فردريك شليغل مستشرقا
فئة : مقالات
فردريك شليغل مستشرقا
عبد الكريم بخاشو
إشراف: د. محمد البوغالي
استحضر إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" 1979 فردريك شليغل في أكثر من مناسبة؛ وذلك بصفته قمة من قمم الاستشراق الألماني إلى جانب أخيه أوغست، غوته، ونوفاليس، وغيرهم.
سيذكر سعيد في البداية صاحب "لغة الهنود وفلسفتهم" جنبا إلى جنب مع مواطنه وصديقه غوته وديوانه الشرقي؛ وذلك في إطار تناوله للاستشراق الألماني ومرافعته لصالح دعوى تذهب إلى أن ألمانيا كانت تبحث لنفسها سياسيًّا عن موطئ قدم في الشرق على شاكلة إنجلترا وفرنسا، وأن صورة الشرق في الكتابات الفكرية، الأدبية والفلسفية الألمانية، خصوصا في أهم عملين ضمن تراث الاستشراق الألماني ألا وهما: لغة وحكمة الهنود لشليغل والديوان الشرقي لغوته، قد ظلت صورة استيهامية ومحض تمثل غرائبي لا علاقة له بواقع الشرق التاريخي، بل إن هذه الصورة قد تشكلت لدى أساطين الرومانتيكية الألمانية هؤلاء على ضفاف نهر الراين وفي مكتبات باريس، اعتمادًا على أرشيف فرنسا وبريطانيا، البلدين الكولونياليين النافذين في الهند، إفريقيا، والشرق الأوسط، ممثلة هي الأخرى الخلفية المعرفية النظرية للأطماع الكولونيالية الوطنية الألمانية في هذا الشرق.[1]
من المعطيات التي تؤكد ما ذهب إليه سعيد بهذا الخصوص التناقض الذي نلمسه لدى أوغست شليغل مثلا، والذي كان عضوا في اللجنة الآسيوية بلندن، فقد كتب كتابه عن اللغات الأسيوية باللغة الفرنسية، مخاطبا القراء الفرنسيين والإنجليز اللذين يتقنون اللغة الفرنسية أفضل مما يتقنون اللغة الألمانية، وهو يذكر في المقدمة أن إحدى غاياته من الكتاب هي تنبيه الإدارة البريطانية إلى الاهتمام بالثقافة والفكر الهنديين، وألا تقتصر نظرتها إليهم بصفتهم رعايا للتاج البريطاني فقط أو مجرد بقرة حلوب؛ أي مصدرا للثروات الاقتصادية لا تجمعه ببريطانيا أكثر من علاقة مستعمر (بفتح الميم) بمستعمره، بل سيستشهد بأبيات شعرية للشاعر اللاتيني "هوراس" يقول فيها:
"أيها التاجر المهرول نحو الهنود والراكض بكل قوة،
فارا من الفقر عبر البحار والصخور والحرائق،
ألا تريد أن تتعلم؟
وأن تسمع وتؤمن بشكل أفضل؟"
صحيح أن هذه الأبيات تستبطن نوعا من النقد للنزعة الكولونيالية الغربية، والتي لا طالما اختزلت بلاد الهند - كما باقي بلدان الشرق- في ثرواتها المادية وحدها، لكن سرعان ما سيثني شليغل بعدها مباشرة على اهتمام البرلمان البريطاني بدراسة وإحصاء الهنود، معتبرا إياه ثمرة للوعي بأهمية الإدارة والحكامة الجيدين، واللذن يحققهما الاهتمام بالجوانب الفكرية والحضارية المتمثلة في الدين والأخلاق والأدب، وكل ذلك فقط لإبقاء الإمبراطورية البريطانية ممتدة وعظيمة.[2]
سيحيل سعيد على شليغل مرة أخرى حين سيعترض على فكرة مشيل فوكو الذي سيقر، رغم ذلك بدينه عليه، والتي مفادها أن الأفراد لا يهمون في ما يخص التشكيلات الخطابية، حيث إن الأعمال الفردية توجهها إبستيميات محددة تمثل شبكات دراسة، وهي ما يمثله الاستشراق والحالة هاته؛ إذ يذهب سعيد إلى عكس ما سبق، نافيًا أن ينطبق هذا الأمر على الدراسات الاستشراقية، ومقرًّا في نفس الوقت بأنه للفرادات الدارسة أو بالأحرى لشخصيات الاستشراق القدرة على التأثير في بعضها البعض، حيث غالبًا ما يوجه بحث معين أبحاثا أخرى غيره؛ وذلك ما يؤكد الفكرة السابقة الرامية إلى أن الأمر يتعلق في الاستشراق بشرق متخيل لا يوجد سوى في النصوص، هذه النصوص تمثل في حد ذاتها سلطة بوصفها نصوصًا مستقلة ومنفصلة عن خطاب الاستشراق، سواء أتعلق الأمر هنا برينان مثلا، أو لامارتين، أو شليغل، حيث يستشهد بهذا أو ذاك من طرف غيره من المستشرقين لا بصفته عنصرًا ضمن بنية محددة قبلية وأولية، إنما فقط بوصفه نصًّا يملك سلطته القائمة بذاتها والمستقلة، بل والقادرة على أن تشكل نظرة الآخرين إلى هذا الشرق المتخيل[3].
