الإسلاميون في المغرب العربي؛ تحولات وسط أزمة بنيوية


فئة :  مقالات

الإسلاميون في المغرب العربي؛ تحولات وسط أزمة بنيوية

الإسلاميون في دول المغرب العربي؛

تحولات وسط أزمة بنيوية([1])


سارع الإسلاميون في دول المغرب العربي الثلاث (المغرب، الجزائر، تونس)، بعد انتكاسة الإخوان المسلمين في مصر عقب حراك 30 مايو/ أيار 2012، إلى التمايز عمّا هو سائد في المشرق من صيغ الإسلام السياسي، ومن أوجه ذلك: تراجع حدة الرفض الفكري للتقاليد المذهبية والعقائدية التي تقوم على وجود الوسائط بين الخالق والمخلوق، وتحري التشدد في الجزئيات، على الرغم من استمرار مظاهر التقوى والتوكل والذكر، والانصراف عن التعرض بالنقد للمذهبية والصوفية وإعلان اعتماد المذهب المالكي، والانقطاع جملة عن التعرض للصوفية، واحترام العادات الدينية في الاحتفال بالمواسم والأعياد وحسن توظيفها، وتخفيف التوتر إلى أقصى حد تجاه بعض البدع في التوسل والزيارات والممارسات الطرقية، واعتبارها جزئيات لا تستأهل الحرب ضدها، حتى إن عددا من الصوفية دخلوا في الحركة الإسلامية وأصبحوا أصدقاء لها[2].

فعلى الرغم من استمرار الاقتناع بالمعتقد السلفي، أظهر النشطاء الإسلاميون، تأثرا أوليا بالبيئة المحلية والقوى الشريكة في المجال الديني- السياسي، ومن ذلك النظر تدريجيا في ما غلب على هذا المنهج السابق من صرامة وشكلانية ونظر جزئي أحيانا، اقتنعوا بأن هذا التوجه لا يرقى إلى النظرة الشمولية، ولا يمكن أن يتفاعل مع بيئة مغاربية وريثة تقليد مالكي أشعري صوفي، فاقتصروا منه على الجوانب العقدية بما تتسم به من صفاء، بعيداً عن الجدل الكلامي إلى جانب منهج التحقيق الحديثي في تناول الآثار الإسلامية. فلم يعد الإسلاميون المغاربيون يجدون في الإخوان تلك الإيديولوجيا التي طالما ألهمتهم..[3]

لكن على مستوى الامتداد الشعبي وعلى غرار المسيرة الإخوانية، سيغزو الإسلاميون جميع الميادين، وسيحتلون ميادين عديدة بفضل جمعيات المجتمع المدني التابعة لهم مستفيدين من عجز الفقهاء التقليديين المرتبطين بالسلطة عن القيام بأي دور تنشيطي والمترددين في الزج بأنفسهم في المجال الاجتماعي والسياسي.

هكذا سمح العمل الإيجابي في إطارات جمعوية للإسلاميين في البلدان الثلاثة بالاندماج في أشكال جيدة للتضامن، تعيد ضبط المعايير التي تضمن لكل فرد مكانة متميزة داخل المنظومات الاجتماعية؛ فالعفة والعمل الدؤوب كلها أصبحت محل تقدير، حلت محل الاعتبارات القديمة، مثل العائلة والأصول الاجتماعية. كما أصبح الإسلاميون أصحاب قيم جديدة يروجون لها ويعبرون عنها[4]، على الرغم من أن الإسلاميين في دول المغرب العربي لم يصلوا إلى مستوى الولوج والتحكم في النقابات وجمعيات المهن والتعاضديات كما فعل الإخوان في مصر، لتظل هذه المؤسسات تسير من قبل حساسيات مهنية نقابية قديمة أو مستقلة، أو من تنظيمات سلفية تروم احتضان المتدينين غير المسيسين.

