الاستعمالات الملتبسة للحوار


فئة :  مقالات

الاستعمالات الملتبسة للحوار

تعرضت كلمة حوار، وما زالت تتعرض، لكثير من الالتباس والتشويه والتمييع، كما أنها باتت تستعمل في كل وقت وحين، حتى إن عمل مستعملوها على القيام بأدوار تناقض، تمامًا، ما يدعونه. وتغيب، في الواقع، حينما يكون السياق يتطلب التفاهم وإنتاج آليات فض النزاعات، والشروط الضرورية للاعتراف بالآخر. فقد أنتجت الثقافة العربية الإسلامية أشكالاً مختلفة من المفارقات والنقائض والنزعات، فمن قائل أنها حفّزت إعمال العقل، ودعت إلى استبعاد الإكراه، وإلى التسامح ونبذ العنف، وشجعت الحوار والمناظرة، ومن مُعتبر أنها ولّدت التعصب والتشدد، وإقصاء الاختلاف، والقول بتكفير المخالف للملة، وقتل المرتد.

ويستشهد القائل الأول بما شهدته بغداد من إشعاع فكري ومن مناظرات، ونزعات كلامية وفلسفية، ومن جرأة في القول لدى شعرائها وكتابها، كما لا يكف يستحضر، بحنين مُلغز، التجربة التاريخية للأندلس، وقصص التعايش بين الأديان والعصبيات. في حين أن من يشك في هذه الوقائع يستند إلى ما قام به بعض الخلفاء والسلاطين من تمييز في حق المختلفين في الملة، من يهود ونصارى بفرض لباس وعلامات خاصة بهم، وما عرفته الأندلس من إحراق لكتب المنطق والفلسفة، واضطهاد ونفي كلّ من يدعو إلى الحوار العقلاني، وعلى رأس هؤلاء حالة الوليد بن رشد.

ومع ذلك، لا نكفّ نسمع بأن التراث العربي الإسلامي اختزن كثيرًا من مبادئ التسامح، وأنتج تقاليد حوارية يتعين استحضارها في أنماط تواصلنا اليوم. والحال أن قولاً من هذا القبيل، يصعب ضمان استقامته بحكم أن الزمن الراهن يتحرك فيه المرء ضمن شروط جديدة في التبادل، وينتج مقتضيات مختلفة للتفاهم أو النزاع، وأن الحضارة الكونية بلورت لغات وطرائق في التفكير والتواصل لا علاقة لها البتة بما عملت الحضارات السابقة كافة على تجريبه.[1]

يقال إن الحوار دُشّن منذ أن تبادل آدم وحواء العلامات والكلمات الأولى، لعله كان تبادلاً عشقيًا، أو كان سوء تفاهم أو خصام. لا أحد يمكنه ادعاء معرفة مضمون أو قصدية هذا الحوار، ومنذ هذا الفعل التأسيسي لم تكف البشرية عن ابتداع أساليب وقواعد حوارية، يتكلل بعضها بالنجاح، في حين ينتهي البعض الآخر بالفشل.

وفي ضوء التضخم الخطابي الملحوظ عن الحوار، ولا سيما في زمن الثورة الرقمية وتنوع وسائل الاتصال والتواصل بين الناس، تتراجع فرص الحوار أمام اجتياح نزعات الهيمنة، ومظاهر الإملاء المختلفة، إما باسم أصولية السوق، أو أصولية الدين، أو باسم شرعية انتخابية عددية أحيانًا تزرع الوهم لدى من ينطق باسمها أنه ملكَ الحقيقة، وبلغ مطلق السياسة، والحال أن السياسة لا تعرف المطلقات، أو بالأحرى إذا ألصقها البعض بالمطلقات تنتج كوارث ومحن، وتؤجج عوامل النزاع والمواجهة أكثر ممّا تفرز قواعد التفاهم والتعايش.

