الكتابة النقديّة والتأويل السيكولوجي للذات


فئة :  مقالات

الكتابة النقديّة والتأويل السيكولوجي للذات

تأتي هذه القراءة بمثابة رغبة دفينة لترويض قلق العبارة النقدية المعاصرة، التي تتجه يوماً بعد يوم إلى ابتكار أساليب وآليات لافتضاض مكنون الذات الإبداعية الكونية المسكونة بهاجس المعنى، والمكتوية بلهب الرمز والتدليل، وكسعي دؤوب نحو رتق الفتوق التي خلّفتها طرائق القول النقدي المتمركز حول أوهامه الدونكيشوتية، واستلاباته اللاهوتية، والمُشهر حرابه الشوفينية التي أثخنت النصوص بجراحات لا يعفو عليها الزمن.

إنّ المتأمل في تكوينية الكتابة النقدية المعاصرة يجدها فضاء لتنازع رغبات عدة؛ رغبة المؤلف، ورغبة المؤسسة، ورغبة النص، ورغبة القارئ، ومسرحاً تتعاقب على ركحه كلّ أساليب الاستنطاق التي مارست هيمنتها بطريقة تعسفية على مملكة المعنى.

وهذا ما يقودنا إلى القول إنّ أزمة العقل المعاصر هي أزمة معنى، ولكن يجب ألّا تنصرف أذهاننا إلى أنّ المجتمعات الإنسانية الأخرى لم تواجه عبر التاريخ مأزق المعنى، وإنما لحظة المعاصرة هذه ضاعفت من حدّة الأزمة وعقّدت من حيثياتها، خاصة مع تيارات ما بعد الحداثة التي أعادت النظر بشكل جذري في طرائق القول وأنماط الخطاب وآليات التحليل، وفضّلت الإنصات لبلاغة الهامش على حساب بلاغة المركز. وكرّست كلّ طاقاتها للدفع بالنسق الحداثي إلى أقصى حالات هذيانه، والزّج به في أتون النزعة الديونسيوسية، والحالة الكاوسية (العمائية)، ممّا جعل الذات الناقدة لا تستطيع الانفصال عن موضوعها المنقود بشكل يضمن لها صرامة التحليل وموضوعية الحكم، بل إنها تمارس كتابة تحتكم في كثير من الأحيان إلى سلطة الداخل واستيهامات المخيال ومكر التاريخ وعنف المتخيل الاجتماعي، ممّا يفتح المجال أمام آلة التأويل التي تعيد إنتاج النص المقروء وفقاً لمتطلبات الذات الناقدة ورغباتها، والتي هي في الأخير نتاج البراديغم السيكوثقافي.

يمكن أن نصوغ إشكالية موضوعنا انطلاقاً من جملة تساؤلات:

هل الناقد هو الذي يختار نصه (مادة التحليل)؟ أم أنّ النص هو الذي يمارس إغواءاته على الناقد ويجلبه إلى ساحته لا شعورياً؟ هل هناك معايير معينة يُحتكم إليها في اختيار النص؟ كيف تمارس عملية التأويل؟ ولماذا التأويل السيكولوجي للنص؟ وهل يمكن القول إنّ التأويل السيكولوجي للنص ما هو في الأخير إلا تأويل للذات؛ إذ إننا ـ كما يقول الهيرمينوطيقيون ـ نقرأ ذواتنا ونفهمها ونشرحها عبر النص الذي نؤوّله، ولا يمكن لأيّ قراءة أن تتخلص من بعدها السيكولوجي؟

فلا مراء في أنّ الناقد يقيم علاقة نفسية ما مع النص ومكوناته، انطلاقاً من كونه يرتكز على مخيال اجتماعي، يشتغل أحياناً إيديولوجياً وأخرى يوطيوبياً. كما يرتكز على هويّة سردية من خلال إنتاجه لحكايته النقدية مع النص وانفعاله به، مثلما يحلل ذلك الفيلسوف الفرنسي الراحل "بول ريكور".

ولرسم خارطة معرفية ومنهاجية للموضوع المطروق، لا بدّ من وضعه أولاً في إطاره الإشكالي، وتحديد طبيعة البراديغم الذي نشتغل في ضوئه، ثم نمرّ إلى إجراء المفهمة لتوضيح المقصود بالكتابة النقدية والتأويل السيكولوجي، ليقودنا هذا إلى النظر في كيفيات تموضع الذات في الخطاب النقدي.

