الأثيناوم: بورتريه للفلسفة الرومانسية الألمانية ترجمة لفصل «L’Athenaeum» من كتاب Entretien Infini لموريس بلانشو .

فئة :  ترجمات

الأثيناوم: بورتريه للفلسفة الرومانسية الألمانية ترجمة لفصل «L’Athenaeum» من كتاب Entretien Infini لموريس بلانشو .

الأثيناوم: بورتريه للفلسفة الرومانسية الألمانية

ترجمة لفصل «L’Athenaeum» من كتاب Entretien Infini لموريس بلانشو[1].

تحت إشراف: د. محمد البوغالي

جامعة القاضي عياض، مراكش

لقد كان رهان الحركة الرومانسية في ألمانيا - وفي فرنسا كذلك لكن بدرجة أقل- رهانًا سياسيًّا بالدرجة الأولى، وقد آلت النزعتان في فرنسا وألمانيا إلى مآلات متباينة ومتمايزة: فقد احتضنتها الأنظمة الأكثر رجعية، ومن بينها نظام فردريش-غيوم الرابع عام 1840، كما كانت أكثر نظرية أدبية انتشارًا بعدها إبان النازية، قبل أن يتم تأويلها مرات عدة خاصة من طرف ريكاردا هوخ ودلتاي بوصفها نداء إلى التجديد.

سيصدر جورج لوكاش قراره القطعي والقاسي في ذات الوقت باعتبار الرومنسية حركة رجعية وظلامية؛ وذلك بعد الحرب العالمية الثانية، ووحده هوفمان سيستثنى من هذا الحكم الجائر الذي كان كارل ماركس يقدره.

المثير للاهتمام هنا هو أن هذه العداوة الواضحة لا تلمس في فرنسا إلا لدى النقاد الذين ينتمون إلى اليمين المتطرف، هؤلاء سيعادون الرومنسية لسببين: أولا فقط لأنها رومنسية، ثم ثانيا لأنها ألمانية؛ وذلك بفعل أن اللاعقلاني يمثل تهديدا لنظام الأشياء، بينما ينظر إلى العقل بوصفه قيمة تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، كما يفترض في المقابل أن البربرية تأتي دومًا من الشمال.

على عكس اليمين المتطرف، سيجد السرياليون الفرنسيون أنفسهم في تماهٍ تام مع أساطين الشعر الرومنسي؛ إذ اعتبروا أعمالهم صدى لما اكتشفوه لتوهم بأنفسهم، ألا وهو أن الشعر قوة تحرر مطلقة.

من جهة أخرى وبعد مدة قصيرة، أدت أبحاث بعض المتخصصين في الدراسات الألمانية في فرنسا أمثال ألبير بيغان ومنشورات كراسات الجنوب، إضافة إلى الأبحاث عن أعمال الشباب الخاصة بكل من هيغل وماركس، دون أن ننسى تأملات هنري لوفيفر الذي كانت غايته دوما هي تحرير النبع الرومانسي الكامن في الماركسية، قلت أدت كل هذه المنابع والروافد الفلسفية إلى تعميق معرفتنا بهذا التيار الفلسفي، حتى إنه قد أزهر انطلاقا منه إحساس جديد بالفن والأدب، والذي سيمهد لتحولات من نوع آخر، تتجه كلها إلى رفض الأشكال التقليدية لتشكيل السياسة والشأن الاجتماعي وتنظيمهما.

هكذا إذن، إذا كانت الرومنسية في ألمانيا غامضة، فإنها في فرنسا ونظرا إلى أنها وافدة من ألمانيا قد لعبت أدوارا نقدية؛ وذلك نظرا لكونها تنطوي في باطنها على نزعة رفض جذرية، وكأننا بالليل - الذي لا أوهام فيه ولا راحة بال، لا يخلو كذلك من أنوار السخرية الناقدة والإغراء – فيأخذ بذلك مكان عصر الأنوار l’Aufklärung. هذه الأنوار سيرتقي بها رجال ذوي حس مرهف عال من أمثال لسينغ هم أقرب إلى شكسبير منه إلى فولتير، فجر ذات أزمة إلى منزلة فوق أدبهم الذي لم يكن قد ولد في الأصل بعد.

لقد كان خيارا عن وعي وبقصد محدد، حيث أتى بعد قرار ينطلق من أن بعض السمات ثانوية وغير ذات أهمية، في حين أنه هنالك خصائص قليلة وحدها الأصيلة: فغدا الاهتمام بالدين عرضيًّا. أما التوق إلى التمرد فعلى العكس من ذلك صار جوهريًّا وأساسيًّا، وكذلك سيصير الانهمام بالماضي ثانويا، بينما ستعتبر أمور أخرى من قبيل رفض التقاليد، الدعوة إلى التحديث، كما الوعي بالحداثة عناصر مصيرية وحاسمة. وسينظر كذلك إلى النزعة القومية على أنها محض نزوة عابرة. أما الذاتية القحة التي لا وطن يسعها، فستعد خصلة محددة.

