الإنسان التداولي والمواطنة الافتراضيّة


فئة :  مقالات

الإنسان التداولي والمواطنة الافتراضيّة

تروم هذه المقاربة الفكرية التوغل في الحقل الخطابي ما بعد الحداثي للمفكر "علي حرب"، وكشف طبيعة القوى المتنازعة في فضائه، كما تتوخّى اقتراباً منهجياً عميقاً من الآليات الفكريّة والقواعد الإنشائية والصيغ الحجاجية والطرائق البرهانية التي ينبني عليها خطابه الفكري. وهي بهذا تسعى جاهدة إلى النظر في طبيعة الجهاز الاصطلاحي الذي يتوسل به المفكر لمفهمة العالم، وكيفية بناء منظوره للقضايا والأحداث بثوابتها ومتغيراتها وتداخلاتها المعقدة؛ كما هو الشأن بالنسبة لقضية "المواطنة" التي احتلت حيزاً واسعاً من مساحة الفكر الكوسموبوليتي القديم والحديث، الشرقي والغربي، على أساس أنها تمسّ العلاقات المحورية بين المكون الإنساني الجيوسياسي، أو قلْ تجسّد اللقاء الحميمي بين "العقلي" و"المديني"، وبين "الوجداني" و"الأفق الروحاني".

مدخل:

يتكئ "علي حرب" في بناء نسقه الفكري على رؤية فلسفية نقدية تسوّغ له المرور إلى منطقة الخصوبة المعرفية، وتجاوز الرؤى المُقنّعة بالإيديولوجيا وتخطّي حواجز الدوغمائيات والمركزيات التي أنهكت الثقافة العربية الإسلامية الحديثة والمعاصرة، وأثقلتها بأوهام الأصالة ونقاء الذات، وصفاء الرؤية، وثبات المبدأ، وهي المقولات التي تقتل الثقافة وتبدّدها أكثر ممّا تحييها وتجدد عروقها وتبنيها باستمرار. ولعله بهذا يراهن على الانخراط في سلك الحداثة البعدية بأنساقها الافتراضية؛ ممّا يعني تشكيل آليات جديدة للفهم تتعامل مع التجربة الإنسانية على أساس أنها سلسلة أو متتالية من الانزياحات عن الأصول ومحاولة نسخ دؤوبة للنصوص المعيارية التي تتلبس بمسوح الرهبنة والقدسيّة، فالمنجز الإنساني في سيرورته التاريخية لا يمكن أن يتجسّد في صور يتطابق بعضها مع بعض؛ إذ لا يمكن للمرء أن يستحم في النهر مرّتين. ومن ثم لا تتغيّا استراتيجياته القرائية القبض على المعنى النهائي، بقدر ما تكابد لأجل تجاوز منطوق الخطابات إلى مسكوتها، وتحترف العبور إلى المناطق المحرّمة المحاطة بسياج الممنوع والممتنع، لإعادة استنبات السؤال فيها وترميم الأعطاب الإبستمولوجية الكامنة فيها، وتحويل المآزق التي تنتجها وتتآكل في إطار حدودها إلى إمكانيات للإبداع المتوتر والمتوهج الذي لا تنطفئ جذوته، والذي يتأسس دوماً كإمكانيات مستقبلية أو كسيل من الاحتمالات لا يلغي الواحد فيها الآخر، وإنما هناك سياسة تخلق طرائق قدداً للتعايش. ومن ثم فالرهان هنا رهان مضاعف؛ "إعادة تأهيل الإنساني المدني من جهة، وتنشيط فكرة موجبة عن العقل الذي نحتاجه من جهة أخرى، فصدّ الطاغوت واللاهوت اللذين هيمنا على العقول في ثقافتنا المعاصرة، والتحرّر من ربقة الوصاية الفكرية والتعصب الديني معاً، للوصول إلى نتائج حاسمة هي: دين بلا خرافة، وفن للتوصل والعيش معاً، وحسٌّ جمالي بوجودنا في العالم، ومسؤولية أخلاقية إزاء الآخر، وأخيراً التزام بمواطنة كونية بلا حدود، تلك هي شروط الانتماء الإيجابي والنشيط للإنسانية الحالية"­­­[1].