لقد بذل إسلاميو المغرب، مجهودات كبيرة لإظهار ارتباطهم ببيئتهم المحلية والتفاعل القوي معها، وحصل التصريح المتتالي بعدم التبعية للإخوان المسلمين. وفي هذه الدراسة، سنقوم بعرض التوجهات الجديدة المتعلقة بالفكر السياسي (دولة، سلطة، مواطنة..)، مفترضين وجود أزمة بنيوية كامنة في المجهود المبذول للتنظير الخاص بصيغ سياسية جديدة تتعايش مع الظروف المستجدة؛ بما يمنع عموم الإسلاميين من تقديم تركيب صعب: "نظرية للدولة والسلطة تتسم بخصوصيتها وحداثتها معا".4

المواطنة عند الإسلاميين وأزمة الغيرية

ترمز فكرة المواطنة إلى ما يجمع ساكني رقع جغرافية محدودة من تحالف وتضامن أساسه المساواة التامة في القيمة والدور والمكانة، استبعاد التمييز بينهم على درجة مواطنيتهم وأهليتهم العميقة لممارسة حقوقهم الوطنية، بصرف النظر عن درجة إيمانهم التي لا يمكن قياسها، وقدرتهم على استلهام المبادئ والتفسيرات الدينية، وكذلك على ممارسة التفكير واتخاذ القرارات الفردية والجماعية.

ولئن ترسخ هذا الأساس في صف البداهات السياسية الحديثة، ما فتئت الحركات الإسلامية المعادية للأنظمة، تقف من المفهوم على بعد مسافات ضوئية؛ فهي لم ترحب بعد بإثارة قضية المواطنة المعاصرة على أساس عدم انسجامها مع مقتضيات الأخلاق الإسلامية، ومن تم مطالبتها بإعادة الاعتبار للإسلام كمكون أساسي للشخصية العربية، بل أصبحت تنتقدها انطلاقاً من داخل المشاريع التحديثية التي تتبناها هذه الأنظمة نفسها؛ أي على خلفية تنكُّرها لمبادئها وأهدافها العامة الخاصة بتلك المشاريع، ومنها إقامة مجتمع المساواة والمواطنة الكاملة، لا بل عاد البعض منهم (السلفيون) إلى ثنائية "دار الإسلام ودار الحرب" التقليدية التي سادت عند الإخوان المسلمين لفترة طويلة، مما دلّ على غياب التنظير لمفهوم المواطنة عند الإسلاميين عموماً.

وعلى الرغم من النزعة التجديدية التي تميزت بها بيانات الحركات الإسلامية في مرحلة لاحقة، والتي يظهر منها استئناسا بما تفتح عليه فكرة المواطنة من أبعاد، إلا أنها كانت، وبفعل الانغماس في العمل السياسي، نزعة مبشرة وعامة ولازالت في طور البناء والتأسيس؛ فطابعها الرسالي التبشيري جعلها مفتقدة لتراث نظري مفصل، يشتمل على تنظير لعموميات الخطاب وتوجهاته الكبرى في المغرب العربي؛ ونظرا لانخراط الحركات الإسلامية بقوة في العمل السياسي، وتأثرها بالتفاعلات السريعة التي شهدها المجال السياسي المحتضن لها، فإن قيادة الحركة لم تعط كبير الاهتمام لتأسيس مبادراتها للتوافق مع الأنظمة على قاعدة نظرية جديدة؛ فالتوافق مع قوى تعتبر في منطق الخطاب الإسلامي "علمانية ودنيوية"، واعتبارا للعداء الأيديولوجي الذي اتسمت به العلاقة بين الاتجاهات الإسلامية والتيارات العلمانية، كان على الخطاب الإسلامي - وهو يعبر عن رغبته في الانفتاح على هذه القوى- أن يجد للتوافق تبريرا نظريا من داخل مرجعياته الإسلامية، ومن تم إيجاد أصول بفكرة المواطنة من داخل مرجعيته النظرية.

هكذا، ظلت جميع التعبيرات عن ضرورة المصالحة الوطنية والقبول بالتدرج الديمقراطي، والتسليم بفكرة المواطنة طيلة فترات ممتدة وطويلة من تاريخ الحركات الإسلامية مجرد إعلانات سياسية وبيانات وتصريحات صحفية يعوزها التأسيس النظري والتبرير الأيديولوجي؛ ونظرا لغياب هذا التأسيس، فإن القبول بالتعددية والمواطنة ومختلف شعارات المصالحة والتعددية التي أطلقتها هذه الحركات لم تكن بالنسبة إلى الفاعلين الآخرين (الأنظمة والأحزاب) سوى نوايا تكتيكية.

