إشكاليّة تأريخ الأدب العربي


فئة :  مقالات

إشكاليّة تأريخ الأدب العربي

إشكاليّة تأريخ الأدب العربي[1]

التأريخ بمفهومه الأوّلي البسيط هو عمليّة تقوم بها الذات الإنسانية المفكرة والواعية في كلّ لحظة وفي كلّ حين، وذلك أنّ محاولة تموضع الإنسان في الوجود هو فعل تبنيه ذاكرته من تعامله مع تراثه السابق عليه بكلّ صورة من صوره؛ فوعي الإنسان لغتَه وحكيَه ومحاكاتِه مَنْ حولَه، وحفظَه النصوصَ وقبسَه السلوكَ والعاداتِ، هو بَدءُ تشكّل الذات التاريخيّة له. وإنّ هذه العمليّة بتشعّباتها تلك، هي عمليّة ثقافيّة وطبيعيّة معًا، ولطبيعيّتها الثقافيّة تلك منهجيّة وجوديّة خاصّة بها، لكنّها لا تكون بالضرورة عمليّة مُدرَكَة منهجيًّا على صعيد الوعي الظاهري للفرد أو للجماعة، وإن كانت في المحصّلة النهائيّة مضبوطة بخيوط تشكّل أسلوبًا لكلّ واحد من البشر، سواء أكان وعيه منظّمًا أو عشوائيًّا، وسواء أكانت ذاكرته أو حافظته سليمة أو مثقوبة.

وعليه، فإنّ دقّة تمثّل التراث بعامّة، وتقاليد الأجناس الأدبية على وجه الخصوص، لدى الشاعر أو الكاتب المبدع، تخضع لمستوى موهبته الفرديّة بحسب رأي ت. إس. إليوت في مقالته النقديّة الشهيرة "التقاليد والموهبة الفردية"[2]. ومن ثمّ، فإنّ وعي الفنّان في الأصل هو وعي تاريخي، يقوم على خلق صورة للتراث في النفس أو في الذات بغية بنائها من خلال عمليّة التمثّل هذه، لذا ساغ لنا أن ننعت عملية الوعي؛ كلّ وعي إنساني، بأنّها في جوهرها العميق محاولة لقول كلمة في التاريخ بأسلوب هذا الإنسان، فهل يصحّ لنا القول إنّ ذاكرته وتكوين فكره على صورة ما، في جدلهما مع الوجود الإنساني العام، هما صورة من صور تحقّق التاريخ وقراءته في الوقت ذاته؟

إنّ هذا الأمر يشبه تمامًا وجود الجسد الإنساني في العالم، وتشكّله الفيزيائي من خلايا وعناصر وجزيئات لها تاريخ سابق على هذا الجسد، فما أن يوجد على هيئته تلك حتّى يمثّل، بمجموعه الجديد، لحظة وجود محدّدة؛ هي في صميمها لحظة قراءة لتاريخ الجسد نفسه الذي يغدو هو ذاته، تاريخًا قابلًا للقراءة في زمن وجوده المتعيّن، وفي الزمن التالي أيضًا؛ أي حين يتحلّل ويتفسّخ وينسرب من جديد في مسيرة تشكيل الكون العتيد.

وإذا تأمّلنا الذات الإنسانيّة وجدناها ذاتًا مبدعة، بتفاوت تدريجي في الموهبة، ويتجلّى ذلك في شخصيّة "الفنّان بالفعل/الشاعر". وفي شخصيّة "ناقده القديم" متمثّلًا براوية شعره الذي يحفظه بغية تقليده وإيصاله إلى الجمهور، وهو الذي تحوّل كذلك إلى "كاتب: أديب" في مرحلة التدوين. وأخيرًا، في شخصيّة "المتلقي"؛ أي المستمع أو المتذوّق، وهو "القارئ الاعتيادي/الفنّان بالقوّة"؛ لأنّ كلّ إنسان هو فنّان بالقوّة؛ يعي الفنّ ويتذوّقه بفضل ما في أعماقه الإنسانيّة من ذلك الكمون الفنّيّ.

يبدأ راوية الشعر القديم بأن يستظهره غيبًا، فيغدو بعد ذلك مؤرّخًا في حدود ما يحفظ، لذا نشأ لدى العرب القدماء مفهوم "الراوي والرواية" الذي أُخذت منه الرواية للشعر، وللحديث النبوي، وللأخبار، وللقصص، وهذا ما جعل أوَّل كتب التأريخ العربي القديم هي تآليف وتصانيف رواة الأدب واللغة، وأصحاب الروايات التاريخيّة والمحدّثين والإخباريين وموثّقي الوقائع.

وتكون هذه العمليّة، لدى الشاعر أو الراوي، في بداية أمرها عمليّة تمثّل ذاتي يغلب عليها طابع الفرديّة، وتكون محكومة بالذوق الشخصي أو الهوى، وهي كذلك دون شكّ. ولكنّ الذوق الفنّي، قد يكون مبنيًّا بدوره على وعي نقدي تحليلي انتقائي عالي الجودة. ومن ثمّ، فإنّنا نعثر على الموضوعيّة في الذاتيّة في هذه الأحيان. ولكن في أغلبها، مع الأسف الشديد، يكون الوعي الجمعي العام هو الطاغي، بما يشتمل عليه من الخلط والوهم، وقلّ أن نجد وعيًا نقديًّا، أو وعيًا تاريخيًّا عامًّا، يُعتدّ به، أو يُعتمد عليه، في تشكيل الوعي التاريخي الناضج والسليم، فيمكن أن تسود الأفكار العامّة الخاطئة، وتشكّل تيار الحياة، ومن ثم تشكّل تيار الوعي السائد الذي يكون في أغلب الأحيان وعيًا زائفًا؛ لأن استيحاءه التاريخي، كان استيحاء مضلّلًا، أو لأنّ انتقاءه من التاريخ، كان انتقاء سقيمًا؛ لأسباب عديدة، لا مجال للتوسّع في ذكرها هنا.