وتكمن أهميّة هذه الدراسة في لفت الانتباه إلى حساسية البعد المعرفي في النقد الأدبي، وضرورة تفعيله في تحليل العلاقة المركبة بين الذات القارئة والموضوع النصي، لتجاوز النظرة الضيقة للنص الأدبي التي تتعامل معه كمعطى فني صرف بعيداً عن محمولاته الثقافية والحضارية.

وبالتالي فالهدف المحوري لها هو تقديم تصور حضاري حول مفهوم الكتابة النقدية ينأى بها عن المفاهيم الحداثية أو ما بعد الحداثية التي تقوم على السيولة التأويلية وعدمية المعنى، وفي الوقت ذاته يؤكد على البعد التواصلي والتثاقفي الحواري.

من أجل ذلك تحاول هذه الدراسة استثمار التحليل المفاهيمي المعرفي والتركيب التأويلي؛ إذ تعمد إلى تجزيء الموضوع إلى وحدات مفاهيمية: الكتابة، النقد، التأويل، الذات، ...، وتقوم بالكشف عن أبعادها المعرفية والثقافية، ثم تشرع في تركيبها مع مراعاة الأبعاد الزمانية والمكانية والقيمية لبناء الوعي الحضاري بعملية النقد.

أولاً: النقد وسياق ما بعد الحداثة

يشكل النقد وسيطاً تواصلياً بامتياز بين النص والقارئ، وبين النص والثقافة. فهو الفضاء الذي من خلاله تنكشف طرائق الفهم وأنماط الرؤى، وأساليب الحجاج والترميز، وتتبلور عبره الذائقة الحضارية بشكل عام. ونحن هنا، في هذا المقام، مطالبون بتتبع وضعيته وآليات حراكه في ضوء براديغم ما بعد الحداثة، فهل يمكن أن نتحدث عن نقد جديد تماماً مارس قطيعته بشكل جذري مع المنظومات النقدية السياقية والنسقية؟ أم أننا نتحدث عن نقد هجين هلامي لا يمتلك استراتيجية واضحة المعالم، كما يقول بذلك التفكيكيون الذين يمثلون الوجه الإجرائي لفلسفة ما بعد الحداثة، واستراتيجيته الوحيدة هي تقويض كلّ ما هو مركزي ويدّعي النسقية والنظامية.

فـ"عالم ما بعد الحداثة ليس نظاماً حركياً منفتحاً ذا مركز وغاية وتراتب هرمي - مثل عالم التحديث -، ولا هو بعالم مغلق يحاول الانفتاح مثل عالم الحداثة، أو أن يفرض تراتباً هرمياً ذا معنى.. وإنما هو نظام لا مركز له، مكوّن من نظم صغيرة مغلقة، يدور كلّ منها حول مركزه وحول نفسه، ويأخذ شكل صور متجاورة لكل معناه المستقل، لا يربطها رابط ولا توجد أية صلة بينهما، ولا توجد علاقة سببية واضحة، فكلّ إنسان يدرك الصورة القريبة منه. وهذا كله يعني أنه لا توجد طبيعة مادية وموضوعية ولا طبيعة بشرية (ذاتية)، ولا توجد مبادئ متجاوزة، فهو عالم ذرّي متشظّ، ولكنها ذرّات سائلة متلاصقة".[1]

وهكذا يجد النقد ذاته يدور في فلك متأزّم، كلّ ما يلامسه ويقترب منه للفهم والتحليل متلبس بالريبة والنسبية، وكلّ ما يعتقد أنه يقود إلى الحقيقة واليقينية تترسب في قعره كتل الاستيهامات. وما إن يركن إلى عقلانية وموضوعية أحكامه حتى تفاجئه الذات بميثيولوجياتها. فلحظة ما بعد الحداثة هي "لحظة تأزيم لقيم الحداثة واشتباه في ميثيولوجيتها. إنها تضع القيّم والمُثل موضع ارتياب ونسبية، وتخلع عن الذات تمركزها الأنتروبولوجي. إنّ ما بعد الحداثة لحظة تحُدُّ من غلواء العقل ومن سطوته الأسطورية وتخنس به إلى حجمه الطبيعي؛ أي اعتباره إرادة معرفة من بين إرادات أخرى، وهي أيضاً لحظة تشذير للعالم، وانهيار للوثوق وأفول للخطابات الكبرى".[2]

وتنبثق لحظة النقد كفعل تأزيمي للمتن النّصي أثناء لقاء الذات الناقدة به، لا تنفرج بإيجاد صيغة تواصلية تفاوضية، وإنما تتطور لتصعيد المسار الدرامي القرائي نحو ذروته، لتفجير مكبوت النص وفضح صيغه التلاعبية.