إنّ القارئ المتفحّص لكتابات "علي حرب" يجدها من النوع الذي يتوخّى الحذر الشديد في التعامل مع المقولات والمفاهيم والعقائد الفكرية والأنظمة المعرفية بآلياتها السلطوية، فهي كتابات متوجّسة لا تركن حتى لنفسها، وهي أيضاً دائمة العبور لا تحتكم إلى أي قانون معياري أو سلطة مرجعية، وحاديها الوحيد هو "المنطق التحويلي"، "فقه الروابط"، "الفكر التركيبي"، "العقلية التداولية"، "العقل الميديائي"... ممّا يجعلنا أمام "فاعل ثقافي" يخترق باستمرار سلطة "القواعد النحوية" التي تحصّن بها المؤسسات الثقافية نفسها، ويعترف لقانون واحد يحكم التجربة الإنسانية؛ هو قانون التحوّل، فلا شيء يبقى على ما هو عليه، ولذلك فنحن نتعامل مع "الإنسان البعدي" أو "الفاعل البشري الجديد" الذي يفاجئنا بين الفينة والأخرى بأنماط جديدة من الوجود، وصيغ من التعايش لم نألفها، وتقنيات تؤثر بقوة في خلخلة نظم الحياة وإعادة ابتكارها. كما يجعلنا أيضاً ندرك بعمق أننا نتفاعل في "فضاء سبراني" لا مجال فيه للاحتكار والإقصاء. فـ"نحن ندخل في عصر كوني جديد يظهر فيه على المسرح فاعلون جدد، أبرزهم العاملون في مجالات تقنية المعلومة، والإعلاميون الذين يشتغلون في إنتاج الصورة وصناعة المشهد. إنه عصر متعدد اللغات والمجالات، متراكب الأنظمة والمستويات، إذ هو متسارع بقدر ما هو إلكتروني، وهو رقمي بقدر ما هو تقني، وهو كوكبي لأنّه يصدع الحدود بين الدول والمجتمعات، وبقدر ما يفتح الحدود بين البشر، ليس فقط الاقتصادية والمالية، بل أيضاً المعرفية والرمزية والخلقية والأمنية، الأمر الذي يحوّل الكرة الأرضية إلى سوق مالية واحدة وإلى قرية إعلامية مشتركة، بل إلى مجال أمني واحد"[2]. وهذا هو الوعي الميديائي الجديد الذي يتجاوز العقل النخبوي والأداتي إلى العقل التواصلي التداولي الذي يحتكم إلى شرعية الشراكة والتبادل للتخفيف من وطأة العنف بأشكاله المادية والرمزية، وبغية ترميم الفضاءات المثقوبة وتشكيل فضاءات عمومية تلتقي فيها كلّ الملل والنحل وتتهشم تحت إرادتها جميع الشوفينيات. ولكنّ السؤال الذي يلحّ علينا هنا هو: هل هذا الوعي المستقبلي والاستراتيجية التداولية كفيلان بتخليص الإنسان من مآزقه وتجاوزه لمنطق الصدام إلى لغة التداول بدفعه إلى نسيان المجازر الفكرية والجسدية التي اقترفها أو ارتكبت ضده عبر مسار التاريخ؟ أم أنه نوع من القفز التمويهي على جراحات لا يعفو عليها الزمن، ممّا يجعلنا أمام سياسات فكرية تحمل بذور فشلها في عمق آلياتها القرائية الطوباوية؟ وهل الإنسان التداولي هو البديل الأرجح عن الإنسان المدني أو الديني أو الإنسان الأعلى أو الأدنى، باعتباره الصيغة البشرية المرنة والأكثر انسجاماً مع "أزمنة الحداثة الفائقة" التي تهتزّ معها الذائقة المعمارية الجغرافية، لتتخلق ذائقة حضارية أثيرية عابرة للقارات والثقافات والتخصصات، الطرف الفاعل فيها هو الوسائط الميديولوجية؟

ينطلق "علي حرب" في تشييد أطروحته التداولية من تفكيك الأنساق التواصلية التقليدية والصيغ الإنجازية البشرية المستهلكة والمتهالكة التي ما زال العقل المعاصر معتصماً بمقولاتها ومتشبثاً بأطيافها وداعياً إلى أمثولاتها، الأمر الذي زجّ بالإنسان في وادي الرجعية السحيق؛ ممّا ضاعف حدّة أزماته وأهدر إمكانياته التغييرية، فحديث النخبة اليوم عن المواطنة والمجتمع المدني والمصالحة والديمقراطية وما شابه هذه الصيغ والعقود أو الروابط الاجتماعية التي يبتكرها الإنسان في كلّ مستويات حياته، هو حديث بعقلية سكونية تحتكم لصنمية عقائدها ولا وجود لقانون التحول والتجاوز والابتداع في قواميسها المحنطة، ومن ثمّ فلا مجال عندها لاقتراح الحلول وابتكار أنماط جديدة للإقامة في العالم الذي بات يخضع لتحولات جذرية عميقة لا مجال فيها للعقائد والإيديولوجيات والهويّات المتمسكة بصفائها وثوابتها.

