استراتيجيَّات الهويَّات الثقافيَّة ومسألة الغَيْرِيَّة


فئة :  مقالات

استراتيجيَّات الهويَّات الثقافيَّة ومسألة الغَيْرِيَّة

استراتيجيَّات الهويَّات الثقافيَّة ومسألة الغَيْرِيَّة([1])

 

يرتبط مفهوم الهويَّة بمفهوم الغيريَّة ارتباطاً يَعْصى الفصل. فالعقل، مذ تفكَّر في ماهيَّة الذاتيَّة، وفي كلّ مرَّة ساءل كائناً حول كيانه وكينونته، رامَ، في الواقع، معرفة ما هو عليه هذا الكائن ليصوغ المعرفة تحديداً. ولمَّا كان تحديد الشيء من أوائل معرفته وتعريفه، ولمَّا كان يحتوي خلاصة صفاته الموجِبة، بات من البديهي القول: إنَّ كلَّ تحديد هو، من حيث دلالته التضمينيَّة، إيجاب ونفي في آن واحد. إنَّه بقدر ما يؤكّد خصوصيَّة الكائن موضوع التحديد بقدر ما يستثني، من خلال فعل التأكيد نفسه، كلّ ما ليس هو عليه الشيء في ذاتيّته، مستبعداً الصفات الدخيلة والعرضيَّة وكلّ ما لا يصلح اعتباره ملازماً للموضوع، بحيث يستحيل أن ينفكّ عنه تحت طائلة الانحلال الأنطولوجي. من هذا المنطلق الأرسطوطاليسي، دَرَج اعتبار الثبات والديمومة والشموليَّة والتمايز ثوابت عامَّة يقوم عليها مفهوم الهويَّة.

في سوسيولوجيا الأفراد والجماعات، تشكّل الهويَّة، بالاستناد إلى الخلفيَّة الأنطولوجيَّة المذكورة، العامل الموحِّد للشخصيَّة. في الواقع، لم تكن الهويَّة يوماً، من حيث المفهوم، مادّيَّة، حسَّية، ملموسة. إنَّها، على المستوى الاجتماعي، اللّحمة غير المنظورة التي تثبّت الخصوصيَّة من حيث إنَّها وعي وإدراك باطني حميم لهذه الخصوصيّة، أي لكون الذات متمايزة وفريدة. هذا الوعي هو، بالتالي، ما يتيح لصاحبه أن يقول "أنا" أو "نحن"، مؤكّداً بذلك أنَّ تصوّره لذاته قائم أوّلاً على مبدأ الاختلاف ومن ثمّ، انطلاقاً من المبدأ، على تصوُّر للآخر وللمسافة الملازمة للغيريَّة في جميع أشكالها.

الهويَّة على المستوى الاجتماعي هي تلك اللّحمة غير المنظورة التي تثبّت الخصوصيَّة من حيث إنَّها وعي وإدراك باطني حميم