إنّ "ما بعد الحداثة النصوصية أو اللغوية ترى أنّ اللغة ليست أداة لمعرفة الحقيقة، وإنما هي أداة لإنتاجها. فثمة أسبقية للغة على الواقع، ولذا فإنّ النموذج المهيمن هنا هو النموذج اللغوي. وترى ما بعد الحداثة النصيّة أنّ اللغة مكوّنة من استعارات لا تكشف الواقع، وإنما تحجبه. فهي تشبه الزجاج (المعشّق) الذي تحاول أن ترى ما وراءه فتنشغل بألوانه (الدوال) وتنسى المدلول. واللغة مكونة من لعب الدوال المنفصلة عن المدلولات، ولذلك، وكما يقول "دريدا"، يستحيل معرفة الواقع خارج نطاق الخطاب المستخدم واستحالة التعبير عنه. والنص، أدبياً كان أو فلسفياً، معبّأ بالاستعارات التي تحجب الرؤية".[3]

فالكتابة النقدية ما بعد الحداثية، إذن، تتداخل فيها المكونات اللوغوسية بالمكونات الميتوسية، والواقعي بالمتخيل، أو قلْ بالأحرى هي فضاء لتنازع مجموعة قوى، "والقوة ليست مركزاً ثابتاً، وإنما مجموعة من العلاقات تتخلل النظام الاجتماعي بأسره بأشكال مختلفة...والانعتاق [يكمن] في التعبير عن الرغبة (التي تحاول النظم الاجتماعية قمعها)".[4]

وهذا يحيلنا بشكل عميق إلى أنّ المكوّن السيكولوجي هو لا شعور كلّ منهج وكلّ قراءة، وهو الوجه غير المرئي للذات والتاريخ والخطاب. وهو الذي يتحكم في معظم العلاقات بين عالم الأشخاص وعالم النص والمرجعيات.

ومن ثمّ يصبح النقد في مفهومه العميق عملية سيكولوجية تأويلية أولاً وقبل كل شيء، و"مع التطورات الحديثة المتعلقة بتشظّي الذات، وتغيّر مفاهيم الحقيقة كان على التحليل النفسي أن يكيّف نفسه حسب هذه المتغيرات. فإذا كانت الذات مجموعة علاقات متشابكة؛ منها الشخصي ومنها غير الشخصي، والحقيقة لم تعد متعالية على اللغة التي تنسجها وتبنيها، فإنّ على علم النفس أن يبرّر ويفسّر سيرورة العملية التي تبني "الذات" وتبني مفهوم الواقع. ولهذا أصبح الفنان كما أصبح المحلل النفسي على وعي تام بتداخل أفكاره وعواطفه وتجاربه في عملية التحليل وفي نتائجه، كما أصبح مركز الاهتمام منصباً على العلاقة بين الوعي واللاوعي، وليس على الكيفية التي أصبح يملي بها اللاوعي شروطه على الوعي وعلى السلوك الفردي.

فلم يعد اللاوعي منطقة معزولة تؤثر على الوعي فقط، بل أصبح التأثر متبادلاً بين المملكتين، إضافة إلى تدخل وعي ولاوعي المحلل النفسي أو الناقد الأدبي. وهكذا أصبحت العملية حركة صيرورة مستمرة بين الوعي واللاوعي من جهة، وبين وعي ولاوعي المحلل من جهة أخرى. ومع هذه الخصائص أصبحت عملية التأويل عملية مستمرة وليست حدثاً يبدأ وينتهي، أي أصبحت عملية مفتوحة".[5]

إنّ العقل النقدي ما بعد الحداثي لا يقنع بانسجام الذات الناقدة، ولا بنسقية واكتمال الموضوع المنقود، ولا بواحدية المنظور وصفاء الرؤية النقدية. كما لا يستسلم لفكرة الحكم الأحادي المطلق الذي يؤسس لمركزية الحقيقة وشوفينية الإيديولوجية التوتاليتارية التي تحترف قمع الإيديولوجيات النامية والأصوات الهامشية، إنه يحفر عميقاً في المسكوت عنه، وفي المنسي والمحجوز... ويؤسّس فعله النقدي على اكتشاف نظام العلاقات والتفاعلات بين البنى المختلفة، وفي إمكانيات تبادل الأدوار بين الفاعلين النصيين والفاعلين الاجتماعيين، ويسعى حثيثاً لتوصيف كيفية اشتغال الإواليات النفسية التي تجسّد المحور الأساسي في بناء المعنى وتوجيهه. وهنا بالضبط تكمن سمته الإبستمولوجية؛ فالنص يقدّم المعرفة من خلال ابتكاره لنظام العلاقات اللغوية، وتجريبه المستمر لإمكانيات تخليق صور لا نهائية لأنظمة التواصل بين أنماط الكينونة الإنسانية.