تفكيك المواطنة، أو كشف مأزق المجتمع المدني:

إنّ مفهوم المواطنة ليس مصطلحاً جزافياً. لقد ابتكرته أدبيات الثورة الفرنسية لأول مرّة كنموذج معياري لثقافتها السياسية الجديدة، قائم على مبدأ تحويل الشعب من رعايا الملك إلى مواطني الجمهورية. لم يولد المفهوم تجريدياً، بل ممتلئاً بمضمون التغيير، والقطيعة المعرفية والتداولية معاً، بين نظامين للفهم والاجتماع والسياسة، أحدهما يُسمّى القديم، وهو نظام الملك ورعاياه، والآخر نظام المواطنة، وجمهوريتها الجديدة، فالمواطن هو الإنسان الذي لا يمكنه أن يتقوّم كإنسان إلا جمهورياً. والجمهورية هي مدينة الحق الوضعي، مقابل ملكوت الملأ الأعلى والحق الإلهي. على أساس هذا التمييز الأنطو-كوسمولوجي أصبح المواطن ذاتي المرجعية، المعبّر عنها بمبدأ المسؤولية الحقوقية، التي تتعدى المواطن كفرد ينتمي إلى الأمّة، وكمجتمع مؤلف من الناس الأحرار بالفطرة وليس بالاكتساب، المتدبرين لشؤونهم حسب تصوراتهم التوافقية عن عدالة العيش المشترك وأهدافه المجتمعية، وطريقة الانتهاض بمراتب السلطة، والاحتكام إلى المبادئ الدستورية التي تنظم مشروعيتها[3]. فمفهوم المواطنة - إذن- هو براديغم قائم بذاته، خاضع لتحولات سوسيوتاريخية، ومطالب ثقافية ملحّة لا تكرر ذاتها؛ أي أنها ليست بنوداً جاهزة صالحة لكلّ زمان ومكان، بقدر ما هي تيار دفّاق تحتيّ، يدفع الإنسان دفعاً لكي يعيش تلك "اللحظة الثقافية" بطقوسها كتجربة فريدة من نوعها. ولذلك فالمفاهيم تمتلك خصوصية "أرضنتها" ومرونة "تجْويتها" كما يحلل ذلك المفكر الفرنسي "جيل دولوز"، وفي حالة ترحالها أو انتقالها من مستوى إلى آخر، أو من مجال تداولي إلى آخر، لا بدّ من مراعاة تكاليف الانتقال والتجوية؛ من حيث فقدان المعنى واكتساب معنى جديد. إنّ المواطنة في أسمى معانيها "شخصية مفهومية" لها قدرة ابتكار صيغ الإقامة في العالم؛ لا على الطريقة الميكانيكية ولكن الطريقة الإنسانية، كما يشرح ذلك "مطاع صفدي"، فالمواطنة "انزياح واع عن الترابط الميكانيكي بالجذور العرقية، والذخيرة النفسية الغريزية التي تؤلف مضمونه اللازمني، لكنّ هذا الانزياح لا يبطل التراث، ولا يحرمه من حق التواصل معه. بل إنه يحوّله من موروث تصنيمي إلى تاريخ إنساني، لا يمتلك بقضه وقضيضه، ولا يدافع عن أباطيله على المستوى ذاته من حقائقه"[4].