أما حينما يتم الوقوف على أن كل هذه الصفات والخصائص المتضاربة بقدر متساو، فإن الصوت الغالب آنذاك ليس هو الدلالة الإيديولوجية لكل واحدة منها على حدة، إنما التعارض في حد ذاته هو ما تكون له الغلبة، لتنتصر الحاجة إلى التناقض die Geteilthei، الانشطار، التمزق، والانقسام، الأمر الذي سيدعوه برنتانو "الإنقسامية"، وعلى هذا النحو سينظر دوما إلى الرومنسية على أنها تجربة التناقض والتمزق بامتياز، بل ستتأكد ماهيتها كنزوع نحو الفوضى، ما سيرى فيه البعض تهديدًا، والبعض الآخر وعدا، أو على الأقل تهديدا عقيما أو وعدا لم يوف به بالنسبة إلى الآخرين.

إن تفاوت زوايا النظر إلى الرومنسية يتضح أكثر فأكثر بمجرد أن نحاول تعريفها، هل نحددها انطلاقا من مبادئها الأولية، أم إن تعريفها يقتضي استحضار نتائجها اللاحقة؟ متى تبدأ الرومنسية الألمانية ومتى تنتهي؟

يجسد فرديك شليغل الرمز الحي لكل هذه التجاذبات والتقلبات، فقد كان الرجل في شبابه ملحدا، جذريا، فردانيا، مناضلا صنديدا عن الحرية الفكرية، وطاقة في غاية الذكاء والفطنة، إضافة إلى خيال لا ينضب يبتكر صاحبه كل يوم مفاهيم جديدة، لا من باب التعالم الفارغ، إنما من منطلق توتر دائم ناجم عن وعي يسعى كل يوم إلى فهم كل ما يلامسه، هذا الرجل كان قد فاجأ غوته نفسه ذات يوم؛ إذ شعر بضحالة موهبته في حضرته، أحس فجأة أنه أقل ذكاء وعلما، وأقل حرية من أولئك اللذين سيدعوهم فيلاند بـ "السيرافيم المتغطرسين"، بل وقد كان في غاية الامتنان لمجرد أنهم قد شرفوه باهتمامهم به.

تمضي السنون، فنجد أن شليغل قد تحول إلى الديانة الكاثوليكية، كما سيشتغل صحفيا ودبلوماسيا رهن إشارة مترنيخ، حوله الرهبان وذوي الامتيازات من الأرستقراطيين المتدينين، فغدا هو نفسه مجرد بورجوازي سمين، ناعم الكلام، متكاسل، وفارغ، حتى أنه لم يعد يقوى على تذكر ذلك الشاب الذي كتب ذات مرة: "ليس هناك قانون مطلق سوى التالي: تنتصر الروح الحرة دائما وأبدا على الطبيعة."

فأين هو يا ترى شليغل الحقيقي: هل شليغل الأخير هو نفسه شليغل الشاب؟ هل يمكن للنضال ضد البورجوازية أن ينتج بورجوازيا متحمسا أولا، ثم مرهفا لاحقا، ليصير في النهاية مجرد بورجوازي يمجد من جديد البورجوازية؟ أين هي الفلسفة الرومنسية إذن في كل هذا؟ أفي البدايات في مدينة يينا حيث انطلقت واعدة بالمشاريع؟ أم في فيينا، حيث ارتمت مترنحة في أحضان النظام؟ أهناك حيث يخبو فقيرا بلا أعمال؟ أم هناك حيث يبدو كما يقول شلينغ سيدا لإنتاجية لا شيء يقيدها؟ أيكون قد اكتشف أن القدرة السامية على الإبداع لم تنتج تقريبا أي شيء؛ لأنها ترفض أصلا أي نوع من القيود؟ وأن القوة الخالصة للإبداع لم تعد كذلك، ولم تنتج مع ذلك شيئا ذا قيمة؟

ينقلب كل شيء من جديد، فصحيح أن الرومنسية تنتهي دوما على نحو سيء؛ وذلك راجع لكونها في جوهرها وماهيتها ما يبدأ، وما لا يمكن إلا أن ينتهي على نحو سيء، إما على شكل انتحار، جنون، انحدار، أو نسيان، ومما لا شك فيه أن الرومنسية تكون كثيرا بلا أعمال؛ وذلك راجع إلى كونها العمل المتمثل في غياب العمل. إنها الشعر وهو يعلن نفسه في نقاء الفعل الشعري، لكنه إعلان لا ديمومة له، وحرية لا تتحقق، وقوة سموها في اختفائها، لا يمكن أن تهان لأنها ببساطة لا أثر لها، وقد كان هذا هدفها: إنارة الشعر لا بوصفها طبيعة أو بوصفه عملا، لكن فقط لكونه وعيا خالصا في لحظة خاطفة.

