انسداد أفق الإنصاف وعدالة اليانصيب


فئة :  مقالات

انسداد أفق الإنصاف وعدالة اليانصيب

يقتضي الحديث عن سؤال الإنصاف في علاقته باليانصيب تحديد المقصود بكل من المفهومين، ومن خلال ذلك التحديد، أمكننا رصد العلاقة الممكنة بينهما على آثار بعض الأمثلة الواقعية. من هنا حاولنا الإجابة عن سؤال "ما هو هذا الشيء الذي يسمى إنصافا؟"[1]، وما المقصود باليانصيب؟ وهل من الممكن أن يطلب الإنصاف اليانصيب في اتخاذ قرار منصف؟

لا يخفى أن رولز كان أول من أعاد مفهوم الإنصاف إلى ساحة النقاش الفلسفي السياسي المعاصر من خلال كتابه "Justice as Fairness"، لكن نجد أن تحديده لمبدأ الإنصاف قد ضمنَ في المقالة التي كتبها في سنة 1964 بعنوان: «Legal Obligation and the Duty of fair Play» التي يذهب فيها إلى أن fair play هو ذلك المبدأ الذي يبيح (مثلا) لكل المشاركين في عمل مشترك أو تعاونية اجتماعية الاستفادة من الفوائد الناتجة عن ذلك العمل بالتساوي شريطة أن يقوم كل فرد في هذه الجماعة بالدور المسند إليه، بطريقة لا يكون فيها مجال لأن يستفيد من تلك الفوائد من لم يشارك في العمل[2]. هكذا يصبح الإنصاف يتضمن التصرف بنزاهة بدون محاباة أو تحيز، ويمكن للإنصاف أن يأخذ عدة أشكال، لكن يظل جوهره هو عدم الانحياز في تقييم أي قرار قبل الإقدام على تطبيقه كفعل، حتى في الحالات أو الأمثلة الشاذة التي يمكن مواجهتها.

إن عدم الانحياز الذي يرنو إليه الإنصاف هو تعبير عن طلب الحياد الذي يجعل الفعل العادل أكثر معقوليه وأبعد، قدر الإمكان، عن الأنانية. من هنا أمكننا تضمينه مفهوما آخر، وهو الإيثار أو الغيرية حتى يصير الفعل أكثر موضوعية. هذا التشعب في معالجة الإنصاف عن طريق شحنه بمجموعة من المفاهيم في تشكيل أطرافه وإغناء معناه، نابع من عدم القدرة على وضع حدود ساكنة لمفهوم الإنصاف من جهة، ومن اختلاف إمكانيات تصوره من جهة ثانية.

فلو افترضنا أن دولةً ما تجبر كل من يعمل بها على دفع ضرائب محددة، فهل من الإنصاف أن يدفع الجميع نفس التكلفة؟ أعتقد أنه في هذه الحالة، سيصبح هذا القانون الذي ينظر إلى الجميع على أساس المساواة ظلما، لأن مداخل الناس تختلف، بل وهناك من لا دخل له، فيصبح هنا الإنصاف كامنا في مراعاة نسبية فرض الضرائب على أساس الإمكانات/القدرات أو الاستحقاق، حتى تكون قيمة التكلفة مناسبة لدخل كل فرد؛ حيث كلما ارتفع الدخل يرتفع حجم الضرائب، وكلما قل إلا وتقل معه تكلفة الضرائب وصولا بحذف تكلفة الضرائب لمن لا دخل لهم، وهو ما يمكن أن نسميه بالإنصاف التناسبي. فمن غير المنصف أن يدفع العاطلون عن العمل الضرائب، لأنه لا دخل لهم، اللهم إذا كانوا سيلجؤون للتسول أو السرقة وجل السلوكيات المنحرفة، الذي سيؤدي لا محال إلى عدم الإنتاج وملء السجون بالأفراد، وزيادة الحاجة في السجون إلى الطعام والملابس المقدمة للسجناء، بالإضافة إلى عدد الموظفين بالسجن، وتوظيف رجال الأمن والقاضي الذي سيحكم في قضية المتهم...وهو الأمر الذي لن يقوم إلا بزيادة مديونية الدولة الذي تحاول تجنبه من خلال تجميع الضرائب.

