المدينة والديمقراطية


فئة :  مقالات

المدينة والديمقراطية

من المعروف أن أغلب المفكرين والفلاسفة الذين عبّروا عن تبرّمٍ ما من الوقائع العامة التي عاشوها، واقترحوا عوالم مغايرة يسودها العدل والمساواة والأخلاق والتعايش، ربطوا بين أساليب ترتيب الفضاء المديني بمشروع مجتمعي، وإن استندت تصوراتهم إلى رؤى طوباوية وخيالية؛ فاستشراف مجتمعات بديلة اقترن دومًا باقتراح قواعد لمدن فاضلة. إلا أن الفرق بين "المدينة الفاضلة" و"المدينة الواقعية" هو أن الأولى نتاج رؤية طوباوية، بوصفها رؤية لا تعتمد على مكان، بل رؤية اللامكان ذاته، في حين أن المدينة كما يتم بناؤها على الأرض والواقع ما هي إلا امتداد مادي لخيال الإنسان، وترجمة لحاجاته ولرغباته في الحركة والاستقرار بهذه الطريقة أو تلك.

وإذا كانت المدينة، بمعناها الكلاسيكي، تشير إلى تجمع أكبر عدد ممكن من المساكن في شكل أزقة وأحياء، ويحوز مركزًا وأطرافًا، فإن هذا المعنى بقدر ما هو وصفي، يوحي بتكتل أناس فيما بينهم في إطار فضاءات متجاورة. غير أن أغلب الاجتهادات النظرية التي جعلت من المدينة موضوعًا للتفكير والبحث، تلتقي حول مفهوم المركز؛ أي أن المدينة، كيفما كانت أشكال ترتيب مجالها الفضائي، ومرجعياتها الثقافية، يكون لها مركز يساعد على اللقاء، وعلى التبادل بين الناس.

يستجيب تنظيم المدينة لإيقاع تحركات الناس، ولمستوى الحركة الاقتصادية، وللحاجات الاجتماعية والثقافية، على اعتبار أن النسيج العام، داخلها، يولد لدى كل فرد أو مجموعة قدرة على المشاركة في العلاقات العامة، أو عدم المشاركة بالنسبة للفئات الهامشية. لذلك، فإن كيفية ترتيب المركز المديني والإيقاع الذي يميزه حسب المجتمعات والثقافات، يجعل منه؛ أي مشهد المركز، فرجة خاصة. فالمدينة الإسلامية، مثلاً، تعطي للمركز، فضلاً عن شروط الحياة، كل دلالات الفرجة، من ألوان وأصوات وحركات ومشاهد. نجد حول المركز، في غالب الأحيان، أسواق الحرفيين والتجار، كما يتوفر على أهم المؤسسات الضرورية للحياة الروحية والمادية، حيث يوجد المسجد، والكتاب القرآني، والحمام، وسوق صغير (السويقة)، والقيسارية...إلخ

أما بخصوص الديمقراطية، فتحمل في داخلها التباس كبير بينها وبين الليبرالية السياسية، وإذا كانت هذه الأخيرة عبارة عن نظام سياسي يضمن إجراء انتخابات "حرة ونزيهة" ويفترض دولة للحق يفصل فيها بين السلطات، وتحمي الحريات الأساسية، فإن جماع هذه الشروط، في واقع الأمر، تحيل على "الليبرالية الدستورية" التي ربما لا تعبر عن الاختيار الديمقراطي الذي يستدعي مراعاة حقوق تشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لذلك، يزدهر الخطاب الليبرالي ذي النزعة الدستورية، ولا تكف الديمقراطية عن مواجهة مشاكل متجددة دومًا، حتى في داخل بعض البلدان الغربية التي جربتها، وما تزال أحزاب وفئات عدة تعمل على تطويرها وتحسين أدائها.

ومعلوم أن للكلمات أهمية خاصة في النظام الديمقراطي، وتتعرض الديمقراطية للتهديد كلما تعرضت دلالات الألفاظ للفساد والتحريف، لهذا يعمل الديمقراطيون، دومًا، على الدفاع عن المعاني الجوهرية للكلمات، بمقتضى الوعي بأن التنازل عنها، قبول بتحويلها إلى ديمقراطية شكلية لا روح فيها ولا حياة. غير أن المهتم بدلالات الألفاظ في الديمقراطية ليس ديمقراطيًا بالضرورة، لأن أساس الديمقراطية، فضلاً عن أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، تتمثل في الشفافية، والإعلام، والاستشارة، وأخذ الكلمة بحرية؛ أي ممارسة حرية النقد والرقابة الشعبية.

