الأدب والديمقراطية في تأويل جاك رنسيار


فئة :  قراءات في كتب

الأدب والديمقراطية في تأويل جاك رنسيار

الأدب والديمقراطية

في تأويل جاك رنسيار*


الكتاب:

  • سياسة الأدب، ترجمة د. رضوان ظاظا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010.
  • كراهية الديمقراطية، ترجمة أحمد حسّان، بيروت - القاهرة - تونس، دار التنوير، 2012.

المؤلّف: جون رانسيار.

"هنا تكمنُ ديمقراطيّة الكتابة، فصمتُها الثرثار يُلغِي التمييز بين أصحاب الكلام الفاعل وأصحاب الصوت المعذّب والصاخب؛ أي بين مَن يفعلون ومَن يكتفون بالعيش".

جاك رنسيار

لقد مثّل نقد الديمقراطية الليبرالية موضوعاً فلسفياً أساسياً اشتغلَ عليه أهمّ أقطاب الفكر السياسي المعاصر؛ حيث يحدّثنا ألان باديو (Alain Badiou) عن "وهم الديمقراطية"، ونعوم تشومسكي (Noam Chomsky) عن ديمقراطيّة البروبغندا الإعلامية، وأدلجة الرأي العام، وجون لوك نانسي (Jean Luc Nancy) عن ابتذال مفهوم الديمقراطية، وسقوطها في اللامعنى، داعياً إلى ضرورة مثول هذا المفهوم أمام ما يسمّيه كانط (Kant) "محكمة العقل". لكنّ جاك رنسيار (Jean Rancière)، الفيلسوف الفرنسي المعاصر، يقترح علينا مقاربة مغايرة تجمع بين الديمقراطية وفنّ الرواية، في جمعٍ طريفٍ من أجل اختراع شكلٍ مضادّ للديمقراطية الليبرالية، التي حوّلت العالم إلى سوق مفزعة كلُّ شيء فيها للبيع، حتّى مشاعر الشعوب وأصواتها.

يتنزّل سؤال رنسيار عن العلاقة بين الديمقراطية والأدب ضمن حقل اشتغال فلسفي دقيق افترعه منذ (1996م)، حيث يشتغل، لأوّل مرّة، بالأدب في كتابٍ حول مالارمي (Mallarmé)، تحت عنوان طريف هو (مالارمي وعروس البحر)، ثمّ سنة (1998م)؛ أي منذ كتاب (لحم الكلمات)، أو (سياسات الكتابة)، وكتاب (الكلمة البكماء) (1998م)، أيضاً.

ومن أجل أن يصير ممكناً الحديثُ عن علاقة حميمةٍ التقطها رنسيار بين الديمقراطية والأدب، وجبت ضرورة المرور عبر حدسه الفلسفي الأكثر اقتداراً وطرافةً، وهو الاشتراك في المحسوس؛ الذي يمثّل عنوان كتاب له بتاريخ (2000م)؛ ففي هذا الكتاب، نعثر على أطروحة رنسيار الخاصّة بافتراع مفهوم مغاير للديمقراطية بوصفها "تقاسماً للمحسوس"؛ أي اشتراكاً في كلّ ما يحدث من أحداث اللغة، والصمت، والمرئي، واللامرئي؛ حيث نقرأ، بقلم رنسيار، التعريف الآتي: "إنّي أسمّيه اشتراكاً في المحسوس؛ هذا النسق الخاصّ بالبديهيات الحسّية التي تجعل مرئيّاً، في الآن نفسه، الوجودَ المشترك، والتقاطعاتِ، التي تعيّن، في صُلبه، نصيبَ كلّ امرئ"[1].

ووفقاً لهذا المعنى، يكون الأدب، في تأويل رنسيار، أدباً ديمقراطياً في معنى محدّد تماماً، بوصفه "إعادة تقسيم للأمكنة، وللأوقات، وللمواقع، وللهويّات، وللكلام، وللصخب، وللمرئيّ، ولغير المرئيّ"[2]. إنّ الديمقراطية، بهذا المعنى، شكلٌ من الاشتراك في المحسوس. كيف للأدب، إذاً، أن يكون شكلاً من الديمقراطية المغايرة لديمقراطية السلع والأجندات العالمية؟

من أجل معالجة هذا السؤال، سنتوقّف عند لحظات ثلاث هي الآتية:

أوّلاً. ما الديمقراطية حسب تأويل رنسيار؟

ثانياً. في أيّ معنى يكون أدبٌ ما أدباً ديمقراطيّاً؟

ثالثاً. كيف يحقّق الأدب ضرباً من المساواة السياسية انطلاقاً من مجرّد "مساواة بين الجمل"؟

1) في معنى الديمقراطية:

ثمّة من يحبّ الديمقراطية، لكنّ ثمّة، أيضاً، مَن يكرهها. وربّما يكون دعاتها ومحبّوها أشدَّ كرهاً وبغضاً لها؛ لأنّ تشويه الديمقراطية، وتحويلها إلى إشباع لنَهمِ الجماهير الاستهلاكية الحديثة، شكلٌ من الكره لها، وهلاكها، والضرر بجوهرها العميق.