والهويَّة المتأصّلة في الوعي واللّاوعي على السواء هي رابط الانتماء والتجذّر والشراكة الذي يحدّد فضاء العائلة أو الطبقة الاجتماعيَّة أو الجسم المهني أو الحزب أو الوطن. بتعدُّد الفضاءات والمساحات تتعدَّد الهويَّات، لا بل تصير الهويَّة كلّاً مركّباً تتنوَّع صِيغ تركيبته وفقاً لتعدُّد الانتماءات وتقاطعها. في جميع الأحوال تبقى الهويَّة نواةً أنطولوجيَّة صلبة ضامنة لاستمراريَّة صاحبها الوجوديَّة. فرابط الانتماء والتجذّر والشراكة يشمل الماضي والحاضر والمستقبل، لأنَّه، في قلب الخليَّة المجتمعيَّة الصغرى كالعائلة وصولاً إلى المجموعات الكبرى كالشعوب والإثنيَّات، دليل اضطلاع بماضٍ واحد وحاضر واحد ومستقبل واحد. أمَّا الماضي، فلأنَّ الموروث من التجارب والمكتسبات واحد، وأمَّا الحاضر، فلأنَّ المشروع واحد وجهد البناء جامع، وأمَّا المستقبل، فلأنَّ الإرادة واحدة والرؤية جامعة. بناءً عليه، قد يبدو للبعض أنَّ الهويَّة شعار أو تنظير أجوف ليس له غير صلة ضبابيَّة بالواقع يصعب استشفافها وتحديدها. في الحقيقة، إنَّ مقوّمات الهويَّة التي تؤلّف ما نسمّيه خصوصيَّة الفرد أو الجماعة وترسم ملامح الشخصيَّة، تجمع في ذاتها، إلى الثابت في مقابل جميع المتغيّرات، ديناميَّة تتبيَّن في تاريخانيَّتها. أمَّا المقصود بالتاريخانيَّة، فتمظهرات الخصوصيَّة في السياسة والاجتماع والثقافة. من خلال تجلّياتها وتلوُّناتها الأنتروبولوجيَّة والوجوديَّة يتشكّل الرابط المعنويّ معيوشاً، وتنضح الهويَّة من المسامات النفسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة كاللغة والدين والمذاهب الفكريَّة والإيديولوجيّات وصُروح الذاكرة الجَماعيَّة والنصوص التشريعيَّة والسلوكيَّات والقِيَم ونتاج الفكر والفنّ والعلم والأدب والتقاليد والفولكلور والأمثال وغيرها. وتتبلور الهويَّة فعليّاً في بنيتها الديناميَّة التي تطول فضاءات الحياة العامَّة والخاصَّة. إنَّها، لهذا السبب، دائمة التأرجح بين المدارات التي تتجاذبها، ولعلَّ أهمَّها التقليد والحداثة والاستمراريَّة والتجدُّد والانفتاح والتقوقع. فالهويَّة ليست مُعْطىً نهائيّاً جامداً، بل هي، على أساس الثوابت التاريخيَّة التي تشكّلت منها واستمدَّت من مضامينها ملامح ذاتيّتها، في طور بناء دائم وتطوُّر دائم ونموّ دائم. ولا شكَّ أنَّ التحدّي الأكبر في وجه كلّ الهويَّات يكمن في مدى قدرتها على محاكاة العصر والحدث والآخر مع الإبقاء على الخصوصيَّة. يتبيَّن ممَّا سبق كم أنَّ التاريخانيَّة هي، في ما يتعلّق بالهويَّة، أكثر النقاط حساسيَّة. إنَّها سيف ذو حدَّين، لأنَّها مساحة تفاعليَّة شاسعة لجدليَّة مفتوحة بين المُغايِر والذاتي وبين التمايز والتماثل. تاريخانيّتها تنقذ الهويَّةَ من الرّكود عندما تفتح لها نوافذ على مشهديَّات ثقافيَّة جديدة، لكنَّها في الوقت عينه، ومن خلال الآليَّة عينها، ترميها في مهبّ الآخر، ذاك المختلِف المغايِر، وتعرّضها لتأثيرات المناخات الغريبة. ولطالما أثارت مسألة الآخر من خلال ارتباطها الجوهري بمسألة الهويَّة هواجس قابعة في كهوف اللّاوعي والذاكرة الجَماعيَّة، بينما قلَّ الكلام عن الآخر مكمِّلاً للذات، محرّكاً وداعماً لها في ذاتيّتها، حتى باتَ، إذا ما ورد في أوساط نخبويَّة معيّنة، استثنائيَّاً جدّاً.

اهتمَّت الفلسفة بمسألة الغيريَّة وتناولت إشكاليَّة الآخر في بعدها الأنتروبولوجي ابتداءً من عصر النهضة الأوروبيَّة، علماً أنَّ للإغريق في العالم القديم موقفاً معلوماً من "الغريب" ومن موقعه في المدينة. مع عودة الموضوع اليوم إلى واجهة الاهتمامات الكبيرة على ضوء الأحوال العالميَّة الرّاهنة ومستجدّاتها، لا بدَّ أن تستوقفنا محطّات في تاريخ الفكر والحضارات ـ على اختلاف مضامينها وتفاوت المواقف من هذه المضامين ومهما استتبعت هذه الأخيرة من أحكام اخلاقيَّة حول توجُّهاتها عندما يقاربها العقل المعاصر من منظاريَّة حقوق الإنسان ومكتسبات الشعوب ونضالاتها- تشكّل نقاط استدلال لكلّ ساعٍ إلى قراءة التاريخ قراءةً مستنيرة. والقراءة المستنيرة تحيط بسياقات عديدة وتقارن الشبكات الفَساريَّة (herméneutiques) التي تغربل المُعطى النصّي والمادَّة الحضاريَّة لتستبقيَ منها الرّوابط والمعادلات والمنظومات ذات الوقع والأهمّيَّة.