ومن المؤكد أن ثمة مصادر متعددة ومتنوعة للثقافة الديمقراطية، وذاكرة تعددية للديمقراطية يصعب، في ضوئها، فرض نموذج جاهز، لكن قلقًا حقيقيًا بدأ ينتشر في الأوساط الديمقراطية في شأن الحقوق، والرأي العام، والتمثيلية، أو على صعيد التحكم في الصراعات، واقتراح أساليب جديدة لتدبير قواعد العقد الاجتماعي...إلخ. لذلك تفترض المعطيات العالمية الجديدة إعادة طرح سؤال الديمقراطية، وذلك أنه إذا كان النظام الديمقراطي يتمثل في مجموع القواعد والقوانين والمؤسسات المعبرة عن إرادات جماعية، فإن دور التقنيات والتقنيين بدأ يطرح أكثر من سؤال في تدبير النظام الديمقراطي، وهذا ما يدفع المرء إلى القول بوجود أزمة مشروعية، وإلى الانتباه إلى الهشاشة التي بدأت تظهر على النظام الديمقراطي، وعجزه عن حل مشاكل التشغيل، والتربية، والمالية العمومية، والسكن...إلخ، مما ولد نوعًا من الكفر بالخطاب الرسمي، سواء كان من وضع سياسيين محترفين أو من إملاء خبراء تقنيين. مما يطرح قضية جوهرية تتعلق بأزمة المرفق العام، والمصلحة العامة، وما ينجم عن ذلك من مخاطر على الديمقراطية، وعلى مسألة التمثيلية، واتخاذ القرار.

إذا كانت معطيات السياسة العالمية تفترض إعادة النظر في مجموعة من القيم المرتبطة بالديمقراطية، كيف يمكن، اعتبارًا لذلك، الاقتراب من فهم الحالة المغربية؟ وهل كان للمؤسسات "التمثيلية" دور في خلق شروط التحول عامة وعلى صعيد المدينة بوجه أخص؟ أو أن للتحولات مسار لا دخل للإرادة السياسية فيه؟

أصبحت المدينة تشكل مسرحًا حقيقيًا للتحولات الاجتماعية التي تحدث في المجتمع المغربي. ولا تمثل المدينة المغربية الحالية مسرحًا للتغيرات الاجتماعية فحسب، بل هي مرآة وفضاء للتحولات التي يعيشها المغرب اليوم، بل أصبحت المدينة، أكثر فأكثر، "الفضاء الأبرز للمجال الوطني، تستقطب كل قوى البلاد، إنسانيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا".

لذلك يكتسي الرهان الحضريفي المغرب، وفي غيره، أهمية بالغة، إذ إن التطور الجارف للمدن يخلخل كل الاستراتيجيات الاجتماعية والسياسية ذات الأفق القطاعي، وإذا كان المجال السياسي يتحدد انطلاقًا من تفاعل ثلاثة عوامل رئيسة، هي: الجغرافيا، والإنسان، والنظام الرمزي السائد، ولا يمكن لأية سلطة أن تدعي التحكم في المجال السياسي دون التحكم في المجال المادي الذي تتأسس عليه سلطتها، حيث يمثل الإنسان المرتكز الرئيس. إذا كان الأمر كذلك، فإن السلطة السياسية، كيفما كانت طبيعتها، تفرض تنظيمًا إداريًا، باعتباره وسيلة ناجعة لتسهيل عملية التحكم في المجال وفي الإنسان بوصفهما يمثلان العناصر المادية للمجال السياسي.

ويلاحظ خبراء المسألة الحضرية في المغرب أن البناء الفوضوي والمدن العشوائية يفرضان على الدولة تدخلات كثيرًا ما تكون بعدية ومتأخرة، ولا سيما مع الازدياد المضطرد للمراكز الحضرية، والذي يتطور بما معدله خمسة تجمعات حضرية جديدة في كل سنة طيلة الأربعين سنة الماضية. وبلغ عدد المراكز الحضرية ما يتجاوز ثلاثمئة مركزًا، علمًا بأن التشريع المغربي لا يتضمن أي تعريف لـ"المدينة" إلى حد الآن. ترتب على هذا التطور انتقال الثقل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي إلى المدينة، وأصبح عدد سكان المغرب يتجاوز سكان البوادي، الأمر الذي ينعكس على التوازنات الاجتماعية والاقتصادية.

