عرض كتاب: "الإسلام والمجتمع المفتوح، الإخلاص والحركة في فكر محمد إقبال" لسلميان بشير ديان


فئة :  قراءات في كتب

عرض كتاب: "الإسلام والمجتمع المفتوح، الإخلاص والحركة في فكر محمد إقبال" لسلميان بشير ديان

عرض كتاب: "الإسلام والمجتمع المفتوح، الإخلاص والحركة في فكر محمد إقبال" لسلميان بشير ديان[1]

ترجمة: السيد ولد أباه، دار جداول، فبراير 2011


لقد نجح هذا الكتاب الصغير في المهمة الصعبة، المتمثلة في تقديم فكر إقبال في وجهه الراهن، بكشف اللثام مجدداً عن التوترات الأصلية التي أراد هذا الفكر حلها، بين الإعلاء من شأن الإنسان والانفتاح على الله، وبين الإخلاص والحركة، وبين الفلسفة ومعنى الواقع، وبين الكونية والانتماء، بل إن بشير نجح فيما هو أفضل من ذلك؛ فباستثمار هذا الفكر في إطار اهتمامات اليوم، استأنف الاتجاه الأساس لمقاربة إقبال، فقرب بين أصوات شديدة التباعد عبر القرون والثقافات، إلى حد أنها أصبحت قادرة على أن تتحدث فيما بينها. وإنها لنعمة كبرى، لأن لهذه الأصوات الكثير مما تقوله بعضها لبعض، ولهذا السبب نعبر عن امتناننا العميق لبشير سليمان ديان. هكذا يصف الفيسلوف الكندي تشارلز تايلور، في المقدمة التي وضعها للكتاب، فكر إقبال ومحاولة ديان في كتابته. ففي رأيه ليس إقبال هذا التلفيقي الحداثي الذي اعتدنا رؤيته في ما ظهر من حداثات سماها عابرة، "إنه صوت إنسان تجاوز كل تقوقع على الهوية"، وهو مع ذلك مازال وفياً لأصوله، وما كان أبدًا من الصنف الذي يحاول أن يوفق تقليد عريق مع موضة يوم واحد، بل كان من الصنف الكوني الذي لم ينقطع عن أصله، والذي تلتقي فيه روافد من أكابر مفكري الإنسانية؛ نيتشه وبرجسون، والحلاج والرومي، في هذا الصوت الكوني الذي لم يقدر يومًا حق قدره.

إقبال راهنًا:

يقدم إقبال نفسه على أنه بذرة سابقة لأوانها، لم تلقَ الأذن في النمو بعدُ، وأن صيحته ربما تلقى صداها في وقت آخر، يلتقطها غيره، "إنني صوت شاعر الغد"، يقول إقبال: هذا ما يجعل من إقبال مميزاً، والفيلسوف الذي تصفه إيفا مايرفوفيتش المستشرقة الفرنسية التي اهتدت للإسلام على ضوء أفكاره، أنه "أهم فيلسوف معاصر في شبه القارة الهندية"، وتعد فكره مصدر الإلهام بالنسبة لمئات الآلاف من الأشخاص حول العالم، فيلسوف يقدم نفسه سلمًا لتصعد عليه، مشعلًا تضيء به طريقك لذاتك، فيلسوفًا يهدم كل الهويات العرقية، يدعو الناس ليصلوا لذواتهم، وألا ينسوا أصولهم في الوقت نفسه.

فيلسوف الذاتية:

يعيد محمد إقبال إنتاج التجارب الصوفية بشكل جديد، شكل يسهم في تأسيس تصوف "البقاء" لا الفناء، وهو بالتأكيد امتداد لمدرسة العارف الكبير جلال الدين الرومي، الذي يشكل الجزء الأكبر من بنائه الفكري، المدرسة التي تسعى للتأكيد على الذات الإنسانية إزاء الله، عن طريق منحها حرية ميتافيزيقية، وحرية أنطولوجية أيضًا إزاء هويتها، أو هويات الآخرين.

يؤول إقبال تجارب الصوفية ناقدًا التأويلات السلبية التي وصفت بها، خاصة مع الانحدار الدلالي في العصر الحديث لمصطلح "صوفية" عامة، ومصطلحات، مثل "وحدة الوجود"، يقول إقبال: "لا تكمن تجربة الاتحاد لدى أكابر متصوفة الإسلام في انمحاء الذات المتناهية بإذابة هويتها في الأنا غير المتناهية، بل إن اللا متناهي يجتاز إلى وصال المتناهي بكل شوق"، إن التجربة الصوفية لدى إقبال هي تجربة الأنا الإنساني المستقل إزاء الأنا المطلق اللا متناهي الذي هو الله، التجربة التي يترتب عليها إثبات الوجود الإنساني، لا طمسه كما في طلب الفناء عند الصوفية، والذي محق الأنا المتناهي في الأنا المطلق، فعندما يقول الحلاج مثلاً، "أنا الحق" لا يمكن أن تفسر، كما يقول إقبال، على أنها قطرة ماء تفترض جدلاً أنها الحق، ولكن هي تعني عنده، أنا الحقيقة، أن أنايَ هي الله كما يقول ماسينوين في ترجمته للعبارة.