يضرب سعيد بشليغل المثال للكيفية التي سيبرز بها الاستشراق بصيغته الجديدة والنهائية نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، فبعد أن كانت الدراسات الاستشراقية تحيل على علماء الكتاب المقدس، طلاب اللغات السامية، والمتخصصين في الدراسات الإسلامية، قبل أن تتخذ الأمور منحى آخر بداية مع الاهتمام باللغة السنسكريتية إبان القرن التاسع عشر، سيغدو الشرق الغامض، العميق، والغريب، من يومها مصدر إلهام للشعراء والفنانين والفلاسفة، بما في ذلك شليغل نفسه.[4] فهذا الأخير يراه سعيد التتويج لمسار الاستشراق الألماني الذي عبر عن نفسه بالانحياز للفيلولوجيا والدراسات اللغوية، حين عبر عن نظرته المستصغرة للشرق والمقللة من شأنه، بل والعنصرية على مستويين:
فهو ينظر من جهة إلى الشرق فقط من منظور كونه مهما لأوروبا، حيث يتوسط بينها وبين وعيها بذاتها لغويا؛ لأن الشرق مهم لأوروبا من الناحية اللغوية، لكنه لا يتطرق البتة للشرق باعتباره منطقة جغرافية تأوي أناسًا أحياء يعيشون بدورهم بشكل متزامن مع أوروبا، كما أنه من جهة ثانية سيكون انطلاقا من تمييزه بين العائلات اللغوية وتقسيمه اللغة إلى فئتين كما سنفصل في ذلك لاحقا، قد حكم حسب سعيد على هذا الشرق بكونه كتلة متجانسة، قارة، وثابتة، بل وغريبة على نحو جذري.
يبدو للوهلة الأولى أن شليغل بعيد عن أي نزعة استشراقية في كتابه عن لغة وفلسفة الهنود، أو إنه قد تخلى عنها على الأقل إبان صدور الكتاب (1808) – بتعبير إدوارد سعيد – حين سيقر بالقرابة بين اللغتين الهندية والفارسية من ناحية، وكذلك بالتواشج بين اللغة اليونانية والجرمانية، علما أن الصلة بين هذه اللغات أكثر أهمية ووضوحًا من صلتها مثلا باللغات الأمريكية، الإفريقية، والمكسيكية، أو حتى اللغة الصينية واللغات السامية، ليبسط بذلك تصورا عن اللغات الهندو-أوربية يرى أنها لغات البساطة والعمق.
سيؤكد إدوارد سعيد أن شليغل عندما صرح متحمسا سنة 1800 بأنه علينا أن نبحث في الشرق عن الرومنتيكية في أسمى أشكالها، كان يقصد شرق الساكونتالا، الزند-أفيستا، والأوبنشاد؛ لأن لغات الساميين لغات ميكانيكية لا تتمتع بأي قدر من الجمالية، وهم متخلفون وأقل شأنا، إلى غير ذلك من الأحكام المسبقة والمتسرعة غير المبنية على أي أساس علمي رصين[5].
صحيح أن شليغل هو من وضع اللبنة الأولى للسانيات المقارنة أو علم النحو المقارن[6]، إلا أن خلاصاته غير الدقيقة والعنصرية ستتحول إلى أساس ستنبني عليه مباحث معرفية كالأنثروبولوجيا الداروينية أو التطورية، والفرينولوجيا Phrenology (علم فراسة الدماغ)، حيث سينتشر في الثقافة الأوروبية أن غير الأوروبي أقل شأنا وقيمة، وأنه يتموقع في مرتبة أدنى ضمن درجات سلم التطور.