فنمو المدن ينتج عن أزمة البوادي، فبخصوص مراقبة وضبط المجال، أصبحت الدولة تواجه رهانين اثنين: الأول مجتمعي، يتعلق بالأنموذج الاجتماعي الذي تسعى إلى خلقه أو ذاك الذي تريد محاصرته ومعاكسته، والثاني ذو طبيعة سياسية، يرتبط بالاضطلاع بالوظائف الاقتصادية والاجتماعية قصد تجنب التعرض لأعمال أو ردود أفعال تطعن في شرعية اختيارات الدولة.

وإلى جانب المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يطرح هذا الواقع المتنافر للمجال الحضري في المغرب سؤالاً ثقافيًا من حيث الجوهر، يتعلق بالمعنى العميق للتحضر والتمدن، بل وبالسلوك المدني داخل المدينة بكل ما يفترضه من ضبط مجالي ومن مرجعية تواصلية.

لم تعد المدينة في المغرب مسرحًا للتغيرات الاجتماعية العنيفة فقط، بل صارت مجالاً رئيسا يعبر داخله الإنسان المغربي عن ذاته في مختلف تموضعاتها وأحوالها. إنها تمثل، بالفعل، رهانًا اجتماعيًا وثقافيًا شائكًا، ولاسيما أن الهواجس الأمنية، تؤكد الغياب المثير لمشروع متكامل يهم المدينة المغربية، باعتبارها كيانًا بشريًا يتم التعبير فيه عن المتخيل الجمعي، ومجالاً تتمظهر فيه مختلف الإرادات، وتتواجد فيه الأفكار والحجج والمشاريع. فالفراغ الثقافي الذي أنتجته عقود من التدبير الأمني للمجال الحضري، بدأ يولد مفعولات مرضية واختلالات على جميع الأصعدة، خصوصًا في الأحياء الهامشية والفقيرة.

تبين مؤشرات عدة أن المغرب يشهد مرحلة انتقالية ممتدة، لم يكن مسموح لشيء بالاكتمال، إذ تقام المؤسسات وتفرغ من مضامينها، وتنظم الأطر المناسبة للتحديث ويشوش على اشتغالها، ويبقى الالتباس سيد الموقف، في الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، وفي البون الشاسع بين الخطاب والممارسة، وفي دلالات اللغة كذلك. وهذا الأمر ينطبق على الممارسة الديمقراطية تمامًا كما ينطبق على تدبير أحوال المدينة.

هل تراقب الدولة، وتكتسح كل مجالات الفعل والتفكير والخلق التي يتحرك داخلها الفرد، أم إن هناك فضاءات للحرية والمبادرة توفر إمكانية التحقق الذاتي والتفاعل الحر؟ سؤال من هذا القبيل يختزن في ثناياه هواجس تهم طبيعة الدولة، وأسسها، ومصادر شرعيتها، وآليات اشتغالها، كما يفترض الحديث عن موضوع "المجتمع المدني"، وهو سؤال يطرح قضية الديمقراطية، باعتبارها إطارًا يسعف الفرد والجماعة على التنظيم، والاجتماع، والمناقشة العمومية لقضاياها الحيوية، والتأثير، بالتالي، على القرارات السياسية المتعلقة بحاضرها ومستقبلها، أي ارتقاء المجال السياسي إلى مستوى إنتاج شروط تسمح للفعاليات المدنية بالتعبير عن إحساسها الفعلي بالمواطنة، من خلال أخذ الكلمة والمشاركة.

إزاء التحولات الكبيرة والمتسارعة التي يشهدها المغرب، من خلال مدنه، تشتغل السياسة ببطء شديد، فتعدد بنيات السلطة، واختلاف التفاوضات السياسية التي تسندها، والمرتبطة بالطبيعة الجمعية والمركبة للمجتمع المغربي، تجد نفسها أمام نزوعات متنوعة، ومن جميع المستويات والشرائح، تطالب بحقها في المشاركة والشفافية، الأمر الذي يدعو إلى القول بأن المجال السياسي يجتاز مرحلة حاسمة في تاريخه، فضغوط الاقتصاد الليبرالي، وحضرية المجتمع، وتمدرس فئات واسعة من الشباب، رغم النسبة المرتفعة للأمية، وانتزاع حق الكلام من طرف المرأة، ومنظمات حقوق الإنسان...إلخ كل هذه الحركات تعبر، بطرق مختلفة، عن حيوية المجتمع المغربي إزاء تقاليد سياسية عتيقة، وعادات انتظارية سلبية، لدرجة يجد فيها المغرب نفسه أمام اختيار تاريخي، هو: الانخراط في عملية تحديث شاملة مفكر فيها بكيفية واعية تفتح المجال لقوى المبادرة والإبداع، أو أن يسقط في عملية تراجعية تزج بكيانه في منطقة التوترات.