التأويل: رؤية قرآنية


فئة :  أبحاث محكمة

التأويل: رؤية قرآنية

التأويل: رؤية قرآنية

الدراسات والأبحاث والمؤلفات التي تعنى بالمعرفة التأويلية كمعطى نظري ومنهجي في قراءة النصوص، وبالأخص النصوص الدينية كثيرة ومتعددة؛ ولكن الدراسات والأبحاث والمؤلفات التي تنتقل من مجال التنظير إلى مجال التطبيق؛ بقراءة وخوض غمار القراءة التأويلية للنص الديني وبالأخص القرآن الكريم؛ لا زالت لم توف بالغرض الذي يجعل منها متناً متسعاً ومتنوعاً ومتعدد الرؤى والتصورات والأفكار في الإجابة عن أسئلة العصر وقضاياه. وعلى الرغم مما كتب ونشر من مؤلفات في هذا الميدان، فإننا نظل اليوم في حاجة ماسة أكثر للشق التطبيقي من المعرفة التأويلية، والذي يهتمّ بقراءة وتأويل القرآن الكريم تبعا لمقتضيات زمننا الراهن؛ بدل الوقوف عند ما قال به المتقدّمون من المفسّرين وغيرهم.

فلا مهرب لنا اليوم من المعرفة التأويلية في الفهم؛ وفي فهم الفهم؛ لتراثنا الثقافي الذي صار في كثير من الأحيان يؤثر فينا أكثر مما نؤثر فيه؛ ونحن نقبل على الحياة. والمشكلة عند الكثير من النّاس اليوم ترتبط بتأثير التراث فيهم؛ وهم في غفلة تامة بأنهم يقبلون على الحياة بوعي وفهم مستمد من الماضي لا يراعي شروط وتحولات الحاضر إلى درجة يتم فيها استعداءهم لكل ما له علاقة بالحاضر. وتزداد المشكلة تعقيداً عندما تُجتزأ الأحداث والوقائع وأقوال المتقدمين وأفهامهم من السياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي وردت من خلالها؛ وتفهم تبعاً لخلفيات تتصف بالأصولية والتشدد أو تلبس لباس إيديولوجية ما.

فالمعرفة التأويلية الهادفة تتعارض مع اجتزاء النصوص والأحداث والوقائع من سياقاتها؛ فهي تقتضي من بين ما تقتضي قراءة النصوص على حدة أو في علاقة بعضها ببعض قراءة كلّية؛ وفي الوقت ذاته قراءتها تبعاً للسياق الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي ظهرت فيه وأثر فيها وأثرت فيه. فمثلاً لا يمكن بأي وجه من الوجوه أن نفهم تفسير الطبري وأقواله ونحن نفصله عن المحيط الذي كتب فيه تفسيره للقرآن في أواخر القرن الثالث ومطلع الرابع الهجري؛ كما أننا لا يمكن أن نحيط بالأبعاد الكلية لتفسيره إن اجتزأنا بعض من أقواله دون غيرها؛ فضلاً على أن فهم أقواله المتعددة يتطلب منا أن نراعي ما هو متوفر له في زمانه من وسائل المعرفة التي جعلته يقول بهذا القول دون غيره. فالمعرفة التأويلية التي نتوخاها ونسعى من أجلها هي تلك المعرفة المفتوحة على كل وسائل القراءة والتحليل والفهم والنظر الذي يراعي قيمة الإنسان الأخلاقية في الوجود؛ ويراعي في الوقت ذاته إرادته الحرة.

ولهذا اهتمت هذه الدراسة بأمر أساسي يتجلى في العمل على قراءة موضوع مفردة «التأويل» من داخل القرآن الكريم، بمعزل عن تعريفات وتصورات المتقدمين، لا بهدف إقصائها وإبعادها؛ ولكن بهدف الاقتراب من دلالة المفردة في القرآن الكريم ومن تصوره للموضوع، حتى نتمكن من إعادة فهم الموضوع كما هو وارد في القرآن من جهة، وكما هو متداول في الثقافة الإسلامية من جهة أخرى.

سيجد القارئ لهذا العمل دراسة تحليلية برؤية مختلفة عمّا هو سائد في المدونة التفسيرية في فهم الآية 7 وما تلاها من سورة آل عمران؛ وهي الآية التي بنى عليها المفسرون وغيرهم صرحهم في فهمهم لموضوع التأويل في الثقافة العربية الإسلامية؛ بهدف تحرير موضوع التأويل من المضايق التي وضعته فيها الثقافة العربية وبالأخص المفسرين؛ وتقديم قراءة تأويلية للموضوع تساهم في جعل المعرفة التأويلية اليوم أكثر تواصلاً مع المعطى المعرفي التأويلي المعاصر؛ وبالأخص ما اتصل بمعرفة تأويل النص القرآني.

1- مفردة التأويل في القرآن

نحن هنا لسنا بصدد الكشف عن تعريفات وتصورات المتقدمين لموضوع التأويل؛ بقدر ما يهمنا أن نقترب أكثر من دلالة مفردة «تأويل» من خلال البنائية القرآنية؛ فهي واردة في سورة الكهف التي أخبرتنا بقصة موسى والعبد الصالح، وكذلك في سورة يوسف التي أخبرتنا بقصة نبي الله، وكذلك في سورة آل عمران من خلال الآية 7 منها التي سنتوقف عندها بالقراءة والتحليل[1].

اتخذ موسى عليه السلام لنفسه صحبة عبد من عباد الله، آتاه الله رحمة وعلمه من لدنه علما، وكان هدف موسى أن يتعلم مما علمه الله لعبده، فاشترط العبد على موسى ألا يسأله عن شيء، حتى يحدث له منه ذكرا. فلما انطلقا لم يستطع موسى الصبر، فيؤجل أسئلته الآنية إلى وقت لاحق، قال تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً.قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً.قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً. قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً﴾. (الكهف 18: 65-66) إذ لما خرق العبد السفينة التي يركبها أهلها قال له موسى: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شيئاً إِمْراً﴾ (الكهف 18: 71).