بالعودة إلى موقع "الغريب" عند اليونان والذي ألهم لاحقاً، إلى حدٍّ كبير، المشَرِّع الروماني، فإنَّ المسألة ارتبطت أوَّلاً بمعايير اقتصاديَّة بحتة. أمَّا ارتباطها بالهويَّة والمؤسَّسات، فقد جاء متأخّراً. فالمدن اليونانيَّة بمعظمها مرافئ بحريَّة مشرَّعة على المتوسّط، تستقبل كمّاً هائلاً من المهاجرين والتجَّار والمرتزقة. غير أنَّ الاختلاط الإثني والثقافي ظلَّ حالة اجتماعيَّة من غير أن يُسفر الواقع التعدّدي عن تشريع متقدّم في ما يتعلّق بموضوع "الغريب". جلُّ ما قدَّمته المدينة لبعض الغرباء امتيازات محدودة مقابل خدمات. فكان أن أُتيح لهم دمج محدود، لكنَّ فرص تمثّلهم ظلّت معدومة. فالوعي السياسي للهويَّة والمواطنة بقي مرهوناً بموقف تمييزي يثبّت التفوُّق الحضاري اليوناني. ولعلَّ سعي الرّواقيَّة لنشر مفهوم "المواطنيَّة العالميَّة" (cosmopolitisme) هو المحاولة المجدِّدة اليتيمة في هذا السياق. غير أنَّها لم تقصد من خلاله أنَّ العالَم موطن كلّ إنسان بقدر ما أرادت التأكيد أنَّ الفيلسوف الحكيم قادر على العيش في أيَّة بقعة من بقاع الأرض كمواطن يوناني. إذاً لم يشكّل الأجنبي يوماً عقدة للوعي السياسي اليوناني في العالم القديم الذي نظّم العلاقة به على أساس تمييزي. لحظ اليونان فرقاً على المستوى السياسي بين اليوناني والأجنبي، وعلى المستوى الثقافي بين اليوناني والغريب الذي سمّي بربريّاً[2] (barbare) تأكيداً على استحالة تمثّله ودمجه. قسَّم اليونان العالم إذاً إلى معسكرين هما: اليونان والآخرون. الآخرون: كلّ الآخرين برابرة لأنَّهم غرباء. وأمَّا نوعيَّة التعاطي معهم، فمتفاوتة بتفاوت وزنهم العسكري والاقتصادي. ثقافيّاً، حظي الآخَر المختلِف بنوع من الفضول المتعاطف، لكنَّ الفوقيَّة اليونانيَّة حالت دون التلاقح الثقافي العميق وقطعت الطريق على إمكانيَّة فوزه بموقع سياسي في المدينة وتثبيته في صيغة قانونيَّة. عموماً لا يصحُّ الكلام عن عنصريَّة يونانيَّة، لأنَّ اليونان القدماء، وإن استبْقوا الأجانب في موقع دون المواطنيَّة حرصاً منهم على الهويَّة، فإنَّهم نجحوا إلى حدٍّ بعيد في خلق مناخ تعدُّدي فريد في قلب المدينة.

الهويَّة كلّاً مركّباً تتنوَّع صِيغ تركيبته وفقاً لتعدُّد الانتماءات وتقاطعها

مع إشراق النّهضة وخوض أوروبا فتوحات سياسيَّة وثقافيَّة شرَّعت أمامها أبواب عوالم جديدة، وقف الإنسان الأوروبي وجهاً لوجه أمام الآخر في دهشة وارتباك. إنَّ اقتناع العقل الأوروبي بتفوُّق الثقافة الأوروبيَّة غذَّى الفوقيَّة التي تعامل بها مع الآخر، واستثار تساؤلات حول إنسانيَّة هذا الآخر ومستوياتها المحتمَلَة. من التساؤلات الرائجة آنذاك تلك التي دارت حول وجود (أو عدم وجود) عقل ونفس وروح لدى الإنسان من الشعوب الأصيلة، إلى التشكيك في إنسانيَّة الآخر، ارتفعت أصوات مغايرة في خضمّ الفورة الاستعماريَّة، أو مذ لاحت بوادرها، لتصوغ خطاباً إنسانويَّاً نقديَّاً تقدّميَّاً جريئاً. كان مونتاني (Montaigne) رائداً عندما كتب (1580) في نسبيَّة الأحكام حول ثقافة الآخر قائلاً: "كلٌّ يَتَّهِم بالهمجيَّة ما لم يعهده"[3]. في المجال نفسه، يحاول مونتسكيو (Montesquieu) أن يقارب، تحت غلاف الفكاهة اللطيفة، احتكاك الثقافات المتبايِنة واختبار الغربة والاستغراب والتغرُّب من خلال أسفار وسياحة فارسيّين من أصفهان في رحاب باريس. فجاءت "الرسائل الفارسيَّة"[4] (1721) لتزعزع الكثير من اليقينيَّات الثقافيَّة الرّاسخة وتدافع عن مبدأ نسبيَّة الثقافات.

اهتمَّ مفكّرو الأنوار بموضوع التسامح[5]، واستفاضوا في الكتابة حوله مستمدّين الإشكاليَّة من التحدّي الذي فرضه العالم الجديد على العقل الأوروبي. ومع انطلاقة علم الاجتماع خلال القرن التاسع عشر عِلماً مستقلاًّ له حقله ومنهجيَّته، تعاظم الحيّز الذي احتلّته هذه المواضيع بين أولويَّات البحث.