ثانيا: أسئلة الكتابة النقدية

يثير سؤال الكتابة مفارقة مفصلية تخلق توتراً كبيراً في بنية العقل النقدي؛ فهي من جهة فعل احتذاء وتثبيت لتاريخية الكلام وآليات نسج وبناء لمعمار الخطاب، ومن جهة أخرى هي فعل هدم وتقويض.

يقول "موريس بلانشو": "إذا كانت الكتابة هي الولوج لمعبد يفرض علينا، بغض النظر عن اللغة التي هي ملكنا بحق الإرث وبحتمية عضوية، قدراً من العادات وإيماناً ضمنياً وإشاعة تحول ـ مسبقاً ـ لكلّ ما يمكن أن نقوله وتحمله بنوايا تكبر فعاليتها بقدر ما يعترف بها، فالكتابة هي أولاً رغبة في هدم المعبد قبل بنائه، وهي على الأقل التساؤل، قبل تخطّي العتبة، حول القيود والأعباء التي يفرضها هذا المكان، حول الخطأ الأصلي الذي سوف يكوّنه قرارك إغلاقه على نفسك، والكتابة في الأخير، هي رفض تخطي العتبة، هي رفض "الكتابة".[6]

فالمشهد النقدي ـ اليوم ـ لا يتعامل مع الكتابة على أنها قناة توصيل خاضعة لسلطة النحو وطقوس البلاغة وسطوة التقاليد وشرعية المؤسسة بصفة عامة، وإنما الكتابة هي فعل مضاد سالب، تكمن جدواه فيما يقوله بطريقة منافية تماماً لكلّ ما تستسلم العقول لشرعيته ويقينيته، إنها "بعثرة للذات واستكناه لميتافيزيقاها المضمرة...، الكتابة ترجمة للجسد واللاوعي والرغبة، وبالتالي تحوير "لما لا يمكن توصيله" إلى "ما يمكن توصيله"، وهي رغبة حاسمة يحرّكها هاجس الاقتراب من الآخر".[7]

والقراءة النقدية اليوم في ضوء هذا الفهم "أصبحت كتابة أو توقيعاً خاصاً يتيح لذات الكاتب أن تعلن عن نفسها بما تقترحه من أسئلة، وبما تقترحه من أوضاع قرائية جديدة، لم يعد الكاتب أسير ما يقترحه من مفاهيم، بل إنّ النقد الذي اختار وضع الكتابة، اختار نفسه ككتابة إبداعية محايثة لما تقرأه.

وهي بهذا الإبدال وضعت يدها على ما كانت تفتقد له الكتابات النقدية السابقة، وحفرت - في سياق القراءات النقدية العربية - مجرى جديداً أتاح للنص أن يقول انشراحاته وأن يفتح جرحه على ما لا يحصى من الدلالات والمعاني".[8]

إنّ النقد وهو يتحرّر اليوم من سطوة الأساليب الدوغمائية التي جعلت منه آلة تميز جيّد النصوص من رديئها أو محكمة لاستنطاق النصوص وانتزاع المعنى عنوة منها، يعلن ولاءه لوضعية جديدة، تجعل منه فعلاً جراماتولوجياً متكاملاً "يواجه [من خلاله] الكائن قدره ولحظته التاريخية وما تزخر به من تناقضات وطموحات. ومن هنا يستمد التفكير النقدي نفسه، من جهة كونه توسيعاً لدائرة الفهم وإجلاء للغموض، بُعده الوجودي. إنّ الكتابة النقدية ليست مجرد شرح لنص معطى، أو مجرد تأويل لمغالقه فحسب، بل هي فعل وجود. ومعنى كونها فعل وجود أنها تتعدى الشرح والتأويل إلى الإحاطة بالطريقة التي يفصح بها الكائن عن نفسه في مواجهته لرعب الوجود، فيما الخطاب النقدي نفسه يمكّن منتجه من أن يفصح عن كيانه الخاص ورؤاه الخاصة".[9]

وعلى غرار هذا يبدو أنّ الصيغة المقبولة إلى حدّ بعيد في مفهمة الكتابة النقدية هي كونها عملية تجذير لتوتر العلاقة بين سؤال الوجود والمصير وسؤال المتخيل، والتي لا تنتقل إلينا إلا عبر انزياحات توليدية تحيلنا إلى أنّ المعنى تتداعى معالمه كأمواج البحر.

