اَلتَّشْبِيهُ الْبِدَائِيُ فِي الْعِلْمِ
فئة : ترجمات
اَلتَّشْبِيهُ الْبِدَائِيُ فِي الْعِلْمِ
تقديم:
إنَّ الدُّودةَ العالقةَ وسطَ التُّفاحةِ، لا تَحْملُ فكرةً عن العالَمِ برُمته سوى أنَّه تُفاحةٌ، والذين ولدوا داخل الكهف، ووجدوا أنفسَهم مقيدين بالمحسوسات المحيطة بهم، لم يكن العالم بما فيه، في نظرهم، سوى أنَّه كهف، والأميرُ الَّذي لم يرَ في حياته سوى حيوان واحد هو الفأر، ولمَّا حدثوه عن حجم حيوانٍ أضخم، فقال لهم: هل ضخامته تعادل ضخامة الفأر... فهذه الأمثلة، ونظيراتها، تدلُّ على قصور في النَّظر، وعلى ضيقِ في أفُق التَّفكير. كذلك، نتجهُ أحيانا، من شدةِ ضيقِ أفُقنا في التَّفكير، إلى إسقاطِ معرفتنا الرَّاهنة المُتعلقةِ بيئتنا المَحدودة في المكان والزَّمان على الكونِ بأسره، بما لهذا الكونِ من عَظمة، ورَحابةٍ، واتساعٍ؛ فمن خلال قُربنا من أنفسنا، ومن محيطنا، ومن خلال تكوين مجموعة من المفاهيم حولَ صفاتِنا البشرية، فإنَّنا نُعمِّم هذه المفاهيم على العالمِ برُمَته، ونُسقطُها عليه، حتَّى ليبدو عالماً ينبضُ كلّه بالحياةِ مثلنا. ويُخيَّل إلينا أحيانا، نحن البشرُ، أنَّ العالمَ خُلقَ من أجلنا، وسُخِّر ما فيه لخدمتنا، ممَّا يجعلنا ننظر إلى إيِّ شيء فيه من منظور غائيٍّ ضيق. فهذه هي المركزية البشرية الغائية، وذلك هو التَّشبيهُ البدائيُّ، مع قصور النَّظر، وضيقِ الأفقِ الَّذي يعتريه. لكن، هل العلمُ في منأى عن استعمالِ هذا التَّشبيه البدائي وتلك الغائية؟ وهل سقطَ العلماءُ عبر التَّاريخ في ضيقِ الأفق هذا؟ وكيفَ يمكن للعلم تفادي التَّشبيه البدائي ضيق الأفق، وتعويضه بتشبيهٍ مَتسعِ ورحبِ الأفق؟ وبعبارة أخرى، كيفَ يمكنُ تحويل التَّشبيه البدائيِّ من النَّظرة السَّطحية والضَّيقة والملموسة للعالمِ إلى نظرة علمية وأكثر رحابة وأكثر تجريدا؟ وهل قصور النظر، وضيق الأفق في العلم يتسعُ شيئاً فشيئاً من خلال التَّقدم التاريخي للعلم؟ وما علاقة العلماء المُحدَثين بالقدماء؟ كيف ينظرون إلى التَّشبيهات البدائية الَّتي استعملها أسلافهم؟ هل تجريد المفاهيم التي تتضمن التشبيه البدائي يجعلها أكثر علمية وأقل خرافية؟ وهل الصياغة الرياضية للمفاهيم قادرة على نزع الطابع التشبيهي البدائي عنها؟ وما دور الخيال في العلم؟
قبل تقديم ترجمة هذه المقالة التي تتضمن الإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد من الوقوف عند المصطلح المركزي فيها، وهو التَّشبيه البدائي anthropomorphism، وبيان العلاقات الَّتي تربطه بمجموعة من الاصطلاحات، وعلى رأسها مصطلح الأرواحية، ومصطلح الشَّخصنة، ومصطلح الأنْسنة، ومصطلح التَّجسيم في التَّصور الديني.
يرجعُ لفظُ anthropomorphism إلى اللَّفظ اللاتيني anthropomorphus، الَّذي يرجعُ في الأصل إلى اللَّفظ اليوناني anthrōpomorphos، وهو لفظُ مركبٌ تركيباً مزجيًّا من كلمتين: anthrōp، تعني "كائن بشري"، وmorphos، الَّتي تعني "اتخذ صورة"، وبذلك، يدلُ حرفيًّا على "ما اتخذ صورة كائن بشري". هذا من حيثُ الأصلُ اللُّغوي، أمَّا من حيثُ الاصطلاحُ، فهو: "تأويلُ ما ليسَ ببشريٍّ وشخصيٍّ من خلال خصائص بشرية وشخصية، ويرادفُه لفظُ الأنْسنة".[1] وإن شئتَ قلتَ: هو إسنادُ خصائص أو سلوكات بشرية لِمَا ليسَ ببشر، سواء كانَ ذلك الإسنادُ للظواهر الطَّبيعية، أو للأشياء الجامدة، أو للكائنات الحية غير عاقلة، أو للآلهة.
لقد ارتبطَ التَّشبيهُ البدائيُّ، على الغالب، بالشُّعوب القديمة، الَّتي كانتِ تُسقطُ مشاعرَها وأحاسيسها على الظَّواهر الطَّبيعية: فبما أنَّ الإنسانَ يغضبُ ويفرحُ، ويمنحُ ويمنعُ، ويعفو وينتقمُ، فكذلك الطَّبيعة تفعلُ في نظرهم. وقد افترضَ الإنسانُ القديمُ، من ضمن ما افترضَه، أنَّ العالمَ مسكونٌ بأرواحٍ شريرةٍ اعتبرها هي المسؤولة، في نظره، عن كلِّ ما يلحقُه من أضرارٍ أو يأتيه من مسرات. لذلك كان يقدِّسُها، ويقدِّمُ لها القرابين ويستجديها ليكسبَ رضاها من جهة، ويتجنبُ غضبَها وانتقامَها وعقابَها من جهة ثانية، وقد عد بعضها شريرة، وأخرى خيِّرة، فاحتمى بالخيرة ليتقي غضب الشريرة. حينئذ نشأ عنده مفهوم الخير في كل ما ينفعه، ويحقق مطالبه؛ ومفهوم الشر في كل ما يضره ويؤديه. وهذا يُسمَّى بالأرواحية animism؛ أي التَّصور الَّذي ملأ العالم أرواحا، وقد تطور هذا التَّصور ليستبدل الإنسانُ الأرواحَ بالآلهة في الأديانِ الوضعية، وبالله في الأديانِ السَّماوية.