لكنَّ المعادلة العابرة للمواضيع ظلّت جدليَّة الأنا والآخر. توصيف العلاقة بالجدليَّة يستبعد الترتيب الكرونولوجي وثنائيَّة العلّة والنتيجة. فالجدليَّة هنا تستتبع حركة فَساريَّة دائريَّة تشبه لعبة المرايا. ذلك أنَّ وعي الذات لذاتها، لأنَّه يقترن لا محالة بوعيها لغير ذاتها، قائم على الغيريَّة ومتزامن مع تصوُّر الأنا للآخر. في المقابل، إنَّ إدراك الآخر يبقى مرهوناً بإدراك الذات. تزامن الإضاءات وتكاملها بين الذاتيَّة والغيريَّة اتَّخذ له في تاريخ الفكر منحيين رئيسين: الأوَّل يقول إنَّ الاختلاف مولّد للخلاف، فالعلاقة بالآخر نزاعيَّة لا مكان فيها للعيش معاً وديمومة الواحد من أطرافها لا تكتمل إلّا على حساب الطرف الثاني. بهذا يكون وجوب الإلغاء حاجة أنطولوجيَّة، وأمَّا تلوُّناته التاريخيَّة فمرهونة بالتعيّنات الطارئة. في هذا الإطار، تطالعنا فلسفات قد لا تبدو للوهلة الأولى ذات صلة، نظراً لظروف نشأتها وللمناخات التي مهَّدت لها لكنها، في الحقيقة، من حيث جوهر مضامينها، تفترش جميعها المبدأ النزاعي أرضيَّة مشتركة وتبني على أساسه رؤيتها في الدولة والحكم والتاريخ: البراغماتيَّة السياسيَّة لدى هوبس (Hobbes) ومكيافيللي (Machiavel) مثلاً أو قراءة هيغل (Hegel) للصيرورة التاريخيَّة وللنحو الذي تتعاقب فيها عليه الطريحة ونقيضتها أو مقاربته للرّهانات المتحكّمة بموازين القوى في جدليَّة العبد والسيّد. في الخانة عينها يندرج تبنّي ماركس (Marx) للنظريَّة الهيغيليَّة وتوظيفه لها في المشهديَّة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة وتأكيده على صلاحيَّتها العابرة للمجتمعات والثقافات في ما يتخطّى الزمن الرّاهن ليجعل من صراع الطبقات محرّك التاريخ الأوَّل.

على مستوى آخر، شهد قرن هيغل وماركس ولادة منظومات فكريَّة عنصريَّة تغذَّت من خلاصات البحوث التي قامت بها البعثات الأنتروبولوجيَّة لتنسج منها إيديولوجيَّات عنصريَّة عرقيَّة ليس أقلّها كتاب غوبينو (Gobineau) حول تفاوت الأعراق البشريَّة[6]. حلم القرن التاسع عشر بالنقاء العرقي، وقال بهرميَّة الإثنيَّات؛ فصنَّف البشر والثقافات تصنيفاً تدرَّج من أدراك البدائيَّة حتى ذرى الرّقي، بناءً على معطيات بيولوجيَّة وجينيَّة. هذا الفكر سوف يفرز في القرن التالي العنصريَّة الفاشيَّة المتفاقمة في الهذيان النازي وتعاطيه مع الهويَّات غير الآريَّة. أمَّا الطرح الأقرب إلينا زمنيّاً، فذاك الوارد عند هنتنغتون (Huntington) الذي يؤكّد أنَّ المنظومة العالميَّة الجديدة قائمة على توازنات وتجاذبات الهويَّات الثقافيَّة وتشكّل تكتّلات ثقافيَّة حول دول-منارات، ليخلص إلى أنَّ الغرب، إذا ما أراد البقاء، وجب عليه إثبات وتثبيت خصوصيّته الثقافيَّة في وجه الهويَّات القويَّة التي تهدّده في كيانه وأخطرها الصين والإسلام[7]. بناء الهويَّة وتحصينها يقتضي ابتداع أعداء، إذ لا يمكن أن تحبَّ ما أنت عليه، إن لم تكره ما لست عليه.

يجمع المنحى الثاني الفلسفات التي اعتمدت وجه الآخر وحضوره رافعةً لارتقاء الأنا في الإنسانيَّة وشرطاً من شروط اكتمال الذات في بعدها العلائقي، كما هي الحال لدى لفيناس (Lévinas)وبوبر (Buber) وفي كلّ الشخصانيَّات من مونيه (Mounier) إلى نيدونسيل (Nédoncelle) مروراً بمارسيل (Marcel). وفي امتداد الخطّ الفكري المتحدّر مباشرة من ميشال هنري (Michel Henry) وجان-لوك ماريون (Jean-Luc Marion)، يميّز إيمانويل هوسّي (Emmanuel Housset) بين ذاتيّتين: الأولى تنأى بنفسها عن كلّ مغايِر، شبّهها بالجزيرة، لأنَّها حريصة على المسافة التي تفصل على الثنائيَّة التقليديَّة بين الخارج والداخل، الغريب والحميم، الآخر والأنا، وعلى المواجهة بينهما واستحالة تخطّيها. والثانية تعتبر الغيريَّة ملازِمة للخصوصيَّة في ديناميَّة تفاعل لا تتوقف، حتى ليصحَّ فيها القول إنَّ الدخول إلى الذات لا ينفصل عن الخروج إلى الآخر. عموماً يندر أن نجد على أرض الواقع ترسيمات للحراك الثقافي لدى الشعوب والجماعات تابع لنمط واحد دون الآخر. فعلاقة الهويَّات الثقافيَّة ببعضها بعضاً أشبه بمدٍّ وجزر وأفعال وردّات فعل تتدرَّج من التلاقح السّلمي حتى المواجهة الحادَّة. وتتمظهر استراتيجيَّات الحراك الثقافي في ديناميّتين: تطبيعيَّة ودفاعيَّة، والثانية عادةً جواب على الأولى. في جميع الأحوال، فإنَّ الواقع الذي تفرزه استراتيجيَّات الهويَّات الثقافيَّة مرآة لسياسات الحكومات والدول، يخدم مصالحها الاقتصاديَّة والعسكريَّة، ويخضع لمقصديَّات مبطّنة تتوسّل الثقافة لمآرب غير ثقافيَّة.