ولسنا نبتعد عن الصواب، حين نرى في كثير من المحاولات في تراثنا الأدبي العربي بدايات جادّة لتأريخ الأدب العربي من رواة الشعر تارة، ومن مبدعيه أنفسهم طورًا. فمن ذلك مثلًا، ما نجده في الأصمعيّات للأصمعي، والمفضليّات للمفضّل الضبّي. والحماستين الكبرى والصغرى لأبي تمّام، وحماسة البحتري. وكتب الطبقات؛ من مثل طبقات فحول الشعراء لمحمّد بن سلّام الجمحي، وطبقات الشعراء لابن المعتز. وجمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، والمعلّقات وشروحها فيما بعد. ولنا أن نرى بقليل من التجوُّز في كتاب الأغاني للأصفهاني، ويتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي، وكتب الأدب العام من مثل؛ البيان والتبيين للجاحظ، والأمالي للقالي، والكامل في اللغة والأدب للمبرّد، والعقد الفريد لابن عبد ربّه الأندلسي، كذلك هذا الرأي، فهي كتب حوت مختارات أدبيّة متنوّعة من فنون الشعر، أو من فنون الشعر والنثر معًا، ممّا كان سبقها من عصور، ورسمت صورة من الصور لواقع الأدب وفنونه وتاريخه بتمثّل ما من التمثّلات، لدى المؤلّف أوّلًا، ومن ثمّ لدى القرّاء من المعاصرين للمؤلّف، أو التالين لعصره، وبهذا تحقّقت بذرة تأريخ الأدب من هذا الجانب، في أغلب هذه الكتب، على تفاوت فيما بينها في ذلك.

إنّ أساس فكرة التأريخ للأدب تُبنى على استثمار الكاتب/المؤرّخ فكرةً ما، يجري بموجبها النظر في واقعه الأدبي، ممتدًّا عبر التاريخ السابق عليه للظاهرة الأدبيّة ذاتها، مقدّمًا تصوّرًا ما بشأنها. ويرى أن يثبت ذلك، بمجموع تأليفي، كأن يبدأ برواية تضمّ شعر شاعر أو شعر قبيلة على سبيل الجمع أو الاختيار، فتُجمع المادة، من منظور خاص، ويعاد النظر في تلك الرواية أو ذلك المجموع، إعادة تسمح بدورها بتقديم فكرة أو مفهوم أو تصوّر ما للقديم؛ فالرواية والجمع والاختيار جميعها، هي أشكال من التوثيق والتحقيق والقراءة والتأريخ للسابق، من موقع اللحظة الراهنة؛ أي اللحظة المحايثة لزمن الراوي أو المؤلّف.

2

أمّا الشقّ الثاني من التركيب الإضافي "تاريخ الأدب"، أعني الأدب، فيقع مفهومه في صميم الإشكاليّة وكيفيّة التأريخ لها وصعوبة ذلك، فقبل كلّ شيء علينا أن ندرك أنّنا إنّما نؤرّخ للأدب؛ أي للفنّ والنوع والجنس والثيمة الأدبيّة، ولا نؤرّخ لحياة الأدباء الخاصّة من شعراء وكتّاب وغيرهم، ولا للثقافة والحضارة بعامّة.

فالأدب كلمة تطلق على إنشاء من الكلام في كلّ عصر، ويذهب الاصطلاح فيها إلى مدّ وجزر، فلا يخفى علينا أنّ أقدم الأنماط الأدبيّة المعروفة هي الشعر، الذي يرى كثير من الدارسين أنّه يسبق النثر الفنّي في الوجود، فهو قسيمه تحت عنوان الأدب. وقد تتعدّد الفنون النثريّة ويجرى جدل كبير حول أدبيّتها حسب العصور، فمن الحِكَم إلى الأمثال إلى الخُطب إلى الرسائل إلى المقامات، ويمكن لنا أن نتدرّج في تصنيفات العرب القدماء على كثرتها، فنحدّد المجال الأدبيّ الذي نودّ التأريخ له.

ثمّ نجد انفتاحًا في هذا المفهوم وتوسّعًا ظاهرًا فيه حين أطلق القدماء من العرب كلمة "الآداب" بالجمع على جملة من مجالات الكتابة، فصار يدخل فيها ما كتب في الأخلاق والسياسة والفقه والفلك والتاريخ والجغرافيا والنقد والبلاغة، علاوة على فنون الأدب المتّصفة بالجمال الفنّي في تركيبها اللغوي، وهي الشعر والنثر التي ذكرت آنفًا. فكيف السبيل إلى ضبط الموضوع، ولمّ أطرافه، والإحاطة به، من جهة المؤرّخ الأدبيّ المعاصر الذي يعتزم التأريخ للأدب في تراث العرب؟ فهل يُحدّد الأدب باصطلاح زمنه الحديث ويشرع في التأريخ لذلك، أم يفتح الباب ليؤرّخ للفكر والثقافة والحضارة العربيّة القديمة تحت باب التأريخ للآداب العربيّة؟

ومثال على هذا الإشكال في التحديد ما وقع فيه مصطفى صادق الرافعي، الذي جعل عنوان كتابه "تاريخ آداب العرب"[3]، تحدّث في أبواب منه عن اللغات واللغة العربيّة، والرواية والرواة، والقرآن الكريم والبلاغة النبويّة، وعن تاريخ الشعر العربي ومذاهبه وفنونه المستحدثة، والقصائد المعلّقات، وأدب الأندلس. ثمّ عرض في أبواب أخرى للتأليف عند العرب وتاريخه ونوادر الكتب العربيّة، والصناعات اللفظيّة التي أولع بها المتأخّرون في النظم والنثر، متمّمًا بذلك أجزاء الكتاب الثلاثة. فلم يضبط الرافعي مفهوم الآداب بما عُرف في عصرنا من تخصيص الأدب بالشعر والنثر وفنونهما حسب، أي المفهوم الخاص لكلمة أدب. ولم يف بدرس المفهوم العام لآداب العربيّة الذي طال مجالات أوسع بكثير من تلك التي عرض لها.