يفشل الكاتب الرومنسي – كما هو واضح- مرتين: فهو ينجح أولا في التلاشي بشكل تام، حتى إن لوكاش قد أشار إلى أن الأدب الألماني من الحقبة الممتدة من غوته إلى هاينريش هاينه قد ظل فارغا، اللهم إذا استثنينا هوفمان. أما ثانيا، فالرومنسي وهو يدعي أن الأعمال هي التي تنجزه لتبقى -وكأن الأمر مقصود- غير منجزة إلى الأبد.

هكذا إذن سيموت نوفاليس بطريقة تكاد تكون رمزية، دون أن يكتب الجزء الثاني من "هاينريش فون أوفتردينغن"؛ ذلك الجزء الذي كان ينبغي أن ينعت بـ "الإنجاز". هذا الأمر كان غوته يهمس به على الدوام وبنبرة حزينة: "كتب غير مكتملة، وأعمال غير منجزة." ما عدا إن كانت الرومنسية ترمي تحديدا إلى إقحام نمط جديد تماما من الإنجاز، أو بالأحرى أسلوبا جديدا كليا في الكتابة، أي أن تجعل من العمل كينونة لا تمثيلا؛ بمعنى أن توفر كل شيء لكن بلا مضامين، أو بمضامين لا تكاد تهم في شيء.

إن هذا وحده ما يمكن أن يفسر إعلان الرومنسية المطلق واللامكتمل جنبا إلى جنب، وكذا الكل لكن في كل الأشكال – أي في أقصى حالاتها ليست في النهاية أي نوع - لينكسر بذلك هذا الكل ويعلق عوض أن يتحقق.

أما إن أردنا استقبال تلك الأصداء الرومنسية الأولى مرة أخرى – مع العلم أنها مهمة لا تزال تنتظر من ينجزها – فما سيصدمنا ويفاجئنا ليس هو تمجيد الغريزة والهذيان، إنما على النقيض تماما من كل ذلك الشغف بالتفكير. أما الطموح شبه التجريدي الذي تطرحه الشعرية، فهو أن تفكر في ذاتها، وان تتحقق بفعل تأملها لذاتها، وبطبيعة الحال نحن لم نعد هنا نتحدث عن الفن الشعري بوصفه علما ثانويا، إنما نقصد قلب الشعر نفسه كمعرفة؛ أي جوهره الذي يجعل منه بحثا، لكن بحثا عن ذاته.

بهذا سيغدو الوعي وعيًا جماليًّا، فالشعر لم يعد مجرد تلقائية طبيعية، إنما صار وعيًا خالصًا ومطلقًا (ومن هنا يمكن تفهم استياء غوته من التيار الرومنسي؛ لأنه أراد أن يظل الفن في الطبيعة؛ أي إنه إن أردنا فهم الفن فما علينا سوى العودة إلى دراسة العلوم الطبيعية)، فالرومنسية متطرفة لكن تطرفها تطرف فكري أولا وأخيرا، وهذا التطرف لا يمكن أن ينسب لشليغل وحده، فنفس الحمى الفكرية وذات الدوار المترتب عن التعمق الفكري سيلاحق نوفاليس هو الآخر، وهذا هولدرلين هو الآخر سيحترق بدوره في أفكار ليست مجرد أفكار عن الشعر، بل تتجاوز ذلك للبحث في معنى الشعر والفن، وفي النهاية فالحركة الرومنسية لا تتوقف عن الالتفاف حول الفلاسفة، سواء أتعلق الأمر بفيخته أو شلينغ، بل إنها تنتج فلاسفة من داخلها، واللذين قد يبدو بعضهم غريب الأطوار نوعا ما. لكن المثير للاهتمام هو أن الكتاب الرومنسيون يشعرون، وهم يكتبون على نحو رومنسي أنهم الفلاسفة بحق، فلم يكونوا ينتظرون أن يلقنوا قواعد الكتابة؛ لأنهم ينظرون إلى أنفسهم بصفتهم مرتبطين بجوهر فعل الكتابة؛ أي بالكتابة بوصفها معرفة جديدة يتعلمون استعادتها عبر الوعي العميق بها.

كل الرومنسيين يرون ذلك ويعبرون عنه بطرقهم الغامضة وبإصرار غريب، كتب نوفاليس: "من الجور التمييز بين الشاعر والفيلسوف، فاليوم الروح روح بالسليقة، روح الطبيعة، فعلى العقل ان تصير له روح، ولن يحصل هذا إلا بالتأمل وبالفن، لذلك فالشعر بطل الفلسفة، وعلى الفلسفة أن ترفع الشعر إلى مكانة المبدأ. إنها نظرية الشعر، فالفيلسوف الشاعري يحتل مرتبة الخالق المطلق."