يبدو من خلال هذا التَّصور أنَّ التَّشبيهَ البدائيَّ ارتبطَ في أولِ الأمر بالأساطيرِ في كلِّ الثَّقافات. لكنَّه انتقل إلى الدِّين، وأصبحَ معناه التَّجسيم، ومفادُه "إسنادُ صفاتٍ بشريةٍ، أو عقليةٍ، أو ماديةٍ للآلهة". ومن هذا المنطق، فإذا كانَ التَّشبيهُ البدائيُّ في الدِّينِ هو التَّجسيمُ والتَّشبيهُ، فإنَّ ما يُضادهُ هو التَّنزيه Exoneration، أي تنزيه الآلهة عنِ الاتصافِ بصفاتٍ بشريةٍ، وما يقابلُه هو التَّأليهُ Deification، أي وصفُ البشرِ بصفاتٍ إلهيةٍ، وكلٌّ من التَّجسيم والتَّأليه مجتمعانِ في المَسيحية: فالله مُجسَّدٌ في المسيح، وهذا هو التَّجسيم؛ والمسيحُ عيسى، الَّذي هو بشرٌ مثلُنا، يُدعى الرَّب، وهذا هو التَّأليه، ونجد نفس التصور عند بعض غلاة الشيعة. إن أول من نادى بتنزيه الآلهةِ عن الاتصافِ بالصِّفات الماديةِ، وعن الخصائصِ البَشرية هو الشَّاعرُ اليوناني اكزينوفان (560-478 ق.م)، ومن بعده أفلاطون في "الجمهورية"، وديكارت في كتاب "الفلسفة الأولى"، ونجد التنزيه عند الجهمية والمعتزلة، وعند بعض الأشاعرة، ونجد التأليه عند المتصوفة مثل الحلاج، وابن عربي، وغيرهما، ونجد التَّجسيم والتَّشبيه عند بعض الإسلاميين، وعلى رأسهم مقاتل بن سليمان، وأبو علي الفارسي، وابن تيمية، والظاهرية... ويمكن القول إنَّه خارج التَّصور الجهمي والمعتزلي لا يوجدُ تنزيهٌ، وإن حصلَ، فهو تنزيهٌ مقنع، أيْ تنزيهُ في ظاهره، وتجسيم في باطنه؛ فعلى الرغم من أن الجهمية والمعتزلة وصفوا بمعطلة الصفات، بمعنى أنهم نفوا صفات أثبتها الله لنفسه في القرآن، فإن غرضهم ليس هو التعطيل، وإنما غرضهم هو التنزيه، امتثالا لقوله:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.[2]
يرتبطُ التَّشبيهُ البدائيِّ كذلك بمفهوم الشَّخصنة (أي رد الشَّيء شخصا) personnification، والتي غالبا ما نجدها في اللُّغة العادية،[3] وفي اللُّغة الشِّعرية؛ غير أنَّ الشخصنة عادة ما تفيدُ "إعطاء ومنح صفات بشرية لشيء ليس ببشري"، بينما التَّشبيه البدائي يفيد "النظر إلى الكائنات والأشياء والآلهة على أنَّ لها مظهرا أو سلوكًا بشريًّا"، فإذا تخيَّل الأديب حيوانا أو شيئا وأضفى عليهما صفات بشرية، فهذا يعتبر شخصنة، وإذا اعتقدنا أنَّ الأشياء أو الكائنات أو الآلهة تتصرفُ على نحو بشري، فهذا يعد تشبيها بدائياً، ثم إنَّ التَّشبيه البدائي يرتبطُ كذلك بمفهوم المحاكاة imitation، الَّذي لا يسقطُ فيه الإنسانُ صفاتِه البشرية على الطَّبيعة، وإنَّما يحاكي هو نفسه الطَّبيعة، ونجد المُحاكاة في الفن، لمَّا يرسمُ الفنانُ منظراً طبيعياً، أو ينحتُ النَّحاةُ هيئة بشرية... ونجده في اللغة، لمَّا يردُ الفلاسفة أصولَ اللُّغة إلى تقليد أصواتِ الظَّواهر، أو تسمية الحيوانات أو الظَّواهر الطَّبيعية بأصواتها...ونجدُه في الصِّناعة، والتَّقنية لمَّا يحاكي المهندسون الطَّبيعة بصنع الطَّائرة على شاكلةِ الطَّائر، وبصنعِ الحوامة على شاكلةِ اليعسوب، وبصنع الغواصة على شاكلة الحُوت الكبير، وبصنع الحاسوب على شاكلة العقل البشري... وإذا كانَ الإنسانُ يتصف بضيقِ الأفقِ الفكري في استعمال التَّشبيه البدائي، فإنَّه يصبحُ صانعاً مُبدعًا بمحاكاةِ الطَّبيعة.
المقالة المترجمة:
[1] التَّشبيهُ البدائيُّ نزوعٌ متأصلٌ في الجِنس البشريِّ، غرضُه إسقاطُ الصِّفاتِ البشرية على الظَّواهر الطَّبيعية، سواءٌ حصل ذلك بوعيٍ أو بغير وعي. وأهمُّ صور التَّشبيه البدائي تتجلى في الأرواحية، الَّتي ترى روحًا حالة في كلِّ شيءٍ موجودٍ في الطَّبيعة. وقبلَ الخوض في الحديث عن دور التَّشبيه البدائيِّ في تاريخ العلم، سنتناولُ بعض الجوانب المنطقية المُهمة، والَّتي عادةً ما يتمُ إهمالُ الحديث عنها.
[2] يتجلى الجانب الأول في أنَّه لمَّا نماثل الطَّبيعة بالبشر، ونفترض أنَّنا نعرف البشر؛ فهذا يعني أنَّنا نماثل صفات بشرية معلومة بصفات طبيعية مجهولة. لكنَّنا لا نعرفُ الكائنات البشرية، وإنَّ ما نفترضُ أنَّه بشريٌّ فيها نقرأه في الطَّبيعة. وقد يتخذُ التَّماثل بينهما منطقا معكوساً: فإذا كانت للعصي والأحجار روحًا، فإنَّ الكائنات البشرية قد لا تمتلك أرواحًا. إنَّ السؤال: "هل للأرواح البشرية وجود؟" يمكن أنْ نتركه مُعلقاً، ونواصلُ الحديث عن الأرواحية، على اعتبار أنَّها قائمةٌ على مماثلة، ليست بين صفات بشرية معلومة وصفات طبيعية مجهولة، وإنَّما هي قائمة على مماثلة بين صفات بشرية مُفترضة وصفات غير بشرية.