ومثال آخر على هذا الاضطراب، يتجلّى التناقض فيه بين العنوان والمحتوى، هو ما نجده لدى زكي مبارك في رسالته الشهيرة التي كتبها في جامعة باريس سنة 1931 "النثر الفنّي في القرن الرابع"[4] فغدا "النثر الفنّي" لديه موسّعًا مشتملًا على ما ألّف الكُتّاب العرب القدماء في مجالات: الأخبار والأقاصيص، والنقد الأدبي، والآراء والمذاهب، والرسائل والعهود.

أمّا حُسن التخلّص الذي تفادى فيه المستشرق السويسري آدم مِتز، مثل هذا الأمر، فهو ما فعله حين جعل كتابه عن الآداب العربية القديمة بمفهومها العام لدى العرب القدماء، تحت عنوان "الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجري"[5] بحسب ترجمة محمّد عبد الهادي أبو ريدة له، فتحاشى ذكر الأدب والآداب في العنوان، فأفرد للأدب بمفهومه الخاص في الشعر والنثر سبعين صفحة حسب، في آخر الجزء الأوّل، من الكتاب البالغ عدد صفحات جزأيه أزيد من ألف صفحة.

ورأينا مقابل ذلك المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي يكتب كتابه الضخم تحت عنوان "تاريخ الأدب الجغرافي العربي"[6] الذي عرّبه صلاح الدين عثمان هاشم، مقتصرًا على الكتب الجغرافية العربيّة، ومانحًا إيّاها جميعًا صفة الأدب في المحتوى والعنوان.

وستبقى هذه واحدة من إشكاليّات التأريخ للأدب القديم، فكلّما نظرتُ مثلًا في كتاب "وقعة صفّين"[7] لنصر بن مزاحم، شدّني فيه اختلاط الأدبيّ بالتاريخيّ على صعيد إيراد المادّة الشعريّة الثرّة في بُنية الأحداث التاريخيّة التي تُسرد قصصيًّا بلغة لا تخلو من الفصاحة والفنّ والخيال، حتّى لأكاد أقف حائرًا فأقول: أكتاب أدب هذا أم كتاب تأريخ؟ ولا أظنّ هذا الأمر يقف على حدود هذا الكتاب وحده في التراث العربي، فأمثاله كثير!

ومسألة أخرى، ذات صلة بما سبق، تقف أمام المؤرّخ، تتعلّق بتحديد مجال "الأدب" وتعريف "الأدبيّة"؛ ففي كثير من الأحيان استُبْعِدت نصوص من سياق الأدب والأدبيّة ولم يُلتفت إليها في زمنها، وسكتَ الناس عن عدّها في باب الأدب لأسباب متعدّدة، ولكن في زمن تال نالت اعترافًا، وحظيت باهتمام ودراسة وتحليل، كالذي حدث للرائعة العربيّة الشهيرة "ألف ليلة وليلة" التي لم يجر الاعتراف بها، ولم يُنظر إليها على أنّها من سياق الأدب العربي الرسمي والمكرّس، فلم تُدرس ولم يُؤرّخ لها -على جلال قدرها وقوّة تأثيرها في الأدباء شرقًا وغربًا-، إلّا بعد أن جرى الاعتراف بالأدب الشعبيّ وتدريسه في أقسام الجامعات، ابتداء من عناية سهير القلماوي بالكتابة الأكاديميّة عن هذا العمل سنة 1943م، وانتهاء بتدريس مادّة الأدب الشعبي في جامعة القاهرة بجهود عبد الحميد يونس بعد منتصف القرن العشرين.

أمّا فيما يخصّ زاوية الرؤية لدى المؤرّخ الأدبي الذي يتغيّا قراءة الشعر من جهة المضمون، دون أن يعنيه الأدبيّة أو الشعريّة، فقد يهولنا نمط من التأريخ لهذا الشعر العربي في العصرين الجاهلي والإسلامي، كالذي فعله الأب لويس شيخو اليسوعي في كتابه الضخم "شعراء النصرانيّة"[8] ذي الأجزاء الستّة، فخلص فيه إلى أنّ غالبية شعراء العرب في الجاهليّة وكثير منهم بعد الإسلام كانوا نصارى، فعدّد هؤلاء الشعراء، وأرّخ لهم بأنّهم من النصارى بما يؤكّد به هذا العنوان، وذكر أشعارهم وقبائلهم، حتّى كاد يطوّف على كلّ شعراء ذينك العصرين، باعتماد إشارات في أشعارهم لا تدلّ إلّا على معرفتهم بالنصرانيّة على نحو من الأنحاء.

بعد هذا التطواف بين القديم والحديث من محاولات التأريخ وإشكالياته، لا يخفى على الدارس مدى الحاجة إلى الجهد الذي عليه بذله لبيان التقاطعات التي ستكون بين هذه الأنماط التأريخيّة القديمة في تراثنا العربي، والدراسات التاريخيّة الحديثة التي قامت على انتهاج نظريّات معروفة اقتبسها الكتّاب العرب المحدثون عن الغربيين؛ فالذي لا شكّ فيه أن نشأة تاريخ الأدب الذي ينتهج النهج العلمي الحديث لدى الغربيين لا تزيد على مئة وخمسين سنة في أغلب الآراء، ولا يعني ذلك - كما رأينا- أنّ كلّ ما كتب لدى العرب المحدثين في هذا الباب - على كثرته - هو تأريخ منهجي وعلمي واضح الأساليب، وقار المفاهيم باطّراد.