إنّ ما يكشف عنه رنسيار أنّ كراهية الديمقراطية ليست، على الرغم من ذلك، شيئاً جديداً؛ فهي كراهيّة تعود إلى شتيمة إغريقية قديمة ما انفكّت محاورات أفلاطون تشدّد عليها، بوصف الديمقراطية حكم الرعاع، وخراب كلّ نظام مشروع. ثمّة كراهيّة مزدوجة للديمقراطيّة من طرف كلّ الذين يكرهون سيادة الشعوب على أنفسها، ومن طرف النقّاد الجدد للديمقراطية الغربية في شكلها الليبرالي المتوحّش. ما يقوم به رنسيار هو مواجهة هذين الشكلين من معاداة الديمقراطية، وذلك وفق أطروحةٍ يعبّر عنها في الصفحات الأخيرة من الكتاب، قائلاً ما يأتي: "إنّ الديمقراطيّة عاريةٌ في علاقتها بسلطة الثروة مثل علاقتها بسلطة النسب، التي تأتي، اليوم، لتدعمها، أو لتتحدّاها. وليست قائمةً على أساس أيّ طبيعة للأشياء، ولا مضمونة بأيّ شكل مؤسّسي، ولا تدعم أيّ ضرورة تاريخية، وليست موكولة إلّا إلى مثابرة أفعالها ذاتها"[3].

إنّ ما يراهن عليه رنسيار، هنا، هو، أوّلاً: نقد صريح للديمقراطية الليبرالية في شكلها الغربي المتوحّش، وهو، ثانياً: ردّ فلسفي عميق على نخبة من المثقّفين الغربيين، الذين يكرهون الديمقراطية، ويماهون بينها وبين النظام الشمولي القائم على الليبرالية، وعلى أنانية الأفراد، وجشعهم، والطابع الاستهلاكي اللامحدود للحياة الديمقراطية.

وبالنسبة إلى رنسيار، "ليست الديمقراطية هذا الشكل من الحكم، الذي يتيح للأوليغاركية أن تسيطر باسم الشعب، ولا هذا الشكل من المجتمع، الذي تنظمه سلطة السلعة. إنّها الفعل الذي ينتزع، دون توقّف، من الحكومات الأوليغاركية احتكارَ الحياة العامّة، ومن الثروة القدرةَ الكلية على الحيوات. إنّها القوّة التي يجب، اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، أن تحارب ضدّ خلط تلك السلطات في قانون واحد ووحيد للسيطرة. إنّ العثور، من جديد، على تفرّد الديمقراطية، يعني، كذلك، الوعي بعزلتها"[4]. فالمثير، في هذا التأويل، أنّ الديمقراطية، في شكلها الليبيرالي المعاصر، إنّما تُعاني من العزلة. لقد وقع تشويه المعنى الأصلي لها، وتحويلها إلى مجرّد سلعة لشعب من المستهلكين، ولأدوار مشوّشة، وشوارع مسدودة، وللتناقض الصارخ بين الأفواه الفاغرة، والبطون المتخمة.

إنّ نقطة انطلاق هذا الكتاب حادثة سقوط بغداد تحت راية الديمقراطية. لقد وقعت كلّ الجرائم ضدّ الشعب العراقي، حينئذ، تحت راية الديمقراطية، في شكل وابلٍ من القنابل أسقط عليها سماءها. لكن ماذا فعل الأمريكان؟ لقد احتلّوا العراق، تحت تعلّة أن يمنحوا الشعب العراقي الحريّة... لكنّهم دمّروا وطنه.

يكتب رنسيار ما يأتي: "الديمقراطية انبعثت في الشرق الأوسط"[5]. تلك هي الجملة الأولى، التي يفتتح بها الفصل الأوّل من الكتاب، تحت عنوان مثير: (من الديمقراطية المنتصرة إلى الديمقراطية المجرمة)؛ ذلك أن ديمقراطيةً تُسوّقُ على ظهور الدبّابات ديمقراطيةٌ مجرمة حسب تأويل رنسيار، لكنّ هذا المفكّر الغربي لا يتوقّف عند حادثة سقوط بغداد، ولا عند قدوم الديمقراطية إليها على ظهور الدبّابات الأمريكية، ولا عند عدد القتلى من أطفال العراق، وشبابه، وذلك لأنّه يتكلّم من الضفّة الأخرى. إنّ ما يشغله أنّ الديمقراطية تحمل، في عمقها، مفارقاتٍ تدمّرها من الداخل، وهي مفارقات يلتقطها رنسيار كما يأتي:

إنّ منحَ شعبٍ ما الديمقراطية معناه، أيضاً، منحه الفوضى، وهي فوضى تجعل من الديمقراطية إفراطاً في كلّ شيء. وهو ما يجعلها تواجه شرّين معاً: "فإمّا أن تعني الديمقراطية مشاركة شعبية في مناقشة الشؤون العامّة، وهذا شيء سيّئ، وإمّا أنّها تعني شكلاً من الحياة الاجتماعية يحوّل الطاقات صوب إشباع الرغبات الفردية، وهذا، أيضاً، سيّئ"[6]. ما بين حكم الشعب نفسَه، وحماية الحقوق والحريات الفردية، تتأرجح الديمقراطية بين إفراط في الشعبوية، وإفراط في النزعة الفردية معاً.