ولما أقدم العبد الصالح على قتل الغلام قال له موسى: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شيئاً نُّكْراً﴾ (الكهف 18: 74). ولما بنى العبد الحائط الذي كاد أن ينقض في القرية التي طلبوا الطعام من أهلها فأبوا إطعامهما، قال له موسى: ﴿ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ (الكهف 18: 77).

وفي كل حدث كان العبد الصالح محذراً لموسى بأنه لا يستطيع معه صبرا نتيجة أسئلته الآنية، وهذا هو سبب فراقهما، وقبل فراقهما ما كان من العبد الصالح إلا أن يخبر موسى بتأويل ما لم يستطع عليه صبرا؛ أي بالوقوع المستقبلي لكل ما أقدم عليه من خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار.

قال تعالى: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف 18: 78)؛ فالوقوع المستقبلي للسفينة التي خرقها العبد الصالح هو قوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ (الكهف 18: 79)؛ أي إن السفينة سيؤول أمرها إلى هذا الوضع ويقع عليه. فبسبب خرقه لها، تبقى في ملك أصحابها ولا يغصبها الملك منهم.

أما الغلام لو لم يقتله العبد لآل أمره إلى إرهاق أبويه طغيانا وكفرا؛ أي ستقع حالة أمره على هذه الحالة التي خشيها العبد فقتله، وأما الجدار الذي بناه دون أن يأخذ عليه أجرا فوقوع أمره هو حفظ كنز في أسفله لغلامين يتيمين في المدينة حتى يبلغ أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من الله، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً. فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً. وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف 18: 80-82). ويؤكد العبد الصالح أنه لم يقبل على كل هذا انطلاقاً من ذاته، بل لما علمه الله من رحمته ومن علمه سبحانه؛ أي القدرة على التنبؤ وإدراك ما ستؤول إليه العديد من الأمور والأحداث وما ستقع عليه قال تعالى: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف 18: 82).

يتضح مما سبق، أن السياق الذي وردت فيه مفردة «تأويل» من خلال سورة الكهف، يفيد أن التأويل يعني ما يؤول إليه الأمر وما يرجع إليه.

بعد أن رفع يوسف عليه السلام أبويه على العرش، وخرّا له سجداً كان قوله: ﴿هَذَا تَأْويلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً﴾؛ أي وقوع رؤياه التي رآها في المنام، وهو في الصغر وأخبر بها أباه، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ (يوسف 12: 4). قال تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً﴾ (يوسف 12: 100). فالله سبحانه وتعالى آتاه من الملك وعلمه من تأويل الأحاديث، القراءة المستقبلية للوقائع والأحداث قال تعالى: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف 12: 101). وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (يوسف 12: 6)، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف 12: 21).

فلما رأى الملك الذي كان عنده يوسف، رؤياه التي مفادها سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع بقرات عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات احتار في أمره، إذ لا علم له بتأويل هذه الرؤيا، فما كان له إلا أن يطلب من قومه أن يستفتوه في رؤياه ولا أحد له القدرة على ذلك. فلما استفتوا يوسف في رؤيا الملك أخبرهم بما سيقع في القريب وبما سيؤول إليه الأمر؛ وذلك أنهم سيزرعون سبع سنين تعود عليهم بالنفع الكثير، ويجب أن يدخروا الكثير مما حصدوه للسنين السبع الموالية، والتي لا حصاد فيها إلا ما ادخروه من قبل، وبعدها يأتي عام فيه يغاث الناس؛ قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)﴾ (يوسف 12: 43-49).

إن ما أخبر به يوسف هو ما تحقق في الواقع؛ إذ أشرف هو بنفسه على خزائن الأرض، فهو الحفيظ والرقيب عليها، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)﴾ (يوسف 12: 54-57).

وقبل هذا، عندما كان في السجن داخل قصر الملك، قال أحد الفتيين اللذين دخلا معه السجن: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً"﴾ وقال الآخر: ﴿ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ﴾. وكان طلبهم من يوسف أن يخبرهم بما سيقع في مستقبلهم، وإلى أية حالة يؤول أمرهم، فقال للأول أنه سينجو من السجن وبعده سيسقي الملك خمراً وطلب منه أن يذكره عند الملك لكن الشيطان أنساه ذلك. أما الآخر، فمصيره أنه سيصلب وتأكل الطير منه، وهذا ما آل إليه الأمر، ووقع عليه قال تعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)﴾ (يوسف 12: 36). قال تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)﴾ (يوسف 12: 41-42).

يتضح مما سبق، أن السياق الذي وردت فيه مفردة تأويل من خلال سورة يوسف يفيد بأن التأويل يعني ما يؤول إليه الأمر وما يرجع إليه.

وفي سورة النساء: فبعدما أمرنا الله أن نؤدي الأمانات إلى أهلها وأن نحكم بين الناس بالعدل وأن نطيع الله ورسوله، وأولي الأمر منا، وإن تنازعنا في شيء نرده إلى الله والرسول، كان قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (النساء 4: 59)؛ بمعنى أن حالة أمرنا من الأحسن أن تقع وفق ما أمرنا به وهذا أحسن الوقوع. وكذلك هو الأمر في سورة الإسراء، بعد نهيه سبحانه ألا نقتل أولادنا خشية إملاق وألا نقرب الزنا وألا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأن لا نقترب مال اليتيم حتى يبلغ أشده، وأن نوفي بالعهد وأن نوفي الكيل، جاء قوله تعالى: ﴿ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (الإسراء 17: 35)؛ بمعنى إذا وقعت أفعالنا وآلت إلى هذه الحالة التي أمرنا بها، فهذا هو الخير وأحسن الوقوع. كما أن القرآن الكريم أخبرنا إلى ما ستؤول إليه حالة هذه الدنيا التي نحياها، وأخبرنا بوقوع يوم القيامة ويوم البعث ويوم الحساب، وغير ذلك من أمور المستقبل المتصلة بمصير الكون والإنسان والوجود بأكمله التي لا علم لنا بها إلا ما أخبرنا به سبحانه عن طريق أنبيائه عليهم السلام.

