إعادة تشكيل مفهوم اللذة جمال علي الحلاق نموذجا


فئة :  مقالات

إعادة تشكيل مفهوم اللذة جمال علي الحلاق نموذجا

إعادة تشكيل مفهوم اللذة

جمال علي الحلاق نموذجا

قليلون من الكتاب والدارسين والمفكرين في عالمنا العربي الإسلامي من لديهم خاصية المزج بين الأدبي والفكري، ربما لأن هناك مساحات لا تسمح بين الجمع بين الأمرين، وربما أيضا هناك من يعتبر بأن الفضاء الأدبي هو تعبير وجداني أكثر منه تعبير عقلاني وفكري، وهذا الأمر مجانب للصواب في الكثير من الأحيان. نريد أن نقف وقفة موجزة مع الكاتب والمفكر العراقي جمال علي الحلاق، وبالتحديد مع كتاب أو لنقل تأملات فكرية أو أدبية بنكهة فكرية سماه بوح السرد، وهي تمارين للإصغاء أو محاولة الفهم وإعادة تشكيل بعض المفاهيم التي نتداولها في واقعنا اليومي وتحتاج منا إلى محاولة لفك الحصار الثقافي عنها، أو إخراجها من السجن الذي تقبع فيه، أو الفهم الذي تحتكره هذه الجهة أو تلك.

إنه مفهوم اللذة. فما هي اللذة بالأساس؟ ولماذا تم قمع هذا المفهوم داخل سياقات كلامنا اليومي؟

سؤالنا هذا هو تخليص أو محاولة إنقاذ هذا المفهوم من سياقات تشكلت فيه جعلته رهينة لفهم ودلالات قد تكون بعيدة عنه، حينما حصرته وقرنته بالمعنى الجنسي أو الإيحاء الجنسي. وهذا المعنى اللغوي في الحقيقة ركزت عليه كل الأدبيات الأخلاقية سواء في شقها الديني أو السياسي أو الاجتماعي؛ وذلك من أجل تحقيق غايات أهمها، أن هذا المفهوم أصبح يستعمل كأداة أو سلاح ضد خصوم مفترضين. لا بد لنا ونحن نقترب من مثل هذه المفاهيم ألا نشعر بالخوف؛ لأن اقتحام هذا المجال بجرأة زائدة نسبيا فيه نوع من التحرير لهذه المفاهيم من سجن تم توارثه عبر أجيال وعبر سلطات مختلفة أرادت وتريد أن تبقى هذه المفاهيم حبيسة لمعنى معين يوظفه الناس اتجاه خصومهم المفترضين.

في كتابه "بوح السّرد تمارينُ في الإصغاء" ينبّهنا جمال علي الحلاق على أنّ كلّ واحد منّا يقيم داخل بناية خاصّة من اللّغة، لها شكلها الخاص، ومميّزاتها الفريدة بالرّغم من أنّنا نتحدّث لغة واحدة. كما أنّ هذه البناية تحدّدها ميول الشّخص، وطبقته الاجتماعية، ومستواه الثقافي، واللّحظة التاريخية لوجوده الفردي. لماذا يؤكّد على هذا المعطى؟

حتّى يوصلنا إلى نقطة مفصلية قلَّ ما ننتبه إليها، وهي أنّه من غير المقبول وربّما المتجاوز أنْ تواصل حواراتك مع شخصٍ كيفما كان من داخل نفس البناية اللّغوية التي تشكَّلْتَ فيها؛ بمعنى أدق أنّ المطلوب منك أنْ تقفز من بنايتك إلى بنايات محاوريك، حيث تكون مطالبا بالانتباه ليس فقط إلى أفكارك واعتقاداتك أثناء الكلام، بل وإلى أفكار واعتقادات من تحاورهم. صحيح أنّه أمر متعبٌ ومقزّز أنْ تمشي وأنت تتحسّس طرائق تفكيرك، لكن بالتأكيد فإنّ عدم القفز على سطوح البنايات اللّغوية أثناء الكلام تتدرّج كمنحنى هندسي يبدأ بالتوبيخ اللّفظي، وينتهي بالتّصفية الجسدية، وهنا يمكن أنْ نفهم قولة أكثم بن صيفي أحد مؤثّتي العقل العربي في فترة ما قبل الإسلام موصياً أبناءه: "كفّوا ألسنتكم فإنّ مقتل الرّجل بين فكّيه".

