الإصغاء إلى الذات: من القراءة الواعية إلى النقد


فئة :  مقالات

الإصغاء إلى الذات: من القراءة الواعية إلى النقد

الإصغاء إلى الذات:

من القراءة الواعية إلى النقد

يوسف هريمة

الإصغاء تمرين شاق، ولكنه ضروري...

في كتابه "بوح السّرد تمارينُ في الإصغاء" ينبّهنا جمال علي الحلاق على أنّ كلّ واحد منّا يقيم داخل بناية خاصّة من اللّغة، لها شكلها الخاص، ومميّزاتها الفريدة بالرّغم من أنّنا نتحدّث لغة واحدة. كما أنّ هذه البناية تحدّدها ميول الشّخص، وطبقته الاجتماعية، ومستواه الثقافي، واللّحظة التاريخية لوجوده الفردي. لماذا يؤكّد على هذا المعطى؟...

حتّى يوصلنا إلى نقطة مفصلية قلَّ ما ننتبه إليها، وهي أنّه من غير المقبول وربّما المتجاوز أنْ تواصل حواراتك مع شخصٍ كيفما كان من داخل نفس البناية اللّغوية التي تشكَّلْتَ فيها؛ بمعنى أدق أنّ المطلوب منك أنْ تقفز من بنايتك إلى بنايات محاوريك، حيث تكون مطالبا بالانتباه ليس فقط إلى أفكارك واعتقاداتك أثناء الكلام، بل وإلى أفكار واعتقادات من تحاورهم. صحيح أنّه أمر متعبٌ ومقزّز أنْ تمشي وأنت تتحسّس طرائق تفكيرك، لكن بالتأكيد، فإنّ عدم القفز على سطوح البنايات اللّغوية أثناء الكلام تتدرّج كمنحنى هندسي يبدأ بالتوبيخ اللّفظي، وينتهي بالتّصفية الجسدية، وهنا يمكن أنْ نفهم قولة أكثم بن صيفي أحد مؤثثي العقل العربي في فترة ما قبل الإسلام موصياً أبناءه: "كفّوا ألسنتكم، فإنّ مقتل الرّجل بين فكّيه".

فن الإصغاء للذات هو تمرينٌ آخر من التمارين المفتقدة داخل منظومتنا الثقافية. إنه يشبه تلك الحالة الإنسانية والراقية التي يمثل فيها الكائن الإنساني أمام صمته أو كما قال الحلاّق: "الصمتُ محكمة وأنا المتّهم" ليخرج بذلك الصّمت عن أنْ يكون حكمة كما يراه الكثيرون، ويتحول إلى حالة يقرأ فيها الإنسان ذاته، ويستعيد وعيه، مسائلا مسبقاته وتحيزاته. فلا أحد ينكر أنّ ارتيابنا من كلّ شيء يقنعنا هو تمرين شاقّ يحفر في الذّاكرة بمطرقة النّقد. لكن بالرغم من عنائه فهو الطقس الوحيد الذي يحميك من شرّ المعجبين بك، وكثرة المادحين، وأصحاب الوجوه المنقوشة باللؤم، وكل من يرقص حولك غلا وحسدا.

يذكرنا هذا الموقف بما قاله باولو فرايري في كتابه "تعليم المقهورين" أنّ مشكلة الإنسان المقهور هي أنّه يعاني من ازدواجية في ضميره. فعلى الرّغم من شعوره بالحاجة إلى الحرية، فهو يهابها، حيث يزاوج بين إحساسه الخاصّ وإحساس قاهره القابع في ضميره. وهكذا يحتدم الصّراع بين أنْ يحقّق المقهور ذاته، وبين أنْ يكون ذات قاهره، وبين أنْ يعمل على تحقيق كماله الإنساني، وبين الإبقاء على غربته الذاتية، بين أنْ يصبح متفرّجا، وبين أنْ يصبح ممثّلا، بين أنْ يلعب دوره الحقيقي، وبين أنْ يلعب دور قاهره، بين أنْ يتكلَم بصدق وصراحة، وبين أنْ يلزم الصَّمت خوفاً ورهبة.