3

ولنا أن نستضيء، في هذا السياق، بما أُنجز في ميدان "نظريّة الأدب" مؤخّرًا لدى الغربيين، وجرى اقتباس العرب له، فمعلوم أن هذه النظريّة الوليدة والناشئة، أقصد نظريّة الأدب، إنّما جاءت لتعبّر عن المحاولة الحثيثة لعلمنة الدرس الأدبي، أو قل لجعل الدراسة الأدبيّة دراسة علميّة وموضوعيّة، قائمة وفق منهج في العلوم الإنسانيّة، شبيه بذلك الذي استقرّ وتأكّد في مجال العلوم الطبيعيّة النظريّة؛ من فيزياء وكيمياء ورياضيات وفلك. والعلوم التطبيقيّة منها كذلك؛ من هندسة وطب وزراعة وغيرها.

لقد حدّدت نظريّة الأدب مجالاتها؛ فكانت منظومة متكاملة من "الآراء والأفكار القويّة والمتّسقة والعميقة والمترابطة، والمستندة إلى نظريّة في المعرفة أو فلسفة محدّدة، والتي تهتمّ بالبحث في نشأة الأدب وطبيعته ووظيفته"[9]. وفي تلك الأثناء ستدرس علاقة الأدب بالعلوم الأخرى الطبيعيّة مثل علم الأحياء، والإنسانيّة مثل الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإنسان، حتّى تصل إلى العلاقة ما بين الأدب والأساطير والخرافات، أو تدرس الأدب من الداخل مقابل دراسته من الخارج، وهكذا.[10]

فمن ثمار هذا الدرس العلمي للأدب بالإفادة من النظريّة الأدبيّة وما اكتنفها من علوم أخرى، أمكن تطوير العمليّة النقديّة برمّتها، وتأكّد الجانب البارز من جوانب الدرس اللغوي للأدب، حتّى استقرّ قرار علم الأسلوب الذي وقف بين النقد الأدبي وتاريخ الأدب في بعض الأنظار العالميّة والعربيّة، فغدا من الواجب على الدارس التفريق بين حقول ثلاثة في درس الظاهرة الأدبيّة؛ هي: أوّلًا حقل "النقد" الذي يدرس دائرة الإبداع بأركانها الثلاثة؛ المبدع والعمل الأدبي والمتلقي، فيقف في درسه للعمل الأدبيّ تحديدًا، في منطقة متوسّطة بين العلم والفنّ، وبين الأحكام الجزئيّة والأحكام العامَّة، وبين التفسير والتقييم. ثانيًا حقل "علم الأسلوب أو الدراسات الأسلوبيّة" الذي يُعنى بدرس لغة الأدب بأبنيتها وأساليبها وأنماطها ولهجاتها وظلالها التركيبيّة. أخيرًا حقل "تأريخ الأدب" الذي يُعنى بالتأريخ للظاهرة الأدبيّة، فيُقرأ الفنّ الأدبي عبر التاريخ، من خلال نظريّة الأجناس الأدبيّة، ومن علاقة الأدب بالواقع، وعلاقة الأدب بالمُنتِج والمُتَلقي من جهة النوع الأدبي كونُه مؤسّسة، فلا ينظر مؤرخ الأدب في علاقة العمل بمبدعه نظريًّا؛ لأنّ هذا شأن الناقد الأدبي. ولا يدرس الأشكال التركيبيّة والأساليب اللغويّة في بنائها؛ لأنّ هذا مجال عالم الأسلوب. بل يدرس سيرورة الأعمال الأدبيّة وصيرورتها في مجرى التاريخ الثقافي والاجتماعي والحضاري، بتشكيلاتها الأجناسيّة، وتحوّلاتها وتغيّراتها على امتداد الزمن.[11]

ومن إشكاليّات تأريخ الأدب كذلك ما يتعلّق بظاهرة الإبداع وطبيعة العمل الأدبي في مدى صلاحيّته للدلالة على صاحبه وعلى بيئته، فليس من السهولة النظر إلى الأعمال الأدبيّة من شعر ونثر لتدلّ على طبيعة مبدعها باستعمالها وثائق، وذلك لأنّ النتاج الإبداعي للأديب الواحد قد يكون متنوّعًا وثريًّا وغنيًّا في الدلالات، سواء في العمل الفرد أو الأعمال المتنوّعة، أو في الوقت الواحد أو في مراحل الحياة المتعدّدة على امتداد زمن الإبداع، فلا يصحّ أن نخلط بين العمل الأدبي وحياة صاحبه في أثناء عمليّة التأريخ للأدب، وهذه مسألة شائكة تتعلّق بمدى قرب العمل من نفسيّة صاحبه أو بعده منها، وتتعلّق بمقدار الدقّة في توخّي التأريخ للأدب أو للأديب، أو لكليهما معًا.

وكذا ينطبق الأمر في الدلالة على علاقة الأدب والأديب بالبيئة التي يعيش فيها، أو ينتج أدبه في ظلّها، فممّا لا شكّ فيه أنّ الأدب في جوهره محاكاة؛ محاكاة للمثال كما في النظريّة الأفلاطونيّة. أو محاكاة لفكر المبدع أو تعبير صادق عمّا في دخيلته بحسب أنصار المدرسة الرومنسيّة. والأدب خلق وإبداع وابتكار على غير مثال، ولكنه معبّر في ذلك عن مدى تفاعل المبدع مع الواقع المحيط به واللحظة التاريخيّة التي يمثّلها حداثيًّا كونه مبدعًا وفيًّا لمبادئ الرمزيّة والرومنسيّة والكلاسيكيّة الجديدة معًا. والأدب محاكاة كذلك، كونه انعكاسًا للواقع، كما ترى المدرسة الماركسيّة بتفسيراتها المختلفة. لكنّ ذلك كلّه لا يكون محاكاة آليّة، ولا يكون انعكاسًا حتميًّا، حيث يمكن تطبيق نظريّته تطبيقًا ساذجًا، والسبب في هذا وذاك معًا، أنّ الظاهرة الإبداعيّة تبقى ظاهرة فرديّة بامتياز، وتقع في حيز من الخصوصيّة الذاتيّة تتّصل بدرجة أو بأخرى بالعبقريّة أو بالمرض أو بالجنون أو بالنرجسيّة، فلا يصحّ تعميمها، ولا يصحّ النظر فيها دون تأمّل البعد الفردي الذي يرمي فيه المبدع الأديب والفنّان إلى التفوّق على نفسه، وعلى أقرانه، وعلى معاصريه، وعلى أجداده السالفين، بأسلوبه الخاص وبفرادته التي لا يشركه فيها غيره. ومن هنا تكون صعوبة اعتماد الأعمال الأدبيّة وثائق للدلالة على أصحابها، أو للدلالة على أثر الواقع والبيئة وتأثيرهما فيها، بالرغم من الإقرار بدنيويّة الأعمال الأدبيّة وتلبّسها الكبير جدًّا بالواقع[12]، وبالدلالة الأكيدة على اتّصالها بنفسيّة صاحبها، ولكن دون تبسيط في إدراك كيفيّات ذلك، أو السذاجة بتطبيقها في كلّ الأحوال.