ولا يعلم زمن ولحظة وقوع يوم البعث والحساب إلا هو سبحانه، إلا أن البعض من الناس، إما لجحودهم أو لعجالة من أمرهم، أو لتكذيبهم بما لم يحيطوا به علماً، نسوا ما جاءهم من الكتاب وما أخبرتهم به الأنبياء والرسل، ويستعجلون وقوع ما أخبروا به، لكن يوم يأتي وقوع - تأويل- ما أخبروا به يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء ليشفعوا لنا قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)﴾ (الأعراف 7: 52-53). وقال تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ (يونس 10: 29).

2- قراءة كلية للآية 7 من سورة آل عمران

﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)﴾ (آل عمران 2: 7)

1.2- خلاصة في فهم المفسرين للآية 7 من آل عمران

بعودتنا إلى المدونة التفسيرية للقرآن الكريم، والتي تضم العديد من كتب التفسير التي يتعذر حصرها؛ إلا ما اشتهر منها وذاع صيتها لاعتبارات علمية وثقافية أو سياسية أو مذهبية وما شابه ذلك؛ نجد أبا الحسن علي بن محمد، الشهير بالماوردي في ق. 5 هـ (450هـ)؛ صاحب كتاب (تفسير النكت والعيون)؛ يعد لنا اختلافات المفسرين في فهمهم للآية 7 من سورة آل عمران قوله: ﴿مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ اختلف المفسرون في تأويله على سبعة أقاويل، أحدها: أن المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ؛ والثاني: أن المحكم ما أحكم الله بيان حلاله وحرامه فلم تشتبه معانيه؛ والثالث: أن المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما احتمل أوجهاً؛ والرابع: أن المحكم الذي لم تتكرر ألفاظه، والمتشابه الذي تكررت ألفاظه؛ والخامس: أن المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال؛ والسادس: أن المحكم ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج عيسى ونحوه، والسابع: أن المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال.

﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ﴾ فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تأويل جميع المتشابه؛ لأن فيه ما يعلمه الناس، وفيه ما لا يعلمه إلا الله؛ والثاني: أن تأويله يوم القيامة لما فيه من الوعد والوعيد، كما قال الله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَومَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [الأعراف 7: 53] يعني يوم القيامة؛ والثالث: «تأويله وقت حلوله»[2].

وأورد أبو جعفر الطبري (-310هـ) في كتاب (تفسير جامع البيان في تأويل القرآن) قوله: «المحكم من آي القرآن؛ ما عرف العلماءُ تأويله، وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه»[3].

وأورد الألوسي (في ق 13هـ) في كتابه (تفسير روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) قوله: المتشابه الخفي الذي لا يدرك معناه عقلاً ولا نقلاً، وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة والحروف المقطعة في أوائل السور[4]. ويرى الشوكاني (في ق 13 هـ) في كتاب (تفسير فتح القدير) «بأن العلماء اختلفوا» في تفسير المحكمات والمتشابهات على أقوال، فقيل: إن المحكم: ما عرف تأويله، وفهم معناه، وتفسيره. والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل...[5]

إن التمعن في أقوال المفسرين واختلافهم حول تحديد مفهوم المحكم ومفهوم التشابه، والتي لا يسمح المجال لعرضها، يقودنا إلى القول إن اختلافاتهم تلك حول ماهية المحكم والمتشابه وغيرها قد شوشت على فهمهم وتصوراتهم لموضوع التأويل. فالمحكم عند المفسرين هو ما يمكن معرفته وإدراكه والإحاطة به؛ فهو لا يحتمل التأويل إلا من وجه واحد؛ بينما المتشابه هو ما يصعب أو يتعذر معرفته كليا بكونه يحتمل التأويل من وجوه متعددة. وتعدد وجوه تأويله هذه خلقت مشكلة عند المفسرين؛ فالذين تنطوي قلوبهم على الزيغ بهدف بث الفتنة ونشرها بين الناس، يتبعون المتشابه من القرآن ابتغاء تأويله، فابتغاء تأويل المتشابه والسعي نحوه؛ في نظر المفسرين وغيرهم يعد باباً غير موثوق به. وتبعاً لهذا الفهم، سارت مفردة «التأويل» تثير الفزع والخوف والريبة على العكس من مفردة «التفسير»؛ والحقيقة أن المفسرين المتقدمين ليس لهم موقف سلبي من موضوع التأويل؛ إذ منهم من جعله مرادفا للتفسير؛ على رأسهم أبو جعفر الطبري في القرن 4؛ الذي جعل من مفردة التأويل عنوان لكتاب المعنون بـتفسير (جامع البيان في تأويل القرآن).

2.2- الآية 7 من آل عمران نحو تجديد النظر والفهم

نأتي الآن إلى قراءة وتتبع الآية 7 وما تلاها من الآيات من سورة آل عمران؛ فمن المعلوم أن فهم هذه الآية بني عليه الكثير من التصورات والرؤى في الثقافة الإسلامية؛ فيما يخص مفهوم المحكم والمتشابه وأم الكتاب، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)﴾ (آل عمران 2: 7-9)

الآيات المتشابهات

في الآية 7 من سورة آل عمران، نجد أن الذين في قلوبهم زيغ، يتبعون ما تشابه من كتاب القرآن، بطلبهم وقوع ما أخبر القرآن به من أمور الغيب، وبالأخص تلك التي تتصل بيوم البعث. ومن الواضح أن طلبهم واتباعهم ذلك ليس من أجل غاية علمية صادقة، بل من باب الفتنة، والذي يؤكد أن الآيات المتشابهات هي الآيات التي ترتبط بموضوع القيامة والحساب والبعث وما شابه ذلك من قصص الأنبياء والرسل وحقيقة ما كانوا عليه. هو كون الآية 8 والآية 9 تبعا للسياق من سورة آل عمران قد ربطت موضوع الزيغ بالتأكيد أن الله جامع الناس ليوم لا ريب فيه؛ بمعنى أن موضوع الآيات المتشابهات التي يستعجل تأويلها -أي وقوعها- الذين في قلوبهم زيغ يرتبط موضوعها بيوم البعث، وهو يوم لا ريب فيه؛ وسنأتي في الفقرات القادمة على تقريب معنى الآيات المحكمات أم الكتاب.