[3] إنَّ الخاصية الثانية للتشبيه البدائي الَّتي تحتاجُ إلى اهتمام نقدي تتجلى في "المُغالطة الأصلية". فلمَّا نفترضُ افتراضًا تشبيهًا بدائيا، فإنَّ هذا الافتراض قد يكونُ صادقا أو يكون كاذبا؛ ويكون إثباتُه ليس قاطعًا، كما أنَّ الإشارة إلى أصول أيِّ فكرة لا يعدّ نقدًا. من المعلوم أنَّ بعض الافتراضات التَّشبيهية البدائية كاذبة، ولكن ليس لمجرد كونها كذلك؛ إذ إنَّ افتراضات أخرى، من قبيل أنَّ الحيوانات تتصرف كالبشر في بعض الوجوه، قد تكونُ بالفعل تشبيهية، ومع ذلك تكون صادقة. وعلى الرَّغم من ذلك، فإنَّه يُفترض عمومًا أنَّه لمَّا نفترض افتراضًا تشبيهيًا بدائيًّا، فمن غير المرجح أنْ يكون صادقاً. ومع ذلك، قد يستند هذا إلى حالة عامة جدا؛ إذ من غير المرجح أنْ يكون أيُّ تخمين - سواء كانَ قائمًا على التَّمثيل أم لا - صادقا لمجرد كونه تخمينًا. فإذا أردنا أنْ تكونَ تخميناتُنا أكثر ترجيحًا من الخيالات الجامحة، فقد نقترحُ نظرية تتعلقُ بزيادة احتمالية التخمينات القبلية. ولكن، قد تكونُ هذه النظرية كاذبة أيضًا. لذلك، علينا، على الأقل في الوقت الحالي، أنْ نتركَ "هل بالضرورة أن تكون أي افتراضات تشبيهية بدائية صادقة؟" معلقاً. ومع ذلك، قد نقترح، لأسباب مختلفة، أنَّ كل الافتراضات التشبيهية البدائية يُحتمل أن تكون كاذبة على وجه التَّقريب. والسَّبب بسيط للغاية. فبالنظر إلى تاريخ الثقافة، يمكننا أنْ نرى أنَّه كلَّما توغلنا في الماضي، زادَ احتمالُ العثور على تشبيهات بدائية؛ وكلَّما اقتربنا من عصرنا، قلّت هذه التَّشبيهات البدائية. فكما نعلمُ أنَّه كلما توغلنا في الماضي، زاد احتمال العثور على آراء كاذبة، أو على الأقل، آراء نعتبرها كاذبة اليوم. ولهذا السَّبب التَّاريخي، قد نزعمُ أنَّ التشبيهات البدائية، بشكل عام، تكون "مستبعدة". والسُّؤال الَّذي تثيره هذه المقاربة، بطبيعة الحال، هو: "هل يوجد عيبٌ أساسي في التَّشبيه البدائي؟"
[4] هذا يقودنا إلى النقطة الثالثة. إنَّنا نعلم على القطع أنَّ بعض التَّشبيهات قائمة على افتراضات كاذبة (أو على الأقل على آراء غير مقبولة عندنا)، بل إنَّ افتراضًا كاذبا واحدًا قد يُولّد عددًا لا بأس به من التَّمثيلات. إننا نتحدث بازدراء عن التَّمثيلات التشبيهية البدائية التي لا تُشكّل أيَّ مشكلة لنا؛ لأنَّها تقوم على افتراضات غير مقبولة. إنَّ المثال الأبرز على ذلك يتجلى في مركزية الإنسان؛[4] أي الفكرة الَّتي تقول إنَّ الكون خُلق فقط من أجل منفعة الإنسان، وبالتالي يُمكنُ الحكم عليه من منطلق فائدته للإنسان. يُشير أرسطو، على سبيل المثال، في كتابه "الفيزياء" إلى أنَّ ماهية الخشب تتجلى في قابليته للطفو وقابليته للاحتراق، وذلك لسبب واضح، وهو أنَّ أهم وظائف الخشب في العالم القديم تجلت في استعمالِه كمادة لبناء السُّفن، واستعماله كوقود.[5] قد يتساءلُ المرء، لو كان أرسطو لا يزال على قيد الحياة اليوم، لجعل ماهية الخشب تكمنُ في قدرتها على أنْ تصبحَ ورقاً للطباعة. في الواقع، يمكن العثور على انتقاد مماثل لأرسطو في أواخر عصر النهضة وفي القرن السابع عشر؛ فعلى سبيل المثال، نجد في أعمال روبرت بويل،[6] الَّذي اقترح الملاحظة الآتية: إنَّ ماهية الجليد، عند العديد من الناس، تتجلى في أنَّه قابل للذوبان ليتحول إلى ماء، وبالتالي، فهو في ماهيته ماء؛ بينما عند للأطباء، الذين يستعملون الجليد لخفض درجات الحرارة، فإنَّ ماهية الماء تتجلى في أنَّه قابل للتجمد ليتحول إلى جليد.
[5] إنَّ النَّقد الموجه حتى الآن لمركزية الإنسان ليس حاسمًا بالطَّبع. فمن الممكن تمامًا الادعاء بأنَّه على الرغم من خطأ الحكم على الخشب والجليد بناءً على استعمالهما من قبل البشرية في الوقت الحاضر، إلاَّ أنَّه يجب علينا الحكم على ماهية الخشب أو الجليد من وجهة نظر البشرية على مدار التَّاريخ البشري بأكمله. ربما يكونُ من الصَّعب جدًا معرفة كل الاستعمالات الممكنة للخشب أو الجليد للبشرية من بدايتها إلى نهايتها؛ ولكن قد يزعمُ أتباع مركزية الإنسان أنَّ هذا هو ما يجب أنْ يكون عليه العلم، وأنَّ العلم أصعب مما اعتقد أرسطو، لأنَّ المعرفة العلمية تنمو من خلال محاولة اكتشاف استعمال الأشياء الطَّبيعية المُختلفة من قبل البشرية عبر العصور. يبدو الأمر كما لو أنَّ مركزية الإنسان المُعمِّمة هذه مجرد تمرين فكري، ولكن يمكن للمرء أنْ يؤول الأداتية في العلم[7] على أنَّها كذلك. ومع ذلك، سيعترضُ عليه الأداتيون. ومهما يكن، فقد تم اعتبار الحجة القائمة على أنَّ التشبيه كان ضيق الأفق في الماضي دليلاً على أنَّه يجب يكون ضيق الأفق في أيِّ صورة من الصُّور؛ وضيق الأفق يجب رفضه بطبيعة الحال.
[6] نصلُ أخيرًا إلى النُّقطة الرَّابعة والأخيرة حول التَّشبيه البدائي. فقد يُنظر إليه (صوابًا أو خطأً) على أنَّه شكل من أشكال ضيق الأفق الَّذي سمَّاه فرانسيس بيكون "صنما القبيلة والكهف".[8] إن ضيق الأفق هو إسقاطُ معرفتنا الحالية في بيئتنا المحدودة على الكونِ بأسره. إنَّ ضيق الأفق، أيضا، هو الفكرة الَّتي تحملها الدُّودة في التفاحة، وهذه الفكرة هي أنَّ العالم كلُّه تفاحة. قد يُنظر إلى التشبيه البدائي، بطبيعة الحال، على أنَّه شكل من أشكال ضيق الأفق، بمعنى أنَّنا قريبون جدًّا من أنفسنا، ولدينا بعض المفاهيم عن سماتنا البشرية، فنُعمِّمها ونُسقطها على الكون بأسره.
[7] يبدو أننا وصلنا إلى حدّ الإدانة النهائية للتشبيه البدائي. إنَّنا نُشجب كلنا، بطريقة ما، ضيق الأفق، ولدينا شعور بأنَّ العلم، تاريخيًا، يهدفُ إلى تحطيم الحواجز الضَّيقة، ومنحنا رؤيةً أفضل للكون، بدلًا من ترسيخ الآراء الَّتي وُلدنا عليها، أو تلك الآراء الناتجة عن حوادث زمانية ومكانية، وما إلى ذلك. فبقدر ما يُعتبر التَّشبيه البدائي ضيق الأفق تاريخيًّا، أو له جذوره التاريخية في الفلسفة الضيقة، فإنَّ هذه الحقيقة بحد ذاتها لا تدع مجالًا للشك في أنَّه يتعارضُ مع روح العلم، وأنَّه في حد ذاته يُدين نفسه.
