الإنسان والعقل والمصلحة في علم أصول الفقه عند المعتزلة، قراءة في فكر القاضي عبد الجبار الهمذاني (ت. 415 هـ)


فئة :  مقالات

الإنسان والعقل والمصلحة في علم أصول الفقه عند المعتزلة، قراءة في فكر القاضي عبد الجبار الهمذاني (ت. 415 هـ)

الإنسان والعقل والمصلحة في علم أصول الفقه عند المعتزلة، قراءة في فكر القاضي عبد الجبار الهمذاني (ت. 415 هـ)

د. محمد عبد الفضيل عبد الرحيم[1]

شهد التراث الإسلامي في القرنين الرابع والخامس الهجري نوعًا من العلاقة الديناميكية بين علمي الكلام وأصول الفقه، والتي كان لها تأثير على منهجية التأليف في علم أصول الفقه حتى يومنا هذا. فقد نشأت العلاقة بين العلمين إثر المساهمة المتعمقة لعلماء الأشاعرة والمعتزلة في أصول الفقه، أو فيما يعرف في الأوساط الغربية الآن بفلسفة الشريعة؛ فقد أصبح لعلماء الكلام منهجية مستقلة عرفت آنذاك بطريقة المتكلمين، ساهم فيها القاضي عبد الجبار المعتزلي (ت.415هـ) في "المغني" و"العُمَد"، وتلميذه أبو الحسين البصري (ت.436هـ) في "المعتمَد"، وعدد من علماء الأشاعرة كابن القصار (ت.397هـ) في "المقدمة"، والقاضي أبوبكر الباقلاني (ت.402هـ) في "التقريب"، وابن فورك (ت.406هـ) في "الحدود"، قبل أن يتبعهم بعد ذلك في طريقتهم إمام الحرمين الجويني والشيرازي ومن بعدهم الغزالي والرازي في العديد من مؤلفاتهم المشهورة. فقد اجتمعت المذاهب الكلامية على طريقة واحدة في التأليف في علم أصول الفقه، رغم اختلاف مذاهبهم الفقهية، انطلقوا فيها من مبادئ الأصول العامة وقواعده في مقابل طريقة الأحناف التي اتخذت فروع المذهب الحنفي أساسًا لوضع القواعد الأصولية العامة، ويشير الزركشي في الجزء الأول من كتابه "البحر المحيط" إلى هذه الحقبة المهمة قائلًا: "وجاء من بعده [أي بعد الشافعي]، فبينوا وأوضحوا وبسطوا وشرحوا حتى جاء القاضيان: قاضي السنة أبو بكر الطيب، وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات، وفكا الإشارات، وبينا الإجمال، ورفعا الإشكال، واقتفى الناس بآثارهم".[2]

وبنظرة قارئة في الفكر الأصولي للقاضي عبد الجبار، نجده قام بوضع نظرية تشريعية فلسفية تتسم في كثير من جوانبها بالعقلانية، ويعتبر بذلك أحد أهم وأقدم المحطات التاريخية في مسار المنهجية الكلامية الأصولية التي جمعت بين علم الكلام وأصول الفقه، إن لم تكن أقدمها على الإطلاق. ففي دراسته للمصادر التشريعية المختلفة (الخطاب، الإجماع، أفعال النبي، القياس، وحديث الأحاد) بالجزء السابع عشر "الشرعيات" من كتابه "المغني في أبواب التوحيد والعدل" قام القاضي عبد الجبار بسرد عدد من الشروط التأسيسية التي يجب أن تتوفر في هذه الأدلة كي تؤدي وظيفتها التشريعية؛ فهناك ثلاثة محددات أشار إليها عبد الجبار في غير موضع: "الإنسان"، باعتباره المتلقي للخطاب الإلهي، و"العقل" كأداة لإدراك الدليل الشرعي واستنباطه، و"المصلحة" كهدف للأدلة الشرعية.

فانطلاقًا من أن الله - تعالى - وكذلك أنبياءه - عليهم السلام - خاطبوا الناس بلغات تواضع البشر على معانيها، فينبغي أن يراعي هذا الخطاب قواعد تلك اللغات وأعرافها ومعانيها، وهو ما عرف في المؤلفات الأصولية بـ"المواضعة اللغوية"، يقول القاضي: "...أنه تعالى لابد من أن يريد بخطابه ما وضع له في اللغة أو الشرع او العرف"[3]، "وإلا كان لا ينفصل حال الخطاب من حال أصوات الرعد، ومن حال سائر اللغات التي لا يفهمها من يوجه الخطاب إليه"[4]، بل إنه ينبغي أن يتفق هذا الخطاب مع العلم الضروري العقلي بتحسين ما حسنه العقل، وتقبيح ما قبحه العقل باضطرار، تلك القاعدة التي تتفق ومبادئ المعتزلة في باب التحسين والتقبيح العقليين التي خالفهم فيها الأشاعرة، وهنا نشير إلى أن الأبحاث التي تحدثت عن مناهج التأليف في أصول الفقه قد أوضحت الفروق الأساسية بين منهج المتكلمين ومنهج الأحناف، فيما تجاهل كثير منها الفرق بين منهجي الأشاعرة والمعتزلة داخل إطار طريقة المتكلمين؛ وربما يرجع السبب في ذلك إلى عدم توافر أي مؤلف أصولي يًنسب للمعتزلة بعد وفاة أبي الحسن البصري، تلميذ القاضي، وصاحب "المعتمد في أصول الفقه".