فالكتابة النقدية ـ إذن ـ "قراءة توليدية تحويلية تتعامل مع [النصوص] كحقول للدرس والتنقيب، أو كإشكالات تحتاج إلى الخرق والتجاوز، بحيث نستثمر مكتسباتها المفهومية بإغنائها وتوسيعها، أو نفكك عقلانيتها بنمطيتها وبداهاتها ومنطقها بالتصنيف، من أجل إعادة البناء والتركيب، ممّا قد يسهم في فهم مشكلاتنا الفكرية أو في استحداث آفاق جديدة للمعرفة".[10] ومن ثم تتخلص من بعدها السانكروني، وإجراءاتها البوليسية، فلا يعامل الأثر الفكري أو الفني معاملة إيديولوجية "بوصفه أطروحة ينبغي تصديقها أو تكذيبها. وإنما يعامل معاملة وجودية بوصفه واقعة ثقافية تختزن إمكاناتها، أو طاقة تحتاج إلى من يصرفها ويستغلها، أي يعامل كمعطى يحتاج [إلى البحث فيه] عمّا لا يقوله، أو عمّا يمتنع عليه قوله، أي عمّا يكبته ويرجئه، أو عمّا يحيد عنه ويتستر عليه".[11]

ولعل هذا ما يجعلنا نقّر بالتغييرات المفصلية التي تحدث اليوم في بنية العقل النقدي ما بعد الحداثي في نظرته للأثر الأدبي، بل في تصوّره للمعرفة ككل ولدورها الوظيفي، واكتشاف أهمية الوسائط والعلاقات بين مكونات الكون الطبيعي والكون النفسي والكون النّصي، كما يوضح ذلك "محمد مفتاح" في كتابه "الشعر وتناغم الكون".

ثالثاً: التواصل النقدي والتأويل السيكولوجي للذّات

إنّ التواصل في مفهومه ما بعد الحداثي ليس عملية اتفاق شمولية بين الناقد والمنقود، تشير إلى انسجامها المتكامل، وإنما هو فعل يتمّ في الفضاءات والمساحات والتخوم التي تفكك الهويات "المسرفة في إنسانيتها"، كما يعبّر نيتشه.

فما يميّزه هو فقدان عنصر الوحدة والاتصال، وسيادة التعدد والتفكك، وهي محاولة لإقحام اللانهائي في الفضاء المحدود، والتعدد ضمن الموّحد، مقابل الوحدة التقليدية التي أساسها الانسجام المنطقي. وهذا لا يعني أنّ هدف الكتابة النقدية المعاصرة هو إلغاء مفهوم الوحدة [النصية]، إنما إعادة الحياة له، وجعله مفهوماً ديناميكياً يسهم القارئ بإمكانياته في بنائها.[12]

ولا شك أنّ التواصل النقدي في هدفه الأسمى هو تحقيق حد أعلى من الفهم لصيَغ تواجد الإنسان في العالم؛ من خلال فهم وتأويل الصيَغ الوجودية التي ينشئها النص ويبتكرها. إنه في مفهوم "آيزر" "نوع من التفاعل الوجودي بين الذّات القارئة والبنية النصّية لتوليد معنى ما وقيمة أدبية ما، لا تعودان بالتحديد إلى ملكية خاصة بالنص، ولا إلى ملكية خاصة بالقارئ، ولكنها تعود فقط إلى تلك النقطة التواصلية التي توجد بينهما. فالتواصل بهذا المعنى هو فعل منتج للدلالة وليس مستهلكاً لها".[13]

كما لا يمكن أن نتصور تواصلاً نقدياً من دون حساسية سيكولوجية تنقل لنا مستوى الاتصال الوجداني بين أطراف العملية، وتعبّر عن أواليات إدراك العالم وتأويل الذات، الذي "لا يتمّ إلا بتوسط البنيات الرمزية ومختلف صنوف السرد والحكاية"[14] التي عبرها يتشكل الكائن الإبستيمي كإرادة للقول والإنجاز تمارس تاريخيتها وطموحها الحضاري، وتحترف كيفيات إضفاء المعنى على الوجود وأسراره؛ إذ "يوجد التأويل كلما وجد غموض، أو تقمّص الحياة النفسية للآخرين والقدرة على فهم كاتب ما، أكثر ممّا يفهم هو نفسه".[15]