إنّ تفكيك معادلة المواطنة من الداخل يجعلنا نكتشف باستمرار مدى تهافت منطوقها وشكلانية تشغيلها، لأنّ المواطن تغير "من مجرّد كائن يخضع لسلطة وينتفع بحقوق في ظلها بالمعنى الليبرالي للكلمة، ليتعرف على نفسه من الآن فصاعداً كذات واعية تشارك في السيرورة التي يفكر من خلالها المجتمع ويقرر لنفسه، فالديمقراطية (مثلاً) لا يمكن حصرها بهذا المعنى في توازن السلط ولا في السهر على حماية الحريات الفردية الخاصة أو في إيجاد آليات تكفل تسوية وتوافقاً بين مختلف المصالح فحسب. إذ يعتبر "هابرماس" الديمقراطية التداولية أنموذجاً جديداً في المجال السياسي ذاته؛ فهي حالة سياسية تتمأسس فيها الشرعية على المنافسة التي تخلو من أي تسلط"[5]. ويلجأ "علي حرب" إلى تفكيك صيغ فهم المواطنة وآليات ممارستها في المشهد الثقافي العربي عبر الحاضن الأساسي لها وهو "المجتمع المدني" الذي يلعب دور الوسيط في الفضاء الاجتماعي، كما يذهب إلى تعريفه أكثر المفكرين الأمريكيين؛ أمثال "بنيامين باربر" و"ميخائيل وورلز" و"بيتر بيرجر".. ، بمعنى أنّ مؤسساته تشكل دوائر وسطى أو بنى وسيطة بين ثالوث (الدولة/ السوق/ العائلة أو الطائفة)، أي بين (النظام السياسي/ المصالح الاقتصادية/ المجتمع الأهلي)، ومهمة هذه المؤسسات أن تؤمّن التوازن بين الخاص والعام أو بين الفرد والجماعة أو بين الأنا والآخر أو بين الحرية والسلطة، وبصورة تحول دون استبداد الدولة أو جشع الشركة أو عصبية العائلة أو انغلاق الطائفة. هناك بُعدٌ أساسي لا يجري التركيز عليه حين تناول المصطلح بالدرس والتحليل، وهو البعد التقني الذي يغفله أصحاب التهويمات الإيديولوجية والتنويرية - كما يشير إلى ذلك علي حرب- فهؤلاء لا يرون من الحداثة سوى وقائعها الفكرية والمعرفية، ولذا يتعاملون مع الأفكار بوصفها مجرّدة عن مرتكزاتها المادية، أي عن مؤسسات تداولها وأدوات انتشارها من وسائط الاتصال ووسائل الإعلام. إنّ المجتمع المدني، كفضاء للتداول الحر، لم يصبح ممكناً إلا بعد اختراع المطبعة، وولادة الصحافة، وانتشار الموسوعات، وتخلّق شروط جديدة لتأسيس الجمهوريات وتشكل الديمقراطية الحديثة. ومن ثمّ جرى الانتقال من مفهوم "الرعيّة" التي تسمع وتطيع إلى مفهوم "المواطن" الذي يقرأ ويستطلع المجريات، ويمارس استقلاليته الفكرية ويتخذ المواقف التي تمليها عليه قناعته، بالانخراط في النقاش العمومي والنقد العقلاني. وهكذا أسهمت المطبعة في ولادة مفهوم المواطن، تماماً كما أسهمت السيارة في انتصار الفردية - كما يلاحظ ريجيس دوبريه-[6]. فالمسألة - إذن- ليست في ضرورة تبنّي مقولات العولمة وأنماطها وضروب شعاراتها، بقدر ما تتجسد في كيفية توظيف "الروابط الذهنية" بمستوى عال من الوعي - بلغة أصحاب التنمية البشرية - للخروج من دائرة التلفيق الفكري والنفاق الثقافي، على نحو ما يكشف ذلك "علي حرب" في قوله: "مأزق المجتمع المدني يتبدّى أكثر في ضوء التحولات التي تشهدها البشرية مع الدخول في العصر الرقمي ونمط الإنتاج الإلكتروني، حيث تتغير علاقة الإنسان بمفردات وجوده، بقدر ما يتغير العالم ونظامه، بمشهده وخريطته، بقواه وآلياته، بأفكاره ومفاهيمه... فنحن ننتقل من المجتمع الصناعي إلى المجتمع الإعلامي، ومن العمل اليدوي إلى الاقتصاد المعرفي، ومن المنتجات المادية إلى المخلوقات الأثيرية، ومن عصر النشر إلى عصر البث،... ، ننتقل من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية الميديائية، ومن الدولة/ الأمّة إلى الشركات المتعددة الجنسيات، ومن الهويّة المتجانسة إلى الهويّة الهجينة، كما ننتقل من المواطن إلى رجل الشبكة، ومن المستوى المحلي إلى العمل على المستوى الكوكبي، وكلها تحولات تتغير معها مفاهيمنا للمجتمع وللفاعل الاجتماعي كما للمدينة والدولة، بقدر ما تتغير علاقتنا بالمكان ونمط العمل ومعطيات الخلق والإنتاج"[7]. إنّ الأمر هنا يتعلق باستراتيجيات بينية، وبعقليات وسائطية، وبفواعل بشرية مزودة بكفاءات تداولية وآلية، كما تمتلك برامج مستقبلية تتميز بقدرات مرنة فائقة، تؤهلها للانفتاح على كلّ المتغيرات والتعامل بطريقة خلاقة مع كلّ حالات الطوارئ الثقافية. ولكن إذا انسقنا مع نزوة التحليل المستقبلية هذه مع "علي حرب"، فقد نتورّط في قضية إشكالية عالمية ما زال لم يحسم فيها الأمر بعد، المواطن فيها بين المطرقة والسندان، هي قضية "الدين العالمي الجديد" التي تطرح في صيغة: (الدين/ السيبرنطيقا)، (الغيب/ الخيال العلمي)، (الميتافيزيقيا/ التقنية)، كما امتدّت مع "كانط في "براديغم" "الدين العمومي المدني"، مروراً بـ "هايدغر" و"غدامير"، وصولاً إلى "ديريدا"، وهذه القراءات التي تُقزّم المكوّن الديني أو تقفز عليه أو تتحاشاه أو تحاول أن تؤدلجه وفقاً لمعطيات الحداثة الفائقة، ما هي إلا نوع من الاستفزاز الصدامي للعقل الديني الذي ما زال يترنّح هو الآخر في فردوسه الرجعي، إنّها إشكالية التطرف بزاوية مئة وثمانين درجة بالنسبة لكلا الطرفين.