وبعيدا عن تفسير انعطافات الخطاب بصدد فكرة المواطنة بكونها مناورة، نقول إن الشروط السياسية التي حكمت الحركة الإسلامية بغيرها من الفاعلين السياسيين في مرحلة من تطورها هي التي تفسر ورود الخطاب بالشكل الذي أوضحناه؛ فخطاب هذه الحركات بكل تناقضاته، ما هو إلا نتاج لتناقضات واستراتيجيات باقي الفاعلين داخل الحقل السياسي الذي تشتغل داخله.

وعلى مستوى التأصيل، تميزت اجتهادات بعض المتكلمين باسم الخطاب الإسلامي بصدد فكرة المواطنة بنوع من العمق، فلم تكن مجرد مواقف تبسيطية وتصنيفية أو مجرد أحكام إيديولوجية متسرعة، بل كانت عبارة عن ردود فعل مكيفة بين منظومتين مرجعيتين؛ فالخطاب الإسلامي يمارس على الفكرة (المواطنة) تكييفا مذهبيا ومرجعيا يهدف إلي صبها في القالب الإسلامي أو في إحداث تصوراته على الأقل.. ولكنه تكييف انتقائي معياري يقبل كل ما لا يتعارض مع الدين والأخلاق، محاولا فهم مضامين المواطنة وتأويلها بطرق تسمح باستخدامها ضمن المنظومة العقدية للإسلام، إنه موقف حداثوي لا يرتبط بمفاهيم المواطنة في أصولها الفكرية، بل يدخل معها في مساومات وصراعات بغرض احتوائها وتدجينها من جهة، ثم استعمالها وتوظيفها بعد ذلك.

من مظاهر هذا التدجين أن الخطاب الإسلامي في اشتغاله على فكرة المواطنة أصبح يأخذ ملامح حركة رومنتيكية مشابهة للنزعة التي ظهرت ضمن الثقافة الأوروبية والثقافة الجرمانية على الخصوص، والتي عرفت بمعاداتها لما رافق بناء فكرة المواطنة من نزعة عقلانية عارمة مذيبة لكل حميمية ولكل تواد في العلاقات بين الناس، كما انتقدت أخلاقها الأداتية والنفعية واقتصادها الرأسمالي القائم على الربح وحساب المصالح الشخصية.

لكن الرومنتيكية المعبر عنها في الخطاب الإسلامي- وإن كانت تشترك مع الرومنتيكية الأوربية فيما تنتقده من مظاهر الحداثة- تختلف عنها من حيث إنها لم تكن دعوة إلى فضاء ما قبل الحداثة؛ أي فضاء الطبيعة، بقدر ما هي العودة إلى الفضاء الثقافي والاجتماعي للأمة؛ أي إلى المرجعيات الرمزية والثقافية التي تقيم التماسك بين أعضائها، والتي يشكل الإسلام عمودها الفقري، فإذا كانت الرؤية الغربية تؤسس الانخراط في العالم الحديث على التحرر من أي رابط تقليدي أو ديني، فإن المسألة في الخطاب الإسلامي لا تسير بهذه الخطية، ذلك أن انخراطه في مفاهيم المجتمع الحديث، ومنها المواطنة يترافق مع تأكيد هويته الإسلامية.[5]