إنَّ تداخل الهويَّات السياسيَّة والهويَّات الثقافيَّة، لا من حيث طبيعتها بل من حيث تقاطعها الظرفي، يجعل التموقع في الواقعيَّة السياسيَّة البحتة أو في الطوباويَّة الشخصانيَّة البحتة غير ممكن، لأنَّ حراكها رهن بمخطّطات هجينة تجمع، إلى المشروع السياسي، موقفاً موجباً من ثقافة الآخر. وكما أنَّ الواقع الميداني مركّب، يفرزه تضافر عوامل شتّى، كذلك فإنَّ صورة الآخر في خصوصيّته الثقافيَّة مركّبة. سلّط إدوارد سعيد (Edouard Saïd) الضوء على هذه الناحية عندما كتب في مقدّمة "الاستشراق" أنَّ الآخر هو فكرة الآخر. فمحدوديَّة قدرتنا على التلبّس والتقمّص (empathie) تكرّس إبستمولوجيا الآخر مزيجاً من معنيين: جامعي وتخييلي.

من شأن تداخل المعاني وتفاوت مستويات المقاربة والإدراك أن يحثّا الجماعات على مضاعفة الجهود لتبيان وجهها الثقافي في حلّة متمايزة. التمايز هو العلامة الفارقة للفرادة الثقافيَّة، يكرّس منظوريَّة الجماعة في الفضاء العام. وبقدر ما يزداد تمايزها الثقافي بقدر ما تعظم منظوريَّتها ويكبر حضورها لتغدو لاعباً سياسيّاً لا يجوز استثناء دوره وتأثيره. منظوريَّة الثقافات تحول دون تجاهلها وتلجم إلى حدٍّ ما وقاحة قمعها وشراسته. صحيح أنَّ آليّة القمع ليست ثقافيَّة في جوهرها، وهي بالتالي قادرة بالضغط والترهيب، إذا ما توفّرت أدواتهما، أن تبيد ثقافة، لا لتفوّقٍ نوعيّ بل لتفوّقٍ في الوسائل. لكنْ صحيح أيضاً أنَّ الثقافات تتنفّس حريَّة. فغريزة البقاء المتأصّلة فيها تأبى الترويض والتدجين، وتغذّي الانتفاضات المقاوِمَة لخطط الافتراس كالتهميش والامتصاص والتذويب والابتلاع. يقظة الثقافات، بغضّ النظر عن رصيدها العددي، هي مبدئيّاً من إفرازات فوبيا الموت الثقافي.

الموت الثقافي أفظع أشكال الزّوال. لا تندثر حضارة لنقص في الموارد الماديَّة، لكنَّها تتلاشى عندما يأفل وهجها وتذوي خصوصيّتها بفعل تعيّنات خارجيَّة صادرة عن ثقافات أخرى، أو داخليَّة ناتجة عن تقاعس في الحفاظ على الموروث. الحرص على الخصوصيَّة أولويَّة الأولويَّات بالنسبة إلى كلّ الثقافات. يستثير الهمم للحفاظ على نهج عيش بما يتضمَّنه هذا الأخير من رؤية للذات والآخر والكون وما تستتبعه الرؤية من سنن اجتماعيَّة ومقاييس للخير والجمال، ويحفز لهذه الغاية على إقامة المحميَّات الثقافيّة كمجال حيويّ وبيئة حاضنة للخصوصيَّة. الواحات الثقافيَّة متعدّدة الأشكال: أحياء مغروسة في قلب المساحات المُدُنيَّة كالـ: (Bronx وChinatown وLittle Italy) في حواضر أميركا الشماليَّة. واحات عربيَّة في شمال وجنوب القارّة، لاسيَّما تلك التي ولّدتها الهجرة الفلسطينيَّة واللّبنانيَّة والسّوريَّة. هذه الأماكن مهد استقرار وتجذّر جديدَيْن. يتنشّق فيها أهلها هواءً وهوىً في آن واحد. فيها ما يخاطب الحواسّ والعاطفة من روائح وطعم ونغم وألوان. لكنَّ اللّغة تبقى دون ريب أهمَّ حامل وناقل للثقافة. وليس من باب المصادفة أن تعيرها الجماعات اهتماماً خاصّاً فتدأب على تعليمها وتعلّمها واستعمالها. إنَّ الثقافات التي اختبرت مأساة المنفى والاقتلاع من تربتها هي عادةً الأكثر تعلّقاً بلغتها وأشدّها غيرة على نقائها، لأنَّها ترى فيها خشبة خلاص تحول دون غرقها في لجَّة الزوال التدريجي. وقد نجحت ثقافات عديدة في الحفاظ على لغاتها لا سَّيما في أوساط الشتات كاليهود والأرمن والأكراد، فأسَّست المدارس والصحف والإذاعات ونشطت من خلالها في صون خصوصيَّتها وتراثها. في القرن التاسع عشر قاوم العرب حركة التتريك بدفاع شرس عن لغة الضاد صَدَّ الحركة الجارفة بحركة مقابِلة مهّدت لنهضة فكريَّة كبيرة. كيف يقاوم العرب اليوم تهويد فلسطين؟

