الألم الإنساني؛ الأمل بالإله: في البحث عن المشترك بين الإنسان والإله


فئة :  مقالات

الألم الإنساني؛ الأمل بالإله: في البحث عن المشترك بين الإنسان والإله

لربما كانت فكرة الألم، على المستويين التنظيري والتطبيقي، فكرة مُعذّبة للإنسانية، لأنها تطال البنية الجسدية للإنسان، في مقتل، وتجعله نهباً لشعور كارثي بالتفسّخ والانحلال والفناء بالتالي. عوضاً عن الآلام المُبرّحة التي تطال الجسد لحظة وقوعها عليه، وتجعله يرتكس ارتكاسة كبيرة. ولما لهذه الفكرة من تأثير بالغ علينا، أمكنني الحديث هنا عن ضغطين يمارسهما الألم على الإنسان، مما يجعله يستحضر فكرة الأمل، حتى وهو في أوج ألمه، كنوعٍ من الموازنة بين ما هو مفقود الآن، وما هو مأمول بعد الآن:

1- الضغط الجسدي؛ وفي هذا الضغط تبرز فكرة عدم قدرة الجسد وآلياته على الصمود في وجه الجراثيم والفيروسات والكسور والجروح، إلى ما لا نهاية، فهو منذور - أي الجسد - للخراب والموت والدمار، نظراً للوقتية والزمنية التي يقوم عليها أساساً، فهو محض حضور بين لحظتين زمانيتين: لحظة الميلاد ولحظة الموت؛ فالجسد إذ ينبثق إلى الوجود ويشقشق خارج شرنقة رحم أمه، فإنّ آلياته تبدأ باستهلاك نفسها، إلى درجة ستصل معها إلى الذروة وقمة النشاط، بما يحيلها بالتالي إلى عطب أخير. فهي إذ تبدو قوية في فترة من فترات العُمر، لا تفتأ تتقهقر وتتداعى أمام ضربات الأمراض المُتلاحقة. وقد كان للإنسان أن يتحايل على فكرة ألم الجسد، بالالتجاء إلى الطبابة، ومحاولة ترميم الخراب الجزئي الحادث في بنية الجسد، لغاية الإبقاء على عمل آليات الجسد لأطول فترة ممكنة. وقد كان للطبابة أن تتطوّر تطوّراً ملحوظاً وكبيراً، عبر مسيرة طويلة وعريقة من الاكتشافات الطبية المُتعاقبة[1]. ولربما حملت مقولة (رينان): "إنّ أبسط تلميذ في المدرسة يعرف الآن ما كاد أن يدفع أرخميدس حياته، ثمناً لمعرفته سابقاً"، معنى دالّاً في هذا المجال، إذ تُشير إلى ما وصلت إليه اليوم العلوم الإنسانية، من تطوّر كبير وملحوظ، فقد تمكّن الإنسان من تطوير قدراته البحثية والتجريبية، على ابتكار كثير من المنقوعات والعقاقير والأدوية والمحاليل والحقن، التي أثبتت جدواها في التخفيف من حِدّة الألم وإعفاء الجسد من عذابات مؤلمة، ومنحه - من ثمَّ - أملاً بأنه لن يموت الآن على الأقل. فالخلايا التي تتعرّض للتلف أو التآكل، بسبب الجراثيم والفيروسات والأمراض على اختلافها، ها هي تُعيد تشكيل ذاتها، بعد أخذ الدواء، الذي يُعيد للجسد قوّته وقيّوميته، مما يجعل الإنسان يستمر في مسيرته الحياتية، التي اقترنت ابتداءً بالجسد ومواضعاته في هذا العالم. وقد كان للإنسان ذاته - بعيداً عن أي حضور للإله في هذا المجال، وإن أُلتجئ إليه أساساً، بالصلوات والأدعية والأضاحي، وما إلى ذلك من عبادات تقرّبية تحمل في طياتها تمنيّات بشفاء المريض واسترداد صحته[2] - أن يرقى بآماله على حساب آلامه، على المستوى الجسماني، فهو إذ يستبصر الإمكان التخليقي لمادة العالَم، وتحويل عناصرها الأولية المهوشة، إلى مواد طبية مفيدة، فإنه يكون قد أنقذ نفسه بنفسه، عبر إعمال عقله في هذا العالَم، وتحويله من مادة سلبية خام، إلى مادة نافعة لوجوده هنا والآن. فهو يعي قيمته الوجودية الكبرى لحظة انبثاق الألم في الجسد الإنساني، لناحية إدراكه الحاجة الملحّة لهذا الجسد إلى علاج طبي فوري، فالجسد المريض بحاجةٍ إلى الحقن والإبر والمحاليل والأدوية والأجهزة الطبية المختلفة، أكثر من احتياجه إلى أيّ شيء آخر. وكلما كانت الأدوات الطبية أكثر تطوّراً، كلما ازدادت الفرصة بالتخفيف من حدة الألم، والإعلاء من شأن الأمل، بما يمنح الإنسان قدرة كبيرة على إبراز قدراته الحضارية، لناحية الإمكان التعديلي/ التغييري، الذي تنطوي عليه بنيته الداخلية، لا سيما ساعة احتكاكها ببنية العالَم الخارجي، فالناتج هو تحويل ما هو سالب في العالَم إلى إيجاب إنساني، وفيما يتعلق بموضوعة الألم الجسدي، الاستفادة من نِتاج الاحتكاك بين بنية العقل الإنساني وبنية العالَم، في تحويل المادة الخام في العالَم، عبر تجميع شتات عناصر كثيرة في نسق علمي واحد، وإجراء تعديل عليه، حيث يخدم مشروع تخفيف الألم، وبثّ الأمل لدى الإنسان، بما يمنحه طمأنينة تُفتقد لحظة الألم.