يرى سعيد أن تناول اللغة من طرف شليغل كان مقترنا بالعرق. أما الشرق الذي يمتدحه، فهو شرق ولّى ولم يعد حاضرًا. إنه العصر الذهبي الذي يمثل كل ما هو جيد في مقابل الراهن البئيس لهذا الشرق الذي تمثله بلاد الإسلام، آسيا وشمال إفريقيا، بينما الآريون هم الأوربيون فقط ورثة الشرق القديم، وهكذا ستسيطر الأسطورة الآرية على الأنثروبولوجيا الثقافية والتاريخية[7].
كان شليغل يدعو مثل صديقه نوفاليس كل الأوروبيين إلى دراسة ثقافة الهند وديانتها، اللتين ستوفران الخلاص لأوروبا بأن تقضيا على النزعات: المادية، الجمهورية، والآلية، التي ترزح تحت ثقلها، علما أنه من هذه الهزيمة ستنشأ أوروبا جديدة ومتجددة، على النحو الذي نجده في الكتاب المقدس؛ أي الموت، الفداء، ثم الولادة الثانية. وكأن النزعة الرومنسية لا تمثل فقط شكلًا من أشكال الاستشراق، بقدر ما هي جوهره، فآسيا لا تهم هنا في حد ذاتها بقدر ما تهم فائدتها وأثرها على أوروبا واستمرارها. لذا، يصف سعيد شليغل بالفارس الذي يتعلم لغة شرقية لأجل العودة إلى أوروبا من أجل إحياء الرسالة التي فقدتها، معتبرا أن ما كان يصور على أنه علمانية ما بعد التنوير ليس في واقع الحال سوى "المسيحية. [8]"
يرى سعيد أنه لا ينبغي لتحمس شليغل لحضارة الهند كنموذج لحضارة الشرق أن يخفي علينا استصغاره للإسلام، فتحمسه للثقافة الهندية كمثله من المستشرقين من منطلق كون الشرق بديلا للاحتلال الروحي الفكري والروحي، خصوصًا في الجوانب المتعلقة بوحدة الوجود، الغنى والاستقرار الروحي، حتى إن شلينغ سيعلن ان العودة على الشرق ستمهد الطريق نحو الوحدة اليهودية-المسيحية، وكأن إبراهيم هو براهمة الديانة البراهماتية الهندية، لكن المقصود دائما بالشرق هو الشرق البدائي والقديم المبالغ في تقديره الذي يناقض ويضاد الشرق الحديث المتخلف.[9]
أما بخصوص اللغة، فإن تمييز شليغل بين فئاتها أو عائلاتها إن صح التعبير وفق خصائصها، وبالتالي التفرقة بين اللغات السامية (واللغة العربية إحداها)، واللغات الآرية (اللغة الفارسية واحدة منها يمتد تأثيرها إلى اللغة الألمانية)، سيشرع لفصل آخر على مستوى الفكر الديني سيمتد لاحقا إلى أعمال العديد من المستشرقين مثل ماسينيون، الذي سيعتبر أنه في ما يرتبط بالديانات التوحيدية الثلاث، يعتبر الإسلام دين جهاد وحرب موجهان إلى عدو داخلي هم أهل البدع وآخر خارجي يتمثل في الديانتين اليهودية والمسيحية، فإسماعيل قد استبعد من الوعد الإلهي لإسحق وإيديولوجيته شقية حزينة (دموع هاجر)، ونتيجة لذلك، فاللغة العربية لغة بكائيات ودموع، ليظهر بذلك تيار معاكس داخل الإسلام ألا وهو التصوف حسب ماسينيون، والذي سيسعى إلى بلوغ النعمة الإلهية بشكل فردي خارج إجماع أهل السنة والجماعة، مميزا فيه بين طريقين: الأول أكثر جرأة وهو التصوف الفارسي، والثاني أقل منه جرأة، ويتعلق الأمر طبعا بالتصوف العربي، كما أن الشعر الفارسي أكثر غنى وتنوعا من الشعر العربي [10]، الأمر الذي سيعيدنا إلى الثنائية: آري وسامي، التي بدأها شليغل في نحوه المقارن.[11]