من أجل فهم أسباب كراهية الديمقراطية وهشاشتها، في صيغتها الليبرالية الحاليّة، يعود بنا رنسيار، في الفصل الثاني من الكتاب، إلى النقد الأوّل للديمقراطية من طرف أفلاطون، في أوّل ديمقراطية إنسانية. فالديمقراطية تعني، في أصلها، نشأة السياسة بموت الراعي الإلهي. يقول رنسيار: "يجب أن نفهم أنّ الشرّ يأتي من مكان أبعد. الجريمة الديمقراطية ضدّ النسب البشري هي الجريمة السياسية في المقام الأوّل؛ إنّها، ببساطة، تنظيم جماعة إنسانيّة بلا رابط مع الإله الأب"[7].

هنا، يقف رنسيار عند نقد أفلاطون للديمقراطية الأثينية، بما هي حكم للرعاع والهمّج. فالكلمة ذاتها عبارة عن شتيمةٍ اخترعها الإغريق، الذين كانوا يَعُدُّون "الحكم الشائن للدهماء خرابَ كلّ نظام مشروع". إنّ أفلاطون لم يفعل غير استئناف هذا المعنى اليوناني الأصلي؛ حيث تصير، عنده، الديمقراطية، وفق تعبير رنسيار: "«بازاراً» للدساتير. زيَّ مهرّجٍ، كما يروق للناس، الذين همُّهم الأكبر استهلاكُ المتع والحقوق..."[8]. وهكذا، فإنّ ما يحدث على ركح الدهماء أنّ "الشباب يُساوون أنفسهم بالعجائز، والعجائز يُحاكون الشباب، والحيوانات ذاتها حرّة، والخيول والحمير واعية بحريّتها، وكبريائها، تدوس في الشارع مَن لا يفسحون لها الطريق"[9].

لكن رنسيار لا يقصد، بطبيعة الحال، استئناف هذه الشتيمة الأفلاطونية للديمقراطية، إنّما عاد بنا إليها؛ كي نعلم أنّ أعداء الديمقراطية ليس أمراً جديداً عليها، وأنّه كان ثمّة، دوماً، مَن يكره الديمقراطية؛ لأنّه لا يحتمل إمكانية المساواة مع الرعاع.

غير أنّ الإنسانية الحالية كفّت، منذ زمن، عن سوق الرعاع، ولم تعد القطعان تُقال على البشر، إلّا بالنسبة إلى الحاكم المستبدّ. لكنّ الحاكم غيّر من عنوانه، فأصبحنا نتحدّث عن جهاز الدولة القائم في نظام ديمقراطي على نظام التمثيل؛ أي على الاقتراع.

رنسيار ينقد، أيضاً، هذا الشكل من الديمقراطية التمثيلية، التي ليست، في النهاية، غير حكم الأقلية، التي وقع انتخابها من أغلبيةٍ منحت الصندوق أصواتها، ثمّ انسحبت إلى الحياة العامّة، منتظرةً إنجاز الوعود والمواعيد. ما حدث، في الأنظمة الديمقراطية الغربية، إذاً، تحوّل الدولة إلى أوليغاركية، وتحوّل الشعوب إلى حوانيت استهلاكية. ما حدث أنّ كلّ دولة ديمقراطية تسعى إلى الاستئثار بالمجال المشترك، وإلى إفراغه من السياسة. ما هو خطيرٌ انسحابُ السياسة، واستئثار الأقليّة الحاكمة بادرةَ الحياة المشتركة. الديمقراطية "سيرورة نضال" ضدّ احتكار الحياة، ضدّ الخوصصة، ضدّ نهاية السياسة واستحالتها.

إنّ أطروحةَ الفيلسوف الفرنسي جاك رنسيار لا تتمثّل، ههنا، في الدفاع عن يوتوبيا حكومية جديدة، ولا في اقتراح خطة عمل (روزنامة) مغايرة لنضالات شعبية، ولا حتى في تنشيط آلةٍ (مكنة) ما بعد ماركسية ضدّ شرعية الديمقراطية... إنّه يرفض، أيضاً، كلّ خطاب تكنوقراطي حول تكنوقراطيين محترفين في صنع المستقبل... ولا حتى في الانقلاب على ما يحدث. وبالنسبة إلى المستقبل، "ليس ثمّة مستقبل في انتظارنا..."[10]. ثمّة، فحسب، الكثير من العمل والنضال، "بالنسبة إلى كلّ مَن أراد ألّا يموت غبيّاً"[11].

وضدّ يوتوبيا التغيير الجذري للعالم، تحت راية المفهوم الماركسي للثورة، يعلّمنا رنسيار أنّه "لا العلم سيحرّرنا، ولا التاريخ؛ إذ لم يعد ثمّة مسار موضوعي يخلق شروط التحرّر الجذري"[12].