لا تندثر حضارة لنقص في الموارد الماديَّة، لكنَّها تتلاشى عندما يأفل وهجها وتذوي خصوصيّتها

على مستوى آخر، يشير تنامي الحركات الاستقلاليَّة إلى قلق وجودي لثقافات طفح كيلُها من تضييق الخناق حول عنقها عبر الإمعان في تطبيعها داخل كيانات سياسيَّة حياديَّة مصطَنَعَة. ظاهرة عودة القوميَّات مؤشّر كمّي ونوعي لوصف هذه الحالة. فما من أسبوع ينقضي إلّا ويطالعنا خبر متعلّق بحركة استقلاليَّة، هنا أو هناك، داعية إلى خلق كيان سياسي يشهر تمايزه الثقافي في وجه العالم. ولا يظنَّن أحد أنَّ الأمر وقف على البلدان النامية. من الملفت أنَّه يقضّ أركان الدول المتقدّمة. في القارة الأوروبيَّة وحدها عشرات الحركات الاستقلاليَّة، نذكر منها تلك التي في كورسيكا وبلاد الباسك وشمال إيطاليا، وأخيراً، وربَّما ليس آخِراً، في كاتالونيا[8].

المفارقة هي أنَّ مفتعلي سياسات تدجين الثقافات يدَّعون أيضاً أنَّهم في موقع الدفاع عن خصوصيّتهم في وجه المدّ الجارف الذي يحاصرهم ثقافيَّاً من جرَّاء الحراك الديمغرافي وموجات النزوح والهجرة الحاملة إليهم من الأعراف والتقاليد والقيم ما لا يتجانس مع موروثاتهم الثقافيَّة. من عوارض هذا المأزق الثقافي طفرة اليمين المتطرّف في بلدان عديدة كألمانيا وبولندا وقدرة قاعدتها على حمل مرّشّحيها إلى سدَّة الحكم كما حصل مؤخّراً في النمسا. الملحوظ أنَّ التعدّديَّة الثقافيَّة في المجتمعات الفسيفسائيَّة تفرز اليوم جماعات مُحبَطَة، مطعونة في خصوصيَّتها الثقافيَّة، ترفع قهرها جرحاً مفتوحاً على الملأ. حذارِ من الهويَّات المجروحة، فوجعها يتخثّر جيوب عنف.

كتب فييفيوركا (Wieviorka) في "العنف": إنَّ أزمة الثقافات في كلّ زمن تولّد عنفاً ظرفيَّاً ناتجاً عن عجز الثقافات عن إثبات خصوصيَّتها والفوز باعتراف الآخرين بها[9]. إنَّ الحاجة إلى كسب الاعتراف بالخصوصيَّة حيويَّة بالنسبة إلى كيان راغب بالاستمراريَّة، لا يعتقد فييفيوركا أنَّ ثقافات معيَّنة تتآلف طبيعيّاً مع العنف حتى عندما يبدو أنَّ بعض مقوّماتها تنزع إليه. فالثقافات ليست عنيفة في ذاتها، بل إنَّ تقاطع الـ(ethos) الثقافي والأداء العنفي آنيّ، لأنَّه انفعالي تجاه فعل الانتقاص من خصوصيَّته، أو ما يُظَنُّ أنَّه كذلك.

لكنْ ثمَّة عنف ملازم للتعاطي مع التمايز الثقافي يتجلّى في انزلاق العنصريَّة نحو الاضطهاد. فعوض أن يتشظّى العنف حيالَه في الفضاء العام يتبلور حول كبش فداء (bouc émissaire) هو الضحيَّة المثلى، لا لأنَّه مختلف في ذاته، بل لأنَّ اختلافه يفضح هشاشة المنظومة الثقافيَّة المحلّيَّة القائمة ويجبر على مراجعة بعض مقوّماتها. لتغليف هذا الضعف ولتحويل الأنظار عنه، ينكبُّ العنف على الضحيَّة لتدفع، بحجَّة اختلافها، ثمن معطوبيَّة المنظومة السائدة. يؤكّد رينيه جيرار (René Girard) أنَّ نظريَّة كبش الفداء قاعدة أنتروبولوجيَّة، لكنَّها ليست برهاناً على ارتباط الثقافات العضوي بالعنف، بقدر ما هي محاولة لتفريغ العنف على فرد أو مجموعة يصار إلى إقصائه خارج الأسوار لتطهير المكان أو المجتمع، على أن يكون الإقصاء جغرافيَّاً أو رمزيَّاً أو الاثنين معاً.