يتساءل أوغست شليغل في تأملاته حول اللغات الآسيوية عن جدوى دراسة الشعر العربي والفارسي من طرف الأمم الأوروبية التي تملك ميثولوجيا غنية وشعرا غاية في الإبداع، وعن مدى الفائدة التي قد تجنيها من أعمال قد بصمها الإسلام بتزمته، منبها إلى أن العرب لم ينتجوا دراما أو ملحمة واحدة؛ إذ اكتفوا في نظره بالشعر العاطفي والغنائي والحماسي، محدود الأفكار والأغراض، والذي لن يمتع كما يقول سوى بدوي يقطع الصحراء على ظهر جمل. أما الأوروبي فلن يعتقد كما يضيف أن هناك شعرا أسوأ منه[12]، ويمكن للرد على هذا الكلام أن يكون على النحو التالي على لسان صاحبه "العقاد" بلسان عربي مبين، وكأننا به يوجه سهام كلماته لشليغل تحديدا حتى دون أن يذكره بالاسم ليميزه عن معشر المستشرقين:
"......... إن بعض النقاد عندنا لا يزالون يحيلون خلو الشعر العربي من الملاحم المطولة إلى قصور اللغة العربية، أو قصور أوزان العروض فيها، أو قصور الخيال في السليقة السامية على التعميم، ومنها السليقة العربية (.........) ولقد كان للمستشرقين سهمهم الوافر من هذه الأخطاء في تحميل اللغة العربية أوزارهم وأوزار نظراتهم العجلى إلى أساليبها وتعبيراتها، فإنهم في جملتهم - ما عدا القليل النادر منهم - لغويون أو حفاظ قاموسيون، وليسوا من محبي الأدب والفن بلغاتهم، فضلا عن اللغة العربية التي تعلموها ولم يعيشوا بها أو يعيشوا فيها، فوقفوا من ثمة بفنون البلاغة المجازية في هذه اللغة عند المرحلة الشكلية منها، أو المرحلة التي يصح أن نسميها بالهيروغليفية، وراحوا يزعمون واحدًا بعد واحد أن الشعر العربي خليط من الأشكال المتنافرة، لا يخلص الذهن منها إلى صورة مرسومة أو عاطفة واضحة....."[13].
إذا كان المدخل الذي اعتمده تحليل إدوارد سعيد للجوانب الاستشراقية في فكر شليغل هو عرضه لقرابته وعلاقته الإنسانية والفكرية مع غوته، فإن دارسا آخر هو Ian Almond، سيتبع نفس النهج في كتابه "تاريخ الإسلام في الفكر الألماني من لايبنيتز إلى نيتشه"؛ إذ سيبدأ باستغراب شليغل في رسالة منه إلى دوروثيا شليغل بتاريخ 13 أكتوبر 1819 من انكباب غوته على دراسة الشرق في شيخوخته.
يرد ألموند هذا الاستغراب إلى أن الرجلين كانا منكبين على دراسة شرقين مختلفين وقي فترتين زمنيتين متباعدتين، فبحلول 1819 كان شغف شليغل بالهند قد خف وتحول إلى فضول فيلولوجي معتدل يتوجه صوب القضايا الإيسكاتولوجية بغية تشكيل تاريخ عالمي موسوعي وشامل أكثر منه تحقيقًا حول اللغة السنسكريتية، وكأنه قد تعافى مما لمسه عند غوته من اهتمام متأخر بالشرق؛ وذلك بفعل اعتناقه الكاثوليكية سنة 1808، حتى غدا الأمر يتعلق بشغف رومنسي عاشه في شبابه[14].