بينما الراسخون في العلم يقولون آمنّا به كل من عند ربنا؛ فهم لا يستعجلون وقوع «أي تأويل» للأخبار والآيات التي تتصل بيوم القيامة والبعث والحساب؛ وعياً منهم بأن القرآن لم يربط الساعة بموعد أو بتاريخ أو ما شابه ذلك قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (النحل 16: 77). قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)﴾ (النازعات 79: 42-44)؛ فالطريق للإيمان بها ليس في استعجال وقوعها أو مقارنة حدوثها بعلامة ما أو ما شابه ذلك، بل ينبغي البحث والنظر في عالم الشهادة؛ فبالقرائن وبالأدلة الكامنة في الوجود، وفي الكون سيتضح بأنه لا محالة بأنه سيقوم الناس لرب العالمين، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (المطففين 83: 6)، فإيمان الراسخين في العلم إيمان يتصف بالرؤية والمنهج الكلي في التعاطي مع المعرفة بمختلف نظمها؛ ومفردة «كُلٌّ» في قولهم: «آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا» تعكس روحاً معينة في النظر والتفكير في التعامل مع الظواهر والأشياء؛ سواء التي تتصل بعالم الغيب أو بعالم الشهادة؛ مع العلم أن موضوع الإيمان في مداراته في القرآن الكريم لا ينفصل عن العلم بمفهومه المرتبط بتاريخ المعرفة والفكر. فقد وصف القرآن الكريم العلماء في مختلف العلوم التي تتصل بدراسة وفهم الطبيعة وقوانينها والمجتمع والإنسان (الكون)؛ لأنهم يخشون الله قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾ (فاطر 35: 27-28)؛ فالعلماء هنا هم من اتصل علمهم بموضوع البحث في الماء والثمرات واختلاف الألوان والدواب والأنعام... وإلى غير ذلك من الأشياء والموجودات في الوجود والظواهر الكونية؛ فمدار مفردة «العلماء» في القرآن لا يتوقف عند أولئك الذين كرسوا كل وقتهم لحفظ متون وأقوال ثلة من السابقين الذين خلد التاريخ ذكرهم؛ بمعزل عن سياقاتها من حيث الزمان والمكان والثقافة؛ ودون وعي ولا فهم ولا تحليل؛ ويرون في أنفسهم أنهم علماء، وهم بوعي أو بدونه، أوصياء على أمر الدين والناس والمجتمع؛ وحقيقة الأمر أن العلم في الدين وقضاياه؛ لا يتأتى بمعزل عن علوم المجتمع وعلوم الطبيعة؛ وفوق كل ذي علم عليم؛ والله هو السميع العليم.

ولا ينبغي الفهم أن القرآن قد أغلق الباب بالكامل حول البحث والسؤال والنظر في الموضوعات المتصلة بالآيات المتشابهات التي تخبر بيوم الميعاد وما شابهها من الآيات التي تخبرنا عن أحوال الأنبياء والرسل كما تقدم، بل على العكس من ذلك؛ فالقرآن تفرد بربط الموضوع بمعضلة منهجية في العلم والفهم، تتصل من جهة أولى: بمفردة «الفتنة» «ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ» ومن جهة ثانية: باستعجالهم وابتغاء وقوع الآيات المتشابهات «وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ»؛ أي طلب وقوعها في الحال كما تقدم.

فمفردة «فتنة» في القرآن وردت مقترنة بالقتل، وهي أشد خطورة على الجماعة والمجتمع من القتل لكونها تكون سبباً من وراء وقوعه قال تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ (البقرة 2: 191)؛ قال تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ (البقرة 2: 217). وما دامت الفتنة أشد من القتل ورد السماح بقتال المعتدين كعلاج ووقاية من الفتنة في سياق رد العدوان والحد منه قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)﴾ (البقرة 2: 190-193). كما أن مفردة الفتنة وردت مقترنة بمفردة تقليب الأمور؛ أي إخراجها عن سياقه التي هي فيه قال تعالى: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)﴾ (التوبة 9: 48-49).

يطرح القرآن حلّاً لهذه المعضلة المنهجية، ويتجلى هذا الحل في الأخذ بمنهجية الرسوخ في العلم؛ بدلاً عن منهجية الزيغ في العلم التي تترتب عنها معضلة الفتنة ومعضلة استعجال وقوع ما هو قادم. وسنأتي في الفقرات القادمة على تقريب موضوع مفردة «الزيغ». فالرسوخ في العلم يقتضي جلب المنفعة لكل الناس بدل جلب الفتنة؛ ومن أوجه الفتنة أن يتم التعاطي مع المعرفة بكل أقسامها بمنطق متحيز وإخفاء حقيقة ما على حساب حقائق أخرى تبعاً لمصالح ضيقة باسم الدين أو الطائفة أو ما شابه؛ ولهذا فالراسخون في العلم من أهل الكتاب هم من يتعاطون مع الكتاب وقضاياه بمنطق كلي، إيمانا منهم بالكتاب الذي جاء به محمد ﷺ وبالكتب التي جاءت الرسل عليهم السلام من قبله قال تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً"﴾ (النساء 4: 162)، وهو الأمر نفسه مع الراسخين في العلم الذين لا يفرقون في الرؤية والفهم والمنهج والتحليل بين الآيات المحكمات والآيات المتشابهات: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾؛ فآيات الكتاب لا تتجزأ من حيث الفهم لديهم؛ كما أن عالم الغيب وعالم الشهادة لا ينبني على الفهم المجزأ الذي تتعارض فيه التصورات. فسبل المعرفة لديهم محكومة بنظرة متكاملة لنظم المعرفة بمعزل عن أي انحراف؛ وعليه فالرسوخ في العلم يفيد النظر إلى مختلف نظم المعرفة في كليتها؛ فمفردة «الراسخون» وردت مرتين في القرآن مقرونة بمفردة «العلم»: نجدها في الآية 7 من سورة آل عمران وفي الآية 162 من سورة النساء كما تقدم.