سيكتب شليغل بدوره: "إن تاريخ الشعر الحديث ليس سوى تعليقا مستمرا على هذه البداهة الفلسفية: على كل فن أن يصير علما، كما ينبغي لكل علم بدوره ان يصير فنا، فعلى الشعر أن يتحد بالفلسفة، وإذا لم يكن على الشاعر أن يتعلم الكثير من الفيلسوف، فإنه على الفيلسوف على العكس من ذلك أن يتعلم الكثير من الشاعر." أما شلينغ، فقد كتب بدوره: "إن الفعل الذي يتم في كل لحظة وبشكل تأملي لا بد منه؛ ذلك هو الفعل الدائم للفن."

انطلاقا من كل هذا، وعلى النقيض تماما من الصورة النمطية التي كوناها عن الرومنسية، فإن هذه الأخيرة، وعلى الأقل في بداياتها الأولى تمثل احتجاجا على الاضطرام الإبداعي أو اضطرابات العبقرية، فهذا نوفاليس مرة أخرى، يشير إلى أن "ما يهم ليس الموهبة أو العبقرية؛ لأنه بالإمكان للعبقرية أن تلقن"، ثم يضيف بأنه "على الراغب في أن يصبح كاتبا أن يكون أستاذا وحرفيا لبعض الوقت." أما بول فاليري، الذي يبدو للوهلة الأولى أنه بعيد كل البعد عن مفهوم الرومنسية، فلا يبدو أنه مدرك لكونه يلتقي معها في الإعجاب بليوناردو دافينتشي، والذي اعتبره مثله مثل الرومنسيين النموذج المثالي لما ينبغي أن يكون عليه الفنان الحقيقي.

فدافينتشي كفنان يفكر كذلك بكل ما أوتي من قدرة، وهو أيضا رمز للأصالة وعظمته كفنان تنبع من كونه يسعى وراء كل ما يستلزمه الفن بإصرار العلم وقوة الواجب، وهذا تماما ما سيجعل كذلك من دون كيشوت كتاب الرومنسية بامتياز، فهو الرواية التي تجعل من ذاتها مركز تأملها، وهي تعارض نفسها باستمرار، في حركية مرنة، خيالية ساخرة ومتوهجة، إنها تجسد حركة الوعي الذي يدرك الامتلاء بوصفه فراغا، كما يدرك فيه الفراغ باعتباره فائضا لا نهائيا من الفوضى.

بإمكاننا أن نقرأ هذه التأملات في الأعداد الستة من مجلة الآثيناوم، التي لم تعمر سوى سنتين ما بين 1798 و1800، لكن هاتين السنتين كانتا كافيتين ليعرف فيها الرومنسيون بأنفسهم، بل وليقرروا فيها مستقبلهم كقوة للانكشاف ذاتيا، ونحن هنا الآن بصدد خاصية أخرى على قدر كبير من الأهمية، ألا وهي: الأدب (أي مجموع الأشكال التعبيرية وكل قوى التحليل والتفكيك كذلك) والذي يعي ذاته فجأة، بل ويعلن عن نفسه، دون أن تكون له أية غاية أخرى سوى هذا الإعلان، إن الأدب يعلنها ببساطة وصراحة: الأدب يستحوذ على السلطة، ليصير الشاعر هو مستقبل الإنسان، في تلك اللحظة التي لا يكون فيها شيئا، فذلك الشخص الذي يدرك أنه شاعر وحده يدلنا – من خلال هذا الوعي الذي يلقى أمر تحمل مسؤوليته على عاتقه بشكل عميق – على المكان الذي لا تقتصر فيه الشعرية على إبداع أعمال جميلة فقط، إنما تستنتج نفسها وتتوصل إلى فهم ذاتها ضمن دينامية لا نهائية، لا تنضبط لأية حدود أو تحديدات، فالنظرية الأدبية تصطدم بمعنى آخر مع أخطر معانيها؛ أي أن تسائل ذاتها على نحو مكشوف، فتنتصر تارة إذ تدرك أنها تمتلك كل شيء، لكنها تكتشف أحيانا أخرى وفي نوع من الألم أنها تفتقر إلى كل شيء، وذلك لأنها لا تؤكد ذاتها إلا عبر النقص.

لا نحتاج أن نذكر هنا أن الثورة الفرنسية هي التي أعطت للرومنسية الألمانية هذا الشكل الجديد المتمثل في مطلب التصريح، في وهج البيان أو المانيفستو؛ إذ يحدث بين الحركتين الأدبية والسياسية تبادل غاية في الغرابة؛ لأن الثوار الفرنسيين، وهم يكتبون أو بالأحرى حين يظنون أنهم يكتبون كالكلاسيكيين، يبدون كل الإجلال والتقدير للنماذج الكلاسيكية، لكن الرومنسيين لا يتجهون نحو خطباء الثورة ليلقنوهم أساليب وتقنيات الكتابة، إنما يتوجهون إلى الثورة نفسها؛ أي ذلك الخطاب الذي سيصبح تاريخا، هذا التاريخ الذي يستشف من أحداث تعد في حد ذاتها بيانات، فعصر الرعب كما هو معلوم لم يكن مخيفا بفعل الإعدامات وحدها، إنما لكونه يعلن عن نفسه بهذه الصيغة وبهذا الشكل الصارخ تحديدا.