إن التمايز النوعي والاختلاف الفكري بين شليغل وغوته في دراستهما للشرق يتجلى كذلك في كون غوته مثلا قد نعت شعوره تجاه الهنود (اللذين كرس شليغل كتابا للغتهم وفلسفتهم) بالرعب واصفا إياهم بالمسوخ، في مقابل ذلك يقر شليغل بعدم ثقته في المؤرخين العرب والمسلمين وتأكيده على عدم قدرتهم على فهم المعتقدات العميقة للهندوسية، لدرجة أن نوعًا من النزعة التملكية الاستعمارية الواضحة ستظهر في تبرمه في رسالة إلى أخيه أوغست من الطريقة التي ذكرت بها الهند وثقافتها في "الديوان الشرقي" لغوته، وكأن الأمر يتعلق بالنسبة إليه باعتداء من طرف صاحب "فاوست" على ما كان يراه أرضه الفكرية الخاصة، لكن لا ينبغي مع ذلك لهذا الاستياء أن يخفي إعجابا مبطنا بعمل غوته من طرف شليغل، خصوصا في ما يتعلق بالتصوير الحسي للجنة في الديوان الشرقي، والذي يوافق إعجابه المبكر في فترة شبابه بهذه الطريقة في تصويرها؛ إذ كان يرى هو الآخر أن هذا ما ينبغي أن يكون عليه عمل كهذا؛ أي إن الطريقة التي يتحدث بها القرآن والسنة عن الجنة هي الطريقة السليمة وفقه.[15]
كان شليغل علاوة على ذلك، وعلى غرار رواد الرومنتيكية الأوائل من أمثال نوفاليس، تيك، وشلايرماخر يبحث في شخصية النبي محمد كما عند لوتر عن نموذج الشخصية المؤثرة في عملية توفير أخلاقيات جديدة للعالم ومد آفاق أخرى للمعنى أمام عقم كل من العقل والدين بمعناه التقليدي في آواخر القرن 18، فالرومنتيكيون الأوائل كانوا يبحثون عن مفاهيم استطيقية جديدة من شأنها أن توفر أخلاقيات متحررة وخلق عالم متجدد، وهم ينطلقون من إحدى أهم رؤى كانط "إننا نعيش في العالم الذي نخلقه".
قد يستغرب الدارس من تأكيد هذا الشاب الألماني الليبرالي أن الخيال المحمدي مثاله لمشروع الرومنتيكية خاصته، حيث وضع شخصية النبي محمد جنبا إلى جنب مع شخصيات أخرى محورية في التاريخ كالمسيح، سان سيباستيان ورتشارد الثالث، مضيفا أن محمد كالإسكندر جزء من تاريخ الرومنتيكية، لكن ينبغي أن نفهم أن شليغل ينظر للإسلام باعتباره عملا جماليا أصيلا وشاملا لدرجة دفعته إلى توظيفه كمعيار للحكم على ما هو كلاسيكي في الفن والأدب معلنا أنه "على الديترامب أن يلمع ويشع جمالا خالصا إن هو أراد أن يشبه شاعرية القرآن"، القرآن الذي وصفه شليغل بالآرابيسك الروماني الذي جمع السياسة، الشعر، الثقافة وكل الجوانب الروحية الخاصة بمجتمع بأكمله، غير بعيد عن المعنى الّي أصبغه غوته هو الآخر على الآرابيسك "الجمع الأنيق بين أشياء متنوعة منظمة لتزيين قلب بناء ما "يقول شليغل: "على الشعب أن يعيش شعره كما يفعل العرب والهنود".[16]
سيتلاشى هذا الحماس من طرف شليغل للشرق الإسلامي بسرعة، حيث امتد لفترة قصيرة بين سنتي 1798-1802، لكنه لم يختف حتما إنما قد غدا فقط اهتماما بالعرق والأدب والتاريخ والإيسكاتولوجيا، وسيحاول آلموند أن يبرز وحدة هذه المسارات التي قطعها اهتمام شليغل بالإسلام بإظهار مكامن تقاطعها.
يلاحظ نوع من التناقض الغريب في نظرة شليغل للإسلام وتأويله لثقافته ولتاريخه، لدرجة يتغير معها موقف شليغل من الإسلام من سنة لأخرى، من شهر لآخر، بل أكثر من هذا: من صفحة لأخرى، فتجده تارة يصف المسلمين بالتتار الربوبيين، ويجمعهم مع المصريين تارة، قبل أن يؤكد على أن أصلهم من الهنود تارة أخرى، لينتهي به الأمر في نهاية المطاف إلى القول بأنهم يهود كونيون.......كما اعتبر محمد نبيا (مؤسس الديانة المحمدية بتعبيره) لا يقل قيمة عن موسى والمسيح وذلك سنة 1798، لكنه سيعود سنة 1805 ليصف الإسلام بالنزعة البروتستانتية العنيفة، لتتزايد جذرية موقفه بحلول سنة 1817 حينما كتب بأن امبراطورية محمد تمثل واحدة من قوى الجحيم، وهو التحول الذي يرجع إلى عدة أسباب متداخلة ومركبة تتراوح بين ما هو جمالي، سياسي، لاهوتي، فيلولوجي وإثني.