4

بذل حسين الواد جهدًا حميدًا للنظر في المحاولات المبكّرة لمؤلّفات تأريخ الأدب العربي لدى المؤسّسين في كتابه "في تاريخ الأدب: مفاهيم ومناهج"[13]. وتكمن أهميّة عمل الواد في أنّه كتاب في موضوع تأريخ الأدب تحديدًا، وقد جاء دراسة نظريّة تحليليّة وافية لمناقشة المفاهيم والمناهج في أربعة نماذج من كتب تاريخ الأدب التأسيسيّة في هذا الباب في الثقافة العربيّة في الربع الأوّل من القرن العشرين، وهي: "تاريخ آداب اللغة العربيّة 1911" لجرجي زيدان، و"تاريخ آداب العرب 1911" للرافعي، و"تاريخ الأدب العربي 1917" لأحمد حسن الزيّات، وكتاب "في الأدب الجاهلي 1926" لطه حسين.

وقد سوّغ اختياره هذه النماذج، بما هو مُقنِع، مع الإشارة إلى كثرة ما كتب في العربيّة غيرها من الكتب في تاريخ الأدب، في مطلع القرن العشرين، سواء من المستشرقين، أو من الدارسين العرب الذين أفادوا من مناهجهم، أو الذين خالفوهم فيها.

بُني الكتاب على ثلاثة عناوين هي؛ المفاهيم والمناهج والأعمال، تلتها خاتمة اشتملت على الحصيلة والآفاق. تتبّع المؤلّف في البداية مفاهيم المؤرّخين الأربعة للأدب وتعريفيه العام والخاص، ومفهوم الانعكاس وعلاقته بالمجتمع، والأديب، والتأريخ، وتاريخ الأدب، والغرض منه، فوقف على التباين فيما بينهم في هذه المفاهيم، وعلى أثر هذه المفاهيم في بناء كتبهم.[14]

ثمّ عرض للمناهج والأعمال بتحليل مستفيض، وأقرّ بأنّ "صعوبة التأليف في مادّة تاريخ الأدب إذن، وعسر المناهج فيه، هي التي أذكت وعي المؤلّفين العرب بمسألة المنهج، وأحدّت شعورهم بخطورة القضايا فيها، حتّى كان بينهم جدل عنيف حولها".[15]

وأدرك الخلل الذي وقع فيه أصحاب الأعمال المدروسة، حين أخفقوا في تطبيق المناهج التي وعدوا بالسير على هداها في أعمالهم، فقال: "ولعلّ أبين ما في أعمالهم أنّهم فهموا الأدب على أنّه جملة من النصوص الأدبيّة المأثورة، وفهموا التأريخ له على أنّه تاريخ نشأة يرمي إلى ضبط المواقيت وحصر الإضافات، لذلك وجدت المفاهيم عندهم عسرًا واضحًا في التلاؤم مع واقع الأشياء، وجاءت المناهج قاصرة، إلى حدّ ما، عن السيطرة على موضوعها، متضاربة في بعض الأحيان مع المستندات النظريّة التي ترتكز عليها".[16]

وانتهى إلى أنّ تعريف الأدب قد تدرّج من العام لدى زيدان، وهو أقدمهم، إلى الخلط بين العام والخاص والتردّد بينهما لدى الرافعي والزيّات؛ أمّا طه حسين، وهو خاتمهم، فأخذ بالتعريف الخاص، وعمل به، لذلك طالت أعمالهم واضطربت، وجاء عمله من هذا الباب قصيرًا منضبطًا، ومن هنا فإنّ الأثر الذي ترتّب على أعمال محدّدة في تاريخ الأدب كعمل طه حسين حول الشعر الجاهلي، كان أكثر فعاليّة، وشكّل صدًى لا ينكر في التأثير على فهم الناس للشعر الجاهلي وإعادة النظر فيه. مع الأخذ بعين الاعتبار "أنّ عمل طه حسين يكاد يكون بحثًا في المنهج تلمّسًا للطرق التي يمكن أن يسلكها الباحثون إذا ما آن وقت التاريخ للأدب العربي، لذلك فإنّه لم يقدّم عملًا في تاريخ الأدب، وإنّما قدّم اقتراحًا ومشاريع أبحاث لا أكثر"[17]، ورأى الواد كذلك "أنّ التفكير في تاريخ الأدب قد انتهى بطه حسين إلى الشكّ في إمكان القيام به على وجهه في الأدب العربي، فطفق يعدّد الصعوبات القائمة في سبيله، وهي صعوبات عدّدها نظريًّا في مواطن عديدة من عمله، اعتنى فيها بالجوانب النظريّة للمسائل، ووقف عليها عمليًّا أثناء التأريخ لمدرسة مُضَر الشعريّة في العصر الجاهلي. يبدو عمل طه حسين مهمًّا، ومهمًّا جدًّا، لأنّ صاحبه أدرك فيه أنّه "يستحيل" على مؤرّخ الآداب أن يضع تاريخًا للأدب العربي بتلك المفاهيم والمناهج والمعطيات، فتاريخ الأدب عنده عمل تتوّج به الأبحاث العديدة، والأدب العربي لم تُبحث بعدُ مسائله. وتاريخ الأدب يتطلّب مناهج في البحث علميّة متطوّرة، والعرب لم يطّلعوا بعدُ، في نظره، على المناهج، ولم يفقهوا أيّها أوفى بالحاجة منه في درس الأدب وتدريسه والتأريخ له. إنّ عمل طه حسين، من هذه الناحية، يبطل تأريخ الأدب بالمفهوم الذي شاع له في عصره، ويدعو إلى الكفّ عن الإقبال عليه".[18]