من مظاهر العنف الظّرفي للثقافات ثورة المستعمَر على المستعمِر. إنَّها نتيجة التناقض الذي ينهش وجدان المستعمَر. قال ميمّي (Memmi): إنَّ المستعمَر يصبو إلى التمثّل بالمستعمِر، حتى لو كلّفته رغبتُه غربةً عن الذات. لكنَّ الغربة تؤدّي إلى شعور بالخيانة، وخجل من هذا الشعور. رغم ذلك يجهد في التمثّل، لكنَّ تعرُّضه للتهكّم وتفشيله من قبل المستعمر يرميانه في عدميَّة وجوديَّة مأساويَّة، في مساحة لا ثقافيَّة خارج ثقافته الأصليَّة التي طلّقها وخارج ثقافة الآخر التي لم يفلح في ولوجها. عندئذ ينقلب إعجابه بثقافة الآخر كرهاً وشحناً لمحاربتها.

ثمَّة عنف ملازم للتعاطي مع التمايز الثقافي يتجلّى في انزلاق العنصريَّة نحو الاضطهاد

تظهر غالبيَّة التبيانات الثقافيَّة أنَّ العامل الأكثر رواجاً الذي يتحكَّم بالـ (ethos) الثقافي هو الخوف. الخوف من الاختلاف والتنعُّم بالكسل أو الترف الوجودي الذي يوفّره المألوف. من هنا الحاجة إلى ترسيم حدود إقليمها الثقافي حيويَّة بالنسبة إلى الجماعة، لأنَّها تشكّل خطًّاً دفاعيَّاً متقدّماً يقي عواقب الاسترسابات الدخيلة، ويحفظ حدّاً أدنى من النقاء والديمومة.

مع ظهور الثقافة الرّقميَّة ببنيتها الشّبكيَّة المِجَسّيَّة، سقطت الحدود الثقافيَّة فاستبشر الكثيرون خيراً، إذ رأوا في شموليَّة التواصل أسساً لإنسانويَّة جديدة. لكنَّ الثقافة الشبكيَّة مصدِّرة لنموذج ثقافي كونيّ، منمَّط، مسطِّح للخصوصيَّات، والتواصل الثقافي مبيد للثقافات. من ارتداداته أنَّه، عكس المتوقَّع، لا يزيل الحواجز بين الناس، على العكس، لقد تضاعفت في العقود الأخيرة الحواجز المعنويَّة، وأحياناً المادّيَّة، بين الشعوب بحيث لم يسبق أن شهدنا، مثلما نشهد اليوم، هذا الكمّ من الخوف المتمظهر انكماشاً وتقوقعاً. يحسن التساؤل هنا حول ما إذا كانت الحدود الثقافيَّة هي حقّاً المشكلة، أم أنَّ المشكلة في غياب الحدود ومحْوها. يعتقد ريجيس دوبراي (Régis Debray) أنَّ رمزيَّة الحدود قويَّة جدَّاً وملازمة لكلّ الثقافات. لكلّ ثقافة دارها وحديقتها وسياجها. أمَّا ادّعاء الشّبكات الرقميَّة، بالمعلومات التي تنقلها والواقع الافتراضي الذي تسوّقه، أنَّها تفرز ثقافة، فباطل. الثقافات فضاءات نسكُنُها بينما الفضاء الرّقمي مجرَّد فضاء عبور. والإنسان لا يعبر الثقافة بل يتأصَّل فيها. حاجته الأنطولوجيَّة للانتماء تستتبع أن يكون له أرض وبيت. الثقافة بيت الإنسان. الشّبكات الرقميَّة لا تمدّه بثقافة، لأنَّ الشبكة تطول الكون بتمدّدٍ يتعاظم على حساب العمق والخصوصيَّة. ومن دون عمق لا تأصّل ممكناً. الثقافة الرقميَّة هي إذاً انتكاس ثقافي. إنَّها لا ثقافة. أمَّا حدود الفضاءات الثقافيَّة، فإنَّها كالدواء: في الوقت عينه، سمّ وعلاج. الأمر يتوقّف على المعايرة. إنَّها، على مستوى الجماعات والدول، حكمة التعاطي مع الاختلاف وحوكمة التعدّدية الثقافيَّة. وهي لعبة توازن ذكي بين تطرُّفين: وضعيَّة الانكماش المرضيّ ووضعيَّة الانفلاش الساذج.