يصير الرعب لوغوسا للأزمنة الحديثة، حيث المقصلة وأعداء الشعب يعدمون في العلن أمام هذا الأخير، فتقطع الرؤوس فقط على سبيل العرض، فتضخم صورة الموت الذي لا حاجة إليه ولا معنى له، فالأمر لم يعد يتعلق فقط بأحداث تاريخية، إنما هي لغة جديدة لا يزال العالم يتحدثها إلى اليوم.

حين ينشر على الآثيناوم: "لا يجب عليك أن تهدر إيمانك وحبك في السياسة، عليك الاحتفاظ بهما للعلم والفن الإلهي." وكذلك يكتب في الأثيناوم دائما: "هيرمان ووتان ليسا آلهة الألمان، فآلهتهم الفن والعلم."

لا تعبر الرومنسية بهذا المعنى، على رفض الحرية (فبالموازاة مع هذا التاريخ سيكتب شليغل لحظة حاسمة عندما سيربط بين الثورة الفرنسية، نظرية المعرفة عند فيخته، ورواية فيلهلم مايستر لغوته) إنما كانت ترمي إلى منح الفعل الثوري قوته الحاسمة؛ وذلك بإرجاعه إلى مصدره الأعمق، هنالك حيث يغدو معرفة وكلمة خلاقة، يصير عبرهما مبدأ للحرية المطلقة.

أكيد أن مفهوم المانيفستو الأدبي تقليد نعرفه قبل الرومنسية الألمانية، لكن هذه الأخيرة تمثل في الواقع حدثا مختلفا كلية، فمن جهة يتضح أنه لم يعد أمام الأدب والفن سوى أن يكشفا عن نفسيهما، بأن يعبرا عن وجودهما على نحو غامض وأصيل: أي أن يعلنا متواصلين، وهذه هي الحركة التي لا تنتهي ولا تفتر؛ إذ تؤسس كيان الأدب وتكونه.

لكن مع ذلك ومن جهة أخرى، وهنا يظهر تركيب الحدث، يدفع هذا الوعي الذاتي الأدبي لاعتبار الأدب محض بروز، بل ويختزل في مجرد كونه كذلك، قلت يدفع هذا الوعي الأدب لا إلى المطالبة فقط بالسماء والأرض، الماضي والمستقبل، الفيزياء والفلسفة؛ لأن كل هذا لا يكفي، بل يطالب ببساطة بالكل، هذا الأخير يعمل في كل لحظة وفي كل ظاهرة (كما نجد ذلك عند نوفاليس) نعم: الكل، لكن وجب الانتباه، فالأمر لا يتعلق بكل لحظة فقط كما تحدث، أو كل ظاهرة مثلما تظهر، إنما "الكل" فقط، هذا الكل الذي يعمل وفق نظام غامض وغير مرئي في كل شيء، وهنا مكمن الازدواجية. فالرومنسية بوصفها لحظة بزوغ فجر الوعي الشعري لم تعد مجرد نظرية أو مدرسة أدبية، أو محض لحظة أساسية في تاريخ الفن، بل غدت أكثر من كل ذلك، فهي تفتح حقبة، أو أزيد من حقبة. إنها الطور الذي تتجلى فيه كل الأطوار؛ لأنه عبرها يلج الساحة الموضوع المطلق لكل انكشاف؛ أي ال "أنا" الحر الذي لا يحدده أي شرط، ولا تتحدد هويته بأي شيء خاص. أما عنصره، فهو "الكل" الذي فيه يكون حرا، كتب نوفاليس "على العالم أن يرمنس؛ أي أن يصبح رومنسيا." لقد كان الماضي رومنسيا مع مبدعين من طينة الكبار من قبيل: شكسبير، دانتي، سرفانتيس، أريوستي، دافينشي، بل إن الأمر أكثر من ذلك؛ لأن القدامى أنفسهم لا يخلدهم ولا يحتفي بهم في الأولمب سوى اعتراف الرومنسية بهم، وحول هذا الأمر كتب شليغل: "على المرء أن يكون حديثا في جوهره لكي يكون وجهة نظر سامية عن العصور القديمة" هذا إضافة إلى أن المستقبل ككل ينتمي إلى الرومنسية، يقول شليغل دائما: "لا يزال الفن الرومنسي الخلاق في طور التكوين؛ لأن عدم الاكتمال هو ما يشكل جوهره الخاص، ليصير بذلك جديدا ومتواصلا بشكل جوهري، فلا نظرية تستطيع أن تدعي القدرة على أن تستنفذه، وهذا ما يجعل منه دوما فنًّا حرًّا ولانهائيا."