من الفضاء المثقوب إلى الفضاء العمومي (استراتيجية الترميم):

إنّ التخريب الدلالي الذي يتعرّض له مفهوم الإنسان باستمرار، وترتبك معه أشكال العلاقات الاجتماعية، وترتجّ على غراره الأرضيات المرجعية، وتضطرب الأنساق القيمية والثقافية، يدفعنا إلى التحلي باليقظة الفكرية والحِلم المنهجي والتخطيط الاستراتيجي والنبوءة المستقبلية، للتقليل من حدّة هذا الفعل الذي يكتسح المشهد الثقافي تحت حماية الترسانة الميديولوجية وتواطؤ الطغمة الإعلامية واستكانة الفئة النخبوية، وإقصاء ساحق للصوت الديني الذي بات يقضّ مضجع العقول المفكرة أكثر ممّا يفتح مسالك الحوار معها، ومن جهة أخرى الاشتغال بعمق وبفنّية عالية المستوى على تحويل آليات التخريب والتدمير والتحريف إلى آليات للبناء والإنجاز والتشييد والابتكار، وهذا كله لا يتمّ بطريقة مجّانية، بقدر ما يحتاج إلى كفاءة تداولية تخلص التواصل الإنساني من عمقه، وتعيد الاعتبار لكلّ مستويات الحياة، خاصة المستوى الديني الذي يجسّد الدعامة القاعدية للأمم والمجتمعات ويوطد أواصر الأخوة ويفتح المجال فسيحاً أمام الآخر لممارسة حريته، كما يجسّد مجالاً حيوياً يستثمر فيه الإنسان لأجل العبور بسلام إلى العالم الأخروي. واستراتيجية التحويل هذه في حقيقة الأمر تحيلنا إلى آليّة محورية من آليات الخطاب القرآني التواصلية، وهي: "الدفع بالتي هي أحسن"، قال تعالى: ﴿ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم﴾.