فمن الناحية الفكرية واللاهوتية، كان شليغل قد تحول هنا من مفكر حر مؤسس للنزعة الرومنتيكية إلى مفكر اعتنق الكاثوليكية وتغلب عليه النزعة الصوفية. أما سياسيا، فإن شليغل قد اتجه في مساره السياسي في هذه الفترة نحو الرجعية المحافظة والحالمة بأوروبا موحدة تحت راية المسيحية، بينما يمكن لاختيار شليغل من الناحية الجمالية والأسلوبية للشذرة كطريقة متميزة لتكثيف لحظات تبصر قوية أن يكون قد ساهم في خلق هذا التناقض إزاء الإسلام، فشليغل يصر على استقلال الشذرة كجزء مكتمل ومنغلق على ذاته، وهذا الجزء يمكن أن يكون الأكثر قدرة على التعبير عن الشك، بل يمكن اعتبارها النموذج الأولي للتفكيك الذي يؤكد نفسه بالروح الفلسفية المتهكمة والساخرة Witz، وهو ما تشهد عليه آثاره الأخرى التي لا تكاد تخلو من مساءلة دائمة لعمله على نحو جذري للغاية، والتي تعبر عن نفسها من خلال تساؤلات من قبيل: هل هناك شيء قد نسميه لغات أوروبية؟ أليست دراسة الإسلام شرطًا ضروريًّا لفهم المسيحية والكتاب المقدس؟ ألم يكن محمد مصلحا؟
بالنسبة إلى تأثير البعد الفيلولوجي في الخطاب الشليغلي المتعدد والمركب بخصوص الإسلام، فقد وضع في ملاحظة تعود لسنة 1802 اللغة الألمانية بين اللغتين الإسبانية والإيطالية، ثم شطب عليها ليدفع بها إلى الجانب الآخر لتأخذ لها مكانا بين اللغة العربية واللغة الفارسية وذلك قبل أن يراجع أفكاره بعد أن يتبين له أنه هناك انفصالا اثنيا ولغويا بين العرب والفرس، وكان شليغل يتبنى كذلك قبل 1803 الأسطورة التي تذهب إلى أن اللغة العربية واللغة الهندية كانتا في الأصل لغة واحدة، وأن أصل الإنسانية إما في سوريا أو في بلاد فارس، وعلى نحو عام المشرق اليهودي العربي. ويمكن القول عموما أن تأسيسه لعلم اللسانيات المقارنة يتقاطع مع تقييم، تفسير وتحديد موقع العالم الإسلامي بالنسبة لأوربا، مركزا على أن الإلمام باللغة والثقافة العربيتين ضروري بالنسبة للمثقف أو المفكر الأوربي لأجل الوعي التاريخي بالذات الحضارية الأوربية.
تعود الآراء الإيجابية لشليغل عن الإسلام إلى الفترة الرومنسية كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فقد كان شليغل هنا -على خطى هيردر وغوته- يثني على الطاقة المتفجرة للإسلام وسموه وحماسته، والذي يوافق الميل الشاعري الجوهري لدى العرب، حتى أنه قد شبه النبي محمد بلوثر في ما يتعلق باستعماله اللغة لإعادة تشكيل وعي الإنسان العربي.[17] لكن سرعان ما سيتحول موقف شليغل من الإسلام إلى موقف هجومي، فبعد أن أبدى إعجابه مثلا بجنة القرآن، سيكتب لاحقا أن محمد الذي وصفه بالشهواني وحده من يعرف ماهية هذه الجنة، كما أنه سيعتبره نقيضا للمسيح ومبشرا مبتدعا بعد أن عده في البداية مصلحا دينيا مثله مثل لوتر، هذا بالإضافة إلى أنه بعد أن أثنى على الاتساق والشمولية في الحياة العربية التي كان قد وصفها بالأصيلة والجميلة، لتدخل الإسلام في كل شؤون الإنسان وفي كل ثنايا وجوده، كما أنه دين يعتبر ويفترض نفسه كمنطلق للعدل، وهو ما يرى أنه كان على المسيحية أن تقتدي به، ما سيتحفظ عليه كانط على عكس شليغل تماما، هذا الأخير سرعان ما عاد ليزدري نفس الأمر ويصفه بالاتحاد الزائف بين المؤسسة الدينية والدولة[18].