في الفهم الإسلامي للمواطنة يوجد اتفاق مع المفهوم الغربي، على أن مجرد الانتماء إلى الدولة يخول التمتع بنفس الحقوق، ويلزم بنفس الواجبات كل المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية، بيد أنه إذا كان المفهوم الغربي لا يورد أي استثناءات على هذه القاعدة العامة؛ فالمفهوم الإسلامي يقر ببعض الاستثناءات تتعلق ببعض المناصب التي لها صلة مباشرة بقيم المجتمع وهويته، أي بالنظام العام للدولة الإسلامية (رئاسة الدولة- القضاء)، والتي لا يحق لغير المسلمين الولوج إليها، وفي الحقيقة، يترجم الخطاب الإسلامي موقفا تقليديا لا يعكس شيئا جديدا مع ما هو متواثر في الفكر السياسي الإسلامي ولا يأخذ بعين الاعتبار التطور التنظيمي الحاصل في العصر الحديث، وهو الاستعاضة عن ولاية الفرد بولاية الهيئات، وفيه تم استبدال التنظيم القائم على الفرد بتنظيم مؤسسي يقوم على الجماعة؛ فالولاية العامة لم يعد يملكها فرد، بل صارت في الجماعة المنتظمة في ولاية معينة على النحو الذي يمكن أن تتوافر معه المساواة في تولي هذه الهيئات بين المواطنين بغض النظر عن ديانتهم.

إن التأثر بالفقه التراثي في الولاية العامة والأحكام السلطانية هو دليل على الصعوبات التي تواجه محاولة إيجاد أصل لفكرة المواطنة بالاستناد إلى مقولات الفكر الإسلامي الكلاسيكي وإلى التجربة السياسية الإسلامية؛ فالجهد المبذول لضبط فكرة المواطنة بالحدود الإيمانية والاعتقادية الدينية أفرز مفهوما خاصا يختلف عن المفهوم الغربي من حيث تمييزه بين درجتين من المواطنة مواطنة كاملة تخول التمتع بكل الحقوق، ومواطنة خاصة لا ترتفع إلى درجة المواطنة الكاملة إلا باعتناق الإسلام.

ومن بين القضايا التي يظهر فيها الخطاب الإسلامي محدودية في تمثل مفهوم المواطنة، قضية المرأة، إذ يتراوح بين التسليم بالمواطنية الكاملة للنساء، وبين تقييدها استنادا إلى سوابق التاريخ الإسلامي خصوصا في ما يتعلق بتقلد النساء لمنصب رئيس الدولة أو الولاية العامة، يمكن الحديث إذن عن حركة مد وجزر يعيشها الخطاب بصد هذه القضية، وبالصعوبة التي تعترضه تأصيل فكرة المواطنة ضمن الإطار الإسلامي.

ففي داخل المنظومة الإسلامية يظل الإسلام، باعتباره المعيار الرئيس للتماثل والهوية والولاء، المقوم الأساسي للأمة الإسلامية، والرابطة التي تجمع بين أفرادها، وهو بهذا الاعتبار، يرتفع بفكرة الأمة إلى مرتبة متعالية، تجعلها تتمتع بالعصمة واستحالة الضلالة؛ فالأمة الإسلامية ليست معصومة لأنها مجرد أمة، بل لأنها مبنية على ما يجمع أفرادها من محبة وعشق نحو عامل فوقي هو الإيمان بالله، بما يستدعيه ذلك ممارسة الإسلام بنظمه وقواعده وأحكامه، وبالتالي تجاوز ما عداه من معايير الانتماء الأخرى.

وخلافا لهذه الرابطة الاعتيادية، وضع التنظير السياسي الحديث، معايير مختلفة للولاء السياسي تقوم على رابطة اصطناعية مبنية على المصالح الدنيوية المشتركة؛ أي رابطة اختيارية بين المواطنين، وبين هؤلاء وبين الدولة، كما بين ذلك كبار ونظري الدولة الحديثة ك "هوبز" و"لوك" و"روسو"، فتكوين مجتمع منظم سياسيا ومدنيا، لم يعد متعلقا بأي مبدأ خارجي أو تطلب أخلاقي ديني، بل أصبح يستند على ما تعاقدت عليه إرادات الأفراد بصفة حرة وإرادية.[6]