بعدما تم التسليم بقانون الإنصاف التناسبي لتكلفة الضرائب، لنفترض، وبحسب ما جاء أعلاه، أن الناس يدفعون الضرائب، لكن مواطنا وجد طريقة ما للتملص من دفع تلك الضرائب بشكل جزئي أو كلي، دون أن يطاله العقاب، مع العلم أن هذا الفعل لن يزيد تكلفة الضرائب على الآخرين، بل سيدفعون نفس التكلفة المعتادة. كيف يمكننا تقييم هذا الفعل؟

إن تقييم هذا الفعل يوجب حكمين، على الأقل، مختلفين تماما: فإذا كنا نفعيين ونعتنق مبدأ "الخير الأكبر للعدد الأكبر"[3] الذي يركز على حساب الأضرار والمنافع لكل فرد، فإن هذا الفعل منصف، مادام يسمح بإنتاج الخير للفرد ولا يضر الآخرين، وربما قد يكون منصفا لأن صاحبه بذل مجهودا في البحث عن كيفية التنصل من الضرائب على عكس الذي لم يبذل أي مجهود في البحث عن طرق للتنصل من الضريبة. وهذا التوجه قريب جدا من توجه الإنتاجية، التي تقول بأن الفعل يكون منصفا مادام منِتجا. لكننا من جهة، نرى أنه يصعب حساب وزن الفائدة أو الأضرار التي يمكن أن تطال باقي المواطنين بشكل دقيق، ومن جهة ثانية، فإذا نظرنا على المدى البعيد لهذا الفعل، تأكد لنا أن المتضرر هنا هو الدولة، وسرعان ما سينعكس هذا الضرر على المواطنين الآخرين.

أما إذا كنا ليبيراليين، ونؤمن بمبدأ "اعمل وكأن قاعدة فعلك لابد بإرادتك أن تصير قانونا أخلاقيا"[4]، الذي يفيد تقييد حرية القائم بالفعل بطريقة تجعل منه ضروريا للإنتاج مكاسب للجميع[5]، وتوقع نفس الفعل من طرف الجميع، فسنعتبر أن هذا الفعل غير منصف، لأن الفعل المنصف هنا من هذا المنظور يصبح هو ذلك الفعل الذي يحترم القانون المتفق عليه بشكل عام ، حتى وإن وجدت هناك هفوات صغيرة تمكن المواطن الحذق [في شكله السلبي] من التنصل منه، ذلك أن التملص من الضرائب عبر شقوق القانون سرعان ما سيزرع الشك في القائمين بالفعل بإنصاف، ولهذا يسند رولز فعل الإنصاف إلى المؤسسات للدفاع عنه، حتى يصير القائم بالفعل المنصف واثقا من أن هناك قوة تجبر [إذا لم يكن عن طيب خاطر] الآخرين على القيام بنفس الفعل المنصف.

إن إسناد قوة تطبيق الفعل المنصف للمؤسسة الذي يقول به رولز ليس دائما صائب، فلو افترضنا أن لدينا مريضين (مريض أ ومريض ب) بقسم العناية الفائقة، ويعانيان من نفس الفيروس المميت، ولهما نفس الخصائص؛ أي لهما نفس الأعراض الجسدية (كشدة الألم ومدته، تغير لون البشر، ودرجة حرارة الجسد، طبيعة الأكل، وطبيعة التبرز...) ونفس زمرة الدم، ونفس السن، نفس الجنس، ووصلا على المستشفى في نفس الوقت، متواجدين في المستشفى بنفس القسم (مثلا قسم الأمراض الباطنية)، للدكتور عن المريضين صاحبيْ الملف الطبي الذي يحتوي تطابقا في الفحوصات...بينما يحتوي الطبيب المعالج على حقنة واحدة مضادة لهذا الفيروس، ولا يحق تقسيم هذه الحقنة على المريضين؛ أي أن الحقنة كافية لإبقاء مريض واحد على قيد الحياة، وهنا السؤال، حقن أي المريضين بهذا المضاد للفيروس يعدّ فعلا منصفا؟

إن مثل هذه الأمثلة الشائكة في الواقع، تضعنا في معضلة حقيقية أمام معضلة اختيار الفعل المنصف، فلا المنظور النفعي قادر على تجاوزها، لأنه لا أفضلية للمريض (أ) على المريض (ب) ولا أفضلية للمريض (ب) على المريض (أ)، والتي على أساسها تتخذ النفعية القرارات التي تعتبرها منصفة. ولا المنظور النتائجي قادر على الخروج من هذه المعضلة، على اعتبار أن المريضين (أ) و(ب) متساويان في الخصائص ويترقب لها نفس النتائج. وكذلك المنظور الليبيرالي، ذلك أن المريضين (أ) و(ب) وصلا في نفس الوقت، ويحكمهما ذات القانون ويحملان قيمة مماثلة، أي كل تساوي كل ما يتطلبه احترام الواجب. فكل المعايير التي تعتمدها هذه المنظورات الثلاثة في اختيار الفعل المنصف، تعلن عن عجزها للخروج من هذه المعضلة. من هنا أرى أن تحقيق الإنصاف يتطلب الاعتماد على معيار جديد، وهو اليانصيب/الصدفة المرجحة.