إنّ الحديث بهذه الكيفية هو بالضرورة تحسيس بخطورة القفز على المكوّن الديني أو تهميشه أو تحويله إلى مجرّد هرطقات أو رفعه إلى مرتبة السحر وبالتالي إفراغه من محتواه الاجتماعي، ومن جهة أخرى هو وقفة نقدية تجاه الأصوات التي تسعى بقوة إلى موطنة المتدين وتمدين الدين وإفراغه من صبغته الروحية، وهذه لا شكّ نزعة مضادة لصيغة رفع الدين إلى أبراجه العاجية، ويحضر المكوّن الديني في الخطاب الفلسفي التنويري والحداثي بصيغ إشكالية متفاوتة الطرح والأهمية؛ فالخطاب "الهيغلي" يرى أنّ "تحويل الدين إلى لاهوت جامد يعني تحويل نظر الإنسان عن الأرض إلى السماء؛ حيث عالم الماوراء، بحيث يصبح عاملاً من عوامل اغتراب الإنسان وشقائه"[8]. فالدين عند "هيغل" يجب "ألا يقتصر على العقائد الجامدة، ولا يجوز تعلمه من الكتب، ويجب ألا يكون لاهوتياً، بل بالأحرى أن يكون قوة حقيقية تزدهر في الحياة الواقعية للشعب، أي في عاداته وتقاليده وأعماله واحتفالاته، يجب ألا يكون الدين أخروياً، بل دنيوياً إنسانياً، وعليه أن يمجّد الفرح والحياة الأرضية، لا الألم والعذاب وجحيم الحياة الأخرى"[9]. وإنّ هذا النوع من الطرح، الذي قد يروقنا منطوقه وتستهوينا صرامته، يمارس علينا نوعاً من التضليل العقدي والتمويه الفكري يجعلنا نتعامل مع الدين كلحظة مُعاشة أو كإنجاز إنساني مفصول عن معينه المرجعي المتعالي والمقدّس، وهي استراتيجية العقل الغربي الذي يسعى من خلال مشروعه الفلسفي إلى "أنسنة الإلهي" - كما يعبّر عن ذلك مطاع صفدي- وإنزال المقدّس من عليائه. والخطاب "الهيغلي" هو امتداد بصيغة أو بأخرى للخطاب "الكانطي" الذي يشتغل على المكوّن الديني بوصفه "ضرباً من الدين العمومي المدني الذي يهدف إلى نوع من التربية الأخلاقية المدنية للإنسان تنقلنا من (المواطن السلبي) إلى (المواطن النشيط)... [ولذلك ففكرة] الجماعة الإيتقية الكونية التي يريدها كانط هي فكرة كلّ إيتقي، أو جمهورية بحسب قوانين الفضيلة، ضدّ كلّ أنواع المؤسسات الدينية التاريخية التي لا يرى فيها كانط غير بؤر للاستبداد الروحاني ولتدمير حرية الإنسان نفسه. وإنّ ما يسميه كانط بـ"الكنيسة اللامرئية" ليست سوى فكرة ناظمة أو أفق استكشافي تخييلي يوجّه السلوك البشري نحو تدبير مدني حر للفضاء العمومي. وما عدا ذلك فطقوس باطلة قائمة على العبودية والكسل والخوف، أمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض متى تدبرنا إقامتنا فيها بكلّ حرية[10].

من هنا يتأسّس الخطاب الفلسفي الحداثي كآلية اختراق للمجال الديني، وفاعل تذويب مستمر لسلطة الثابت والمقدّس والمعياري في كيان الواقع بحمولته الإنجازية وفصاحته المادية، ليمنح السلطة للعقلاني والتقني. وهذا من دون شك عود أبدي إلى بطريركية العصور الظلامية، ولكن بصيغة جديدة هي "الكنيسة التقنية"، وهكذا فكلّ ما يُقصى أو يُهمّش، يتراكم ويتسرّب إلى المتن، وكلّ ما نعتقده هو الحل الأنجع يتحوّل إلى سلاح فتّاك. فلا يمكن، إذن، ترميم الفضاءات المثقوبة - بمصطلح دولوز- باستراتيجيات مخرومة وعقليات تؤلّه المنجز الذاتي وتحترف الإقصاء باسم العقلانية والواقعية والعصرنة، وتتمترس خلف تبريرات إنسانية لإبعاد الدين بصفة نهائية عن الحياة. وهذا بالضبط ما ينتبه إليه "علي حرب" وهو يتناول بالقراءة والتفكيك المشاريع الفلسفية الحداثية العلمانية والمشاريع الدينية الأصولية ومحاولة كشف مطباتها، فيقول: "...الأحرى أن يُعامَل الدين، بأساطيره وتصوراته وتقاليده ومؤسساته، بصفته إحدى المشروعيات والقوى الفاعلة في صوغ الحياة الاجتماعية وقيادة المصائر، شأن سواه من القوى والمشروعيات. وإذا كانت الأزمة هي أزمة الدين والحداثة معها، بآفاتهما وكوارثهما، فمعنى ذلك أننا أقلّ تديناً وعقلانية ممّا نحسب، إذن أقلّ إنسانية ممّا ندّعي. فالأولى أن نستيقظ من سباتنا البشري، العلماني والديني، لأنّ المسألة تتجاوز العلمانية إلى ما بعدها، كما تتجاوز العصر الماورائي إلى ما بعده. ليست القضية الآن الدفاع عن هذه الخصوصية أو تلك الهويّة، بل هذه هي المشكلة، وأمّا القضية فهي الدفاع عن أشكال العيش المشترك على الأرض؛ أي هي الآن كيف يمكن ترجمة الأفكار والعقائد والمذاهب والقيم، على أرض الواقع المعاش، لكي يتمكن البشر من العيش سوياً، في مواجهاتهم للأخطار والكوارث التي تكاد تهدد الأرض بمن عليها وما عليها، وإلا لن يعود هناك حطام يتصارعون عليه، أو ما يمكن أن يرثه عباد الله الصالحون"[11]. وهذا لا شكّ نوع من التخريجات الاجتهادية التي تسعى إلى رتق الفتوق الكامنة في الذهنيات التي تتصارع بشراسة من أجل افتكاك السبق والريادة، سواء بصيغتها الدنيوية العلمانية أو بصيغتها الدينية الأخروية، قبل أن تكون ترميماً للفضاءات المثقوبة. ولكنّها بالرغم من ذلك تبقى تحمل في أحشائها بذورها اليوطوبية، لأنّها تشتغل على ما لم ولن يتحقق، وتفكر في ما لم يستعد البشر التفكير فيه إلى الآن. 