ويبدو أن الأحداث والانتفاضات التي جرت، وما تزال تجري، في البلدان العربية فجّرت من سوء التفاهم، ومظاهر حوار الطرشان، وأشكال عنف جديدة، أكثر مما أنتجت مقومات التأسيس للانتقال إلى الحوار العقلاني الذي يضع وحده مقومات ما هو مشترك ويحضنه، ويبني شروط إقامة سياسة مدنية عصرية. قد يقال إن الخروج من التسلطية عملية شاقة، وزحزحة مرتكزات الاستبداد تستدعي زمنًا قد يطول أو يقصر حسب نوعية الفاعلين السياسيين وكفاءتهم، ومدى امتلاكهم لتصورات وبرامج، وحسب ما تسمح به السياسة من ممكنات، هذا صحيح، غير أن طرق خلخلة أسس الاستبداد، سواء في تونس أو في مصر، أو في ليبيا، أو في غيرها، فتحت باب جهنم لكل الهويات، سواء أكانت فرعية أم مقصية، وكانت تشعر بالغبن، باسم اللغة، أو باسم المذهب، أو الطائفة، أو القبيلة، وتحولت فيها بعض هذه النزعات المنفلتة إلى "هويات قاتلة"، أو تحمل في أحشائها بذور حرب أهلية تنزع إلى فرض شروطها على الجماعة الوطنية كيفما كانت الوسائل والادعاءات.

لا مجال للانتقاص من مشروعية الحقوق السياسية أو الثقافية، في هذا السياق، لمختلف مكونات وفئات المجتمع، لكن عقودًا من التسلطية، ومن فرض الهوية النمطية الواحدة، وما أفرزته خلخلة بنيات الاستبداد في مسلسلات الانفتاح المتعرجّة، والمترددة، التي نشهدها في مختلف البلدان العربية، أبرزت قوى وظواهر سياسية وثقافية تصرّ على ممارسة السياسة باسم الدين، أو تدبر شؤون الوطن بخلفيات يحكمها منطق المذهب، أو الطائفة، أو "الحزب الأغلبي". ويحصل ذلك في سياق عام يتميز بنقص كبير في الثقافة الديمقراطية العصرية، ويفترض درجات عالية من الوعي بضرورة البحث عن التوافقات، وشروط استنبات قيم المجتمع الديمقراطي، بما يستدعيه من تدافع سلمي، ومواجهة الحجة بالحجة، والبحث عن آليات وفضاءات للحوار بمختلف أشكاله.

حول الحوار وما ليس هو:

اعتبارًا للالتباسات التي تسيطر على استعمالات مصطلح الحوار، وفي سياق بحثنا عن تحديدٍ لما يُنعت اليوم بـ"الحوار المدني"، لا بأس من تقديمه من خلال ما ليس هو، حتى ولو تداخلت بعض الكلمات معه من حيث الدلالة والأداء.

فالحوار ليس هو الحديث أو المحادثة؛ لسبب رئيس هو أن المحادثة، باعتبارها كفاية تواصلية، لا تخضع للقواعد نفسها التي يستلزمها الحوار؛ فهي أسلوب من التواصل عفوي وحرّ، يسمح بالخلط بين الأنواع والأصوات، وبالاحتمالات غير المتوقعة أثناء تبادل الحديث. فالمحادثة لا استراتيجية لها، لأنها تسمح للمتحدثين بالتعرف بعضهم على البعض، وبخلق نوع من "الاستمتاع الاجتماعي". غير أن الأمر لايمنع المحادثة من احترام اشتراطات الأعراف الاجتماعية، لأن أنماط تدبيرها قد تختزن بعض الإكراهات التي يستدعيها هذا الوسط الاجتماعي أو ذاك.

إذا كان الأمر كذلك في حالة المحادثة، أو الحديث الحرّ، فإن الحوار، من منطلق إرادة الإنصات التي يفترضها، والجهد الإقناعي الذي يبذله المشارك فيه، يتجاوز الأعراف المعتادة، والأساليب الرتيبة، لأنه يعمل على فتح آفاق جديدة. قد يهم الحوار شخصان أو مجموعة أشخاص، لكنه يتطلب التزام المشارك بأخلاقيات الإنصات اليقظ، وإلا سيتحول إلى محادثة، وتنتفي عنه مقتضيات الحوار وينتفي عنه كذلك الهدف منه.

وليس الحوار هو التفاوض، مع أنهما قد يشتركان في كون الأشخاص المنخرطين في الحوار أو التفاوض يقبلون مبدأ اللقاء، وتبادل الآراء، وإجراء مباحثات قصد الوصول إلى نوع ما من أنواع التفاهم، متفقين، مبدئيًا، على التخلي عن العنف المادي لمواجهة أو معالجة القضايا التي تهمّ نزاعاتهم أو خلافاتهم، بطرق موضوعية وعقلانية. غير أن التفاوض والحوار يفترقان في مجموعة من الأمور؛ منها أن التفاوض يجري في إطار موازين القوى، ومصالح متضاربة. لذلك قد يتضمن التفاوض عنفًا لفظيًا، أو إرادة للتمويه، أو المزايدة، وأحيانًا التهديد. والمفاوض لا يتردد في إخفاء مقاصده، والتركيز على نقط ضعف الخصم، في حين أن الحوار، ولا سيما في إطار الحوار المدني، يتقدم بوصفه مواجهة بين أشخاص لا ينظر إلى بعضهم البعض كأنهم خصوم وإنما شركاء.

