّاً واقتصاديّاً بالخصوص، ونرجو أن يصل هذا الحراك يوماً ما إلى دول أخرى لتطوّعه كلّ بلاد وفق مقتضياتها وسياقها وثقافتها وفكرها، ويخرج منه شيء ما.

د. نادر الحمّامي: بهذه النّظرة الجوهرانيّة المفعمة بكثير من التّفاؤل الّذي قد يغيب عنك في لحظات تحت وقع انفعالات وأحداث معيّنة ولكنّه سرعان ما يعود، نختم هذا الحوار. الأستاذة ألفة يوسف شكراً جزيلاً لك على ما تفضّلت به.

[1]- أجري هذا الحوار في 30 آب/أغسطس 2018

[2]- أستاذة اللّغة العربيّة بالجامعة التّونسيّة، مختصّة في الدّراسات اللّغويّة واللّسانيّة. مهتمّة بالمقاربة النّقديّة للفكر الإسلاميّ. حاصلة على الدّكتوراه، بأطروحة حول «تعدّد المعنى في القرآن» منشورة 2003.صدر لها: «المساجلة بين فقه اللّغة واللّسانيّات» (1997)، «الإخبار عن المرأة في القرآن والسّنّة» (1997)، «ناقصات عقل ودين» (2003)، (le coran au risque de la psychanalyse) «القرآن على محكّ التّحليل النّفسيّ» (2007)، «حيرة مسلمة؛ في الميراث والزّواج والجنسيّة المثليّة» (2008)، «شوق؛ قراءة في أركان الإسلام» (2010)، سلسلة «والله أعلم» (2012)، «وليس الذّكر كالأنثى» (2014)، «أحلى كلام تونس» (2018).