هكذا هم وهكذا سيبقون، حتى تتغير إرادتهم.

إن ثقافة لا تحسن الإصغاء لإنسانها، وذاتها، لنْ تحسن الإصغاء حتما إلى لآخر، بله أنْ تتواصل معه، أو تجترح حلولا لملاقاته، أو التّعايش معه والاعتراف به. وهنا مكننا أن نقرأ تجربة العقل المنفتح كما تجلت في كتابات جمال علي الحلاق، فهو دوما يذكرنا بإشارات تبدو أنّها مهمّة لمن يرغب بالغوص في مغامرة الانفتاح المكسّر لجنون الانغلاق، والإيمان المطلق بالموروث والتّقاليد، والانحياز التامّ للمسبقات؛ لأنّ المنفتح لا محيط له، تماماً كالسّهم المنطلق في الفضاء. ولكي نفهم المفارقات التي يعيشها العقل المنفتح، حين يفكر خارج المجموع، وخارج النّسق السّائد، وجب أنْ نفهم الوسائل التي تتيح له هذا العيش، وهذا التحرّر الفكري، ولعلّ السّؤال أوّل هذه الخطوات نحو الانفتاح. فالسّؤال ليس هو وضْع علامة استفهام نهاية كلّ جملة، بقدر ما هو رغبة دفينة في تحطيم ما استقر عليه عقلك من أوهام، لذلك وكما يقول المثل الصيني: "من يسألُ يكون غبياً لخمس دقائقَ. أما الذي لا يسألُ، فيبقى غبيا إلى الأبد".

السّؤال يعني الرّغبة في البحث عن معنىً آخر، خارج خيمة الحقيقة الّتي ترسمها الجماعة، وتصادق عليها الثّقافة وحرّاسها وسدنتها. وأيضاً السّؤال الذي يمنح العقل التميّز والتفرد، والخروج من ربقة نمطية قاتلة، تستهدف العقل، وتميت عناصر الحياة فيه. إنّه السّؤال الذي يعطيك إمكانية العيش مع الآخرين، دون أنْ تحتويك سياجاتهم، أو تحاصرك قيود أفكارهم. فيكفي أنْ تسأل، كي تعبُر إلى حيث تتلاقى مع ذاتك في وحدة وجودية لا يستطيع العقل المنغلق إدراكها. وهنا يقف الإنسان بعقله المنفتح، ليمدّ بفكره كلّ أواصر الاتصال مع الجميع، دون أنْ تذيبه شعاراتهم، أو تنزاح به تعبيراتهم إلى حيث مركز ثقلِهم الفكري والثّقافي.

يقرأ الحلاّق تجربة المنفتح كما قرأها من قبلِه نتشه الذي كان يرى أنّ المتوحّد يلتهم نفسه في العزلة، شرط أنْ يكون الالتهام هنا بدلالة الامتلاء بالذّات. هذا التّطابق مع الذات إلى حدّ التوحد يتيح بحسب الكاتب أنْ يطرح نفسه، باعتباره مشروعا إنسانياً لا يخلو من غاية، فهو يبحث عن المعنى لوجوده وحضوره في هذا العالم تعبيرا عن ذلك القلق الذي يسكنه. وبمجرد أنْ تشعُر هذه الذّات بنفاذ غائيتها، أو نهاية وظيفتها، تعلن خروجها من جديد على السَّائد في حركة متواصلة لا نهائية. وهنا يمكن استحضار نماذج من علماء ومفكّرين جسّدوا هذه المعطيات من خلال كتابتهم وأفكارهم. كما فعل الرّصافي بقراءته للشّخصية المحمدية، أو دان براون في قراءته للرّموز والرّسوم الكنسية، أو الرّتوش التي قام به حسين مردان على نصوص نشيد الإنشاد المقدّس، وغيرهم كثير. فكلّ ما تحيلنا عليه هذه الأعمال وغيرها هو ذلك القلق المزمن لدى العقل المنفتح من تكرار ذاته؛ لأنّ التكرار هو قتلٌ للذات، واستبطان لا إرادي لنمطية مفروضة عليها. ذاتٌ تخاف الدّخول في الآخرين، وتخشى في كلّ لحظة أنْ تتحول إلى فائض لا معنى له، وكأنّها في صراع أبديٍّ ضدّ التّنميط. وذاتٌ تفزع من كلّ شيء إلا الاختلاف، فهو المبتدأ وهو المنتهى. وهنا تساءل الحلاّق، وهو يستحضر تجربة كافكا: "هل أحسّ كافكا بالخوف من الدخول إلى ذاته باعتبارها فخّاً؟ هل أدرك أنّ تجربته الذاتية شكلٌ من أشكال الخطأ؟ لماذا أوصى بإحراق أوراقه كلِّها؟. لقد كان أقلّ شجاعة من أبي حيان التوحيدي الذي أحرق كتبه بنفسه؟".