 

5

إنّ هذه النتيجة الصاعقة التي خلص إليها طه حسين، وبلورها حسين الواد بوضوح، تؤكّد لنا صحّة ما ذهبنا إليه في العنوان الذي اقترحناه لورقتنا، وهو "إشكاليّة تأريخ الأدب العربي"، ومخرجنا المقترح من هذه الإشكاليّة يكمن في النقاط الثلاث الآتية:

1-                    العدول عن التأريخ للآداب العربيّة بالمفهوم العام لاستحالة النجاح في هذه المهمّة. وكذا العدول عن التأريخ للأدب العربي بمفهومه الخاص؛ لأنّه لا يمكن أن ينهض به مؤرّخ واحد عَلَمٌ فَرْدٌ مهما كانت مقدرته، فهذا عمل يحتاج إلى جهد مؤسّسي تنهض به جماعة أو جماعات، تنوب عن الدولة المكينة، أو عن مجموع الأمّة صاحبة الهويّة والكيان، وتُمثّلها.

2-                    لا تكون الكتابة في تاريخ الأدب العربي إلّا في سياق المدارس والجامعات، فهي رديف لمناهج التعليم، تضطلع بها المؤسّسة والجماعة من المتخصّصين، لغايات التدريس والتعليم، وتقدّم مادّتها كونها مقترحات مرحليّة، تُعامَل مُعاملة المناهج التعليميّة التي تخضع دومًا للتعديل بالحذف والإضافة، وربّما للتغيير الجذري في نهاية كلّ مرحلة، على ضوء ما يستجدّ من مناهج ومعارف وتحوّلات في النظر في الفن والأدب والعلم والثقافة والتراث.

3-                    تَحُلُّ الأبحاثُ العلميّةُ والدراسات التخصّصيّة والاستكشافيّة والتحليليّة للظواهر والحركات والاتّجاهات والعصور والقضايا والمدارس والفنون الأدبيّة جميعها، المُنجزة من أفراد الدارسين وجماعاتهم، مَحَلَّ كتب تاريخ الأدب العربي، لتشكّل بمجموعها موسوعة تاريخ الأدب في الأمة، مع أمل يحدو القائمين عليها أن تمثّل روح تأريخ الأدب ومفاهيمه ومنهجيّاته التي تُراجع دومًا، وتتجدّد وتتقدّم على مرّ الزمن.

فالذي لا شكّ فيه أنّ الأعمال التي ناقشها حسين الواد وغيرها من كتابات تاريخ الأدب العربي التي كتبت في العصر الحديث، قد كان لها الأثر الطيّب والمفيد في مرحلتها التاريخيّة التي اضطلعتْ بها حين قدّمت الزاد المدرسي والجامعي للطلبة والقرّاء والمثقّفين والباحثين، وأفادت في زمنها وما تلاه، ونجحت نجاحًا مرحليًّا، مع عدم إغفال ما حملت في طيّاتها من قصور واضطراب وتناقض، فلا ننكر وجودها وقد كانت واقعًا، ولا نقبل بها الآن على عواهنها في زمن نطمح فيه إلى تأسيس ثقافة نقديّة جادّة في حياتنا.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أهميّة ذكر أمثلة من الدراسات التاريخيّة الأدبيّة الحديثة التخصّصيّة الجادة والجزئيّة والمحدّدة بالزمن والمكان والموضوع الفنّيّ؛ من مثل "حياة الشعر في الكوفة إلى نهاية القرن الثاني للهجرة" ليوسف خليف، و"تطوّر الرواية العربيّة الحديثة في مصر من 1870 – 1938" لعبد المحسن طه بدر. و"تطوّر الرواية العربيّة الحديثة في بلاد الشام 1870 - 1967" لإبراهيم السعافين. و"اتّجاهات الغزل في القرن الثاني الهجري" ليوسف بكّار. و"حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر" لكمال خير بك. و"عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث" لإحسان عبّاس. وغيرها الكثير.

6

أخيرًا نختم بذكر كتاب نموذجيّ في هذا الباب لسلمى الخضراء الجيوسي هو "الاتّجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث"[19] [أصله أطروحتها للدكتوراه مقدّمة في مدرسة الدراسات الشرقية (SOAS) بجامعة لندن سنة 1970، ونشرت بنسختها الإنجليزيّة، في لندن 1977]، فنقف على تقدير الجهد المبذول في مقدّمته لمناقشة مفهوم تأريخ الأدب ومنهجيّته، ونطالع فيه نجاح المؤلّفة في التطبيق في دراستها القيّمة التي جاءت نموذجًا لافتًا للنظر في تحقيق الفكرة التي ألمعنا إليها آنفًا.