2- الضغط المعنوي، وفي هذا المجال، تبرز فكرة الفناء والعَدَم وتفرض حضورها على السياق الإنساني. فعندما يشعر المرء بتهدّم خلايا جسده، مع ما يرافق ذلك من آلام مبرّحة، فإنه يشعر بقرب انهدام - حتى في حال تمت عمليات الترميم، عبر أخذ الدواء والعقاقير- جسده، وتحوّله إلى خراب. لذا يشعر بحاجةٍ ماسّة إلى أمل كبير، يتموضع فيه، ويمنحه الطمأنينة القصوى، التي تمنع عنه، ليس تخفيف الألم فحسب، بل تمنحه أملاً ببعث جديد، حتى في حال موت الجسد، وصيرورته إلى حالة عدم وجود. فالإنسان إذ صار إلى حالة وجود، فإنه يخشى أن يندثر من جديد، ولا يعود له وجود على الإطلاق مرة أخرى، مرحلة ما بعد الموت. وقد حدا الخوف الشديد من الفناء الكُلّي، إلى الاعتناء بقضية البعث[3] والأمل المُعلّق على مشجب الغيب المُنتظَر!. ولربما كان لواحدةٍ من الأفكار المُتعلقة بمواضعات الإله على إطلاقه، لناحية أنه أمل كبير، يحمل إمكاناً هائلاً بترميم آلام الإنسان ترميماً كاملاً لإنسان يتألّم موتاً، أنها طمأنت الإنسان وأراحت هواجس الفناء والموت عنده، ولو على المستوى السيكولوجي؛ إلى درجة تشجيع ثقافة الموت في كثير من الحضارات الإنسانية، والحثّ عليه، إلى درجة قد تصل إلى حدّ بذل الغالي والنفيس في سبيله، لما فيه - حسب المُروَّج عنه - من خير عميم. فالعجز الإنساني بإزاء تطبيب مرض الموت في العالم الفيزيقي، جعل البشرية تجنح ناحية أمل إلهي ميتافيزيقي، على اعتبار أن عملية الترميم الكبرى لألم الموت في العالَم الفاني، ستحدّث في عالم آخر، أبرز إحداثياته البشارة بخلود الجسد وبقائه في شباب دائم، فهو إذ يدخل في منطقة الأمل الإلهي، فإنه يتحرّر من منطق الألم الإنساني، مرة واحدة وإلى الأبد. فموضوعة الألم الإنساني إذ تضغط ضغطها الكبير ليس على الجسد فحسب، إنما على العقل أيضاً، لناحية الشعور المأساوي بفقدان القيمة الأنطولوجية للذات الإنسانية على الإطلاق، وما يُرافق هذا الشعور المؤلم من إحساس بكارثة مُحقّقة، تطال الوجود الإنساني بحدّ ذاته، وتُحيله إلى عَدَمٍ مؤكّد. فإنها - أعني موضوعة الألم - تدفع المرء إلى اللجوء إلى الإله، بصفته مُخلصّاً من استحقاقات الفناء الأرضي، ومُحقّقاً للإنسان مجده بالبقاء والخلود[4]. وقد كان لهذا الإله أن يتجلّى على هيئات مُتعدّدة، اقتضاء لواقع التفكير الإنساني به، مع ما يحتمله هذا الاقتضاء البشري، من دفع باتجاه تعليق آمال كبرى على هذا الإله العظيم!. بما يضع هذا الإله في سياق سيكولوجي أكثر منه سياقاً أنطولوجياً، نظراً لانطلاق مواضعاته من تفكير إنساني قلق على مستقبله المنشود.