هذا التغيير في معايير الولاء السياسي نجم عنه تحول في مفهوم الأمة، واكتسب أبعادا جديدة لم تكن واردة في التصور الإسلامي، فإذا كان هذا الأخير قد انبنى على اعتبار الرابطة الدينية هي المحدد الوحيد للأمة، فإن الفكر السياسي الحديث ذهب خطوات بعيدة، لتخليص مقولة الأمة من المعنى الديني، فأصبحت مفهوما اجتماعيا سياسيا يرمز إلى ما يجمع المواطنين من روابط، مثل السكنى في رقعة جغرافية محددة أو ارتباطهم برابطة لغوية أو عرقية أو انتمائهم لدولة محددة، وهي مقومات قد تجتمع كلها وقد يكفي بعضها حسب التطور التاريخي، مما جعل مفهوم الأمة يتناسب على حد كبير مع الأشكال الاجتماعية القائمة، أي كما تطورت وتكونت في الواقع التاريخي[7]. فماهي معايير الانتماء لدى الحركات الإسلامية: دينية عقائدية، سياسية واصطناعية، أو ثقافية وقيمية؟

على الرغم من احتفاظ بعض الأفكار بالتصور العقائدي، واعتباره أساساً يقوم عليه مفهوم الأمة، لكنها في الحقيقة تصورات توفيقية، إذ في نفس الوقت الذي يعتبر الإسلام مكوناً لهوية الأمة، فإنه يفك الارتباط بين معناه الديني ومعناه الثقافي، بغرض توسيع دائرة الفئات المنتمية إلى أمة الإسلام، فإذا كانت الأمة المؤمنة عقديا بالإسلام هي نواة المجتمع السياسي، فإنها لا تمثله كليا، لأنه يشمل كذلك العديد من المجموعات المنتمية إلى الأمة انتماء سياسيا وثقافيا وليس عقائديا، مع بقاء الإسلام نظاماً عاماً يستوجب أن تحترمه مختلف التعبيرات عن الثقافات الفرعية، باعتباره دينا للأغلبية.

لكن بعض الأفكار الأخرى تكتفي بالتشديد على الرابطة الدينية كمحدد وحيد للانتماء إلى الأمة الإسلامية، مما يقودها إلى عدم الاهتمام بموضوع الأقليات الإسلامية واستمرار معالجته في ضوء مفهوم "أهل الذمة" التقليدي، وبالتالي فجل ما يستقطب اهتمامها هو تحويل فكرة الأمة العقدية النقية من فكرة وجدانية إلى واقع فعلي عن طريق تأسيس الدولة الإسلامية.

الحركة الإسلامية والآخر أو قضية الغيرية (Altérité)

إن كثرة الحديث عن قضية الغيرية من طرف الخطاب الإسلامي هو نتيجة لما درج عليه هذا الخطاب من اعتبار المجتمعات الإسلامية تعاني من أزمة حادة في الهوية، نتيجة ما تعرضت له هذه الأخيرة بفعل السياسة التحديثية للدول الحاكمة أو من الهجمة الحضارية الغربية من ازدراء في مختلف مكوناتها، مما يفرض إعادة بناء ثوابت هذه الهوية كسبيل لاستعادة البلاد شخصيتها الوطنية والإسلامية.

لذلك، فإن النظرة إلى الآخر تطلب من الخطاب الإسلامي الاشتغال المتواصل على إشكالية الهوية، سواء من حيث العودة للأصول بغية معرفة مرتكزات الهوية، أو من حيث إعادة تفسير ثوابت الهوية بشكل يجعلها ثوابت لهوية مشتركة بين جميع الأغيار المشاركين في هذه الهوية.

  • للصفة الإسلامية عند الخطاب الإسلامي المعاصر ثلاثة معانٍ:
    • المعنى العقائدي: ويحيل إلى الإيمان بعقائد الإسلام وأركانه؛
    • المعنى الحضاري: ويتحقق بالاتصاف ببعض قيم الإسلام دون الإيمان بعقائده؛
    • المعنى النضالي: أي حمل المشروع الإسلامي من أجل تحقيقه، على اختلاف الوسائل والتفاصيل لمحتوى هذا المشروع.