[8] ومن جهة أخرى، فلا شك أنَّ للتشبيه البدائي في تاريخ العلم جانبًا مختلفًا تمامًا أو قيمة إيجابية، لا يمكنُ إدانتها باعتبارها ضيقة الأفق وقاصرة النَّظر، ألا وهي الاستعمال البشري للعلم. ولنأخذ أمثلة بسيطة وواضحة عن ذلك، لقد ابتكر العلماءُ أنواعًا عديدة من الآلات الَّتي تحاكي العمليات البشرية. وهذا، جزئيًّا على الأقل، مسألة تقنية ذات أهمية عملية خالصة، أو ذات فائدة، أو ذات قيمة. إنَّنا نرغبُ كلنا في التَّخلص من أكبر قدر ممكن من أعبائنا البشرية دون عقاب؛ ونحاول إلقاءها على الآلات. وهكذا، سيُطبّق المهندسون العلم على تصميم الآلات لأداء أكبر قدر ممكن من الوظائف البشرية بأقصى دقة مُمكنة. قد يُقالُ إن كل هذه التقنية خالية من القيمة الفكرية، لكن هذا صحيح جزئيًا فقط. هناك الكثير مما يمكنُ اكتسابه علميًا من نظريات آليات التحكم و"الآلات المفكرة"، فنحن نريد تجسيد جزء من رؤيتنا في وظائفنا وعمليات تفكيرنا في العمليات الملحوظة للنماذج، وبالتالي صياغة تعميمات بطريقة أكثر علمية وإثارة للاهتمام. يمكن بعد ذلك استعمال ما نتعلمه من هذه النماذج الميكانيكية في البحث العلمي، مثل استعماله في علم الأحياء.
[9] وسواءٌ حاولنا تطبيق معرفتنا بالآلات على البشر، أو تطبيق معرفتنا بالبشر على الآلات، فهناك في كلٍّ منهما فائدة فكرية، بل وحتَّى فائدة فلسفية. يمكننا إعطاء أمثلة على كلتا الحالتين، ونُظهر بذلك وجود تفاعلاتٍ مُعينة بين العلوم الإنسانية والعلوم غير الإنسانية، وبين العلوم والتَّقنيات، وهي تفاعلاتٌ مُحفزةٌ للغاية، ومُوحيةٌ للغاية، ومثمرةٌ فكريًّا للغاية، وبالتالي مُبرَّرة. خذ أمثلةً على تطبيقات المعرفة العلمية المتعلقة بعالم الجمادات على عالم الأحياء، وعلى البشر تحديدًا. لم يدّعِ العلماء في سلسلةٍ من الفرضيات أنَّ العين هي الكاميرا المُظلمة، وأنها كاميرا (عدسية)، وإنما ادعوا أيضًا أنَّ العين كاميرا تلفزيونية من نوعٍ ما. هاتان وجهتا نظر فسيولوجيتين مختلفتين حول وظيفة العينين. كما أنَّنا نحاول عكس ذلك لمَّا نطبقُ النَّظريات التي وُضعت في البداية لتفسير الظَّواهر البشرية على تفسير الظواهر غير البشرية؛ فلا مبرر لرفضِ هذه الفرضيات لمجرد أنَّ أصلها تشبيهي بدائي. فلنأخذ مثالا على ذلك، وهو مثال بسيط ومعروف جدًّا، لقد تأثر تشارلز داروين[9] بالاقتصادي توماس مالثوس.[10] فقد كتب هذا الأخير عن التنافس الاقتصادي، وعن الصراع على الغذاء من أجل الحد من النمو السكاني، وكتب داروين عن أصل الأنواع، وعن البيئة البيولوجية؛ ولم يخطر ببال أحد قط أنْ يلوم داروين لمجرد أنَّه مدين لمالثوس.
[10] ولإعطاء مثال بسيط آخر، ربما يكون أكثر تعقيدًا ولكن له أهمية بالغة في التَّاريخ، فلا يوجدُ ما هو أوضح تشبيهًا من فكرتي التَّجاذب والنُّفور، أو الحب والكراهية. وعلى الرغم من أنَّ إدخال فكرتي الحب والكراهية في الفيزياء قام به الرِّواقيون قديما، واستعمل في العصر الحديث من قِبل ويليام جيلبرت في كتابه "المغناطيسية"، الصادر سنة 1600،[11] ومن قِبل إسحاق نيوتن،[12] فإنَّه ليس أمرًا مُدانًا في حد ذاته. بيد أنَّ هناك شيئًا مثيرًا للاهتمام في التَّطور الإضافي لنظرية الحب والكراهية، أو التجاذب والنفور، في تاريخ الفيزياء. فلما يظهر التجاذب والتنافر معًا في كتاب نيوتن "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية"، الصادر سنة 1687، يُجمعان معا بوصفهما نظرية في القوة، واعتُبرت فكرة القوة نفسها آنذاك ذات طابع روحي شديد. لقد وُجّهت انتقادات إلى نيوتن بسبب أرواحيته وصفاته الخفية الَّتي وصفَ بها الظواهر. ويُصرّ في كتابه "البصريات"، الصَّادر سنة 1704، على أنَّ نظرياته مضبوطة، وليست تفسيرات ارتجالية، ويرجع صدقها، لأنها تُقدّم تنبؤات دقيقة، لذلك لا ينبغي التذمّر منها حتى لو احتاجت إلى مزيد من التَّفسير ليلائمها مع فلسفة ديكارت.
[11] لقد كانت نظرية نيوتن في القوة نظرية تجريدية بالمقارنة مع مفاهيم القوة الَّتي نستعملها عند الحديث عن استعمال القوة لكسر الأبواب المغلقة، وما إلى ذلك، مثل قوة العضلات، وحركاتها، وميلها إلى الفعل. لقد شبَّه ماكسويل،[13] في كتابه "أطروحة في الكهرباء والمغناطيسية"، الصادر سنة 1873، أنابيب القوة عند فاراداي[14] بالعضلات. ومهما كانت أنابيب القوة الَّتي عمل بها فاراداي تجريدية، فإنَّها تتميز بخاصيتين اثنتين: فهي تميل إلى القِصر من جهة، وتميل إلى الاتساع من جهة ثانية، بطريقة تُشبه إلى حد كبير أنبوب العضلة. لذلك، يُمكنُ للمرء أنْ يتسامحَ مع الانتقادات التي وُجّهت للعالم الفيزيائي فاراداي من قِبَل أنصار نيوتن في ذلك العصر، والَّتي تُفيد بأن نظريته كانت تشبيها بدائيا بشكلٍ واضح، وأقل تجريدًا من نظرية نيوتن. لقد أكّد مُؤيدو نيوتن (الذين كانوا مُتسامحين مع فاراداي)، مثل تيندل[15] وهيلمهولتز،[16] على عدم اعتراضهم على استعمال فاراداي لتلك الصُّور الملموسة نظرًا "لنقص مهارته الرياضية": وبالتالي، فإنَّ مَن كانوا أكثر درايةً بالرياضيات من فاراداي، ليسوا مُلزمين باستعمال تشبيهه المُجسّم. ولهذا السَّبب، كان عمل ماكسويل تاريخيًا بالغ الأهمية: فقد ترجم صور فاراداي إلى لغة رياضية؛ لدرجة جعلت حتَّى تيندل نفسه كان مُعجبًا جدًّا بها.
[12] لقد نُشرت مراسلة بين العالم فاراداي والعالم تيندل في المجلة الفلسفية (سنة 1856)، يخاطب فيها تيندل فاراداي بأنَّه لا يستطيعُ أن يتخيّل كيفَ يمكن للمكان الفارغ أن يمتلكَ كل هذه الخصائص الغريبة الَّتي ينسبها إليه، فقد جعله مكانا يعج بالتوترات والانفعالات. فيردّ فاراداي عليه مصرحا بأن سبب فهمه لذلك يرجع إلى افتقاره إلى الخيال، وحاجته إلى حدس أكثر تطورًا.