إنّ الديمقراطية، إذاً، نضال من أجل منع احتكار الدول لشكل الحياة المشتركة بين بشر متساوين منذ البداية؛ فالمساواة بين البشر ليست هدفاً؛ بل هي مبدأ ومنطلق لكلّ ديمقراطية. وعليه، ليست الديمقراطية كمّاً من الأصوات المُودَعة في صناديق الاقتراع، إنّما هي شكل جديد من توزيع المحسوس على نحو عادل، وذلك انطلاقاً من تحوّل عميق في ماهيّة الذاتيّة السياسية نفسها. لقد كفّ الإنسان عن أن يكون كوجيتو بوسعه الانعزال عن الآخرين، إلى حدٍّ تحوّل فيه إلى فردٍ هشٍّ مختزل في رغبات استهلاكيّة مهزوزة. رنسيار يقترح علينا تصوّراً جديداً للذاتية السياسية نفسها: كلّ منّا هو قدرة على أن يكون أيّاً كان. وهذا يعني أنّنا لسنا بكائنات ملقاةٍ هكذا في العالم، إنّما نحن أيّ «كانيّات» (quiquonques) قادرة على أن تكون كونيّة حيثما حلّت. وذلك يحدث لنا دون العبور في جدلية الاعتراف بالآخر، ولا بالوعي التعيس، ولا باغتراب الروح في التاريخ، ولا بصورة المصلوب (المسيحيون)، ولا الضحيّة (اليهود مع المحرقة... أو العرب مع الاستعمار). ههنا، تتجاوز الفلانيّة الحرّة، التي تملك، دوماً، اقتدار تحويل الأيكانية إلى اقتدار كوني، كلّ أشكال الصدام بين الأنا والآخر، التي اتّسم بها التشخيص السياسي الحديث برمّته.

ههنا، ننصت إلى نداء السياسة في عصرٍ ماتت فيه السياسة، واستحال أمر الشعوب إلى سطوة العصابات، والشبكات العالمية... إنّ الديمقراطية مطلب غير مشروط، ولكنّها مطلب من نوع خاصّ جدّاً؛ إنّه يقوم، لدى رنسيار، على شكل مغاير من الذاتية السياسية هو الفلانية؛ أي "القدرة على أن تكون أيّاً كان". ثمّة، ههنا، صياغة جديدة للوجود المشترك قائمة على الاشتراك في المحسوس، وعلى توزيع جديد للمرئي واللامرئي، للكلام، وللضجيج، للهامش والمركز.. رنسيار يصوغ تصوّره لهذه الفلانية السياسية القائمة على ما يسمّيه "جماعة المتساوين". كلّ الناس، إذاً، وأيّاً كان، في هذا الفضاء الديمقراطي، إنّما هم، بالضرورة، قادرون على الفعل السياسي[13]، فالسياسة ليست حكراً على أقلّية تمثّل الشعب عبر صناديق الاقتراع.

إنّ المساواة، ههنا، أن تكون مع الناس، وأن تكون لا أحد. أنت فلاني جدّاً، وهذا هو اقتدارك الوحيد... اجعل من هذا الاقتدارِ على أن تكون أيّاً كان مسلّمةً كونيةً. ومن ثَمَّ، إنّ مساواةً تقتصر على الاصطفاف في الأحزاب، أو وراء صناديق الاقتراع، هي مساواة زائفة.

وينتهي رنسيار، في آخر جملة في كتابه، إلى القول إنّ الديمقراطية لا تثير "الكراهية إلّا لدى مَن اعتادوا ممارسة أستاذية الفكر، لكنّها، لدى من يعرفون كيف يقتسمون مع أيّ أحد كان السلطة المتساوية للذكاء، يمكن، على العكس، أن تثير الشجاعة، ومن ثمّة البهجة"[14].

إنّ ما تطلبه الفُلانيّات الحرّة، في نضالاتها الديمقراطية، من أجل شكل مشترك من الحياة، هو، فحسب، حقّها في الانتماء إلى الإنسانية، التي يحتكرها الآخرون. وهو أمر لا يمكن أن تنجزه الدولة، ولا صناديق الاقتراع، ولا أيّ وعد نبويّ، أو إلهي من أيّ نوع... لكن بوسع الأدب أن ينجز شكلاً من الديمقراطية، وهو ما اكتشفه رنسيار، في كتابيه (سياسات الأدب) (2007م)، و(الخيط الضائع) (2014م).

2) ديمقراطية الأدب:

بوسع الأدب، إذاً، أن يكون ديمقراطيّاً. تلك هي الأطروحة العامّة لكتاب (سياسات الأدب) الصادر سنة (2007م)؛ أي بعد سنتين من كتاب رنسيار حول (كراهية الديمقراطية). لكن، ما معنى سياسات الأدب؟ بالنسبة إلى رنسيار، سياسةُ الأدب ليست سياسةَ الكتّاب؛ إنّها في غير علاقة بقضيّة الالتزام بالمعنى الماركسي الدقيق للكلمة. وبعبارات رنسيار، "إنّ الأدب يمارس السياسة بوصفه أدباً"[15].