وهكذا، فإن القاضي عبد الجبار يعتبر استنباط الحكم الشرعي من الخطاب هي عملية تخضع في أساسها للعلاقة المتبادلة بين المخاطِب (المشرّع) والمخاطَب (المكلف)، أو بمعنى آخر بين الله – تعالى – الذي يراعي في خطابه لغة البشر وما تعارفوا عليه من قواعد لغوية ومعان مستنبطة منها، والإنسان الذي يجب عليه أن يخضع لما كلف به في هذا الخطاب بعد إدراكه. وانطلاقًا من ذلك يمكننا فهم الأساس الذي رتب عليه القاضي عبد الجبار فصوله الأصولية في "الشرعيات"، فيأتي باب الإجماع عنده بعد الخطاب مباشرة قبل باب "أفعال النبي"، مثلما بوّب لفصول "القياس" قبل "حديث الأحاد". فالأنسان، بصفته متلقيًا للخطاب وعاملَا رئيسا كمجتهد في استنباط الدليل بالإجماع أو القياس، يُشكل في فكر القاضي عبد الجبار مركز النظرية الفلسفية التشريعية. حتى فيما يتعلق بالأدلة الشرعية المستنبطة من أفعال النبي (صلى الله عليه وسلم) يؤكد عبد الجبار أن فعل النبي يجب أن يحتوي على قرينة يفهم منها المتلقي أو المكلّف أن الفعل يراد به التشريع، ومن ثم تصنيفه تحت باب الوجوب أو الندب؛ ذلك أن الأقوال يفهم من معانيها دلالاتها الشرعية، فالأمر يفهم منه الوجوب أو الندب، والنهي يفهم منه الكراهة أو التحريم. أما الأفعال، فلا يفهم منها شيء إلا بقرينة، وهنا يشير القاضي إلى أن فعل النبي المجرد لا يدل على حكم في نفسه دون دلالة أو قرينة، يفهم منها المتلقي الحكم الشرعي الذي سيقوم بتطبيقه في حياته الدنيوية: "لم يصح في القول أن يكون دلالة من نبي دون غيره، لما ثبت فيه بالمواضعة أنه يفيد ويدل، فكيف صح في الفعل أن نقول: إنه يدل من حيث كان فعلا للرسول، عليه السلام؟"[5]

وبجانب الإنسان كمتلقي للخطاب الشرعي، يمثّل العقل البشري عند القاضي عبد الجبار العنصر الثاني في نظريته الأصولية التي يعطي فيها الأولوية لكل علم ضروري يتوصل العقل إليها على النصوص المنزلة أو المروية، أو الخطاب بتعريف أدق. فكل حكم شرعي مستمد من القرآن أو السنة لفعل يمكن للعقل إدراك خيره أو شره مسبقًا، ليس له إلا صفة التأكيد لا التشريع، فليس للإنسان أن ينتظر نصًا شرعيًا يحرّم عليه الكذب أو خيانة الأمانة أو القتل على سبيل المثال. فالنصوص الشرعية تلعب هنا دور المؤكد للنهي، وليس لها ثمة دورٌ تشريعيٌ ابتداءً، فهو علم مكتسب من الشرع سبقه علم العقل باضطرار، وهذه القاعدة تسري عنده على جميع المصادر التشريعية، ففي صدد حديثه عن الإجماع يقول القاضي عبد الجبار: "اعلم أن الإجماع في كونه حجة فرع عن الكتاب والسنة، فما لا يصح أن يحتج بهما فيه من العقليات فبأن لا يصح فيه بالإجماع أولى"[6]