وقد تبلور مصطلح "التأويل السيكولوجي" مع الفيلسوف الألماني "شلاير ماخر" الذي حدّد ضربين من التأويل: "الأول يسميه بالتأويل النحوي أو الموضوعي، والثاني يسميه التأويل النفسي أو التقني، ويهتم بالطابع الفردي، بل العبقري للرسالة التي يريد الكاتب إبلاغها. وإذا كان هذا التأويل تخمينياً أو تكهنياً، كما يقرّ "شلاير ماخر" بذلك، فإنّ هذا لا يمنعه من وضع مسلك منهجي محدّد له هو المقارنة، بمعنى أننا لا نستطيع الإمساك بفردية ما إلا من خلال تبيّن الفروق التي تميّزها عن غيرها".[16]

ولكن بقول "شلاير ماخر" قد نظلّ حبيسي الدائرة التحليلية النفسية ما قبل الحداثية التي تبحث في البنية النفسية للكاتب والصيغة الوجدانية له، أو العلامة النفسية الفارقة بينه وبين الآخرين؛ إذ ما زال البحث رهين استخراج المقاصد والنوايا الخفيّة، وهذا لا ريب تأويل مشحون بالضخامة الذاتية التي ترى العالم من خلال نظارات المؤوّل فقط.

أمّا الكتابة النقدية ما بعد الحداثية فهي عملية مفاوضات ومناوشات مع النص لتجريب معطياتها التأويلية، ومحاولة اختبار إمكانياتها على مسرح النص. فالإنسان يعيش تجربة فقدان ـ كما يقول الفلاسفة ـ ويسعى إلى استرجاع المفقود على مستوى الكتابة.

يرى نورمان هولاند "أنّ عملية القراءة وتفاعل القارئ مع النص هي عملية علاجية؛ إذ يكتشف القارئ في الأدب "موضوعية الهويّة" الخاصة به ويتعرف على رغباته ودوافعه وذاتيته. وهكذا تنتقل الرغبة من النص إلى وعي ولاوعي القارئ. وبهذا يكون النص قد خدم المؤلف في التعبير عن رغباته ودوافعه، وخدم القارئ الذي يوائم ويكيّف النص حتى يحقق متعته الخاصة".[17]

إنّ قول "نورمان" يكشف لنا حقيقة ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ أنّ النص هو حقل لنزاع مجموعة من الرغبات، وفضاء لصراع التأويلات - كما يقول "بول ريكور" - ولكن أن يتحول النص إلى مصحّة علاجية، والقراءة التفاعلية إلى فعل استشفائي، فهذا ما هو إلا عودة نظرية إلى فكرة التطهير الأرسطية "الكثارسيس".

وفي هذه الحالة يصعب الفصل بين ما هو "ذاتي موضوعي"؛ أي مشخّص وفق حدوده بدقة، وما هو "ذاتي غير موضوعي"؛ أي خاضع للوهم والمغالطات. وهذا ما يدفعنا إلى الإقرار مع "حميد لحمداني" أنّ "القراءة ـ رغم ما حصل فيها من تطور تبعاً للتغييرات التي لحقت نوعية الكتابة ـ ما تزال تميل إلى ذلك النمط التقليدي في الغالب، وهو الذي ينظر إلى المعنى كتجلٍّ ثابت لمقصديات الكتّاب، مع أنّ معظم القرّاء لا يقرؤون في الواقع - من خلال النصوص - سوى تصوّراتهم الخاصة وميولاتهم الإيديولوجية والنفعية، وبمعنى آخر إنهم يؤوّلون النصوص أكثر من كونهم يفهمونها. غير أنّ القراءة دون شك تصبح في مجالات التخصص محكومة ببعض الضوابط النسبية التي من شأنها أن تميّز بين القراءات المندمجة أو الواهمة وبين القراءات الواعية بشروط وإمكانيات التدليل".[18]

إنه في هذه الحالة يصعب الحديث عن موضوعية النقد، وسلامة الآليات القرائية التي يستخدمها في التحليل من مطبّاتها الإيديولوجية ورواسبها الباثولوجية. فأنّى للكتابة النقدية أن تكون حيادية؟ وأنّى للتأويل أن يكون عقلانياً في ضوء شرائط الذائقة الثقافية؟