بين السياسة والأدب، ثمّة علاقةٌ ما، بوصف كلّ منهما يخترع ضرباً من توزيع المحسوس، وتدبيرٍ ما للحياة المشتركة. لكنّ الطريف أنّ السياسة لا تقوم على التفاهم، أو التعاقد، أو التواصل، إنّما هي، دوماً، موضع نزاع، أو خلاف. ويستعيد رنسيار، هنا، تعريفاً أرسطياً للسياسة من أجل أن يجري عليه تحويلاً جذريّاً؛ ذلك أنّ أرسطو كان يَعُدُّ السياسةَ موضع صراعٍ لتحديد الفرق بين ما هو كلام خاصّ بالبشر، وما هو صوت، أو وجع خاصّ بالحيوانات البكماء. وهو تعريف نجد جذوره لدى أفلاطون، الذي يعتبر أنّ الحرفيين؛ أي العبيد، ليس لهم الوقت للاشتغال بالسياسة؛ فهم، كالحيوانات، لا يملكون غير القدرة على التوجّع؛ إنّهم ممنوعون من السياسة.

ههنا، تحديداً، يتدخّل جاك رنسيار، قائلاً ما يأتي: "غير أنّ السياسة تبدأ، تحديداً، حين تصبح هذه الاستحالة موضع تساؤل؛ أي حين يجد أولئك الذين لا يملكون الوقت للقيام بأيّ شيء آخر، عدا عملهم هذا الوقت، الذي لا يملكونه؛ ليثبتوا أنّهم كائنات ناطقة هي جزء من عالم مشترك، لا حيوانات هائجة، أو متوجّعة"[16].

تبدأ السياسة، تحديداً، من هذا الموقع، الذي يصير فيه المستحيلُ السياسةَ بعينها؛ أي حيث يصير من حقّ الجميع أن يتقاسموا المحسوس على نحو مغاير. فالسياسة إعادة توزيع للمرئيّ واللامرئي، للضجيج والكلام، للأمكنة وللهويات... وتلك هي، تحديداً، مهمّة الأدب. هنا، تحديداً، يجري رنسيار تحويراً عميقاً على ماهيّة السياسة، وعلى ماهيّة الأدب معاً: لم تَعدِ السياسة حكراً على طبقة النبلاء، أو مالكي وسائل الإنتاج؛ بل أصبحت من حقّ كلّ الناس. ولم يعد الأدب في علاقة مباشرة بالسياسة في معنى الالتزام؛ بل صار هو نفسه سياسة من سياسات المحسوس؛ إنّه يعيد توزيع نسيج الحياة المشتركة بأن "يجعل مرئيّاً ما لم يكن، ومسموعاً، ككلام كائنات ناطقة، ما لم يكن يُعَدُّ إلا صخبَ حيوانات ضاجّة". يقول رنسيار: "يعني تعبير سياسة الأدب، إذاً، أنّ الأدب يتدخّل، بوصفه أدباً، في هذا التقسيم للأمكنة وللأوقات، وللمرئي، وللكلام، والصخب"[17].

كيف نفهم هذا الكلام؟ تنبغي الإشارة إلى أنّ رنسيار، هنا، إنّما يناقش تأويل سارتر للحداثة الأدبية؛ أي حداثة الفنّ للفنّ في شخص فلوبير، وبودلير، وبلزاك، بوصفها أدباً رجعيّاً، وغير ديمقراطي. وسارتر يذهب، في ذلك، حول أدب فلوبير، إلى ما يُسمّيه التحجّر اللغوي؛ حيث يقول: "إنّ فلوبير يكتب ليتخلّص من البشر، ومن الأشياء. فعبارته تحاصر الغرض، وتلتقطه، وتثبّته، وتحطّمه، ثمّ ترتج على نفسها داخله، وتتحجّر وإيّاه"[18].

غير أنّ رنسيار يدحض تصوّر سارتر، وذلك عبر استعادة تأويل معاصر لفلوبير يرى، على عكس سارتر، "أنّ تحجير اللغة ليس سلاحاً لهجوم معادٍ للديمقراطية، التي كانت تحرّك كلّ سعي الروائي؛ إذ عَمِلَ فلوبير على جعل كلماته كلِّها متساوية، وألغى كلّ أنواع التراتبية بين الموضوعات النبيلة والموضوعات الوضيعة، وبين السرد والوصف، وصدر اللوحة وخلفيتها، وأخيراً بين البشر والأشياء. ولا شكّ في أنّه كان يستبعد كلّ أشكال الالتزام السياسي، من خلال معاملة الديمقراطيين والمحافظين بالازدراء نفسه"[19]. إنّ امتناع الكاتب عن الرغبة في إثبات أيّ شيء هو السلوك الديمقراطي بامتياز في الأدب، عكس ما تأوّله سارتر. في هذا المعنى، تحديداً، يُعَدُّ رنسيار أنّ نثر فلوبير كان نثراً ديمقراطياً؛ بل هو تجسيد للديمقراطية نفسها. ففيم تتمثّل ديمقراطية الأدب، إذاً؟

يمكن تجميع إجابة رنسيار في تأويله الحداثة الأدبية، لاسيّما مع (مدام بوفاري) لفلوبير[20]، كما يأتي:

أوّلاً. لا تكمن جدّة الأدب في ابتداع لغة جديدة، إنّما في اختراع أسلوب جديد في الربط بين ما يمكن قوله، وما يمكن رؤيته؛ أي بين الكلمات والأشياء.

