التراث والاختلاف: قراءة في كتاب (هيدجر ضد هيجل) لعبد السلام بن عبد العالي


فئة :  قراءات في كتب

التراث والاختلاف: قراءة في كتاب (هيدجر ضد هيجل) لعبد السلام بن عبد العالي

التراث والاختلاف

قراءة في كتاب (هيدجر ضد هيجل) لعبد السلام بن عبد العالي


يمتلئ واقعنا العربي، منذ عقود، بصراعات فكرية عن التراث والمعاصرة، حتى إنّ هذه القضية تبدو قضية مصيرية بالنسبة إلى بعضهم، فيعلّقون عليها آمال التقدّم، أو العودة إلى الـ "نحن" الأصلي المتعالي فوق التاريخ، الأمر الذي يدفع الكثير من الكتّاب إلى السير في الاتجاه نفسه، وهو الأمر نفسه، الذي يدور حوله الكتاب المتميّز للدكتور عبد السلام بن عبد العالي، الصادر عن دار التنوير اللبنانية، الذي يقدّم لنا محاورة من أهمّ سجالات الفلسفة على مرِّ تاريخها. وهي تهمّنا، وتمسّ واقعنا، من حيث إنّها جزء مهم من تاريخ سعي الإنسانية وراء الحقيقة وآلياتها، ونظراً إلى علاقتنا المرتهنة، إلى حدّ كبير، بالتراث، وعلاقة واقعنا الماسّة بقضايا التحديث.

إنّ أهميّة هيجل تنبع من أنّ أوّلَ مفكر تحقّق لديه وعيٌ واضح بالروابط العميقة بين الأحداث الكبرى المُدشّنة للحداثة، واستشعر جدّتها الكلّية بالقياس إلى ما سبقها، وفطِنَ إلى الدلالة الفلسفية المشتركة بين أحداث متناثرة ومتنافرة، هو هيجل؛ فالحداثة -كما يقول هابرماس- لم تعِ ذاتها فلسفياً، وبشكل صريح وواضح، إلا مع هيجل؛ إنّه فيلسوف النهاية القارّة، الذي قال إنّ "الفلسفة هي العالم مقلوباً" فالعالم، عنده، هو التصوّرات معكوسة في المرآة. إنّ الفلسفة، عنده، مرآة الطبيعة، كما يقول يصفها ريتشارد رورتيومن. وهنا، أيضاً، تأتي أهميّة هيدجر، إنّ هيدجر هو الفيلسوف، الذي حوّل السؤال عن ماهية الحقيقة، إلى السؤال عن حقيقة الماهية، هو الذي أبدى الأهمية القصوى للواقع، الذي جئنا، مبكراً، إلى العيش مباشرةً في رحابه -كما يقول هو- بعيداً عن آلهة التصوّرات المنعكسة على العالم، التي قرّر أنّنا، في الوقت نفسه، جئنا متأخرين عن الوقوع في أسرها.

يبدأ خيط مسألة التراث، في الفكر الهيجلي، من تصوّر هيجل عن الزمان؛ من "التحديد الهيجلي، الذي يكون فيه الزمان صيرورةً يفصل فيها حاضرٌ متحرّك الماضي عن المستقبل"[1]، فالتراث، في هذه الحالة، هو التراث في الحسّ المشترك، هو جزء من الماضي الزمني الفيزيائي، الذي غاب وانسحق لصالح ثنائية التراث والمعاصرة، فيكون التخلّي عن التراث، كأيّ شيء عادي نتصوّر أنّه في أيدينا، فنتصوّر، من ثمّ، أنّه بالإمكان أن نقرّر أن نستبقي عليه، أو نتخلى عنه. إنّ الفلسفة، في هذه الحالة، هي فلسفة الحضور في الحالي المستمرّ؛ حضور الكائن المتماسك ذي الحقيقة الثابتة التي لا يغيرها إلا تطوّر الحاضر، الذي يفصله عن ماضيه، ويتدافع معه إلى المستقبل.

إنّ الفكرة الرئيسة، في الكتاب، تدور حول نقاش هيدجر مع أفكار من سبقوه عن الزمان والتاريخ، ولا سيّما مع هيجل، إنّ هيدجر يرى أنّ الإنسان يُقذف إلى واقع لم يشارك في بنائه، إنّه يمتلئ ببنى لم يشارك في صنعها، منها اللغة التي صنعتها عجلة التراث والماضي، الذي مازال يحضر باستمرار. إنّ الزمن، عند هيدجر، سلسلة من الامتدادات من الماضي إلى الحاضر. إنّ الماضي لا يكفّ عن الحضور في الحاضر، ويكوّنه، ويعدّله. إنّ الحاضر يُبنى في كنف الماضي، وبشروطه، وأدواته، وقواعده. "هيدجر، على العكس من ذلك، ينظر إلى التراث على أنّه ما ينفك يمضي، وإلى الحاضر على أنّه ما يفتأ يحضر. بهذا المعنى لا يكون التراث وراءنا، ونحن لا نكون على مسافة قريبة ولا بعيدة من أصولنا الفكرية؛ بل إنّ هذه الأصول تكون معاصرة لنا. ومن هذا المنظور، ينهار التقابل بين التراث والمعاصرة"[2].

يتعلّق الأمر، إذاً، بالنظر إلى التراث خارج فلسفة الحضور، وبعيداً عن مفهوم الأصل، مثل اللاشعور الفرويدي لأنماط الزمان، يتعلّق الأمر بتصدّع الكائن، وخلخلة كلّ تطابق، وتعديد كلّ وحدة. هذا التصدّع لمفهوم الكائن لابدّ من أن يتعارض مع مسألة التراث؛ ذلك أنّ هذه المسألة ارتبطت دوماً بالبحث عن التأثيرات والاستمرارات، عن الاستقرار والدوام؛ دوام الأرض التي نحيا عليها، واللغة التي نتكلّمها، والمدينة التي نعيش فيها، والفكرة التي نعتقد حقيقتها، فنحن، إذ نعتقد بأنّ حاضرنا يستند إلى ضرورات قارّة، ومقاصد عميقة، نلجأ إلى التراث لإثبات الوهم بالخلود، وإثبات الـ نحن، وحفظه.

غير أنّ ما يجب أن نؤكّده أنّ هذه الأسُس والأصول الثابتة لا تتيح لنا فرصة الاختيار، ولا تعرض نفسها علينا، إنها تخفي نفسها، وتغلّفها، فالتراث لا يُوجد وجوداً تاريخياً، وهو ليس محفوظاً بين دفات الكتب، إنّه "موشوم على جسم الشعب"[3]، عالق بآذانه، منقوش على جدرانه، حال في لغته، مكبوت في لاوعيه.

إنّ الكاتب ينبهنا، هنا، بعرضه هذا السجال الفكري المهم، الذي أثّر أيّما تأثُّر في تاريخ الأفكار؛ بل حتى في طريقة الترميز على الحقيقة نفسها، ينبهنا إلى حتميّة خلخلة تلك المركزية حول التراث والمعاصرة، يجب أن نعيد النظر في المسائل، التي رسخها تاريخ الميتافيزيقا في ذاكرتنا الثقافية، مثل مسائل الهوية، والتاريخ، والذات، والآخر، التي تتضمنها ثنايا الحوار الفكري العظيم بين هيجل وهيدجر.


[1] الكتاب، ص 13

[2] نفسه.

[3] الكتاب، ص 15