فالناقد "إنما يكتب مأخوذاً بالصورة الحاصلة له عن نفسه، فيثبّتها في قلب الخطاب، ويحرص على استدراج متلقّيه المفترض إلى التسليم بها...[وهو إذ يتخذ من الكتابة] وسيلة ليحقق خلاصه الفردي [إنما] هو يمارس سطوته على الثقافة التي ينتمي إليها، ويمارس سطوته على الجنس الذي يكتب فيه، وعلى متلقّيه المفترض، أو كأنّ الكتابة [في لاوعيه] لا تعامل على أنها حرفة لها وظيفتها الاجتماعية والتاريخية، بل تعامل على أنها فلك نجاة".[19]

الخلاصة:

إنّ آليات التأويل السيكولوجي للذات إذا اشتغلت بطريقة دوغماتية فإنها تقتل النص أكثر ممّا تحييه، وتكشف عن محدودية وضعف نجاعة إجراءات التحليل، كما أنها في الأخير تجعل الثقافة كياناً ساكناً لا روح فيه. أمّا إن كان الفعل التأويلي يتوخّى مساءلة الذات وهويتها وأنساقها الثقافية من خلال النص، وهذه الذات لها الاستعداد الكامل للتحوّل عمّا هي عليه، فهذا هو الفعل الإبداعي المثمر، الذي ينتقل بنا من الذات كنسق مغلق مكتفٍ بنفسه إلى الذات كحالة تذاوت (Inter Subjectivité)، لا تكتمل صورتها إلا بدخولها في عمليات تثاقف مستمرة مع الذوات الأخرى. فالممارسة النقدية "ضرب من العمل على إنشاء مجال [خصب] يقع بين النص وعالم من الذوات المرتبطة به بنشاطات متعددة؛ نشاط الذات المؤلّفة، والذوات المضمّنة مرجعياً، والذات القارئة، والذوات المتخيّلة للزمان والمكان والأشياء.

ويمتاز [هذا المجال] بخواص نوعية، فهو يقوم بوظيفة الربط بين المعنى المتحقق فعلياً باللغة في النص، والمعنى الذي كان يرمي إليه مؤلف النص، وهو ما يستحضره بوصفه شخصاً حقيقياً في واقع حقيقي، له أفكاره وثقافته ورغباته، والمعنى المرتبط بالذوات الأخرى، والمعنى الجامع لكلّ ذلك".[20]

ومع "بول ريكور" أعيد صوغ المشكل التأويلي في صيغته السيكولوجية، وتّم رسم الحدود المنهاجية بين الذّات الناقدة وموضوعها؛ إذ تمّ "استبعاد ربط التأويل بالحدوسات النفسانية (كما هو الشأن بالنسبة لشلاير ماخر)، وبعناصر الذاتية، وفي تدشين مرجع للنص من ضرب وجودي غير القصود والنيات وكذلك في سلك طريق العودة من البنية الأنطولوجية للفهم ومن التكوين المتناهي للإنسان إلى المشكلات الإبستمولوجية، وبيان العلاقة المتبادلة لهذه بتلك، وأخيراً في صوغ موضوع مفهوم جديد لاتخاذ المسافة من الموضوع يكوّن قاعدة الموضوعية للتأويل دون السقوط في الادّعاءات العلموية ذات الأصل الوضعي، ولا الاستغراق في رابطة الانتماء بشكل تحتجب معه أيّة إمكانية للموضعة".[21]

يتخذ "ريكور" هنا مفهوماً إجرائياً بديلاً هو "المسافة النقدية" (Distance Critique) لتفعيل آليات التأويل للنصوص، وفهم وضعية الذات أنطولوجياً وإبستمولوجياً، وتخليص التأويل السيكولوجي من الذاتية المفرطة ومن الرواسب الباثولوجية، فـ"إزاء النص نقوم بتعليق ذاتيتنا (أي ذاتية القارئ)، وذلك باندماجنا في العالم الذي يفتحه لنا النص وبتملكنا لأشيائه، وأخيراً بتحقق ذواتنا من خلال فعل القراءة والتأويل ذاته. وبتعبير آخر، إنّ الاندماج في عالم النص يزحزح الذات من موقعها الوهمي الذي يقوم على ادعاء تملك النص بالانفصال التام عنه، أي من موقع الغرابة الأصلية عليه، غير أنّ هذا يجب ألّا يؤدي بنا إلى استبعاد مفهوم المسافة وبين تحقق الذات عبر فعل القراءة".[22]

فالذات لا تحقق من خلال فرض منطقها في الفهم، ولكن من خلال فعلها التوليدي للمعنى واجتراحها لإمكانيات الاختلاف حتى عن نفسها، وفي الأخير تكوثرها المستمر الذي يضمن حياتها.