نأتي الآن إلى مفردة «زاغ»، فورودها في القرآن ورد مقترنا بمفردة «البصر» ومقترنا كذلك بمفردة «القلب»؛ ففي سورة النجم يخبرنا القرآن الكريم[6] عن الحالة التي اختص بها الرسول r؛ وذلك بكونه رأى ما رآه من آيات ربه الكبرى؛ ويؤكد القرآن أن رؤيته تلك لا تتوقف عند الرؤية بالفؤاد ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ (النجم 53: 11) بل تمتد إلى الرؤية البصرية الخاصة بمحمد ﷺ ، قال تعالى: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾ (النجم 53: 17-18) فالرسول قد رأى ما رآه من آيات الله الكبرى التي لا علم لنا بها؛ وقد وردت مفردة «مَا زَاغَ» لتنفي عن الرؤية المتصلة بالفؤاد والبصر في الوقت ذاته؛ أي احتمال يحصل معه نوع من التشتت أو الانحراف في الرؤية المتصلة بالبصر والفؤاد، أو توهم أو ما شابه ذلك. أما في سورة الأحزاب، فقد وردت مفردة «زاغت» لتؤكد تشتت الرؤية البصرية وانحرافها؛ في لحظة حرجة تتصل باللحظات الحرجة التي تحدد النصر أو الهزيمة في ساحة المعركة؛ لحظة مجيئ العدو من فوق ومن أسفل... قال تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ (الأحزاب 33: 10). في هذه الحالة الواقعية التي يهجم فيها العدو من فوق ومن أسفل تنحرف معها الرؤية البصرية للجنود المحاربين، وهم بين قوسي هجومين: هجوم أعلى وهجوم من أسفل؛ فزيغ الأبصار هنا هو انحرافها في الرؤية، وهي تراقب الهجوم المزدوج من أعلى ومن أسفل.

إن مفردة «زاغ» ترد في سياق انحراف البصر وخروج الرؤية البصرية عن مسارها السليم؛ فالموضوع في جوهره موضوع مركب ومتداخل؛ فزيغ البصر؛ أي انحراف الرؤية؛ ما هو إلا انعكاس لما هو داخلي في النفس الإنسانية. وقد عبر القرآن عن ذلك البعد الداخلي لدى كل إنسان بمفردة «الفؤاد»؛ ولهذا ورد نفي زيغ البصر بالنسبة إلى محمد ﷺ؛ في صلة متصلة بصدق الفؤاد لديه؛ (الآيات 11 و17 من سورة النجم)؛ وفي سورة الأحزاب الآية 10 التي نحن بصددها؛ نجد زيغ الأبصار مصحوبا كذلك بتلك الاضطرابات النفسية التي عبر عنها القرآن بالظنون؛ وببلوغ القلوب الحناجر؛ ومن المؤكد أن مفردة «القلب» ومفردة «الفؤاد» ومفردة «البصر» كلها مفردات تتصل بالجانب المعرفي لدى الإنسان[7].

فموضوع زيغ الأبصار وزيغ القلوب موضوع يتصل بشكل مباشر بمعالجة قضية منهجية في الفكر الإنساني ككل. صحيح أن الموضوع يدور داخل القرآن في مدار يتصل ببني إسرائيل؛ ولكن الجانب القيمي فيه؛ لا يتوقف عند مشكلة صاحبت بني إسرائيل، بل إن المشكلة تتصل بالاجتماع الإنساني ككل؛ فالغاية هي تقديم علاج لمعضلة مرض[8] وزيغ القلوب؛ وهو مرض تترتب عليه إساءة الناس بعضهم بعضاً بوجه من الوجوه... قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (الصف 61: 5). ففيما هو أعم، فالإقبال على أداء الناس والإساءة إليهم بدل مد يد العون إليهم بمعزل عن ماهية انتماءاتهم الدينية والثقافية. تأتي نتيجة أمراض وانحرافات قلبية؛ تنظر إلى الناس بمدخل يميز بعضهم على بعض؛ ويقدم بعضهم على بعض؛ قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران 3: 75). فالأميون من العرب في الجزيرة العربية؛ في نظر الكثير من بني إسرائيل ليسوا أهلاً ليكونوا مصدرا للمعرفة الدينية، حتى وإن بعث فيهم الرسول محمد ﷺ بكتاب القرآن؛ وهذه مشكلة تلقي بظلالها على نظم المعرفة بمختلف مجالاتها؛ وذلك باقتطاع بعض من نظمها على حساب البعض الآخر منها بهدف الرفع من قيمة أناس على حساب أناس آخرين أو ما شابه ذلك؛ بينما القرآن يؤكد ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[9]. بهذا الانحراف القلبي المبني على الفهم التجزيئي الذي توجهه أغراض ومصالح ضيقة لا تنسجم مع النفع العام، ومع القيم النبيلة التي تتوخى الخير للناس جميعا؛ ولا تنسجم في الوقت ذاته مع الموضوعية العلمية التي تقتضي النظر إلى مجمل المعارف في كليتها، بدل إحضار بعضها والغفلة المتعمدة في تغييب وطمس البعض الآخر. وهذه هي مشكلة «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ» في تعاملهم مع الآيات المتشابهات في القرآن الكريم؛ إذ يختصرون فهمها وتأويلها في ما بين يديهم من الكتب التي سبقت القرآن؛ دون النظر لما ورد حولها في القرآن الكريم؛ وهي نفس المشكلة بوجه آخر مع الذين يكتفون في فهم القرآن بمعزل عن النظر في ما تضمه الكتب التي سبقته. فالقرآن في عملية استرجاعه لتراث الأنبياء قام بعملية حوار وجدال مع بني اسرائيل تبعا للنصوص التي بين أيديهم وقد كشف من خلال مشواره الحواري ذاك عن الكثير من الإخفاء والدس التي لحق تلك النصوص، والجميل أن القرآن ترك مسيرة الحوار والجدال مفتوحة على الزمن؛ ولكي نستعيد نحن اليوم مسيرة الحوار العلمي تلك، من الضرورة قراءة الكتاب المقدس بشقيه قراءة علمية؛ وإلا فإننا سنقرأ أمورا كثيرة في القرآن دون أن نعرف حق المعرفة ما يتحدث عنه.