تقول الجيوسي: "لقد اتّبع مؤرّخو الأدب عندنا طرقًا شتّى، بعضها يشكّل استمرارًا للطرق المألوفة في كتابة التاريخ الأدبي في العربيّة، في حين أفاد سواها من أعمال مؤرّخي الأدب في الغرب. ولم يزد آخرون على تأليف كتب تسرد سير حياة الشعراء بأسلوب شبه نقدي، كما نظر بعضهم إلى الأعمال الأدبيّة على أنّها محض وثائق تصوّر تطوّر الأمّة. وقد تبنّى بعضهم مذهب الحتميّة في تفسير الأدب، فاعتبره أداة تتحكّم فيها عوامل المحيط (على مذهب هيبوليت تين، أو ماركس وإنغلز، من بعده)، أو عوامل سيكولوجيّة في شخصيّة الكاتب (كما عند سانت بوف، وفرويد من بعده). وقد تتبّع آخرون فكرة أو مجموعة من الأفكار المترابطة في مسارها، خلال فترة أو أكثر من فترات الأدب؛ كما نجد من اختار موضوعًا معيّنًا من تاريخ الأدب فكتب فيه، كأن يصف أدب قطر بعينه، أو حركة أدبيّة من دون سواها. أمّا هذا الكتاب، فإنّه يتبع طريقة تحاول الجمع بين عوامل عديدة في آن معًا. فهي طريقة تُعنى بالعوامل الاجتماعيّة والسياسيّة التي اضطلعت بدورٍ في ما حدث من تغيّر ظاهر في وعي الموهبة العربيّة المبدعة وطريقة تفكيرها. وهي كذلك، تحاول النظر في التغيّرات النفسيّة التي حدثت في المواقف، ووجهات النظر عند العرب، وفي تأكيداتهم العاطفيّة، فانعكست في شعرهم، غير أنّ تركيزها الأهم يتركّز في تفاصيل الأحداث المؤثّرة في الشعراء المختلفين في فترة تاريخيّة معيّنة، كما انعكست في شعرهم. لذا فإنّ الاهتمام هنا بالعوامل الخارجيّة يرتكز أكثر على التطوّر الذي طرأ على الوعي العربي في الأزمنة الحديثة، وعلى التنوّع الذي نجده في أنماط الثقافة العربيّة بوجه عام. غير أنّ هذا الكتاب، كونه يتناول فنّ الشعر، فهو يتجنّب أن يكون تاريخًا للفكر العربي في الأزمنة الحديثة، أو للحضارة العربيّة الحديثة كما تنعكس في الشعر العربي. إلى جانب دراسة الأوضاع الخارجيّة التي أحاطت بالشعراء والنقّاد، يحاول هذا العمل الإحاطة قدر الإمكان بثقافة الشعراء أنفسهم، وذلك من أجل إحاطة أكمل بما يكمن خلف إنتاجهم من حوافز ودوافع".[20]

وتقول: "يُعنى هذا الكتاب بتطوّر الشعر العربي الحديث كونه فنًّا من الفنون، وهو إذ يخضع بدرجات متفاوتة من القوّة لتأثيرات العوامل الخارجيّة والتجربة المكتسبة ذات الطبيعة غير الفنّيّة، فإنّ له حياة فنّيّة خاصّة به تخضع لعمليّة داخليّة من التغيّر والتطورّ، تكون فيها قوى التقبل والمقاومة في صراع دائم. ولكن هذه العوامل لا تنشط إلا عندما يكون المحيط الخارجي للفنّان مضطرمًا بالحياة والتجارب.

فالفنّ يمتلك قوانينه الداخليّة الخاصّة في النمو والتطوّر، وأيّة تجربة تقدّم نزعة أو تيّارًا جديدًا لا يكتب لها النجاح إلّا عندما يكون الوضع الشعري في الزمان والمكان اللذين تجري فيهما هذه التجربة مستعدًّا فنّيًّا لتقبّلها. ثمّة كثير من العوامل، بعضها فنّيّ وبعضها ينبع من المحيط الخارجي، قد تحول دون إدخال تغيير جديد على الشعر.

نشأ مفهوم التطوّر الداخلي للفن لدى برونتيير الذي أقام نظريّته على "مفهوم دارون في التطوّر البيولوجي" فذهب إلى أنّ "الأجناس الأدبيّة تفنى، وبعد أن تبلغ درجة معيّنة من الكمال، لا بدّ لها من أن تضمحل فتذوى وتزول"، وقد أصاب رينيه ويليك في نقده لهذا، عندما قال إنّ "الأجناس لا تموت"، لأنّ الاحتمال قائم دومًا أنّ أحد الأجناس الأدبيّة الذابلة قد يعاود الظهور في المستقبل. وثمّة أسباب تؤيّد هذا الرأي: أوّلها أنّ فكرة برونتيير توحي بلا نهائيّة الأجناس، وتاريخ الأدب في العالم أظهر محدوديّة شديدة في عدد الأجناس الأدبيّة التي عرفها الإبداع الإنسانيّ. ثانيًا أنّ الأجناس الأدبيّة تولد استجابة لحاجات جماليّة واجتماعيّة وروحيّة. تختفي، وتعاود الظهور وتتلوّن بما يلائم التطوّر الحضاري الذي وصل إليه العصر، وليس ثمّة ما يمنع من أن تعاود الأجناس الشعريّة الظهور بأشكال جديدة متطوّرة إذا ما ولدت لها حاجة جماليّة أو اجتماعيّة أو روحيّة. ثالثًا أنّ الأجناس الشعريّة والأدبيّة إذا أصابت نجاحًا، تغدو جزءًا من التقاليد الأدبيّة لدى الأمة، فإذا أصابها النسيان أو الإهمال حينًا بقيت على استعداد دائم لأن تعيد اكتشافها موهبة خلّاقة جديدة".[21]

وبعد ذلك، تناقش ما حدث للشعر العربي تحديدا في العصر الحديث وتسأل: "هل نحكم على الشعراء والنقّاد من وجهة نظر معاصرة أم من وجهة نظر الفترة التي عاشوا وكتبوا فيها؟" وتجيب بضرورة اتّباع وجهة النظر المعاصرة وتعلّل ذلك... [22]، ثمّ تمضي في بيان رأيها بدأب.