 

بيبليوغرافيا:

1ـ أحمد فرشوخ، جمالية النص الروائي، دار الأمان (الرباط)، ط1 (1996).

2ـ حسن بن حسن، النظرية التأويلية عند بول ريكور، منشورات الاختلاف (الجزائر)، ط2 (2003).

3ـ حميد لحمداني، القراءة وتوليد الدلالة/ م.ث.ع (بيروت)، ط1 (2003).

4ـ سعد البازعي وميجان الرويلي، دليل الناقد الأدبي، م.ث.ع (بيروت)، ط4 (2005).

5ـ صلاح بوسريف، مضايق الكتابة (مقدمة لما بعد القصيدة)، دار الثقافة (المغرب)، ط1 (2002).

6ـ عبد الوهّاب المسيري وفتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، دار الفكر (دمشق)، ط1 (2003).

7ـ علي حرب، هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، م.ف.د (بيروت)، ط1 (2005).

8ـ محمد أندلسي، نيتشه وسياسة الفلسفة، دار توبقال (المغرب)، ط1 (2006).

9ـ محمد الشيكر، هايدغر وسؤال الحداثة، إفريقيا الشرق (المغرب)، ط1(2006).

10ـ محمد لطفي اليوسفي، فتنة المتخيل (ج3/فضيحة نرسيس)، م.ع.د.ت (بيروت)، ط1 (2002).

11ـ موريس بلانشو، أسئلة الكتابة، تر: نعيمة بنعبد العالي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال (المغرب)، ط1 (2004).

12ـ ناظم عودة، نقص الصورة (تأويل بلاغة الموت)، م.ع.د.ت (بيروت)، ط1 (2003).


[1] عبد الوهّاب المسيري وفتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، دار الفكر (دمشق)، ط1 (2003)، ص ص 85- 86

[2] محمد الشيكر، هايدغر وسؤال الحداثة، إفريقيا الشرق (المغرب)، ط1(2006)، ص 28

[3] عبد الوهّاب المسيري وفتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، ص ص 89-90

[4] المرجع نفسه، ص ص 90-91

[5] سعد البازعي وميجان الرويلي، دليل الناقد الأدبي، م.ث.ع (بيروت)، ط4 (2005)، ص 336

[6] موريس بلانشو، أسئلة الكتابة، تر: نعيمة بنعبد العالي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال (المغرب)، ط1 (2004)، ص 41

[7] أحمد فرشوخ، جمالية النص الروائي، دار الأمان (الرباط)، ط1 (1996)، ص 17

[8] صلاح بوسريف، مضايق الكتابة (مقدمة لما بعد القصيدة)، دار الثقافة (المغرب)، ط1 (2002)، ص ص 51-52

[9] محمد لطفي اليوسفي، فتنة المتخيل (ج3/فضيحة نرسيس)، م.ع.د.ت (بيروت)، ط1 (2002)، ص 5

[10] علي حرب، هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، م.ف.د (بيروت)، ط1 (2005)، ص 5

[11] المرجع نفسه، ص 139

[12] محمد أندلسي، نيتشه وسياسة الفلسفة، دار توبقال (المغرب)، ط1 (2006)، ص 175

[13] حميد لحمداني، القراءة وتوليد الدلالة/ م.ث.ع (بيروت)، ط1 (2003)، ص 70

[14] حسن بن حسن، النظرية التأويلية عند بول ريكور، منشورات الاختلاف (الجزائر)، ط2 (2003)، ص 23

[15] المرجع نفسه، ص ص 32-33

[16] المرجع نفسه، ص 33

[17] سعد البازعي وميجان الرويلي، دليل الناقد الأدبي، ص 335

[18] حميد لحمداني، القراءة وتوليد الدلالة، ص 18

[19] محمد لطفي اليوسفي، فتنة المتخيل (ج1/ الكتابة ونداء الأقاصي)، ص ص 16-17

[20] ناظم عودة، نقص الصورة (تأويل بلاغة الموت)، م.ع.د.ت (بيروت)، ط1 (2003)، ص 15

[21] حسن بن حسن، النظرية التأويلية عند بول ريكور، ص 37

[22] المرجع نفسه، ص 46