ثانياً. إلغاء كلّ أشكال التراتبيّة بين الموضوعات والشخصيات. فلم تعد هناك موضوعات جميلة، ولا موضوعات رديئة؛ بل لم يعد هناك أيّ موضوع على الإطلاق. ومن ثَمَّ، علينا أن نؤوّل "الفن للفن" بوصفه "صيغة مساواةٍ جذرية لا تقلب قواعد الفنون الشعرية، فحسب؛ بل تقلب نظاماً كاملاً للعالم، ونسقاً كاملاً من العلاقات بين أساليب في الوجود، وأساليب في الفعل، وأساليب في الكلام"[21].

- الحداثة الأدبية، مع فلوبير، تحديداً، أنجزت ثورة؛ أي قطيعة رمزية مع النظام التمثيلي التقليدي القائم على تفوّق الفعل على الحياة. إنّ الأدب هو هذا النظام الرمزي الجديد من فنّ الكتابة، الذي ألغى كلّ أشكال التفوق والنبل، وجعل فنّ الكتابة قائماً على نظام جديد؛ حيث "الكاتب أيّاً كان، والقارئ كذلك". الأدب كتابة يمكن تعميمها على الشعب. يقول رنسيار: "هنا، تكمن ديمقراطية الكتابة، فصمتُها الثرثارُ يلغي التمييز بين أصحاب الكلام الفاعل وأصحاب الصوت المعذّب والصاخب؛ أي بين من يفعلون ومن يكتفون بالعيش. إنّ ديمقراطيّة الكتابة نظام الرسالة التائهة، التي يمكن لأيٍّ كان أن يأخذها على عاتقه ..."[22].

- انّ علاقة الأدب بالديمقراطية لا تعني "حكم الطبقات الشعبية"، إنّما هي ديمقراطية الإسراف في علاقة الأجسام بالكلمات؛ الإسراف الوصفي، الذي يغمرنا به فلوبير، غير آبهٍ بالفوارق، أو الفواصل بين الأشياء والموضوعات، وبين الحيوانات والبشر، وبين النبلاء والفقراء... وبين الجميل والقبيح.. كلّ العالم التقليدي يسقط فجأةً عند كلّ صفحة من صفحات (مدام بوفاري). لم يعد الحيوان السياسي حيواناً جميلاً، وكلّاً عضوياً متناسقاً؛ بل انتثر العالم كطوفان من الأحداث الصغيرة والتفاصيل، التي كانت تبدو للقصص التقليدي لا معنى لها.

3) الرواية التائهة:

في كتابه (الخيط الضائع)[23] (2014م)، يجذّر رنسيار هذا التأويل للرواية الحديثة، الذي نجده ضمن كتابه (سياسات الأدب)، وهو كتاب يستأنف، فيه، أطروحته حول ديمقراطية الأدب. كلّ الروايات الحديثة تبدو، إذاً، ضمن هذا التأويل، أشكالاً مختلفة من تدمير ما كان يمثّل مبدأ القصص، منذ أرسطو؛ أي تسلسل الأفعال وفق ضرورة سابقة عليها، أو حقيقة توجّهها من الداخل. إنّ الأمر يتعلّق بتدمير أدبيّ للمعقولية السببية، من أجل ترك المجال لمجرّد تتالي الأحداث وتشابكها على نحو المصادفة العابرة. فالأدب الحديث، منذ فلوبير خاصّةً، إنّما هو كسر لمعقولية تعبّر عن رفاهة شكل من الحياة قائم على تميّز طبقة اجتماعية معيّنة، وألقاب شرف، وتراتبية آنَ الأوانُ لزعزعتها بالرواية. إنّ الرواية الحديثة، إذاً، تدمّر شكلاً من الحياة، وصورةً للفكر، وذلك عبر ما كتبه فلوبير، وكونراد، وبودلير، وبوخنار، وفيرجينيا وولف. ثمّة، إذاً، ثورة كتابة حصلت في الرواية الحديثة هي، أيضاً، ثورة في الفكر. بهذه الأطروحة، يناقش رنسيار التأويلات السائدة عن الأدب الحديث، من قبيل تأويل جورج لوكاتش القائم على مفهوم الرواية التاريخية، وتأويل رولان بارت القائم على "الدرجة الصفر من الكتابة"، وتحليل والتر بنيامين "للشاعر الغنائي في قمّة الرأسمالية"، وتأويل جان بول سارتر للأدب الملتزم.