[13] في تاريخ العلم، قد يتخذ الملموس، الذي ليس في محله، تجليات متعددة. فالمكان قد نملأه بمادة "أثيرية" تنطوي على الضغوطات والتوترات. وقد نقترح أن العالم بسيط؛ لأنَّنا نفضل البساطة، أو نفضل الاقتصاد في الفكر. وقد نقترحُ أنْ يكونَ العلمُ رياضيًا، لأنَّ الواقعَ رياضيُّ، على حد قول غاليليو: "كتاب الطبيعة مكتوب بأحرف هندسية". قد نقترح، كتكهن، أن العالم مؤلف من وحدات مُجزأة مؤلفة من "وقائع ذرية"؛ لأنَّنا نُعبِّر عن معلوماتنا عنه بقضايا مُجزأة. وربما تكونُ نظرية الصُّورة اللُّغوية من أهم مظاهر التَّشبيه البدائي؛ إذ تنسبُ إلى الواقع حدودَ أسلوبنا في تمثله. لقد تبلورَت هذه النَّظرية في القرن العشرين في الأعمالِ الأولى للفيلسوف لودفيغ فيدغنشتاين، في كتابه: "رسالة منطقية فلسفية، الصادر سنة 1922،[17] وقد تبناها أيضًا برتراند راسل[18] لفترة من الزمن.
[14] هل التَّشبيهُ البدائيُّ لايزالُ قائمًا؟ إنَّ أحدَ مظاهرَ التَّشبيه البدائي هو ضيقُ الأفقِ، ومن سماته أنَّ أصحابَه لا يعتبرون أنفسَهم ضيقي الأفق؛ أي إنَّنا نريدُ القولَ إنَّنا لا نعرف أبدًا مدى ضيق أفقنا. ولا نعرفُ إلاَّ مدى ضيق أفقِ أسلافِنا بمقارنتهم بنا. ومن المُحتمل جدًا أنَّنا ما زلنا نتمسكُ بصور مختلفة من التَّشبيه البدائي الَّتي قد سيرفضُها خلفاؤنا إذا ما أرادوا التَّخلصَ من أخطائِنا وحدودنا الضَّيقة.
[15] على الرَّغم من هذا الحذر، يُمكنُ تفسير بعض الوقائع حول التَّطور التاريخي للعلم، وهو يبتعد عن التَّشبيه البدائي. وقد سُجِّلت أمثلة على التَّفاعل بين أفكار العلوم الاجتماعية، والأفكار الموجودة في علمي الأحياء والفيزياء. إنَّ ما يُدينُ التَّشبيه البدائي في الأساس هو ضيق الأفق. والآن، من الصَّعب جدًّا رسمُ خطٍ فاصلٍ واضحٍ بين التَّشبيهات البدائية ضيقةِ الأفق، والتَّشبيهات البدائية الَّتي ليس فيها ضيق الأفق؛ لأنَّ السِّمة الرئيسة للتَّشبيه البدائي هي استعماله لتمثيل الظَّواهر غير البشرية بالظواهر البشرية، وغالبًا ما تكونُ فكرةُ التَّمثيل مبهمة للغاية. لنعد إلى نظرية المكان، الَّتي تعج بالضغوطات والتوترات، وهي نظرية مشتركة بين رؤية العالم الفيزيائي فاراداي ونظرية النِّسبية للعالم الفيزيائي ألبرت إينشتاين. فمن اليسير جدًّا أنْ نقولَ إنَّه مهما كانت فكرة المكان النَّابض بالضُّغوطات والتَّوترات مجردة بالمقارنة مع النظرية المفعمة بالأثير في المكان، فلا يزال هناك تماثل بين المكان الَّذي يصفه إينشتاين وأيُّ قطعة من مادة مرنة مثل المطاط العادي... وبعبارة أخرى، فمهما كانت أفكارنا العلمية مجردة، يمكننا أنْ نرسم تمثيلات بينها وبين أفكار أكثر واقعية، وبالتَّالي يمكننا أنْ ندعي أنَّ أفكارنا دائمًا ما تكون ملموسة ومحدودة بشكل مؤسف، وأنَّنا لا نزالُ منغمسين في بيئة الزمكان الخاصة بنا، ومُنغمسين في شروط محلية طارئة، سواء كانت هذه الشروط فسيولوجية، أو بيولوجية، أو اجتماعية.
[16] على الرُّغم من أنَّنا قد نجد من حين لآخر تمثيلاتٍ مُحفِّزةٍ، ومثيرة للاهتمام، إلا أنَّ جوهر التَّقدم العلمي لا يمكنُ أنْ يقوم على تمثيلات مُعطاة، وإنَّما يقوم على أفكارٍ جديدة، وعلى تجريداتٍ متزايدة. وهذا يُفسِّر الوضعَ الَّذي أُشرت إليه آنفا في هذا النِّقاش: فكلَّما توغلنا، تاريخيا، في الماضي البعيد، رأينا التَّشبيه البدائي في صورٍ أكثر وضوحاً. ثم إنَّ تقدُّم العلم تقدمٌ ينطلق من الأكثر مباشرة، ومن الأكثر ضيقاً، إلى الأكثر تجريداً، وإلى الأكثر عمومية. وهذه الزيادة في العمومية والتَّجريد تصرفا نظرنا عن التَّشبيه البدائي.
[17] إنَّ هذه السِّمةَ، بالتَّحديد، هي الَّتي تُفسر لمَ أصبحت حتَّى آراؤنا عن الطَّبيعة البشرية، سواء أكانت هذه الآراء نفسية، أم أنثروبولوجية، أم اجتماعية، أم اقتصادية أم غيرها، أقلّ تشبيهًا وأكثر تجريدًا. وهناك احتجاجات صاخبة ومألوفة حول جعل العلوم الإنسانية مُجردة لدرجة تصل فيها إلى نزع الصِّفة الإنسانية عنها؛ لذلك يُقال، على سبيل المثال، إنَّ الاقتصاديين شوَّهوا علم الاقتصاد بإبداع ذلك الوحش، الذي هو الإنسان الاقتصادي. ربما تكونُ حقيقة في مثل هذه الادعاءات، لكن هناك موقفٌ مُعادي للآلية، كامنٌ فيها، ويهدف إلى نسف ما يبدو أنَّه يُهددنا. فبمجرد أنْ نُدرك أنَّ التَّشبيه البدائي غالبًا ما يُصوّر المألوفَ والمقبولَ على أنَّه صادق، فإنَّنا نُدرك أنَّه قد يكون مُعترضا عليه حتَّى ولو في العلوم الاجتماعية. ومهما يكن، فمن الصَّعب أنْ نقفَ ضِدَّ التَّشبيه البدائي في العلوم الإنسانية؛ ومن الأفضل أنْ نقفَ ضِدَّ ضيقِ الأفق.