وعلى الرغم من أن النظرية معكوسة في مجال العبادات، التي يُحتج فيها بالنصوص الشرعية ابتداءً، فإن للقاضي عبد الجبار إشارتان هامتان، أولهما أن الأحكام الشرعية المستمدة من الأدلة السمعية لا ينبغي أن تتعارض مع العقل البشري (أو ما علمه العقل باضطرار)، وثانيهما أن ما لم يرد فيه حكم شرعي بالأدلة السمعية فهو على "الإباحة العقلية"، وهو اصطلاح يؤكد مدى تأثر نظرية القاضي الأصولية التشريعية بمفاهيم المعتزلة الكلامية، فبينما يرى الأشاعرة أن المباح هو ما لم يرد فيه نص شرعي بتحريمه أو كراهيته (أو بوجوبه أو ندبه)، يرى عبد الجبار أن الفعل مباح من حيث وجد فيه العقل مصلحةً ونفعًا، أو لم يجد فيه ضررًا، فيقول "كل فعل للمكلف فيه غرض من نفع أو غيره [...] ولم يكن إضرارًا به ولا بغيره في عاجل ولا آجل فيجب أن يدخل في باب الإباحة العقلية."[7]، "والأقرب في الأدلة السمعية أنها إنما تدل على أحكام غير متقررة في العقول دون الإباحة، وأن تكون الإباحة جارية على طريق العقل."[8]

وفي بابي الإجماع والقياس يؤكد القاضي عبد الجبار أيضًا، على مركزية دور العقل كأداة لا غنى عنها في استنباط الحكم، فيكتسب الإجماع قوته التشريعية من خلال العلماء المجتهدين الذين هم على دراية بأساليب استنباط الأحكام الشرعية والمعرفة المتعمقة بالقواعد الأصولية، والذين يطلق عليهم المؤلف "ذوي العقول"، فيما تأتي أهمية القياس التشريعية من خلال كونه فرعًا عن القياس العقلي.

الجانب الثالث، وهو الأكثر حضورًا في الفكر الفلسفي الأصولي للقاضي عبد الجبار هو مفهوم المصلحة، الذي يشير إليه في كثير من المواضع في أبواب "الشرعيات"؛ فالمصلحة هي الهدف النهائي لجميع الأدلة الشرعية، فجميع الأحكام الشرعية المستمدة من هذه الأدلة يجب أن تخضع لمبدأ مصلحة الإنسان ومنفعته. ويمكننا هنا أن نعتبر الأبواب التي تحدث فيها عبد الجبار عن مفهوم "المصلحة" من أقدم نصوص التراث المتوفرة بين أيدينا الآن، إن لم تكن الأقدم على الإطلاق، التي أشارت إلى هذ المبدأ التشريعي، قبل أن يتناوله العلماء اللاحقون، ويقومون بتطويره كدليل تشريعي شبه مستقل. ففي تناوله للخطاب الإلهي يشير عبد الجبار إلى أن الله يتحدث في سياق التشريع بما يتوافق مع المصلحة، بل إن المؤلف يرى أن هناك علاقة وثيقةَ بين هذا المفهوم وبين مفهوم "العدل الإلهي"، بما يعني أن الله – تعالى – الحكيم العادل لا يكلف الإنسان بقبيح من الأفعال أو بما فيه ضرر له. وحتى عندما يتحدث عبد الجبار عن القياس الشرعي فأنه يفرق بينه وبين القياس العقلي في كون العلة في الأول متغيرة، ويعزو تغيرها إلى أن القياس الشرعي مرتبط بالمصلحة البشرية المتغيرة، الأمر الذي يؤكد على الدور المهم لهذا المفهوم في الفلسفة التشريعية للقاضي عبد الجبار إلى جانب دور الإنسان والعقل، وهي ثلاثة عناصر هامة تفرض نفسها على الأبحاث الدينية المعاصرة وبخاصة في مجالات الفقه وأصوله، ليس امتدادًا للجوانب الإيجابية لفكر المعتزلة فحسب، بل أيضًا لأهميتها وللحاجة الملحة لربط اللغة الدينية العلمية بالواقع المجتمعي المعاصر.

[1] باحث في الدراسات الإسلامية بجامعتي الأزهر (القاهرة)، وإرلانجن (ألمانيا)

[2] بدر الدين الزركشي: البحر المحيط في أصول الفقه، تحقيق عبد القادر العناني وعمر عمر الأشقر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الطبعة الثانية الكويت 1992، المجلد الأول، ص6

[3] القاضي أبو الحسن بن أحمد عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد والعدل، الجزء السابع "خلق القرآن"، تحقيق إبراهيم الإبياري وإشراف طه حسين، دار الكتب المصرية، القاهرة 1961، ص 183

[4] القاضي أبو الحسن بن أحمد عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد والعدل، الجزء السابع عشر "الشرعيات"، تحقيق أمين الخولي وإشراف طه حسين، دار الكتب المصرية، القاهرة 1961، ص 39

[5] عبد الجبار، الشرعيات، ص 252

[6] نفس المصدر، ص 216

[7] نفس المصدر، ص 145

[8] نفس المصدر، ص 144