يكفل ما سبق للرومنسية خلودا سعيدا، لكنه خلود مهدد دائما بالزوال الفوري، وهذا ما سيظهر مع هيغل الذي يستنتج من هذا الميل إلى التعميم التاريخي نتائج كارثية؛ وذلك لما قرر أن يصف كل فن مسيحي بالرومنسي. أما الرومنسية الحقيقية، فلن يعترف بها إلا حينما ستتحلل الحركة، حيث في لحظة أفولها سيلتف الفن على نفسه؛ وذلك بأن يوجه إلى نفسه مبدأ التدمير الذاتي، ليتطابق مع نهايته المأساوية الطويلة التي لا نهاية لها.

علينا أن نعترف بأن الرومنسية منذ بدايتها كانت دائما واعية بهذه المسألة، وذلك قبل دروس هيغل عن الاستطيقا، وفي هذا الأمر عظمتها؛ إذ حتى في محاولتها السيطرة على كل شيء من خلال غموضها، تعي جيدا حدودها الضيقة التي تستطيع أن تعلن نفسها من خلالها سيدة للكل، ليس في العالم أو خارجه، فالرومنسية سيدة الكل بشرط أن يكون هذا الكل فارغا من أي شيء، بمعنى مجرد وعي خالص بلا أي مضمون؛ أي لغة خالصة لا تقول أي شيء، وفي هذه النقطة يصبح النجاح والفشل متصلين في علاقة حميمية، لدرجة يصعب معها التمييز بين السعادة والتعاسة، وعلى هذا النحو، ومنذ الوهلة الأولى تخسر الشعرية كل شيء حينما تصير كل شيء، لتلج الطور الغريب للتطابق الذاتي، حيث تستنزف اختلافها باستمرار لأجل أن تعيد أنها هي الشعر، كما هو جوهر الكلام أن يتكلم، وهذا هو عين الأمر الذي توصل إليه نوفاليس سنة 1798 في نص ذي عمق ملائكي: "في فعل الكتابة والكلام أمر غريب، فالخطأ الذي يدهش الناس هو اعتقادهم بأنهم يتكلمون تبعا للأشياء، والكل يجهل الخاصية الحقيقية للغة: ألا وهي أنها لا تكثرت إلا لذاتها ولا تهتم سوى بنفسها، لذا، فهي سر خصب مجيد، وحين يتكلم أحدهم لمجرد أن يتكلم، يكون آنذاك بصدد قول أكثر ما يمكن قوله بكل أصالة وصدق، ووحده من يملك إحساسا عميقا باللغة، ووحده من يشعر بها في استعمالها؛ أي في مرونتها وإيقاعها وفي روحها الموسيقية، هو أيضا من يصغي لطبيعتها الداخلية، ويحتفظ في باطنه بهذه الحركة الداخلية الدقيقة ليرقى وحده إلى مرتبة النبي."

يردف نوفاليس: "إن اعتقدت أني شرحت بوضوح جوهر ومهمة الشعر، فإني أعرف أيضا أني وأنا أقول ذلك قد تلفظت بأشياء سخيفة جدا، مما يبتعد عن أي شكل من أشكال الشعر، لكن هل كان مفروضا علي أن أتكلم؟ أي هل كنت مرغما من طرف فعل الكلام ذاته، بمعنى: هل تتدخل في أمري اللغة وتفعل فعلها من خلالي؟ إذا كان الأمر كذلك فما أقوله شعر دون حتى أن أعي ذلك، وكأن لغزا لغويا ينكشف من خلالي، ولربما بذلك أنا كاتب مولوع، فلا وجود لكاتب لا يمكن أن يعد مسكونا باللغة، أي ملهما بالكلام، وكأن الكلام فقط لأجل الكلام صيغة التحرر.".

يمكننا القول إننا هنا أمام هذه النصوص إزاء جوهر الرومنسية غير الرومنسي؛ أي أمام كل الأسئلة الكبرى التي ستسهم "ليلة اللغة" في إظهارها: بمعنى أن الكتابة فعل كلامي، وكأننا بفعل الكتابة لا-فعل، حيث إن الخطاب الشعري هو إفساح المجال للكلام وجعله ممكنا دون أن يتوجه نحو شيء يكلف بقوله، (أو على الأقل الاختباء خلف ما يقصده ويعنيه)، بل إنه يقول نفسه أثناء السماح لنفسه بأن يقال، بدون أن يصير موضوعا جديدا لهذا الكلام الذي هو في جوهره بدون موضوع.

إن كان الشعر ببساطة هو الكلام ذاته، حين يدعي التعبير عن جوهر الكلام والشعر، فإننا سنعود على نحو أقل دقة إلى معنى لغة التواصل أو اللغة الناقلة، وهي المعضلة الأكبر التي بموجبها تحاط اللغة الأدبية بفجوة غريبة وكأنها ليلها، ليل مخيف نوعا ما، شبيه بذلك الذي يقول هيغل أنه يراه حين ينظر إلى أعين البشر.

بعد طرح السؤال، نعلم أن الرومنسية ستجيب على هذا النحو: الكلام هو الموضوع، وهو ما سيستتبع اكتشافات عجيبة وأعمال رائعة، وكذلك صعوبات مدمرة.