إن الأنا عند إقبال ليست أنا ثابتة، كما أن الأنا المطلقة ليست عنصرًا كونيًا، وصفت بالنور، ويلتبس مفهومها على الأذهان، إن الأنا الإنساني عنده في حالة خلق مستمر، يقول ديان موضحًا: "وحركة الفكر لا تصبح ممكنة إلا بسبب حضور اللا متناهي حضورًا ضمنيًا في ذات متناهية"، والتي عبّر القرآن عنها بالزيادة في الخلق؛ فالعلاقة بين المتناهي واللا متناهي، هي علاقة حضور دائم، تقف فيه الأنا الإنسانية موقفًا مستقرًا، ويتجلى في الوقت نفسه المطلق كما ترى ذرة غبار نفسها في ضوء الشمس.

فالذي يميز فلسفة إقبال كما يرى ديان عن الفلسفات الملتقطة من الأفلاطونية المحدثة، والذي يميزه عن فيلسوف أرسطي، مثل ابن رشد لا يثبت إمكان الخلود إلا للعقل الفاعل، هو إثباته للأنا الإنسانيه المستقلة، و"أن العالم شيء واقعي، وأن الروح الإنساني كيان فردي متميز" يقول ديان في ذلك:

"يعلن إقبال بوضوح أن الهدف الأعلى للأنا الإنساني ليس هو الاستغراق في التأمل، ليس مشاهدة شيء ما، وإنما أن يكون شيئًا ما". على أنه يقول: "وجدنا أن الفرد الكامل لا يمكن أن يتصور نفسه إلا بصفته الفرد الذي لم تبق فيه ذرة نزوع "عدائي" للخروج من الذات، وبما أن هذا الفرد كامل، فإنه بالضرورة (متفرد بنفسه مثل الأنا، لا كفؤ له)"، إلا أن علاقة اللا متناهي تظل فيما تحوزه من معرفة، وما تفعله من تأثير، مرتبطة باللا متناهي ارتباط وثيق، يقول ديان: "إن فلسفة إقبال تنزع إجمالاً إلى تجاوز فكرة الخلق الخارج عن خالقه والنظر إلى الفاعلية المبدعة للذات العليا بصفتها فعلاً مستمرًا ضمن حاضر أزلي"، فهم يتحرك في العالم والموجودات حاملاً المطلق داخله، والمفهوم الذي تأثر فيه إقبال مفهوم برجسون عن الديمومة، فهو يشارك بحريته في صناعة الفعل الإلهي، والتي سماها ديان "كوسمولوجيا الظهور لدى إقبال"، حيث إن "العالم ليس إشكالية متناهية حسب عبارة جاستون برجييه".

في الحركة والمجتمع والحداثة:

هذه الأفكار الرئيسة التي على أساسها يكوّن إقبال مفهومه عن الحركة والقدر والزمن والصلاة والإخلاص والاجتهاد التي يتناولها سليمان بشير ديان بالتحليل والشرح باستفاضة بعد ذلك، والتي تتضح أكثر فأكثر على ضوء أفكاره الرئيسة عن الذاتية، والتي تنبني عليها فكرة الحركة الفردية وبناء المجتمع عند إقبال، لكن الإشكالية الكبرى بخصوص إقبال هي موقفه من استقلال باكستان عن الهند فيما سمي بثورة باكستان التي قادها محمد علي جناح، والتي يقال أنه ندم على تشجيعها في آخر حياته، وأياً ما كان، فإن "الدول تولد في قلوب الشعراء، فتزدهر، ثم تموت في أيدي السياسيين"، إلا أن ما يبقى من إقبال هو اتجاهه التحديثي والاجتهادي الذي يخلص الإسلام من التعصبات والقوميات ويحافظ على روحانيته وسماويته في الوقت نفسه. الأمر الذي أفرد له ديان فصلاً أخيرًا عن رؤيته للحداثة التي يقدمها إقبال.

هذا العمل الذي بين أيدينا، هو ترجمة لرؤية فيلسوف عظيم بعين فيلسوف كبير آخر، يفتح أعيننا على رؤية مغايرة، وتجربة تاريخية، لا لننحاز لها ونتمترس حولها، ولكن ربما ليتحقق أمل إقبال نفسه في أن يردد صوته شاعر الغد، الذي يقف على كتفي هذا الفيلسوف العظيم واصلاً بالمسلمين بين السماء والأرض.


[1]- فيلسوف سنغالي من مواليد 1954، درس في السوربون على يد ألتوسير ودريدا، وكان من أنبغ تلامذتهما، يدرس حاليًا في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، وتخصص في فلسفة الرياضيات والمنطق، مع اهتمام واسع بالفلسفة الإسلامية، من أهم كتبه منطق الفلاسفة، وكيف نتفلسف في الإسلام، واختارته مجلة "لونوفيل أوبرسرفاتور " الفرنسية عام 2004 من بين أهم 25 مفكرًا عالميًا .