وللتدليل على ذلك يعطي جمال علي الحلاق مثالا واقعيا بحادثة وقعت له، حيث كان في جمع وطرحت كلمة أنطيناك، فقال البعض إنها كلمة عامية وليست فصحى فقال جمال علي الحلاق بأنها كلمة فصحى وقد استدل على ذلك بإحدى قراءات سورة الكوثر ووردت في كتاب مختصر في شواذ القرآن يقول فيها إنا أنطيناك الكوثر. فبدأ الجميع يستغفرون الله وينظرون إليه نظرة تعجب. وهذه هي نتيجة من لا يتجاوز سطح بنايته اللغوية إلى أسطح أخرى. هذا الواقع يعطينا انطباعا بأننا نحن لا نقيم داخل اللغة، بل نقيم داخل قراءات قديمة فارضة يعاد إنتاجها، وتكرارها بشكل يومي.

نعود لمفهوم اللذة واقترانها بالشهوة وتحديدا الشهوة الجنسية وعلاقة الإنسان بالجسد سواء جسده أو جسد غيره. إذا تأملنا ذلك نجد بأن الجسد في المنظور الديني كان دوما مدعاة للتواري هناك محاولات حثيثة لتغييبه. فهو الداء وهو العورة. فتصبح كلمات مثل لذة وشهوة وغواية مثلها مثل الثياب الداخلية الشفافة التي تلتصق بالجسد وتثير غرائزه. ومن هنا يمكننا القول إن للتحرّر جسدا يتطلب أيضا أن نتحرر على مستوى العقل والفهم والإدراك.

ما معنى اللذة انطلاقا من كل ما سبق؟.

للجواب عن هذا السؤال نقول إنه لا بد من أن نأخذ مفهوم اللذة إلى اتجاه آخر ودلالة مختلفة يشعر بها الذي يقترب من ذاته إلى حد الالتصاق بها. فاللذة بهذا المعنى تصبح هي الإحساس بالذات نفسها؛ فاللذة لا تبتعد كثيرا عن الجنس والاستمتاع بالجسد، ولكنها أيضا لا تقف عند حدودهما، لتصبح هي الذات والشعور الأرقى لتحقق الأنا.

لصالح من يبقى مفهوم اللذة حصرا على الإيحاء الجنسي؟

لفهم هذا المعطى لا بد من أن نشير إلى أن المنظور الديني للذة أو البناء المعماري الديني بتعبير جمال علي الحلاق يقوم بشيء مهم في هذا السياق، وهو أنه ينبذ الذات الفردية ويصعد مفهوم الجماعة. كذلك مثل هذه التصورات تقتل إحساس الفرد بالاستقلالية الفردية، بل تحاول أن تدس الفرد قسرا في الجماعة. وهكذا إذا كان المفهوم الديني يصر على أن اللذة تكمن في البقاء داخل الجماعة. فالمفهوم الجديد للذة يتحقق باستكمال الذات أو على الأقل محاولة استكمالها؛ فبلوغ اللذة باعتبار الذات لا تتحقق إلا عبر إقامتنا خارج الجماعة كزمن.

اللذة أيضا قفزة إلى أعلى؛ معنى ذلك أننا بانفتاحنا على دلالات جديدة ومفاهيم مختلفة نكون قد خلقنا عالما جديدا آخر يحترم التجارب البشرية، لكنه ينتمي للتغير ولا يقف عند حد. إننا إشارات ضوئية لعالم لا يعرف التوقف؛ أي إن اللذة هي الوصول إلى تحسس العالم وإدراكه بهذه الطريقة، بل اللذة أساسا هي التي تمنح للفرد تبرير وجوده المنطقي.