.الآيات المحكمات أم الكتاب

نأتي الآن إلى تقريب معنى الآيات المحكمات التي وصفت بكونها أم الكتاب؛ والأم هنا بمعنى الأصل؛ مع العلم أن مدلول الآية في القرآن لا ينحصر في الآيات المنزلة، بل يمتد إلى الكون؛ أي آيات الله في الآفاق والأنفس وهذا الأمر يصدق كذلك على الكتاب بكونه حاملا لغويا للآيات؛ فمفردة «الكتاب» في القرآن الكريم لا يتوقف مدلولها عند الكتاب الموحى به في علاقته بما سبقه من الكتاب، بل يمتد ليدل على الكون بأكمله بما فيه الاجتماع. ففي كتاب القرآن نقرأ آيات الله الموحى بها حروفا ومفردات وكلمات وسور؛ وفي كتاب الكون نقرأ آيات الله المبصرة في الآفاق والأنفس؛ والقرآن من خلال آياته وسوره بنية غير مغلقة على ذاته؛ فبنيته النصية والخطابية تلقي بالقارئ في أحضان النظر في الوجود والكائنات قال تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام 6: 38). وما دام الأمر على هذه الحالة المنهجية التي تقتضي إرجاع -تأويل- فهم آيات كتاب القرآن إلى مسار ومدارات البحث والنظر في آيات كتاب الكون؛ فمن الواضح أن آيات كتاب الكون هي أم آيات الكتاب المنزل (كتاب القرآن) وأم الشيء أي أصله؛ كما أن القرآن الكريم يعد أصلا لما سبقه من الكتب بفعل منهج التصديق والهيمنة بداخله[10] قال تعالى: ﴿حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)﴾ (الزخرف 43: 1-4). وقد وصف القرآن هنا بوصف العلو والحكمة؛ فعلوه وحكمته تلك مأخوذة ومقرونة بحكمة الله في الكون الفسيح؛ ففي الآفاق والأنفس نرى ونقرأ آيات الله. وبهذا؛ فنحن أمام كتابين يتصفان بالإحكام: كتاب القرآن الكريم وقد وصف نفسه بأنه كتاب محكم[11] ووصف نفسه كذلك بكونه متشابهاً[12] وسنأتي لبيان مدلول مفردة المتشابه في القرآن. وكتاب الكون، وهو كتاب لا تفريط فيه من لدن الخالق.

فالآيات المحكمات التي وصفت بأم الكتاب تعود على كتاب القرآن في مجمله، وهو كتاب يعد أصلاً -أمّاً- لما سبقه من الكتب بفعل منهج التصديق والهيمنة على ما سبقه من الكتاب، وهو منهج اختص به القرآن دون غيره من الكتب كما تقدم. وتعود كذلك على كتاب الكون الذي يعد أصلاً -أمّاً- لما ضمه كتاب القرآن من موضوعات؛ فعملية الفهم السليم تقتضي إرجاع الفروع لفهمها في سياق أصولها التي تعود إليها بدل فهمها لوحدها؛ والضرورة المنهجية هنا تقتضي التعامل مع الآيات المتشابهات التي تتصل في موضوعاتها بيوم البعث والحساب والساعة وما شابه كما تقدم، إلى أصولها؛ أي إلى أم الكتاب بقراءتها قراءة كلية من داخل كتاب القرآن الكريم؛ وفي الوقت ذاته بقراءتها تبعا للمعرفة العلمية المتصلة بالكون ونشأته وتحولاته تبعا للتخصصات العلمية في هذا المجال.

المحكم

وصف القرآن نفسه بكونه كتاباً محكماً أي مُتقَناً، ودقيقاً ولا تعارض فيه من حيث الموضوعات التي عالجها ومن حيث مفرداته؛ وهذا لا يعني على الإطلاق أن القرآن يقرُّ بأن المتشابه غير دقيق ومتعارض ويحتاج إلى تأويل؛ مما يوحي بكون المحكم عكس ونقيض للمتشابه. فموضوع التأويل يسري على المحكم كما يسري على المتشابه قال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)﴾ (هود 11: 1). قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً﴾(النساء 4: 82)؛ فموضوعات القرآن ينبغي النظر إليها بكونها متماسكة ومترابطة فيما بينها من خلال رؤية القرآن الكلية للإنسان، والكون، وعالمي الغيب والشهادة. ولهذا من البديهي، أن نجد القرآن يرفض التعامل معه بموجب القراءة التجزيئية التي تجزئه وتقسمه في عملية الفهم والتحليل؛ إلى أجراء وأقسام وأعضاء مفصولة عن بعضها البعض قال تعالى: ﴿وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91)﴾ (النحل 16: 89-91). فمفردة «الْمُقْتَسِمِينَ» هنا تفيد بكون ذلك الاقتسام يعود على القرآن، إذ جعلوا منه أعضاء «عِضِينَ» يؤمنون ببعضها ويكفرون بالبعض الآخر؛ وهذه معضلة صاحبت بني إسرائيل قال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ (البقرة 2: 85)، وهي مسألة منهجية في غاية الأهمية؛ فمن التعسف المنهجي عدم استحضار الفلسفة الكلية التي يهدف إليها القرآن الكريم في نظرته للوجود والحياة والإنسان؛ والاكتفاء بالفهم الذي يقدم ما هو جزئي عن ما هو كلي في القرآن.