إن التحول من مديح الإسلام والثناء عليه إلى نعته ونبيه بأسوأ الصفات لم يحدث فجأة ومن دون سابق إنذار؛ أي أن الأمر لا يتعلق بخيبة أمل مفاجئة بالنسبة إلى شليغل، إنما قد بدأ الأمر تدريجيا حتى قبل تحوله إلى الكاثوليكية بين السنتين 1803-1804؛ إذ سبق له أن كتب عن العرب بأنهم شعب غير متحضر ومعاد للثقافة، فحتى بخصوص دور العرب الحضاري والتاريخي كمترجمين سيكتب شليغل في الشذرة رقم 229 من شذرات الآثنيوم[19]:
"يتسم العرب بطبع مجادل إلى أبعد الحدود. فهم، من بين الأمم جميعها، أكثر الأمم قدرة على النفي والإتلاف. ما يميز فلسفتهم في روحها هو ولعهم المرضي بإتلاف الأصول والقضاء عليها بمجرد أن تتم الترجمة........"[20] قبل أن يضيف أن هذا ما يفسر معرفتهم الكبيرة وتراثهم الغني، مؤكدا أنهم يبقون مع ذلك أقل تحضرا من أوربا حتى في أحلك عصورها في القرون الوسطى.
يؤكد شليغل أنه لا شيء في العرب يستحق التقدير باستثناء حبهم للشعر، حتى أنه دافع عن الاستعمار الألماني لتركيا، كما سيصطف إلى الجانب الروسي في حربها ضد الأتراك كذلك مؤكدا أن روسيا في حرب ضد البربرية[21]، إضافة إلى أنه سيساند استعمار الإنجليز للهند مادام سيؤدي إلى تحرير الهندوس من المسلمين.[22]
لقد كان شليغل مثله مثل نوفاليس يحلم بأوروبا مسيحية موحدة، لذلك فهو رأى في الإسلام تهديدا خصوصا أمام انقسامها إلى أوروبا كاثوليكية وأخرى بروتستانتية، مما يفسر توجسه منه مسقطا من حساباته التعايش الذي عرفته الأندلس بين الإسلام والمسيحية واليهودية، بل إنه قد وصف استعادتها من لدن المسيحيين من أيدي المسلمين بالحرب التحريرية. لكن المرحلة الأخيرة من عمل شليغل ستتسم مع ذلك بالاهتمام أكثر بتاريخ الإسلام وحضارته، بل وكان مهووسا بتحديد المكانة الدقيقة التي احتلها العرب في التاريخ، لقد اعتبر شليغل حضارة الإسلام حلقة مفصلية ومحطة انتقالية في التاريخ الإنساني، لكنها انعطافة نحو انحطاط روح الإنسان، لدرجة وصف معها حملة نابليون على مصر بالانتكاسة والعودة إلى الروح الشرقية وأصولها المحمدية، بل وقد استعمل قياسات حسابية غريبة تخلط التاريخ بالإسكاتولوجيا ارتكازا على التاريخ الهجري للتكهن بأطوار التاريخ الأوروبية المستقبلية القادمة وبعض أهم أحداثها، فهو مثلا يذهب إلى أن الإمبراطورية الإسلامية قد دامت 666 سنة، فيضيف نفس الرقم (رمز الشيطان) إلى تاريخ الفتح الثاني للقدس 1187، ليبني على هذا القياس الغريب نبوءته بأن الفتح الثالث للقدس من طرف المسيح الدجال سيكون سنة 1853.
يذهب إدوارد سعيد إلى أنه لا يمكن فصل استمرار هذه الأخرويات عن الفيلولوجيا الأوروبية. أما اقترانها بالتاريخ، فيلقي الضوء على العلاقة الصدامية بين العالمين، لكن من الطريف والغريب أن تستعمل حسابات عجيبة كهاته مستندة على تاريخ أجنبي لتحديد تاريخ أوروبا على شكل نظرة انعكاسية للذات تتم عبر الآخر، وكأننا هنا أمام إعجاب سري غير معلن بحضارة الإسلام من طرف شليغل، حين يستدعي فهم شيفرة الله في العالم وتشفير التماثل الخفي للإطار الزمني المسيحي يتم عن طريق التاريخ الهجري، ونفس الشيء بالنسبة للعهد القديم؛ إذ يعده مستغلق المعاني، مشيرا إلى أن فهمه يتطلب العودة إلى ثلاثة مصادر: التلمود، القبالة وثرات الإسلام الذي يعتبر في جزء كبير منه تحريفا لتعاليم آباء الكنيسة.