فتقدّم في نهاية المطاف دراسة منهجيّة في تاريخ الأدب، تفرد لها قرابة 900 صفحة للوقوف على الاتّجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث من بداياته الإحيائيّة في نهاية القرن التاسع عشر، إلى أن استوى على سوقه في مطلع السبعينيّات.

وبعد؛

فقد وقفنا في هذه المقالة على إشكاليّات تأريخ الأدب العربي المتعدّدة التي وجدناها تبدأ من أنّ فعل التاريخ متأصّل في نفوس البشر المبدعين منهم والدارسين، حتّى تجلّى ذلك في صور الرواية والجمع والاختيار لدى القدماء. والإفادة من مناهج الغربيين في العصر الحديث بالسعي الحثيث لتطبيقها على الأدب العربي في عصوره المتعدّدة.

وخلصنا إلى أنّ الإشكاليّات تنبع من التباين في تعريف الأدب والأدبيّة، وتحوّلات هذه المفاهيم عبر الزمن، ومسألة التأريخ للشكل الفنّي أو للمضمون بالعناية بالفنّ الأدبي في ذاته أو العناية بحياة الأديب نفسه، وعلاقته بمجتمعه تأثيرًا وتأثّرًا، وصعوبة الإحاطة بجملة القضايا التي يضطرّ المؤرّخ إلى الوقوف عليها ورصدها وتحليلها ممّا يجعل المهمّة تبدو مستحيلة في كثير من الأحوال مع أديب واحد، فكيف بنا إذا أردنا التأريخ لفنّ أدبيّ أو لعصر واحد أو لكلّ العصور السالفة؟ لذا فقد كان الرأي لدينا هو الإضراب عن التفكير التقليدي في التأريخ للأدب، وانتهاج أسلوب الدراسات المتخصّصة والمنهجيّة والدقيقة التي ينجزها الباحثون الجادّون في الأمّة وضمّها بعضًا إلى بعض؛ لتغدو بمجموعها ممثّلة للتأريخ الأدبي للامّة ولروحها الفنّي والحضاري على السواء.

[1]- مجلة ذوات العدد36

[2] التقاليد والموهبة الفرديّة (Tradition and the Individual Talent)، ت. إس. إليوت، مقالة نشرها في عددين من مجلّة "الذاتي" سنة 1919، وفي كتابه النقدي الأوّل الغابة المقدّسة، 1920. انظر ترجمتها كاملة لمحمّد الركابي على موقع الجمعيّة الدوليّة للمترجمين واللغويين العرب (wata) على الشابكة بتاريخ 9/ 9/ 2007

[3] تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي، (1911)، نشره محمّد سعيد العريان سنة 1940، وأعيد نشره مرّات عديده، إحداها بمراجعة وضبط عبد الله المنشاوي ومهدي البحقيري، مكتبة الإيمان، القاهرة د. ت. انظر (نمط الكتاب وأبوابه) ص. ص 20 - 22

[4] النثر الفنّي في القرن الرابع، زكي مبارك، مطبعة السعادة، القاهرة 1957، ص 15

[5] الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع أو عصر النهضة في الإسلام، آدم متز، ترجمة محمّد عبد الهادي أبو ريدة، دار الكتاب العربي، ط 5، بيروت د. ت. ص. ص 513 – 534

[6] تاريخ الأدب الجغرافي العربي، إغناطيوس كراتشكوفسكي، (1943) ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، لجنة التأليف والترجمة والنشر (الإدارة الثقافيّة/جامعة الدول العربيّة) القاهرة 1961. ص 14

[7] وقعة صفّين، نصر بن مزاحم المنقري (ت212)، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، مطبعة المدني، ط2، القاهرة 1962. انظر: صفحات متعدّدة: 74، 80، 90، 162، 343، 345، ...

[8] شعراء النصرانيّة، لويس شيخو اليسوعي، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت 1891، (ستّة أجزاء) وقد أعيد نشره مرّات ومرّات.

[9] في نظريّة الأدب، شكري عزيز ماضي، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، ط4، بيروت 2013، ص 13

[10] نظريّة الأدب، رينيه ويليك وأوستن وارين، ترجمة محيي الدين صبحي، ط2، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، ط2، بيروت 1981. انظر كيف قسّم الكتاب إلى بابين كبيرين لدراسة الأدب من الداخل ودراسته من الخارج تحت فصول كثيرة العدد.

[11] انظر: دائرة الإبداع: مقدّمة في أصول النقد، شكري عيّاد، دار إلياس العصريّة، القاهرة 1987. ص67 وفي مواطن متعدّدة في الكتاب.

[12] انظر: العالم والنصّ والناقد، إدوارد سعيد، ترجمة عبد الكريم محفوض، منشورات اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق 2000، ص 25، 35، وغيرها.

[13] في تاريخ الأدب مفاهيم ومناهج، حسين الواد، (ط1، 1980)، دار المعرفة، تونس. وهو في الأصل أطروحة جامعيّة أنجزها المؤلّف سنة 1979 لنيل شهادة التعمّق في البحث، في الجامعة التونسيّة. ط2، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت 1993

[14] انظر: في تاريخ الأدب مفاهيم ومناهج، حسين الواد، ص 25

[15] في تاريخ الأدب مفاهيم ومناهج، حسين الواد، ص 138

[16] في تاريخ الأدب مفاهيم ومناهج، حسين الواد، ص 291

[17] في تاريخ الأدب مفاهيم ومناهج، حسين الواد، ص 191

[18] في تاريخ الأدب مفاهيم ومناهج، حسين الواد، ص 272

[19] الاتّجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، سلمى الخضراء الجيوسي، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت ط 1 / 2001، ط 2 / 2007

[20] الاتّجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، سلمى الخضراء الجيوسي، ص. ص 16 - 17

[21] الاتّجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، سلمى الخضراء الجيوسي، ص. ص 18 - 19

[22] انظر: الاتّجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، سلمى الخضراء الجيوسي، ص 21