أولا: ما أشرت إليه سابقا من أنه ينبغي للشاعر أن ينسى المعرفة الشعرية الكلية، فحتى عندما يقر نوفاليس بأن الشاعر كلي المعرفة، فإنه لا يقصد معرفة خاصة بكل شيء أو أن القدرة الشعرية أقرب إلى مهارة السحر.

ثانيا: إذا كان الكلام في الشعر هو الموضوع كذلك؛ أي إنه يوجد دوما بمعزل عن أي خصوصية موضوعية، فمعناه أنه لا يصير كذلك إلا في ظل حضور الشاعر؛ إذ آنذاك يثبت حضوره بحضور أنا الشاعر، وكأنه ما يهم في النهاية لا الشعر في حد ذاته، أي الفاعلية التي هي أرقى من العمل الفعلي، والشاعر لا يكون مبدعا خلاقا إلا في وعيه بأنه قادر على استحضار العمل ونفيه في نوع من لعبة السيادة للسخرية، وهو ما سيترتب عنه أنه بالإمكان استعادة الشعر، ليس فقط من خلال الحياة، بل كذلك بالعودة إلى السيرة الذاتية؛ أي الرغبة في الحياة على نحو رومنسي، وتضفى الصبغة والطابع الشاعريين على الشخصية التي توصف بأنها رومنسية، مما يجعلها جذابة للغاية، فهي تفتقر إلى أي صفة قارة أو مؤكدة، ودليل هذا اقتران شخصيات شعراء الرومنسية بالخفة، المرح، الحيوية، الجنون، وغرابة الأطوار؛ أي كل ما أدانه نوفاليس عندما آخذ الروح الرومنسية على تشظيها وضعفها، بل ووصفها بالأنثوية، كما فعل فاكنرودر لما انتقد ما أسماء سوء النية الأدبية، التي تدفع الشخص إلى الاعتقاد بأنه سام، بينما هو لا ينفع في الحقيقة العالم بأي شيء؛ إذ قد يكون أقل نفعًا من أي حرفي بسيط.

هذه فقط بعض التناقضات التي تمثل غيضا من فيض داخل التيار الرومنسي، وهي التناقضات التي لن تجعل من الأدب جوابا بقدر ما ستحوله إلى سؤال. لنجد أنفسنا في النهاية أمام فكرة يمكن أن نحتفظ بها، وهي كالتالي: يركز الفن الرومنسي الحقيقة الخلاقة في حرية الذات، كما يطمح دوما إلى إبداع كتاب كلي كتوراة تنمو إلى ما لا نهاية، حيث يتجاوز مجرد تمثيل الواقع نحو استبداله؛ وذلك لأن الكل لا يمكنه أن يتحقق سوى في المجال غير الموضوعي للعمل الأدبي، والرواية ستجسد هذا الكتاب، فكما يقول شليغل "الرواية هي الكتاب الرومنسي"، كما يذهب نوفاليس إلى التأكيد أن "الرواية وحدها تستطيع القبض على العالم والمطلق؛ لأنها تجعل فكرة الكل تهيمن على العمل الفني وتشكله بالكامل"، وهو نفس ما يؤكده سولغر: "يرتكز الفن الحديث بأكمله على الرواية لا على الدراما."

اكتفى أغلب الرومنسيين بالحلم بهذه الرواية التي تتخذ شكل أسطورة، أو حاولوا في أحسن الأحوال مثلما فعل نوفاليس كتابتها في صيغة قصص خيالية (Märchen) على شكل تركيب يربط بين البراءة المجردة والمعرفة الهوائية، لكن الملاحظة الغريبة هي أنه لم يكتف فقط بتركها غير مكتملة، إنما حدس ضرورة ابتكار فن جديد كحل وحيد لإنهائها، ويتعلق الأمر بفن "الشذرة"، وهذا أحد أبرز الحدوس الجريئة التي توصلت إليها الرومنسية: أي البحث عن صيغة جديدة من الاكتمال تقوم على تحريك الكل عبر توقيفه وذلك من خلال أشكال عدة للانقطاع.

إن الغاية من هذه الحاجة إلى الكلام المجزأ ليست هي عرقلة التواصل، بل على العكس من ذلك يعبر اختيار الشذرة كأسلوب أدبي على الرغبة في جعل التواصل مطلقا، وهنا يصرح نوفاليس: "لم يكتشف بعد فن كتابة الكتب، لكن ذلك على وشك الحدوث الآن، فهذه الشذرات بذور أدبية." وفي السياق نفسه، سيؤكد نوفاليس كذلك، ومثله مثل شليغل أن الشذرة التي تتخذ شكل المونولوغ هي البديل للتواصل الحواري.

فالحوار ليس في النهاية سوى سلسلة من الشذرات في تقدير شليغل، وهو في عمقه استباق لما يمكن أن نسميه بالكتابة الجماعية أو الكتابة المشتركة، وهو ابتكار يربطه نوفاليس بظهور الصحافة وتطورها حين يقول: "تعد الصحف كتبا جماعية، فن الكتابة المشتركة هذا يقدم عرضا غريبا يعد بتقدم عظيم في مجال الأدب، ولربما سيأتي يوم نكتب فيه، نفكر ونتصرف على نحو جماعي."