ليس الأمر في الحقيقة نوعا من اللامركزية الثقافية كما قد نعتقد، بل على العكس من ذلك تماما، تعبر سعة الاطلاع هاته على الرغبة في الدفاع عن الامتياز الأوربي، فحتى حين يشيد شليغل بجانب من جوانب الشرق الإسلامي أو العربي يعود ليضعه وجها لوجه أمام أوروبا، ليظهر تفوق هذه الأخيرة.
كتب شليغل -كنموذج لما سبق- في مذكراته لسنة 1806 أن نبوة محمد لم تكن مجرد رؤيا خاصة، إنما تجاوزت الأمر إلى التضحية في سبيل الله ولأجله حتى وهو يتعرض للإساءة من طرف أهله وذويه، وهو نفس ما مر به عيسى، وكأننا بشليغل يوظف الإسلام فقط دعامة وقاعدة بيانات للدفاع عن كمال المسيحية، وفي مكان آخر وبشكل مغاير لكن لأجل نفس الغاية سيصف شليغل النبي محمد بالشخص العنيف والمتعطش للدماء، وهو يشير إلى ضرورة الاطلاع على الإسلام لفهم معاني المحبة الإلهية في المسيحية، فالاهتمام بالإسلام هنا راجع إلى وظيفته الإبستيمولوجية، ورغم ذلك يفسر هذا التقارب على أنه عدم أصالة بالنسبة للإسلام، فيعود ليصف محمد بالنبي بلا معجزات ودينه بأنه من غير سر وأن أخلاقه غير مبنية على الحب.[23]
يرى "يان آلموند" في كتابه "تاريخ الإسلام والفكر الألماني من لايبنيتز إلى نيتشه" شليغل أكثر الألمان -من بين كل من ذكروا في الكتاب على الأقل- إلماما بالثقافتين العربية والفارسية؛ وذلك نظرا لطبيعة بحثه الأساسي القائم على الوقوف على الكيفية التي تؤثر بها الثقافات واللغات والديانات في بعضها البعض، وكأننا بشليغل يسخر مختلف مجالات المعرفة لخدمة الاثنولوجيا الآرية، وبالتالي فهذه المعرفة كانت تبريرا للاستعمار. فصحيح أن نظرة شليغل للشرق بوصفه واحدًا من مفكري القرن التاسع عشر تختلف عن نظرة سابقيه من المفكرين الألمان، إلا أنه قد كانت لديه كغوته، هيردر ونوفاليس آمال في توحيد أوروبا المسيحية ومد حدود الإمبراطورية من السويد إلى حدود نهر البوزفور (هيردر) لحصار المسلمين والسلاف، مجسدة للعالم الأوروبي موحدا مثلما تمثله كانط.[24]
[1] Said, Edward, Orientalism, First Vintage Books Edition, October 1979, New york, USA, p19
[2] Schlegel, August, Réflexions sur l’étude des langues asiatiques, à Bonn, Chez ED. Weber, Rue ST. GERMAIN, nº31, 1832 pp7-9
[3] Said, Edward, Orientalism, p23
[4] Ibid, p51
[5] ibid, p98
[6] الراجحي، عبده، فقه اللغة في الكتب العربية، دار النهضة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، يناير 1972، ط1، ص14
[7] Said, Edward, Orientalism, p99
[8] ibid, p115
[9] ibid, p150
[10] Schlegel, August, Réflexions sur l’étude des langues asiatiques, p13
[11]Said, edward, Orientalism, p368
[12] Schlegel, August, Réflexions sur l’étude des langues asiatiques, pp11-12
[13] العقاد، عباس محمود، أشتات مجتمعات في اللغة والآداب، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، جمهورية مصر العربية، 2013، ص8-10
[14] Almond, Ian, The History of Islam in German Thought from leibenitz to Nietzche, p89
[15] Ibidem
[16] Ibid, pp 93-100
[17] Ibid, pp 90-95
[18] Ibidem
[19] Lacoue- Labarth, Philippe, et Nancy, Jean-Luc, Avec la collaboration de Danne-Marie Lang, L’absolu Littéraire: La théorie de la littérature du romantisme allemand, éditions du Seuil, Paris, France, 1978, p131
[20]الترجمة لعبد السلام بنعبد العالي، كما وردت في مقاله "في مرآة الآخر"، المنشور على موقع "أنطولوجيا" بتاريخ 18 أبريل 2018
[21] Almond, Ian, The History of Islam in German Thought from leibenitz to Nietzche, p99
[22] Ibid, p92
[23] Ibid, pp98-104
[24] Ibid, pp 102-107