نحو فاعل بشري جديد، أو ما بعد الإنسان:

الإنسان يبتكر أشكال الإقامة في اللغة، بقدر ما يمارس كينونته مع العالم، والعالم بمفهومه الفلسفي الأكثر حداثة هو ما يقيمه الإنسان من أنظمة علائقية مع أثاث الكون. وإذا كان "هايدغر" قد أكد أنّ "اللغة هي مسكن الوجود"[12]، فإنّ مفهوم اللغة الآن قد تغيّر في ضوء عالم التقنية الفائق، كما أنّ الوجود يأخذ صبغة جديدة تماماً في ظلّ تداولية الواقع الأثيري الذي يتخلق من خلال معطياته فاعل بشري جديد له استراتيجيته النحوية والافتراضية التي تتجاوز معيارية وقواعد الجملة العربية إلى نحو الثقافة السيبرنيطيقية الكونية، وتتعدّى حدود المواطنة الورقية في بعدها الهويّاتي الأفقي إلى المواطنة الإلكترونية أو الشبكية الافتراضية، فـ"الفاعل البشري الجديد هو الإنسان العددي أو الكوكبي أو المعولم أو الإنسان الأخير أو الإنسان العابر، أو الإنسان الوسيط أو الأنا التواصلي، الذي يبتكر إمكانية جديدة لعلاقته بوجوده، يتجاوز بها ثنائية الأعلى والأدنى، أو مدينة الآلهة وشريعة الغاب، لنسج علاقات بين الناس تتغلب فيها الجوانب الأفقية والتبادلية على الجوانب العمودية والسلطوية، بقدر ما تفتح الأفق لتجاوز الإنسان الإنسانوي، نحو عصر ما بعد الإنسان، بالمعنى المجازي لا الحقيقي، إذ لا يتعلق الأمر بكائن جديد، بقدر ما يتعلق بنمط جديد من الوجود تتيحه تقنيات المعلومات وانفجارات المعارف"[13]. ولعل السؤال الذي يلحّ علينا بطرحه، حتى وإن لم نجد له إجابات، يتشكل كالآتي: إذا كان مفهوم الإنسان قد تشكل بوضوح ببنيته الاستخلافية؛ بمكوناتها المعرفية والمنهجية والسلوكية والجمالية والمستقبلية، عبر تكوينية الخطاب القرآني وإنجازية الفعل النبوي، فلماذا نقف حائرين الآن أمام مثل هذه الخطابات التي تمارس عنفها الرمزي على الإنسان وتمفهمه وفقاً لنزواتها الاغترابية؟ أهو نوع من التشكيك في نجاعة المرجعية القرآنية أم محاولة لتجاوز منطوق الخطاب وتفجير مكنونه؟ ثم ما الجديد الذي جاءنا به "علي حرب" من خلال صيغة "ما بعد الإنسان"؟ وكيف ستتحقق في عالم أتت فيه الإيديولوجيات على الأخضر واليابس؟