في حين تكتفي بعض أشكال الفهم الإسلامية بالمعنى العقائدي، ويرى البعض الآخر أن اتصاف الإسلام بالشمولية يجعل تعريفه بالاستناد على مظاهره العقائدية والعبادية تعريفا قاصرا، في حين أن المقصود بالشمولية هو التأكيد على أبعاده الحضارية التي تجعل الصفة الإسلامية جامعة لمختلف مكونات الأمة على اختلاف علاقتها بالإسلام؛ فالوصف الإسلامي عند هذه الأشكال الفهمية هو وصف حضاري أكثر منه وصفا عقائديا، لذلك، يمكن أن تندرج في الأمة الموصوفة بالإسلام غير المسلمين ممن هم مواطنون في المجتمع الإسلامي، أو مشاركون في القناعة، أو الإنتاج في الثقافة الإسلامية.

إن التمييز بين المكونين العقائدي والسياسي في تعريف الإسلام ينتج آثاره على مستوى موقف الخطابات الإسلامية من قضية أساسية هي حرية الاعتقاد، فإذا كان جل الإسلاميين يتفقون على حرية غير المسلم عقائديا أن يبدل تدينه وأن يعبر عن تدينه الجديد في الحدود التي لا تمس النظام العام، فإنها تختلف بصدد مدى حرية المسلم في فعل ذلك، إذ تذهب أغلبية الآراء إلى منع المسلم من حق الردة واعتبار ذلك جريمة عقدية وضعت لها النصوص الدينية عقوبة مناسبة لها (القتل). أما البعض الآخر يحاول مقاربة القضية مقاربة تاريخانية بالقول إنه يجب نسخ النصوص الدينية التي تأمر صراحة بقتل المرتد، مبررين ذلك بأن جريمة الردة لم تكن في المجتمعات الإسلامية جريمة عقدية بل جريمة سياسية، وأن ما صدر عن الرسول من ضرورة قتل المرتد صدر من موقع الولاية السياسية لا من موقع النبي المبلغ، فكان عملا سياسيا لا غير يمكن الاجتهاد في فهمه في اتجاه إسقاط العقوبة؛ لأن "المرتد المعاصر" إنما يمارس شأنا شخصيا ولا خطر يخشى منه على النظام العام.

من خلال هذه الآراء، فإن الأمر لا يتعلق بإعطاء أشكال جديدة من الفهم للإسلام، بل بتوسيع دائرته ليجعله أحد ثوابت الهوية التي تشترك كل المشاريع في المطالبة برد الاعتبار لها؛ فالانتقال أثناء الحديث عن الإسلام من الأحكام الفقهية المفصلة والتقريرية، إلى المبادئ الخلقية والغايات الكبرى، هي عبارة عن استراتيجية خطابية، لامتصاص الاختلاف الموجود من مختلف التعبيرات عن الإسلام كمكون للهوية، إنه سعي إلى جعل قيم الإسلام على مستوى من التجريد يمكن من بناء أرضية توافقية بين جميع المشاريع المنطلقة من داخل فضائه الثقافي والجغرافي.

حوصلة:

  1. تخلصت أغلب الأقلام الإسلامية من الثنائية التقليدية: دار الإسلام ودار الحرب التقليدية، والتي كانت تدل في السابق عن عدم الجاهزية لقبول مواطنة الآخر البعيد؛ أي غير المشارك في الدين والثقافة الإسلامية.
  2. هناك تصوران للغرب لدى الإسلاميين؛ أحدهما ينم عن تبسيط مخل يقوم بتصوير الغرب على أنه يقوم بحملات عسكرية وإعلامية تبشيرية واستغلال اقتصادي، وآخر مزدوج يقوم على القول بضرورة استيعاب مكاسب الحضارة الغربية وخيراتها وفنونها العلمية وتقنياتها وآلياتها المتطورة من جهة، ورفض فسلفتها وآدابها من جهة أخرى.