إحالات لصاحب المقالة
للاطلاع على التَّشبيهِ البدائيِّ عند أرسطو، انظر الفصل الثامن من المقالة الثانية في كتاب "الفيزياء"، ترجمة وليام ديڤيد روس، والذي صدر بأكسفورد سنة 1930. إن المرجع الكلاسيكي لنقد التشبيه البدائي يرتبط بمذهب فرنسيس بيكون في الأصنام، الوارد في الجزء الأول من كتاب "الأورغانون الجديد"، في الأمثال من 37 إلى 68، وكذا في نفس الكتاب، المدرج ضمن أعماله الكاملة، والَّتي حققها كل من روبرت ليزلي إليس، وجيمس سبيدينغ، ود. د. هيث في 14 مجلدًا، صدرت بلندن ما بين 1807-1874. إلا أن الجزء الثاني يتميز بالحديث عن التشبيه البدائي بماهيته "الرفيعة" وماهيته "الكثيفة" (راجع كتاب آيروم برنارد كوهين، المشار إليه أدناه). انظر أيضًا الفصل الرابع من كتاب "الأخلاق" لباروخ سبينوزا، وكتابه "رسالة في تصحيح الفهم"، الذي صدر بلندن سنة 1910؛ وانظر كتاب "مقال في الفهم البشري" لجون لوك، الطبعة الخامسة، الصادرة بلندن سنة 1706. توجد إشارات إلى الأرواحية، ومناقشة موقف علماء الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر منها، والإشارة إلى تصور فرنسيس بيكون، في كتاب "نظريات الدين البدائي" لإدوارد إيڤان إيڤانز-بريتشارد، الصادر بأكسفورد سنة 1965؛ وخاصةً المراجع في الفهرس بالنظر إلى مصطلحات: الفن، والروحانية، والطقوس الدينية، ونظرية الأشباح. إن المصدر الكلاسيكي لنقد التشبيه البدائي، ونقد النزعة الضيقة يوجد في اليوم الأول من كتاب "حوار حول أنساق العالم الكبرى" لغاليليو غاليلي، الذي ترجمه توماس سالزبوري، وحرره جيورجيو دو سانتيلانا، صدر بشيكاغو سنة 1953. وبالرغم من ذلك، انظر المناقشة حول المجرد والملموس في اليوم الثاني من نفس الكتاب، وانظر إشارة سانتيلانا إلى كتاب "المحلل" في الصفحة 221، الذي استُوحي منه الاقتباس حول "الخصائص الهندسية". قارن أيضًا بين التجريد عند غاليليو والتجريد عند جيمس كليرك ماكسويل وعند فاراداي في الفقرات 529، و541، و546 وما يليها من كتاب ماكسويل: "رسالة في الكهرباء والمغناطيسية"، الطبعة الثالثة، التي تتألف من مجلدين، والصادرة بأكسفورد سنة 1904؛ وبنيويورك سنة 1954. انظر أيضًا إلى تشبيه ماكسويل لمجالات فاراداي بالعضلات في كتاب: "حول الفعل عن بُعد"، الذي نشره المعهد الملكي لبريطانيا العظمى، في العدد السابع من المنشورات، وأعيد نشره في كتاب "المقالات العلمية"، الذي حققه وليام ديڤيدسون نيفن، وصدرت بكمبريدج سنة 1890؛ وأعيد نشره بنيويورك سنة 1965، انظر الجزء الثاني في الصفحتين 311-323؛ وانظر التمثيل في الصفحتين 320-321. قارن كتاب جون تيندل تحت عنوان "فاراداي مكتشفًا" الذي صدر بلندن سنة 1870 بمقدمة هيلمهولتز للطبعة الألمانية لنفس الكتاب، المترجم في مجلة الطبيعة، المجلد الثاني، صدر سنة 1870. راجع مقالة جوزيف أݣاسي، "التمثيلات كتعميمات"، المنشورة في مجلة فلسفة العلوم، العدد 31، 4، سنة 1964. للاطلاع على مراسلات فاراداي وتيندل، انظر مقالة تيندال التي عنوانها: "حول وجود وسط مغناطيسي في الفضاء"، المنشورة في المجلة الفلسفية، العدد التاسع، سنة 1855، الصفحتان 205-2009؛ ومقالة مايكل فاراداي تحت عنوان: "ملاحظات حول المغناطيسية"، المنشورة في المجلة الفلسفية، الصفحتان 253-255. للاطلاع على مناقشة نيوتن للهجوم على نظريته بوصفها تفترض وجود صفات خفية، انظر الفصل الرابع، والأقسام الأخيرة من الفصل السادس من كتاب "فرانكلين ونيوتن..." لآيروم برنارد كوهين، الصادر بفيلادلفيا سنة 1956. فيما يخص دور اللغة كعائق بين الإنسان والطبيعة، مما يجعل السقوط بقدر ممكن في ضيق الأفق حتميًا، انظر مقالة برتراند راسل "التصوف والمنطق" في كتابه: "التصوف والمنطق"، الصادر بلندن سنة 1910؛ وانظر الفصل الذي عنوانه: "لم تُطبّق حسابات المنطق والحساب على الواقع؟"، وفصل "اللغة ومشكلة الجسد والعقل"، وكلاهما في كتاب "التخمينات والتفنيدات" لكارل پوپر، صدر الكتاب بلندن وبنيويورك سنة 1963. انظر في هذا الصدد كتاب بيكون "الأورغانون الجديد" (المثال التاسع والخمسون، والمثال الستون) حول أصنام السوق؛ وانظر كتاب ماكس بلاك: "النماذج والاستعارات"، الذي أصدرته دار النشر إيثاكا سنة 1962، وانظر مقالته حول "بنيامين لي وورف"، ومقالته حول "النماذج".
جوزيف أݣاسي
*- مصدر المقالة:
Dictionary of the History of Ideas: Studies of Selected Pivotal Ideas, edited by Philip Paul Wiener, NY: Scribner, 1968, 1973, 87-91
تَلْخِيصُ الْمَقَالَةِ وَالتَّعْريفُ بِصَاحِبِهَا
التعريف:
نظرًا إلى غياب سيرة ذاتية بالعربية لكاتب هذه المقالة، وعدم الإشارة إلى إنتاجه الغزير في الموسوعات المعروضة على الإنترنيت باللغة العربية كذلك، آثرنا أنْ نقوم بكتابة نبذة موجزة عنه، قبل تقديم تلخيص مقالته المترجمة.