المتشابه

نأتي الآن إلى مدلول مفردة «متشابه»؛ ففي سورة البقرة نجد أن بني إسرائيل عملوا على أشكلة موضوع أمرهم بذبح البقرة نتيجة أسئلتهم الكثيرة بقولهم: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾؛ والحقيقة أن البقر يشبه بعضه بعضا مع اختلاف بعضه عن البعض الآخر من حيث الشكل واللون... بمعنى أن البقر يتماثل ويتناظر مع بعضه البعض، وهو الأمر نفسه مع مخلوقات أخرى؛ مثلاً: أن الإبل تتماثل بعضها مع بعض أي يشبه بعضها بعضاً وهكذا؛ وهذه مسألة بديهية في الوجود. لكن بني إسرائيل كانت غايتهم هي التهرب من الاستجابة لذبح البقرة، وقد اتهموا رسول الله موسى عليه السلام بكونه يستهزئ بهم. ولهذا أكثروا عله السؤال حول ماهية تلك البقرة[13]. ويذكرنا القرآن بموضوع التشابه؛ أي التماثل فيما تنبته الأرض وأورد مثالا عن ذلك التشابه بالنسبة للزيتون والرمان قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ (الأنعام 6: 141). قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام 6: 99). فالعلماء والمتخصصون في النباتات وفي دراسة فصائل الحيوانات وأنواعها وغير ذلك، أولى بالمعرفة العلمية لطبيعة ومقدار ونوعية التشابه؛ أي ظاهرة التماثل الكامنة في الطبيعة، وما يتولد عن ذلك من ظواهر متعددة فصيغت: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ من حيث إثبات التشابه أو نفيه؛ لم ترد من باب الوصف أو الوعظ وما شابه؛ بل هي آية في الطبيعة بالإمكان ترقبها وتتبعها؛ وهذه هي الغاية التي يتوخاها القرآن وينحو نحوها؛ وإلا ما الفائدة من قراءتها صباح مساء!!

فمقصد القرآن في دعوته لقراءة وتتبع آيات الله في الآفاق والأنفس؛ ليست دعوة تعني عموم الناس، بل هي دعوة تتصل بذوي الاختصاص من العلماء؛ الذين بوسعهم فهم طبيعة الاتحاد في المقدمات والتنوع في النتائج الكامن في الطبيعة. فالأرض الواحدة التي تسقى بماء واحد تنبث ثمارا متنوعة متشابهة وغير متشابهة قال تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (الرعد 13: 4). فعبارة: ﴿صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾ لا يتوقف دورها في القرآن الكريم عند بلاغة القول فحسب، بل هي عبارة تدور في مدارات ما عليه الطبيعة من قوانين؛ فقد تختلف المقدمات ولكن النتائج تأتي متحدة قال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (فاطر 35: 12)؛ فماء البحر الملح الأجاج يختلف عن ماء النهر السائغ شرابه؛ فرغم عدم استواء المقدمات تأتي النتيجة واحدة وهي السمك الطري[14].

تدور مفردة «متشابه» في مدار يفيد التماثل والتناظر؛ فآيات الله في كتاب القرآن تماثلها آيات الله في الكون، قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)﴾ (الزمر 39: 23)؛ فالكتاب المتشابه ورد مقرونا بمفردة «مثاني»، ومن الملاحظ أن مفردة «القرآن» وردت تابعة لمفردة «المثاني» ومعطوفة عليها في سورة الحجر، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87)﴾ (الحجر 15: 85-87). فما هي المثاني السبع إذن؛ يجيبنا القرآن بقوله: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ (الطلاق 65: 12)[15].

سبقت الإشارة إلى أن الآيات المتشابهات هي التي تتصل موضوعاتها بيوم البعث والحساب والساعة، وما شابه من قبيل قصص الأنبياء والرسل في القرآن؛ فهذه الآيات في القرآن «مُتَشَابِهَاتٌ»؛ أي تماثلها ما تضمنته الكتب السابقة عن القرآن (التوراة والإنجيل) وقد نبه القرآن في مواضع كثيرة إلى معضلة تحريف كلمات الكتاب عن مواضعها وعن موضوعاتها من لدن أهل الكتاب من بني إسرائيل؛ قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ (البقرة 2: 79). قال تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (النساء 4: 49). قال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (المائدة 5: 13). قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شيئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (المائدة 5: 41). وقد اعتمد القرآن منهج الحوار والتذكير في تواصله مع أهل الكتاب كاشفاً حقيقة الكثير من الموضوعات التي سبقته إليها الكتب السابقة عنه؛ ففي الوقت الذي اعتمد فيه مسلك الحوار؛ بسط رؤيته للكثير من تلك المواضيع؛ كما أشرنا من قبل. فالقرآن على الإطلاق لم يعتمد منهج القطيعة مع أهل الكتاب؛ وليس له أي مقصد يترتب عنه القضاء عليهم وحرمانهم من الوجود أو ما شابه، بل على العكس من ذلك، فالقرآن قوّى مقصد الحرية في الرأي حتى ولو كان ذلك الرأي خطأ؛ وقد أوصى بجدالهم بالتي هي أحسن قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت 29: 46). والإيمان بتلك الكتب هنا لا يتوقف عند الاعتراف بها؛ بل يمتد إلى دراستها والبحث في ثناياها عن شذرات الهدى والنور الذي تتضمنه قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة 5: 44). قال تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة 5: 46).