إذا سلّمنا أنَّ جميع الثقافات مُختَلَطة وهجينة، وأنَّ هويّاتنا الثقافيَّة، على فرادتها، هي في الواقع دائماً حاصِلة روافد ثقافيَّة متنوّعة[10]، ثبُت أنَّ الثقافات حيَّة؛ تنمو وتتغذّى وتتنفّس وتمرض وتموت. فلنتركها تتنفّس. في ذلك سرُّ شبابها ومفتاح صحَّتها وديمومتها. تموت الثقافات عندما تستسلم للخوف. خوفها من الآخر يقتلها. كذلك إفراطها في الحماية الذاتيَّة. يُفهَم الكلام على الهويَّات القاتلة عادةً أنَّه كلام على ثقافات تقتل غيرها. الخطيئة العظمى هي أن تكون الهويَّات الثقافيَّة قاتلةً لنفسها. من عوارض الثقافات الانتحاريَّة، الخوف المتمظهر في الخطاب والـ(ethos) أصوليَّةً وعصبيَّات. لكنَّ الخوف ليس قَدَر الهويَّات الثقافيَّة. يكفي أن نتذكّر، على سبيل المثال لا الحصر، تجربتين ثقافيّتين، تفاعليّتين، حواريتين بامتياز، مشرِّفتين للإنسان: الحالة المتوسّطيَّة والحالة الأندلسيَّة.

كيف تخرج الهويَّات الثقافيَّة من دائرة الخوف وتبدّد الإسقاطات التي تحجب عنها الآخر في إنسانيَّته؟

كيف توظّف الديمقراطيَّات رصيدها التاريخي، بحروبه وسِلْمه، لتبدّد الإسقاطات التي تحجب الآخر في إنسانيَّته؟

كيف توظّف الأديان رصيدها الرّوحي، بِشكوكِه ويقينه، لتبدّد الإسقاطات التي تحجب الآخر في إنسانيَّته؟

كيف توظّف الإنسانيَّات رصيدها الإبستمولوجي، بأخطائه وإنجازاته، لتبدّد الإسقاطات التي تحجب الآخر في إنسانيَّته؟

الخوف يوصِد الأبواب ويحوّل الثقافة-البيت حصناً سميك الجدران وسجناً يموت فيه أهله اختناقاً. وهو يكاد يُنسينا أنَّ حيطان البيوت، في الأساس، أُطُرٌ جميلة للنوافذ والشّرفات.

 

مراجع مختارة

- Baslez Marie-Françoise, L’étranger dans la Grèce antique, Realia/Les Belles Lettres, Paris, 2008

- Camilleri Carmel (e.a), Les stratégies identitaires, PUF, Paris, 2007

- Debray Régis, Éloge des frontières, Gallimard, Paris, 2010

- Girard René, Le bouc émissaire, Biblio essais, Paris, 1999

- Housset Emmanuel, L’intériorité d’exil. Le soi au risque de l’altérité, Cerf, Paris, 2008

- Huntington Samuel, Le choc des civilisations, Odile Jacob, Paris, 1997.

- Maalouf Amin, Les identités meurtrières, Livre de Poche, Paris, 2016.

- Memmi Albert, Portrait du colonisé. Portrait du colonisateur, Folio Actuel, Paris, 2016.

- Todorov Tsvetan, La peur des barbares. Au-delà du choc des civilisations, Biblio essais, Paris, 2015.

- Wieviorka Michel, La violence, Hachette Littératures, Paris, 2005.

ـ سعيد إدوارد، الاستشراق، المعرفة، السّلطة، الإنشاء، مؤسّسة الأبحاث العربيَّة، بيروت، 1995.

[1] نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 12

[2]- المفردة من حيث أصلها اللغوي تعني "الغريب" ولا تتضمَّن أحكاماً تقويميَّة. فاللاتينيَّة (barbarus) مشتقّة من اليونانيَّة (barbarous) وهي حاكية صوتيّة من شأنها الإشارة إلى غرابة وصعوبة الإدراك السمعي للغات الأجانب وطريقة تواصلهم. وأمَّا دلالاتها المتعلّقة بالبدائيَّة والجهل فناتجة عن استيلاء لاحق على المفهوم، وهي بالتالي غائبة تماماً عن المقصديَّة اليونانيَّة.

[3]. Montaigne Michel (de), Essais, I, XXXI. «Chacun appelle barbarie ce qui n’est pas de son usage».

[4]. Montesquieu, Lettres persanes, Livre de Poche, Paris, 1972.

[5]- راجع:

Locke John, Lettre sur la tolérance, 1689.

Voltaire, Traité sur la tolérance, 1763.

[6]. Gobineau, Joseph Arthur (de), Essai sur l’inégalité des races humaines, 1853.

[7]- راجع القسم الأوّل، الفصل الأوّل من:

Huntington Samuel, Le choc des civilisations, Odile Jacob, Paris, 1997.

[8]- البحث لا يقدّم مسحاً لكافّة المشكلات الثقافيَّة الناتجة عن اضطهاد الخصوصيَّات الثقافية. هناك بالطبع ما يستحقّ التوقّف عنده مطوّلاً كالخصوصيّة الغجريَّة في شرق ووسط أوروبا وخصوصيّة الهنود الأصليين في أميركا والإنويت في القطب الشمالي، ممَّن غدوا ضحيَّة الغيتوهات والإبادة الثقافيَّة. لكنَّ معالجتها تتخطّى حدود هذه المقالة.

[9]. Wieviorka Michel, La violence, Hachette Littératures, Paris, 2005, 192-193.

[10]. Todorov Tsvetan, La peur des barbares. Au-delà du choc des civilisations, Biblio essais, Paris, 2015, 99.