وُلد جوزيف أݣاسي بالقدس سنة 1927، وهو من اليهود المقيمين بالقدس قبل الغزو الصُّهيوني لفلسطين. وبما أنَّه يهودي فلسطيني، فإنَّه كان معارضا شرسا لحركة الاستيطان الصُّهيونية، وكان معارضا لترحيل يهود العالم إلى فلسطين المحتلة، واعتبر أنَّ الدَّولة الصهيونية (إسرائيل المزعومة) لا تمثل الأمة اليهودية. اهتم أݣاسي بقضايا الفلسفة، وبالمنطق، وبالمنهج العلمي، وبالسياسة، ودرس بشكل مباشر على يد فيلسوف العلم كارل پوپر، وتأثر بفلسفته، ودافع عن الفلسفة العقلانية، واعتبر أنَّ الفلسفة بدون عقلانية لا تعتبر شيئا. درَس ودرَّس أݣاسي بعدة جامعات من بينها: فقد درَس بكلية الاقتصاد بلندن، ودرَّس بجامعة هونغ كونغ، وجامعة إلينوي، وجامعة يورك بكندا... توفي جوزيف أݣاسي في 22 يناير سنة 2023 عن عمر ناهز الخمسة والتسعين عاما تاركا وراءه العديد المؤلفات القيمة، جلها باللغة الإنجليزية: ونذكر منها على سبيل الحصر:
"نحو تاريخية العلم: التاريخ والنظرية"، صدر سنة 1963؛ "الثورة المستمرة: تاريخ الفيزياء من اليونان إلى آينشتاين"، صدر سنة 1968؛ "فاراداي فيلسوف الطبيعة"، صدر سنة 1971؛ "العلم في تدفق"، صدر سنة 1975؛ "نحو أنثروبولوجيا فلسفية عقلانية"، صدر سنة 1977؛ "العلم والمجتمع: دراسات في سوسيولوجيا العلم"، صدر سنة 1981؛ "التقنية: الجوانب الفلسفية والاجتماعية"، صدر سنة 1985؛ "الفن اللطيف للجدالات الفلسفية"، صدر سنة 1988؛ "قرابة الإنسانية: مدخل إلى الفلسفة"، صدر سنة 1991؛ "نظرية الإشعاع والتورة الكوانطية"، صدر سنة 1993؛ "تلميذ الفيلسوف، فلسفة كارل بوبر ونقد العقلانية"، صدر سنة 1993؛ "العلم والثقافة"، صدر سنة 2003؛ "نقد الجمال العقلاني"، صدر سنة 2008، عمل مشترك؛ "العلم وتاريخه"، صدر سنة 2008؛ "فلسفة الشؤون العملية"، صدر سنة 2022؛ "الألعاب التي تلعب، والألعاب التي لا تلعب"، صدر سنة 2023؛ فلسفة التربية، صدر سنة 1979 بالعبرية؛ "ألبرت إنشتاين: الوحدة والاختلاف"، صدر سنة 1989 بالعبرية؛ "فلسفة التقنية"، صدر سنة 1990 بالعبرية؛ "تاريخ الفلسفة الحديثة من بيكون إلى كانط"، صدر سنة 1993 بالعبرية؛ "مدخل إلى الفلسفة الحديثة"، صدر سنة 1996 بالعبرية؛ "سبينوزا: المنهج والمجتمع"، صدر سنة 2000 بالإيطالية؛ "فلسفة الفرد"، صدر سنة 2005 بالإيطالية؛ "ترجمة كتاب كارل بوبر "المجتمع المفتوح وأعداؤه"، صدر سنة 2005
التلخيص:
صدرت هذه المقالة الموجزة سنة 1968، ونشرت في: "معجم تاريخ الأفكار، دراسات لأفكار محورية مختارة"، الذي أشرف على تحريره الفيلسوف الأمريكي فليپ پاول وينر Philip Paul Wiener. حجم المقالة لا يزيد عن خمس صفحات، شملت في آخرها إحالات حول الموضوع في غاية الأهمية. تميزت بأسلوب تقريري، ومنهجي، وتعليمي واضح، وغلب عليها كثرة التلميح بالأمثلة المختارة والدقيقة، وقلة التصريح بكل الأمثلة، وهذا ينسجم مع طبيعتها؛ لأنَّها مقالة مُعرِّفة لمصطلح التشبيه البدائي، ويجب أن تكون موجزة ومفيدة على أكثر قدر المستطاع. ورغم الإيجاز، فإنها تطرح إشكاليات كبرى تتعلق بتاريخ العلم، وبتاريخ تطور الأفكار العلمية. ويمكن عرض مضمونها كالآتي:
يصفُ جوزيف أݣاسي التَّشبيه البدائي، في بداية المقالة، بأنه نزوع متأصل وراسخ عند الإنسان، ويحدده في كونه "إسقاط صفات بشرية على الظَّواهر الطبيعية عن وعي أو غير وعي"، ويستحضر الأرواحية بأنَّها صورة من الصُّور المختلفة للتشبيه البدائي؛ إذ يعتقد أصحابها أنَّ كلَّ شيءٍ في الطَّبيعة فيه روح.
وقبل الحديث عن دور التَّشبيه البدائي في العلم آثر أݣاسي الحديث عن أربعة جوانب منطقية للتشبيه البدائي، يمكن عرضها كالآتي:
الجانب الأول: لما نقوم بتمثيل الطبيعة بأنفسنا، منطلقين من كوننا نعرف أنفسنا، فهذا يعني أننا نماثل صفات بشرية معلومة بصفات طبيعية مجهولة، وهذا هو قياس الغائب (الطبيعة) على الشَّاهد (البشر)، أو الاستدلال بالشَّاهد (البشر) على الغائب (الطَّبيعة). لكن إذا عكسنا هذا الاستدلال، واعتبرناه استدلالا تمثيليا يُشبه إلى حد ما الخُلف، وافترضنا أنَّنا لا نعرفُ أنفسنا، انطلاقا من تركنا للسؤال "هل الأرواح البشرية لها وجود حقيقي؟" معلقا، واعتقدنا أنَّ الطَّبيعة تملك روحا، فهذا يجعلنا نماثل صفات غير بشرية (الطَّبيعة) بصفات مُفترضة (بشرية).
الجانب الثاني: إن التشبيه البدائي مجرد افتراض قد يكون صادقا، وقد يكون كاذبا، إذا لم يمكن إثباته على وجه القطع، فإنه كاذب. إنه مجرد تخمين وظن، وهذا يثبته تاريخ الثقافات: فكلما نوغل في الماضي نعتر على تشبيهات تمثيلية كثيرة، وكلما نقترب من العصر الحالي تقل وتنقرض، وزاد احتمال كذبها، لذلك يتم التخلص منها واستبعادها. فما العيب الذي يجعلها كاذبة ومستبعدة؟
الجانب الثالث: إذا كنا قد أثبتنا أن التمثيلات البدائية مجرد افتراضات كاذبة، فذلك يرجع إلى الاعتقاد في مركزية الإنسان، أي ادعاء أنه هو مركز الكون، وكل شيء في الطبيعة مسخر لخدمته، وأن ماهية أي شيء في الطبيعة تتوقف على الوظيفة التي يقوم بها، وقد وجد هذا التصور الغائي عند أرسطو، وهو تصور خاطئ في مجمله؛ لأنه يحدد ماهية الأشياء بناء على مرحلة تاريخية محددة، وليس على التاريخ في مجمله، فقد كان يعتقد أن ماهية الخشب تتحدد من خلال كونه قابلا للاحتراق، وكونه قابلا للطفو على السوائل، بناء على المرحلة التاريخية التي كان يعيش فيها؛ إذ كان الخشب يستعمل في بناء السفن (القابلية للطفو)، ويستعمل كحطب (القابلية للاحتراق). لكن مع مرور الزمن استعمل الخشب في بناء المنازل، واستعمل في صناعة الورق، وهذا يجعل التصور الغائي الأرسطي خاطئا. ولهذا يقول أݣاسي: "يجب علينا الحكم على ماهية الخشب أو الجليد من وجهة نظر البشرية على مدار التاريخ البشري بأكمله"، وليس في مرحلة محددة، كما أن "المعرفة العلمية تنمو من خلال محاولة اكتشاف استعمال الأشياء الطَّبيعية المُختلفة من قبل البشرية عبر العصور"، وليس في عصر محدد. يمكن أن نستنتج من خلال هذا أن مركزية الإنسان، وتصوره الغائي يتصفان بضيق الأفق في التفكير؛ لأن كل تحديد يطرحانه يظل قاصرا، وعرضيا، وليس جوهريا، ومؤقتا وليس دائما.
الجانب الرابع: يخلص أݣاسي إلى أنَّ التشبيه البدائي يتصف بضيق الأفق في التفكير وبقصور النظر، وهذا ما أشار إليه فرنسيس بيكون في كتابه "الأورغانون الجديد"، لما انتقده، واعتبره من ضمن الأصنام المحدقة بالعقل، التي توقع الناس في الخطأ، وبخصوص صنم القبيلة، وصنم الكهف.
ولهذا، فإذا كان التشبيه البدائي ضيق الأفق في التفكير، وقاصر في النظر، ويرسخ الأفكار الفطرية الخاطئة، وتلك الأفكار المحاصرة بحدود مكانية وزمانية ضيقة؛ وإذا كان العلم يهدف إلى تكسير الحواجز الضيقة، وتوسيع الرؤية للعالم، فإن التشبيه البدائي يتعارض مع الرُّوح العلمية، وبذلك يستحق الإدانة والشجب.