أنْ تحرق منتوجك وكتاباتك معناه أنّك تريد التخلّص من الوقوع في فخّ التعليم، وكأنّك تريد أنْ تقول بتعبير آخر أنّ الحقيقة أبداً لا تؤخذ من الآخر، بل تنبع من الذّات، وهو درس يختلف جذريا عن درس الإحراق الذي تعرّض له العلماء من طرف الآخرين، كما في تجربة ابن رشد وطه حسين وجيوردانو برونو. فالأفكار لا تحترق كما يرى الحلاق، وهنا يمكن قراءة تجربة إبراهيم القرآنية. فالحرق ليس سوى شحن الطاقة الكامنة والتعجيل في إخراجها. فالعقل المنفتح يستحيل إيقاف حركته، أو محاولة حصاره؛ لأنّ الأفكار بطبيعتها منفلتة، خاصة إذا كان حاملها يتنفّس في الممكن الذي يراه، أو يتعامل مع المتاح بوعي وقصدية.

ربّما يتساءل البعض عن هذا القلق الذي يسكن في ثنايا العقل المنفتح، وكيف يبدأ ثم ينشأ، ثم يرافق العقل في مسيرة لا متناهية. إنّه ابن فوضى المفاهيم التي يخلقها الواقع بتجلّياته المختلفة. واقعٌ كلّ همِّه إيقاف حركة العقل والتاريخ والجغرافيا لتستقرّ فقط فيما أنتجه القدماء، أو عبَّر عنه السّلَف، أو صادق عليه سدنة الأفكار وحرّاسها الأوفياء. واقعٌ يجعل التَّفكير في الممكن مستحيلا، خاصّة إذا كان يبحث عن معنىً مختلف ومغاير لصورة مرسومة سلفاً. واقع ينحاز إلى الماضي ويقيم فيه ليشعر بالأمان، ويخاف على نفسه قلق المستقبل، والانفتاح على المجهول. أنْ تقلق يعني أنّك خرجت إلى ذاتك وحقّقت التواصل معها وبها، فالذّات ليست سوى الخروج عن العقلية الجاهزة والبحث عن منافذ الخلاص. الذات هي الدخول في تحطيم الأصنام، سواءٌ كانت أصناما مادية أو ذهنية، حيث إنّ هذه الأخيرة أشدّ خطراً من غيرها لخفائها وخطورتها، وهي ليست سوى الأشياء التي تبقى مصونة في الذّاكرة القومية، حيث إنّ الانقطاع عنها يمثّل انقطاعا عن الجذور، وبالتالي اغترابا يقذف صاحبه إلى هاوية العدمية كما كان يرى فرانسيس بيكون. لهذا، فالقلق المنبثق على واقع الحال ليس وصولاً إلى نهايات يتمّ رسمها سلفاً من طرف العقل المنفتح، فهذا مجرّد وهمٍ، بل كلّ ما يصل إليه العقل في أبعاد انفتاحه هو مجرّد نماذج بشرية، أو مشاريع قابلة للنقد، والتطوير، وخاضعة لصيرورة النشوء والارتقاء.