وعليه - تأسيساً على ما سلف - فنحنُ أمام نوعين من الحضور، فيما تعلّق بموضوعة (الألم الإنساني/ الأمل بالإله):

1- حضور واقعي للإنسان، في معالجة موضوعة الألم، فهو إذ يتدخّل للحدّ من الألم، فإنه يتدخل تدخّلاً مباشراً، عبر أدوات طبية، فمريض السُكّري، يتلقى حقنة الأنسولين مباشرة، دونما وعود مؤجلة بمعالجة ألمه الآني.

2- حضور معنوي للإله، فهو إذ يتدخل، فتدخّله محكوم أساساً بطلب من الإنسان ذاته، فهو حضور مؤجَّل بالتالي، لذا تصير معالجة الإله للآلام الإنسانية، معالجة إرجائية، تستند على التمنيّات أكثر من استنادها على وقائع محسوسة. ولربما فعل هذا النوع من الأمل، أكثر مما فعله الأمل الواقعي الذي يمارسه الإنسان في الواقع المعيش؛ فموضوعة الفناء والعدم، تضغط بشكل كبير على الوجود الإنساني، لذلك يُلجأ إلى هذا النوع من الأمل الإرجائي، لتطمين النفس - على المستوى السيكولوجي، على أقل تقدير - ببقاء دائم، رغم هلاك الجسد هُنا والآن؛ فالإنسان إذ يُطبّب - حتى وإن كان تطبيباً معجّلاً - فإنه يُطبّب تطبيباً فانياً، لكن الإله إذ يُطبّب - حتى مع كون هذا التطبيب تطبيباً مؤجّلاً - فإنه يُطبّب تطبيباً خالدا؛ لذلك ينزح إليه لمداراة المصير المأساوي للإنسان في الزمن والمكان.

من هنا، ثمة التقاء بين الإنسان والإله، لا سيما في بنية (الأمل)، مع احتفاظ الإنسان بخاصية (الألم). فالإنسان يتألّم، بما يفصله عن الإله، ويجعله مفارقاً له على مستوى هذه الإحداثية المميتة؛ إلا أنه يُعاود الالتقاء به، اتصالاً عبر سياق (الأمل)، إلا أن طريقاً مزدوجة تطبع هذا الأمل بطابعها الافتراقي بين الإنسان والإله، فالإنسان يمنح الإنسان أملاً واقعياً مُعجّلاً، في حين أن الإله يمنحه أملاً معنوياً مُؤجّلاً، بما يضع العلاقة الأنطولوجية بينهما، في محارجات ثيولوجية، بحاجةٍ إلى مزيد من الدراسات البحثية، لتفكيك البنى التي تُناقش العلاقة الجدلية بين الحضور الإلهي والوجود الإنساني في الزمن والمكان.


[1] ثمة سرد ممتع وشيّق ومكثّف –يمكن الرجوع إليه- لتاريخ الطب، في كتاب (تاريخ الطب: من فن المداواة إلى علم التشخيص) لـ "جان شارل سورنيا"، بترجمة إبراهيم البجلاتي، الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 281، 2002

[2] تعتبر ثقافة التداوي بالصلوات والأدعية، ثقافة راسخة في عموم الثقافة الإنسانية، من بواكيرها القديمة إلى زماننا الحاضر، ولربما كان لدور العبادة - على اختلافها، باختلاف الثقافات- دوراً بارزاً في تفعيل هذه الثقافة، فدعاء الهندوسي، وهو يتبارك في نهر الغانج، ليس كدعائه وهو يمشي في السوق، ودعاء المسلم في المسجد الحرام بشفاء مريضه، ليس كدعائه وهو في بيته.

[3] من الأفكار العميقة، التي تُسلّط الضوء على موضوع الخلود، فكرة تناسخ الأرواح، التي تحضر فيه عدّة ثقافات إنسانية، بما يجعل منها فكرة عملية تحثّ على عمل الخير، والدفع بالإمكان الإنساني ناحية مساحات أخلاقية فاعلة، لكي لا تحلّ روح الإنسان –في دورة كونية أخرى- في كائن مرذول أو مكروه، بل في كائن سامٍ.

[4] من الكتب المفيدة التي ناقشت موضوعة الموت وعلاقته بفكرة البقاء والخلود، كتاب (معنى الخلود في الخبرات الإنسانية) لـ "وليام إرنست هوكنج"، ترجمة متري أمين، المركز القومي للترجمة، القاهرة، مصر، العدد 2407، 2015