ثمّة، إذاً، ضرب من الديمقراطية الأدبية، التي أحدثتها ثورة الكتابة ضمن الأدب الحديث، وهي ديمقراطية تقوم على ما يسمّيه رنسيار، ضمن كتاب (الخيط الضائع) "مساواة الجمل". لقد منح أقطاب الأدب الحديث، في القرن التاسع عشر، الروايةَ شكلاً مخصوصاً من "المساواة بين الجمل" في معنى أنّ الكتابة تحوّلت إلى سيلان لجملة من الجمل بشكل اعتباطي، وعلى صفحاتٍ لم تكن مخصّصة سلفاً لوجودها. لا يمكن، إذاً، الاستمرار في تأويل الرواية الحديثة في علاقة مباشرة بالسياسة، بوصفها تترجم طموحات الجماهير في التحرّر. يتعلّق الأمر بتغيير تامّ لنظام الكتابة في اتّجاه شكل دقيق من المساواة الأدبية، التي تجعل المساواة الاجتماعية والسياسية أمراً ممكناً. وهي ديمقراطية تجد أهمّ مظاهرها في النقاط الآتية:

أوّلاً. ضدّ مبدأ تقسيم المجتمع إلى أناسٍ يعملون، وأناسٍ يفكّرون؛ أي إلى نخبة تكتب، وشعب يعمل. وهنا، ينشّط رنسيار ما كان قد مثّل موضوع كتابه (المعلّم الجاهل)، الذي يقوم على تصوّرات البيداغوجي جوزاف جاكوتوت (Joseph Jacotot)(1770-1840م)؛ أي ما كان قد أعلن عنه كانط تحت مفهوم الحسّ المشترك؛ أي أنّ "كلّ العقول متساوية". وبذلك، يصير ممكناً القول إنّ كلّ الناس لهم القدرة على الأهواء، والانفعالات، والمشاعر، وأنّ الانفعالات القصوى ليست حكراً على طبقة النبلاء. وهنا، تحديداً، يقع هدم فكرة البطل التقليدية من أجل ترك المكان لبطولة الكائنات عديمة الاسم.

وهنا، أيضاً، نعثر على أهمّ مظهر من مظاهر الديمقراطية الأدبية، وهو تعميم القدرة على أن يصير كلّ إنسان أيّاً كان؛ أي القدرة على "الأيكانية"، بوصفها اقتداراً ديمقراطياً كونياً هو مفتاح الذاتية السياسية الجديدة داخل هذا النظام السياسي الجديد؛ أي نظام "تقاسم المحسوس". عليك أن تكون قادراً على أن تكون، دوماً، أيّاً كان، إن كنت تحبّ الديمقراطية. مَن يكره الديمقراطية هو الذي يكره إمكانيّة تقاسم مساحة الذكاء مع كلّ الناس الآخرين.

ثانياً. الديمقراطية الأدبية، وتعني، تحديداً، إعادة توزيع للمحسوس، حيث يقع بعثرة التمييز التقليدي بين التخييل والحياة اليومية. ههنا، يتعلّق الأمر باكتشاف عبثية النسيج العادي للوجود اليومي: حينما نكتب وفق ديمقراطية الأدب ليس ثمّة أيّ معنى، ولا أيّ ضرورة، ولا أيّ حقيقة تعيّن لنا ما نكتب، أو تقودنا إلى نهايةٍ ما. إنّ الرواية الحديثة، بهذا المعنى، إنّما تدمّر - حسب رنسيار - سموّ التخييلي على التاريخي مثلما اعتقد أرسطو في ذلك، يوماً.

ثالثاً. إنّ ديمقراطية الأدب لا تراهن، إذاً، على فعل ما يوجّه نحو غاية محدّدة في معنى الالتزام، كما ذهبت إلى ذلك القراءات الماركسية على طريقة سارتر. ما تفعله الرواية الحديثة إعادة توزيع المرئي واللامرئي في معنى اختراع حقل مرئيّ جديد يجعل من ظهور أحداث صغرى محسوسة في شكل ميكرو أحداث، أو في شكلِ أوصافٍ لا متناهية لشعاع شمس، أو للون سماء، أو لنزوة عابرة، هو رهان الكتابة نفسها. إنّ الرواية الحديثة، إذاً، لا تقصّ علينا سلسلة من الأحداث، التي تعكس الحياة الحميمة لبطل ما، إنّما تظهر لنا نسيج عالم قائم على تشابك تجارب فريدة متساوية في الكينونة الأدبية، لا فضل فيها لحدث على آخر؛ لأنّ الرواية الديمقراطية ترفض تفضيل شكل من الحياة على شكل آخر.

رابعاً. إنّ ديمقراطية الأدب الحديث تجعلنا ضمن نظام مساواة معمّمة، حيث تتمتّع كلّ العلامات، ضمن حقل المحسوس، بالقيمة الأدبية نفسها. كما حدث مع لقاء إيما برودولف في (مدام بوفاري) لفلوبير(Flaubert)؛ حيث لم يعد الحبّ نتيجة لمسار عقلي، أو لنظام من الوسائل والغايات ضمن نظام أيروسي من الإغراء المخطّط له سلفاً، إنّما يحصل الحبّ الديمقراطي، في شكل لقاءٍ بين أحداث حسيّة عابرة لا أهمية لها: حرارة الصيف، عطر الفانيليا، صراخ أصوات حيوانات الضيعة، وخوار الأبقار... وذكرى لنزوات عاطفية قديمة.