فالمفاوض، غالبًا ما يكون له موقع رسمي، يدافع عن مصالح معسكر أو مجموعة، أو منظمة ما، فينسى آراءه الشخصية لأنه يتدخل باسم الآخرين، وباسم من يمثلهم، ومن هو ملزم بتقديم الحساب لهم. في حين أن المشارك في الحوار، على العكس من ذلك، يتقدم اعتبارًا لمسؤوليته الشخصية، ليست له صفة رسمية، أو مخوّل للتحدث باسم الآخرين، دون أن يعني ذلك انسلاخه التام عن انتمائه الثقافي، أو الديني، أو الاجتماعي.

تبرز لغة المساومة في الفعل التفاوضي في بحثه عن التفاهم، كما هو الشأن بالنسبة لنقابة تتطلع إلى توقيع اتفاق يهمّ المأجورين، أو في حالة التفاوض على انتشار الأسلحة الفتاكة. يبحث المفاوض عن أفضل حلّ يكون لصالحه ولصالح من يمثلهم، ولأجل ذلك يعمل، بكل ما يملك من دهاء وحنكة، على دفع الطرف الآخر لتقديم تنازلات. في حين أن المنخرط في الحوار، على العكس من ذلك، لا تحرّكه مصالح مباشرة، بالضرورة، لأنه يبحث عن الحقيقة، أو عن حقائق يريد كشفها، كما قد يقوده الحوار إلى البحث عن العدالة، أو الاعتراف، فضلاً عن أنه لا يسعى إلى إضعاف الآخر.

ويتحرك المفاوض بهدف الوصول إلى اتفاق محدد، أو إلى صفقة تجمع مصالح متضاربة للتحكم في مسار نزاع، أو إيجاد حلّ له. في حين أن الحوار لا حدود له، لأنه يبقى مفتوحًا لتحصيل الفهم أو الإفهام، وتقاسم القناعات الفكرية، وبناء المعنى مع الآخرين. لذلك يفترض الانخراط والمشاركة وليس تقديم تنازلات لإبرام صفقات.[2]

هكذا يتبدى أن التفاوض والحوار ينتميان لمرجعيتين مختلفتين في التواصل، غير أن الممارسة تنتج وضعيات أكثر تعقيدًا لأنه يمكن الانتقال، أحيانًا بدون سابق قرار، من منطق الحوار إلى استعمال آليات التفاوض، أو أن يبدأ التفاوض وينتهي إلى محادثات وحوار، ولا سيما أن مجرى التبادل يجعل التعارف بين الناس أسهل، وقد يتولّد عنه تعاطف أو إعجاب متبادل، ليتحوّل إلى نوع من "الحوار بين الأشخاص"، الأمر الذي قد يسهل الوصول إلى اتفاقات بين الفرقاء.


[1]- لا جدال في أن المرء يجد حالات ازدهرت فيها فرص التحاور والتناظر في أزمنة توهج الحضارة العربية الإسلامية، حيث التنوع الثقافي، والمذهبي والديني كان يشكل واقعة اجتماعية وثقافية شبه بديهية. ويروى، على سبيل المثال، أنه في البصرة كان يجتمع "مجلس لا يعرف مثله: الخليل بن أحمد صاحب العروض سنّي، و السيد محمد الحميري الشاعر رافضي، وصالح بن عبد القدوس ثنوي، وسفيان بن مشاجع صفوي، وبشار بن برد ماجن خليع، وحماد عجرد زنديق، وابن رأس الجالوت الشاعر يهودي، وابن نظير النصراني متكلم، وعمرو بن أخت المؤيد مجوسي، وابن سنان الحراني الشاعر صابئي، فتتناشد الجماعة أشعارًا و أخبارًا"؛ رواه ابن المثنى، نقلاً عن محمد الشيخ، هل كانت الحضارة العربية الإسلامية حضارة حوار؟، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 35-36، 2008

[2]- Voir Jacques Levrat, Du dialogue, Ed. Horizons Méditerranéens, casablanca, 1993