إن كون العبقرية تتحدد بالتعددية في الشخص الواحد وفق نوفاليس؛ أي نظاما من المواهب كما يتصور ذلك شليغل بدوره، يجعل من إدماج التعددية في فعل الكتابة أمرا في غاية الأهمية؛ وذلك من خلال الشذرة التي تستخلص هذه التعددية التي تكمن فينا بالقوة كما تتسم بالواقعية بالنسبة إلى الجميع، والتي تستجيب للتبادل أو التناوب الدائم والخلاق ذاتيا بين مجموعة من الأفكار المختلفة والمتعارضة؛ أي ذلك الشكل غير المتصل الوحيد الذي يلائم السخرية على الطريقة الرومنسية، والتي تفسح المجال للقاء الخطاب والصمت، الجد واللعب، الحاجة إلى البيان الرؤيوي جنبا إلى جنب مع الاضطراب والانقسام في الفكر، ثم أخيرا الربط بين النظام بالنسبة إلى الفكر ووجله في ذات الوقت من هذا النظام، أليس شليغل هو القائل: "أن يحتكم الذهن إلى نظام أمر يقتله، مثلما يقتله ألا يتبع أي نظام، لذا فلابد من التخلي عن كليهما."

تبدو الشذرة في الكثير من الأحيان مع شليغل كوسيلة للاستسلام الراضي للذات أكثر من مجرد كونها محاولة لوضع أسلوب كتابة أكثر صرامة؛ أي إن الكتابة الشذرية ليست سوى احتضانا لفوضى الذات، أو بالأحرى انغلاقا من طرف الأنا على عزلتها الراضية؛ أي رفضا للانفتاح الذي تفرضه مستلزمات الشذرة التي لا تقصي الكلية إنما تتجاوزها. فهذا شليغل يكتب مرة أخرى وفي نوع من البوح الشفاف: "لا يمكنني أن أعبر عن ذاتي إلا من خلال نظام من الشذرات؛ لأنها تشبهني: فليس في الأساليب الأدبية ما يناسبني، بحيث يبدو لي طبيعيا ومرنا كالكتابة الشذرية."؛ أي إن الخطاب الشليغلي ليس خطابا تقليديا، إنما هو صورة لعدم انسجامه الذاتي، وفي ذلك يقول أيضا: "يمكن للشذرة بوصفها إبداعا فنيا مكثفا أن تكون منفصلة عن محيطها، حيث تحقق اكتفاءها الذاتي ومنغلقة على نفسها مثل القنفذ."، فشليغل هنا يحيي في الشذرة صيغتها كحكمة (القبسة)، حيث الجملة مغلقة على نحو تام، هذا الانحراف الحتمي سيؤدي إلى ما يلي: القول بأن الشذرة كنص مكثف يستبطن مركزه، لا في الحقل الذي ترسمه معه الشذرات الأخرى، إضافة إلى إهمال ما يفصل بينها وبين الشذرات الأخرى (الانتظار والتوقف) لتغدو هذه الحدود الفاصلة أساسا ومبدأ لإيقاع العمل الإبداعي بالنظر إليه كبنية، وكأن شعراء الرومنسية يتناسون أن هذا الأسلوب في الكتابة الإبداعية لا يرمي إلى جعل النظرة الشاملة صعبة، أو إلى إسقاط وشائج الوحدة، بل إنه يهدف على العكس من ذلك إلى إتاحة الفرصة لعلاقات جديدة ممكنة للبروز، وشائج تعزل نفسها عن الوحدة وتتجاوز الكلية، لكن هذا التناسي ليس راجعا إلى طبائعهم الشخصية؛ أي إن الأمر لا يتعلق بنقص ناجم عن شخصيات منغلقة على ذاتها تستعجل الاتصال بالمطلق، إنما قد يؤول هذا الأمر وبشكل حاسم من خلال التوجه العام للتاريخ نفسه، هذا التاريخ الذي غدا ثوريا؛ إذ يضع في مقدمة فعله العمل لأجل الكل في أفق سعي جدلي صوب الوحدة. لكن رغم ذلك يمكن القول إنه بفضل الرومنسية قد بدأ الأدب يعي ذاته، ويعي أيضا أنه يحمل في طياته مسألة الانقسام والاختلاف بوصفها شكلا، والتي هي مسألة مهمة لم يقتصر الرومنسيون الألمان - وخصوصا جماعة الأثيناوم- على استبصارها، إنما كانت اقتراحهم الواعي والواضح منذ الوهلة الأولى، قبل أن يتسلمها نيتشه، ثم المستقبل من بعده.

[1] Blanchot, Maurice, L’entretien infini, éditions Gallimard, 1969, "L’Athenaeum," p425-435 (Version Epub(