خامساً. الرواية الديمقراطية رواية ضيّعت خيطها، وانفلتت في خطوط هروب نحو لقاءات عابرة لأيّ كان، ولأيّ شيء. إنّ ما كان أمراً عديم الجدوى، وعديم الاسم، وعديم الكينونة، هو الذي أنجز انقلاباً في النسيج الحسيّ؛ أي في تقاسم المحسوس، وهو المعنى العميق للعلاقة بين الديمقراطية والأدب. إنّ الرواية الديمقراطية هي تلك الرواية، التي تسافر بنا في غيمات من الذرّات اللاشخصية، التي تهدم استراتيجية البطل، وتستعيد المحسوس اليومي. إنّ الرواية الحديثة لم تعد تملك موضوعاً خاصّاً بها من جهة موادّها وشخوصها، "فأيّ شيء يمكن أن يصلح مادّة للتخييل". هي المساواة بين الجمل، والمساواة بين كلّ شخوص الرواية: بين الشحّاذ، والفلاّح الميسور، والخادمة، والمتسكّع، والطبيب... هذه المساواة الأدبية تعبّر عن نوع جديد من الجمال: ليس هو جمال الشكل، أو حتى اللاشكل؛ بل هو جمال الكثرة الحسية عديمة الاسم، هو "جمال الجسم، الذي ضيّع الخطوط التي تسجنه، وجمال الكائن المفصول عن هويّته". الرواية، التي ضيّعت خيطها، هي الرواية الديمقراطية؛ حيث ضياعها ضياع فيض الحياة، وطفرة المحسوس، وسورة الوصف...

خاتمة:

الأدب والديمقراطية ثنائيّ طريف لاستشكال مغاير لمفهوم الديمقراطية فيما أبعد ممّا يحدث لها في النظام الليبرالي العالمي المفزع. ضدّ تحويل السياسة إلى برامج (أجندات) مافيوزية، وتحويل الثقافة إلى بضاعة كبرى، والذائقة الجمالية إلى ذوق مطبخي للمتع الجشعة.

يعلّمنا المفكّر الفرنسي المعاصر أنّ الدول ليست الطريق الوحيد لبناء عالم ديمقراطي قائم على المساواة بين البشر؛ وذلك لأنّ البشر ليسوا قطعاناً لأحد، وليسوا ملكية أيّ دولة كانت، مهما كانت قدرتها على السطو على الشعوب. وربّما يكون بإمكان الدول السطو على الأسواق والبضائع، لكن ليس بإمكانها التحكّم في قدرة الناس على الحلم، والتخييل، وإبداع أشكال رمزية للعيش المشترك. وعليه، سنقتسم الخيال، إذاً، إن لم يكن بوسعنا أن نشترك في الواقع. وإنّنا لمتساوون في القدرة على الحلم والإبداع، إن لم يكن بوسعنا المساواة في الثروات والمتع. ومهما كانت طوباوية هذا التصوّر، الذي يقدّمه رنسيار للديمقراطية عبر الأدب، وعلى الرغم من افتقار هذا التصوّر "الفوضوي" إلى سياسة مناسبة لما يقترحه علينا، كما يذهب إلى ذلك ألان باديو في نقده لرنسيار، فإنّ هذا التصوّر يبقى واعداً بإمكانات تخييل مغايرة لواقع لا تنمو فيه غير الصحراء.

وهكذا، نتعلّم من رنسيار أنّه كلّما سقط عالم الدول عُلِمت عوالم التخييل شامخة في وجه سياسات مافيوقراطية حوّلت الحياة إلى سوق كبيرة مثيرة للغثيان. لكن، لا شيءَ يهزم الخيال، ولا شيء ينتصر على الحلم في قلوبنا. سنظلّ، ههنا، نكتب الروايات والأغنيات من أجل عالم مغاير لأطفال المستقبل...


* نشرت هذه المادة في مجلة "ألباب"، العدد 5، ربيع 2015، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[1] Jacques Rancière, Le partage du sensible, Esthétique et politique, Paris, la Fabrique-éditions, 2000, p.12.

[2] جاك رنسيار، سياسة الأدب، ترجمة د. رضوان ظاظا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010م، ص 16

[3] جاك رنسيار، كراهية الديمقراطية، ترجمة أحمد حسّان، بيروت – القاهرة - تونس، دار التنوير، 2012م، ص 115

[4] المصدر نفسه.

[5] المصدر نفسه، ص 15

[6] المصدر نفسه، ص 17

[7] المصدر نفسه، ص 45

[8] المصدر نفسه، ص 48

[9]المصدر نفسه.

[10] Jacques Rancière, Et tant pis pour les gens fatigués, Entretiens, Paris, éditions Amesterdam, 2009, p.553.

[11] ibid, p.41.

[12] ibid; p.464.

[13] J.Rancière, Et tant pis pour les gens fatigués, op. cit, p. 495.

[14] رنسيار، كراهية الديمقراطية، مصدر سابق، ص 116

[15] رنسيار، سياسة الأدب، مصدر سابق، ص 16

[16] المصدر نفسه، ص 16

[17] المصدر نفسه.

[18] المصدر نفسه، ص 20

[19] المصدر نفسه.

[20] Gustave Flaubert, Madame Bovary, Paris, Pocket, 2006.

[21] رنسيار، سياسة الأدب، مصدر سابق، ص 25

[22] رنسيار، سياسة الأدب، مصدر سابق، ص 28

[23] Jacques Rancière, le fil perdu, Essais sur la fiction moderne, Paris, Fabrique, 2014 (p 150).