فالذين في قلوبهم زيغ من أهل الكتاب أو غيرهم؛ يكتفون في عملية الفهم على ما هو وارد في الكتب السابقة عن القرآن دون الأخذ برؤية القرآن لتلك المواضيع؛ أو يجعلون ما هو وادرد في (التوراة والإنجيل) مدخلاً لعملية الفهم؛ أو يثقون ثقة عمياء في كتب الحديث والمرويات دون نظر ولا تمحيص؛ وهذا أمر فيه غفلة بوعي أو دونه عن الهدى الذي جاء به القرآن الكريم. ففي هذا السياق، يمكن أن نضع الكثير من الدراسات والأبحاث من لدن المستشرقين وغيرهم؛ التي تدعي أن القرآن ما هو إلا نسخة مأخوذة من الكتاب المقدس؛ بينما الذين يتصفون بالموضوعية في الفهم والتحليل وبالعبارة القرآنية: ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ تجدهم يقرؤون الكتاب في مجمله ويقارنون بين ما تتضمنه بنية كل كتاب؛ فالبنية التي تتصف بالانسجام والتكامل بدل التضارب والتعارض هي الأقرب إلى الصواب. وبعودتنا إلى مطلع سورة آل عمران؛ أي السورة التي وردت فيها 7 التي تطرقت لموضوع المحكم والمتشابه وأم الكتاب؛ يتأكد لدينا ما ذهبنا إليه؛ بكون موضوع الآيات «المتشابهات» فيه تماثل وتشابه بين ما هو وارد في الكتب السابقة عن القرآن قال تعالى: ﴿الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)﴾ (آل عمران 3: 1-3). وهذه آية من بين الآيات التي تبين العلاقة المنهجية ما بين القرآن وما سبقه من الكتاب؛ فالدراسات التطبيقية تبعا لهذا المنهج، كفيلة بالكشف عن الفوارق ونقط الاتصال والانفصال ما بين القرآن الكريم والعهد القديم والعهد الجديد كما هي بين أيدي الناس اليوم؛ فالإنجيل جاء مصدقاً للتوراة والقرآن جاء مصدقا لهما معاً، ولكن لا يتوقف الأمر بالنسبة إلى القرآن عند خاصية التصديق، بل تفرد دون غيره من الكتب بخاصية كونه مصدقاً ومهيمناً على تلك الكتب في الوقت ذاته؛ فالهيمنة تقتضي القدرة على إعادة البناء وإرجاع ما تم تصديقه إلى سياقه الصحيح.

 

 

 

 

 

كتاب الكون

قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ...﴾ (الطلاق 65: 12)

قال تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام 6: 38)

قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت 41: 53)

كتاب القرآن

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ﴾ (الحجر 15: 87)

قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ...﴾ (الزمر 39: 23)

قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ...﴾ (المائدة 5: 48)

ما سبق من الكتاب

قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ...﴾ (المائدة 5: 44)

قال تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة 5: 46)

خاتمة

هذه القراءة للآية السابعة من سورة آل عمران اعتماداً على قراءة داخلية للقرآن الكريم؛ ستجعل التعاطي مع موضوع التأويل في فهم القرآن الكريم باباً مفتوحاً على مختلف العلوم والتخصصات العلمية التي تتصل بمختلف العلوم الإنسانية وغيرها؛ فضلا على أنها ستحرره من الاختلاف الوارد في الثقافة الإسلامية بين الأصوليين والمفسرين وغيرهم، بأسئلتهم: هل مفهوم التأويل مرادف لمفهوم التفسير أم لا؟ أو هل لفظ التأويل يقتضي صرف اللـفظ من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح؟ أم إن التأويل هو باطن الشيء بدل ظاهره؟ وغير ذلك من المقاربات والأقوال.

في الوقت الذي لم تذكر فيه مفردة تفسير في القرآن الكريم إلا مرة واحدة منسوبة إلى الله جل وعلا؛ وردت مفردة تأويل مرات عدة مقرونة في سورة الكهف بالفعل الإنساني في شخص العبد الصالح؛ ومقرونة بنبي الله يوسف ومقرونة كذلك بما ينبغي أن يكون عليه حال الناس في اقترابهم من مال اليتيم وغير ذلك؛ وهذا يعني أن موضوع التأويل موضوع يتصل بالناس في نظرتهم إلى الحياة والوجود.

ولا شك أن المعرفة الإسلامية اليوم في أمس الحاجة لربط موضوع التأويل ومداراته بالمعرفة التأويلية المعاصرة؛ وتجاوز المعضلات الكلامية التي صاحبت المتكلمين والمفسرين وغيرهم في نظرتهم وتصوراتهم للموضوع.

[1]- خصصت الباحثة المغربية، فريدة زمرد، لهذا الموضوع دراسة اصطلاحية شاملة، تحت عنوان: «مفهوم التأويل في القرآن الكريم، دراسة مصطلحية»، وقد خلصت بأن «التأويل في الاصطلاح القرآني: هو ما يصير إليه القول أو الفعل من عاقبة وتحقق في عالمي الغيب أو الشهادة».

[2]- أبو الحسن علي بن محمد الماوردي، تفسير النكت والعيون، تحقيق السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ج.1 ص 369-371 (بتصرف).

[3]- الطبري، محمد بن جرير أبو جعفر (- 310هـ)، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 2000م؛ ج.6، ص 180

[4]- شهاب الدين الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (-1270هـ) تحقيق علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط.1، 1415 هـ؛ ج.2، ص 80

[5]- محمد بن علي الشوكاني اليمني (-1250هـ)، فتح القدير، دار ابن كثير - دار الكلم الطيب، دمشق – بيروت، ط.1، 1414 هـ، ج.1، ص 360

[6]- قال تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾ (النجم 53: 11-18).

[7]- قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾ (الإسراء 17: 36). قال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾(الأعراف 7: 179).

[8]- قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)﴾(البقرة 2: 8-16).

[9]- قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (الحجرات 49: 13).

[10]- اُنظر: صابر مولاي أحمد، منهج التصديق والهيمنة: سورة البقرة نموذجا، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، ط.1، 2017

[11]- قال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود 11: 1).

[12]- قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الزمر 39: 23).

[13]- قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)﴾ (البقرة 2: 67-74).

[14]- محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، ط1، دار الهادي، 2003م، ص 113 (بتصرف).

[15]- المرجع نفسه، ص 86 (بتصرف).