ماذا لو...؟

ماذا لو انسَحبْنا إلى دواخلنا، أو عكَسْنا نظرتَنا للآخر في اتّجاه عيوبنا أو خيباتنا أو نواقصنا؟. الأخلاق أو النّصح أو النّقد المرضي، ليست سوى ذلك اللّباس الذي يتنكّر فيه البؤساء. نعم، نحتاج للأخلاق، لكن وجب التذكير كما يؤكد أندريه كونت سبونفيل أنّ السّؤال الأخلاقي هو: ماذا يجب علي أنْ أفعل؟ ?que dois-je faire، وليس ما يجب على هذا أو ذاك أنْ يفعل؟ ?que doit faire tel ou tel. الأخلاق لا شرعية لها إلا في ضمير المتكلم "أنا". أمّا بالنسبة إلى الآخرين فالقانون والرّحمة تكفي...

نحن لا نخاف النّقد، لأنّنا موقنون بأنّ ما عليه ثقافتنا يكتسب طابع الإطلاق واليقين والثّبات، بل فقط لأنّ الخوف والتردّد من ملامسة المسكوت عنه مهمّة صعبة في واقع ثقافي مغلق، يعكس بجلاء حجم الهوة السّحيقة التي وضعتنا فيها الثقافة، وكذلك يكشف الممارسات المكشوفة والخفية التي تمارسها الثقافة لضمان استمراريتها وبسط نفوذها على هذا الكائن الإنساني، في رغبة ملحَّة وأبدية هدفها التّكرار من أجل الاستمرار. ولا ضير ما دامت وظيفة كلّ فكرة مغلقة، هي أنْ تنزَع بالإنسان، ليكون فردا ضمن قطيع، أو فردا يفضل الطّاعة على التّفكير، والخضوع على بديهيات وأولّيات الفعل الإنساني.

كلّ فكرة تموت لحظة التوقّف؛ أي لحظة غياب النّقد، أو على الأقل عدم استحضار أهميّته. لهذا ليس هناك حياة بعيدة عن النّقد الذاتي كما أشار إليه سيوران بوصفه عملية تفسير معكوسة تّجاه الذات أولا؛ فنحن نحيا وسط ألغام ثقافية لا يراد لها أنْ تكشِف محنتنا، أو مواطن تزييف الوعي فيها، وتلك آفة تفكيرنا. فالخروج من دائرة المغلق هي المهمّة المستحيلة في نظر البعض، وفي الوقت ذاته هي الأمل المرجوّ للكتابة، باعتبارها البداية للبحث عن هوامش الانفلات من القبضة المحكمة التي تفرضها سطوة العقل الجمعي على مفاصل تفكيرنا. فالنقد هو الاقتراب من كشف بعض خبايا الفم المقموع كما يسميه جمال علي الحلاّق، وليس فقط قراءة التّاريخ وفق ما تناقله الفم النّاطق؛ لكن لا بدّ من الانتباه أنّ ممارسة النّقد لا تعني بحال أنّك بدأت تتلمّس الطّريق، بل فقط أنت في الخطوة الأولى لتذوّق لذّة الحيرة والتيه، مخطئ من يرى أنّ التّفكير هو شهوة، أو لحظة، أو فرصة. إنّه حياة يبدأ، لكنَّه قد يتوقّف، وهذا يذكّرنا بما قاله إنجلز مودِّعا صديقه ماركس بعد وفاته، حيث وقف إنجلز للتّأبين، وقال: "الآن فقط توقّف هذا الرأس عن التفكير" معلِناً بذلك ومن خلال عبارة "الآن فقط" أنّ التّفكير حياةٌ وليس لحظة.