قد يظهر الاحتكام إلى اليانصيب في هذه الحالة على أنه دخول في درب من العشوائية في اتخاذ القرار، إذ لا قانون ناظم له، فقد يكون الحظ إلى جانب المريض (أ) في عملية اليانصيب الأولى، وإذا أعدنا القيام بنفس العميلة قد يكون الحظ إلى جانب المريض (ب)، لأن الحالة تعكس أن كلّا من المريضين يستحق أن يحقن بمضاد الفيروس للمحافظة على حياته. إلى هنا فالقابلية للحياة أو الممات بالنسبة إلى كل منها متساوية، ونسبة ظفر كل واحد منهما بمضاد الفيروس أيضا متساوية، فكيف يمكننا اختيار الأفضل[6] الذي يستحق الحقنة؟

بالإضافة إلى المعايير التي يعتمدها الإنصاف من نزاهة وعدم الانحياز...فإن "اليانصيب يعتبر إجراء آخر يمكن من تجاوز الانحياز في الاختيار المعتمد"[7]، عن طريق محاولة كسر المساواة السارية في عملية المقارنة بين المريضين (أ) و(ب)، دون ترك مجال للميولات العاطفية في تحديد المريض الأفضل الذي يستحق الحقنة، بل يمكننا القول إن المعطيات أو المميزات التي يحتوي عليها المريضان لا تبيح لهم التراتبية أو تحديد من هو المريض الأفضل، وإنما يظل الأفضل هو الأوفر حظا. فإسناد اليانصيب الاستحقاق لأحد المريضين يكون على عاملين أساسيين: 1) عدد الاحتمالات الممكنة، وهي هنا احتمالان لا غير، فإما إسناد المضاد للمريض (أ) أو للمريض (ب) لا غير. 2) وعامل الحظ الذي لا يمكن أن يحابي أيا من المريضين بأي شكل من الأشكال، لأنه لا يعترف بأية أفضلية كيفما كانت غير أفضلية الحظ نفسه.

إن مطلب اليانصيب في تحقيق الإنصاف، تعبير عن انسداد أفق البحث عن تمايز المميزات في توزيع أية ثروة بشكل منصف ومرضي للطرفين معا، فقد يظهر الإنصاف خارج هذا السياق على أنه غير منصف، لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار المميزات المكرسة للاختلاف، لكن بمجرد ما يطلب الإنصاف اليانصيب في تحقيق العدل، يصبح أكثر إنصافا. رغم ما يمكن أن نؤاخذ عليه اليانصيب في تعامله مع الناس كأعداد وكميات مجردة من أي تعاطف ممكن، إلا أنه يظل الخيار المدبر لعملية الإنصاف المستعجل في فك معضلة اختيار الفعل المنصف.

 

لائحة المصادر والمراجع

  1. Brad, Hooker, Utilitarianism and fairness, in ben eggleston and dale miller, cambridge, 2014.
  2. John, Broome, Theory of Fairness as Proportional of moral claims: ”fairness”, Proceeding of the Austotelian society, vol 91, (1990 – 1991).
  3. Rowls, John, «Legal Obligation and the Duty of Fair Play», 1964.

http://www.klindeman.com/uploads/3/8/2/2/38221431/rawls-_legal_obligation_and_the_duty_of_fair_play.pdf.

  1. سن، أمارتيا، فكرة العدالة، ترجمة مازن جندلي، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010.
  2. بوترو، إميل، فلسفة كانط، ترجمة عثمان أمين، الهيئة المصريّة.
  3. رولز، جون، العدالة كإنصاف إعادة صياغة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، الطبعة الأولى، بيروت، المنظمة العربية للترجمة 2009.

[1] سن، أمارتيا، فكرة العدالة، ترجمة مازن جندلي، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010، ص 102

[2] Rowls, John, «legal obligation and the duty of fair play», 1964, p122

http://www.klindeman.com/uploads/3/8/2/2/38221431/rawls-_legal_obligation_and_the_duty_of_fair_play.pdf.

* هنا أقصد الاستحقاق بمعناه السلبي، الذي يفيد منح كل طرف ما يستحق حتى في تحمل التكاليف التي يدفعها الفرد من ماله الخاص للمجال العام.

[3] Brad Hooker, Utilitarianism and Fairness, in ben eggleston and dale miller, Cambridge, 2014, p280.

[4] بوترو، إميل، فلسفة كانط، ترجمة عثمان أمين، الهيئة المصريّة، ص 315

[5] رولز، جون، العدالة كإنصاف إعادة صياغة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، الطبعة الأولى، بيروت، المنظمة العربية للترجمة 2009، ص 37

[6] John, Broome, Theory of Fairness as Proportional of Moral claims: ”Fairness”, Proceeding of the Austotelian Society, vol 91, (1990 – 1991), p 88.

[7] نفسه، ص 88