ولكن بالرغم من ذلك يبقى كلام الرجل يحمل وهجه الخاص، حينما يشير إلى أنّ الفاعل البشري الجديد أو المواطن ما بعد الحداثي هو الإنسان الوسيط الذي "لا يعتبر نفسه أفضل من بقية الكائنات، بل الذي يعيش وسط الطبيعة بوصفه جزءاً من موجوداتها، والذي تقوم العلاقة [بينه وبين بني جلدته] على اختراع الوسائط وخلق الأوساط من أجل التواصل والتعايش. مثل هذه المهمة الوسطية هي أولى وأجدى من المهام النبوية والرسولية أو الإلهية والمتعالية، وما دام البشر ينتهكون دائماً المبادئ والقيم التي يقدّسونها أو يسعون إلى تحقيقها. إنها مهمّة تخفف من منازع العدوان التي يمارسها إنسان القيم العليا والمثالات المجردة... مثل هذا الفعل البشري، لا هو بالأعلى ولا بالأدنى، لا بالإلهي ولا بالشيطاني، لا بالبطل الخارق ولا بالقاصر العاجز... إنّما هو كائن خلاق لا تستعبده عقيدة أو مقولة، ولا تأسره هويّة أو صورة، يمتلك القدرة على توليد الدلالة ونسخ المعنى وعلى تغيير الصور والوجوه، وكسر القوالب والنماذج، واختراع الأشكال والأنماط، وخلق المفاهيم والأساليب وسط عالم لا ينفك عن التشظي والتكسر أو عن التحول والتسارع أو عن الانتشار والتوسع[14]. ومن ثمّ لا يمكن الحديث عن إنسان ما قبلي أو ما بعدي، بل عن إنسان تداولي ينجز ويبتكر أكثر ممّا يُنظّر ويتمركز حول أوهامه أو تهويماته النضالية ومشاريعه الانغلاقية، إنسان مستقبلي لا تربكه التقنية ولا يتوجس من العولمة وأدواتها، بقدر ما يمتلك قدرات التنمية واستراتجيات التحويل والإبداع والاستعداد المستمر للتغير عمّا هو عليه، والنفاذ من أقطار السماوات والأرض.


[1] أم الزين بن شيخة المسكيني: كانط راهناً (أو الإنسان في حدود مجرد العقل)، المركز الثقافي العربي (بيروت)، ط1 (2006)، خلفية الكتاب.

[2] علي حرب: أزمنة الحداثة الفائقة (الإصلاح، الإرهاب، الشراكة)، المركز الثقافي العربي (بيروت)، ط1 (2005)، ص 199

[3] مطاع صفدي: ماذا يعني أن نفكر اليوم (فلسفة الحداثة السياسية/ نقد الاستراتيجية الحضارية)، مركز الإنماء القومي (بيروت)، ط1 (2002)، ص 365

[4] المرجع نفسه، ص 364

[5] حسن مصدق: النظرية النقدية التواصلية (يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت)، المركز الثقافي العربي (بيروت)، ط1 (2005)، ص 118

[6] علي حرب: العالم ومأزقه (منطق الصدام ولغة التداول)، المركز الثقافي العربي(بيروت)، ط1 (2002)، ص 138

[7] المرجع نفسه، ص 142

[8] محمود حيدر: تحولات الفلسفي الديني في الفلسفة الغربية (روجيه غارودي نموذجاً)، مجلة المنهاج، ع35، 2004، لبنان، ص 68

[9] المرجع نفسه، ص 68

[10] أم الزين بن شيخة المسكيني: كانط راهناً، ص ص 60، 61

[11] علي حرب: الإنسان الأدنى (أمراض الدين وأعطال الحداثة)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت)، ط1 (2005)، ص ص 246، 247

[12] صفاء عبد السلام جعفر: الأصل في اللغة (دراسة أونطولوجية في قصيدة تراكل "أمسية شعرية")، دار الوفاء (الإسكندرية)، ط1 (2001)، ص 30

[13] علي حرب: حديث النهايات (فتوحات العولمة ومآزق الهويّة)، المركز الثقافي العربي (بيروت)، ط1 (2000)، ص 196

[14] المرجع نفسه، ص ص 194، 195