يتناوب هذان البعدان في الظهور والمواراة في خطاب الإسلاميين؛ فبالرغم من أن بياناتها تشدد على التوافق والديمقراطية والاعتراف بالآخر كخيار يندرج في سياق الردود الإيجابية على بعض المبادرات التي تتخذها الدول الموجودة والمتجهة صوب التعددية، فإن بعض كتاباتها الأخرى تؤكد أن غاية التوافق لم تكن تتوقف عند حدود إنجاح هذه المبادرات، ولكن في إستراتيجيات عامة للحركة من أجل التغيير الإسلامي وإقامة الدولة الإسلامية. فالمناداة بالتوافق الديمقراطي بفرض من الاعتراف بالآخر، كان بالنسبة إليها مجرد خيار تكتيكي فرضته ظروف خاصة بتلك الحركات الإسلامية؛ أي مرحلة بناء المجتمع المسلم، مما جعل منطق الحركة مجرد مطلب مرحلي يهدف إلى تغيير موازن القوى الحالية لفائدة الحركة، ثم التأسيس للدولة الإسلامية فيما بعد، وهو ما يدل حسب حركات اجتماعية مناوئة على خلو شعار الاعتراف بالآخر الذي تعرفه الحركات الإسلامية من كل معنى.


[1]- نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 41

[2]- للمقارنة مع تجارب الحركات الإسلامية في المغرب العربي في تعاملها مع الإسلام المحلي، راجع راشد الغنوشي، من تجربة الحركة الإسلامية في تونس (المركز المغاربي للبحوث والترجمة، لندن، 2002)، ص 24

[3]- يختلف الفهم الذي تكون لدى حركة التوحيد والإصلاح الإسلامية عن الصيغة التي يتخذها الحديث عن المذهب المالكي في الخطاب الرسمي؛ وذلك من خلال التشديد على عدم الاقتصار على الأخذ بالأبعاد التشريعية، وبضرورة الانتباه إلى أبعاده العقائدية السلفية يقول محمد يتيم: «إن حركة التوحيد والإصلاح إذ تؤكد على أهمية الاختيار التاريخي الذي صار عليه المغرب ودوره في ضمان الوحدة العقائدية والمذهبية والاجتماعية والسياسية للمغرب، لا تنطلق من هذا المعطى التاريخي، ولكن أيضا من كونه أقرب المذاهب إلى جمهور الصحابة وأهل المدينة، وأنه أول من أصّل لمذهب أهل السنة سواء في العقيدة أو في الأحكام.. فالعودة إلى المذهب المالكي هي عودة إلى أصول المذهب لا إلى فروعه، والعودة إلى المذهب المالكي عودة إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم زماناً ومكاناً.. وكيف لا يكون ذلك والإمام مالك لم يلزم أتباعه وتلاميذه باجتهاداته، وإنما ألزمهم بالبحث عن الحق من خلال الرجوع إلى الكتاب والسنة وغيرها من الأصول التشريعية المعتبرة..». راجع مقاله، ماذا تعني العودة إلى المذهب المالكي عند حركة التوحيد والإصلاح؟ وما نوع الاجتهاد الذي تتبناه الحركة؟ الحلقة الرابعة، جريدة التجديد، العدد 914، 23"_25 ابريل 2004م.

[4]- محمد الطوزي، الملكية والاسلام السياسي، ترجمة محمد الحاتمي - خالد شكراوي (الدار البيضاء، نشر الفنك، 2002)، ص 222

[5]- عبد الحكيم أبو اللوز، الدين والسياسة .. مرجع سابق، ص 57

[6]- ريمون بودون، فرانسوا بوريكو، المعجم النقدي في علم الاجتماع، ترجمة سليم حداد (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1986)، ص 479.وقد تضمنت الثورة الفرنسية، باعتبارها حاملة لمشروع مجتمعي جديد، قيم ومبادئ هذا التفكير المؤسساتي، ومنها: التمييز بين مصالح الملك ومصالح الأمة، فصل السلط، تكسير الهرمية الاجتماعية التقليدية وبناؤها من جديد على معايير الفعالية والإنتاجية والاستحقاق وتكافؤ الفرص..امحمد مالكي، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، الجزء الثاني، النظم السياسية المعاصرة (دار وليلي للطباعة والنشر، مراكش، 1667)، ص 177-183

[7]- Ben Achour (A), La théorie constitutionnelle dans la tradition suniste. In, Constitution et religion, AIDC dixième session, Tunis 1994. P 93