بالموازاة مع الدَّور السَّلبي الَّذي يتصفُ به التشبيه البدائي في قصور النظر، فإنَّ له وجهًا إيجابيًّا في الممارسة التَّقنية: فالتقنيون والعلماء الَّذين يصممون آلات تحاكي ما يقوم به البشر، أو ما يصعب على البشر تحمله من أعباء كصنع الغسالة، وألات الزِّراعة والحصاد، وآلات التحكم عن بعد...فرغم محاكاة الآلة لما يقوم به البشر، فهذا لا يجعلُ للآلة روحاً، ولا يجعلها تشبيه البشر في شيءٍ. كما أنَّ الفرضيات العلمية الَّتي تتضمن تشبيهات بدائية، لا يوجدُ مبررٌ لرفضها، فعالم الأحياء تشارلز داروين استوحى نظريته في التَّطور، وبالخصوص في الصِّراع من أجل الحياة من الاقتصادي مالثوس الَّذي فسَّر الصِّراع والتَّنافس البشري على الغذاء، فما حصل في الديموغرافيا نقل إلى علم الأحياء. ومثل هذا التماثل والتَّشبيه، لا يعتبرُ مُستهجنا ولا مُدانا.
ولا تخلو الفيزياء، التي اعتبرت نموذج العلوم، من استعمال اصطلاحات تتضمن التَّشبيه البدائي، وإذا كان الرِّواقيون هم أول من أدخل الحُب والكراهية، والتَّجاذب والتَّنافر في الطبيعيات في العصور القديمة، فإنَّ العالم الفيزيائي جيلبرت، والعالم الفيزيائي نيوتن استعملا هما كذلك التَّنافر والتَّجاذب، وهما اصطلاحان يتضمنان التشبيه البدائي، فقد ربط نيوتن التجاذب والتنافر بنظرية القوة، والقوة كان ينظر إليها على أنَّها لفظ مشترك، ويحمل على معنى روحي أو طاقة خفية. وقد عرض هذا نيوتن إلى انتقادات كثيرة، لكنَّه دافع عن نظرياته في كتاب "البصريات"، بأنَّ نظرياته علمية، وصحيحة، وخالية من الخرافة، لأنَّها تقدِّم تنبؤاتٍ علمية دقيقة.
إن ما يجعل نظرية القوة بكل مفاهيمها عند نيوتن نظرية علمية خالية من التشبيه البدائي هو إضفاء الطابع التجريدي عليها، مما ينزع عنها الطابع الحسي التشبيهي. ولا يتحقق ذلك إلا بواسطة الصياغة الصورية، أو الرمزية، أو الرياضية للعلاقات الفيزيائية القائمة بين مكوناتها: فإذا قلنا على سبيل المثال: إن "القوة تساوي الكتلة مضروبة في التسارع" باللغة الطبيعية، فنحن لا نقصد بالقوة المعنى المألوف في اللغة العادية، ولا نقصد القوة السحرية، وإنما نحملها على معنى فيزيائي، علمي دقيق، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الكتلة والتسارع، ولهذا تم تحويل هذه المعادلة إلى لغة رمزية كالآتي:
F = m a
فالحرف (الرمز) F يشير إلى القوة = Force، والحرف (الرمز) m يشير إلى الكتلة = masse، والحرف (الرمز) a يشير إلى التسارع = acceleration.
وفي السياق نفسه، شبه ماكسويل أنابيب القوة عند فارداي بالعضلات؛ لأنها تنكمش وتتقلص، وتنتفخ وتتسع كما تفعل العضلات. إن ما جعل فاراداي يسقط في الاستعمال الحسي التشبيهي للغة العلمية هو ضعفه الرياضي. لذلك قام ماكسويل بتحويل لغته الحسية والتشبيهية، وإعادة صياغتها رمزيًّا، مما أضفى عليها طابعا تجريديا خاليا من التشبيه البدائي.
ولما عُوتب فاراداي من قبل زميله تيندل على استعماله للغة الحسية، فكان جوابه: إنك تفتقد إلى الخيال، وتفتقر إلى الحدس؛ وهذا يدل على دور الخيال والحدس في الممارسة العلمية، فالعملية هنا أشبه بالاستعارة، لكنها استعارة علمية، وليست استعارة أدبية، فالعالم يتوسل باللغة الحسية لتفسير الظواهر، وليس الغرض من ذلك حمل هذه التفسيرات على نحو حسي، وإنما حملها على نحو علمي من أجل فهم الظواهر في الطبيعة.
إن وصف العالم بالملموسية والمحسوسية عبرت عنه كثير من النظريات، وقد حصرها أݣاسي في خمس نظريات، يمكن عرضها كالآتي:
أ. النظرية الأثيرية: التي تدعي وجود مادة خفية في المكان تسمى "الأثير"، وهي مادة تتضمن توترات وضغوطات؛
ب. النظرية التبسيطية: وهي التي تبسط العالم، وتدعي اقتصاد الفكر، وهذه النظرية نجدها عند الفيزيائي الألماني إرنست ماخ؛
ت. النظرية الرياضية: وهي التي ترى العالم مجرد كتاب، حروفه هندسية، وهي النظرية التي عبر عنها غاليليو غاليلي في قوله المشهور؛
ث. النظرية الذرية: وهي التي تدعي وجود "وقائع ذرية"، مجزأة في الكون؛
ج. نظرية الصُّورة اللغوية: وهي النظرية التي تحد العالم بحدود اللغة المتمثلة له، وهي التي أبدعها فيدغنشتاين، وتبناها أستاذه برتراند راسل.
إن التشبيه البدائي ما زال مستعملا حتى يومنا هذا، وما زال قائما في العلم، وبما أنه يتصف بضيق الأفق في التفكير وبقصور النظر، وما دمنا نستعمله، فإننا ما زلنا قاصري النظر في فهم الكون عمومًا، وفي فهم الطبيعة على وجه الخصوص. والغريب في الأمر أننا لا نعترف بضيق الأفق وبقصور النظر الذي يساورنا، ننكر ذلك، وفي الوقت نفسه نقر بضيق أفق أسلافنا في التفكير وبقصور نظرهم؛ وسيأتي زمان تكتشف فيه الأجيال اللاحقة من بعدنا أخطاءنا، وضيق أفقنا في التفكير. نلمس في هذه الإشارة في خطاب أݣاسي التصور النسبي، والتطوري، والتراكمي للعلم، الذي يتسع شيئا فشيئا بتطوير لغة العلم وآلياته من جهة، وباكتشاف المناطق المجهولة في العالم من جهة ثانية.
إن التلاقح بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، ومحاولة نقل المنهج من الأولى إلى الثانية من شأنه أن يبعد التشبيه البدائي عن العلوم الإنسانية. لكن، هل العلوم الطبيعية نفسها بمنأى عن التشبيه البدائي؟ إن رسم حدود فاصلة بين التشبيه البدائي الضيق، وغير الضيق مسألة صعبة للغاية؛ لأن التشبيه البدائي أولا وأخيرا ليس سوى مماثلة ظواهر غير بشرية بأخرى بشرية. كما أن التجريد، وإن كان محاولة لنزع الطابع الحسي عن الأفكار العلمية، فإن الطابع الحسي والملموس يبقى مترسبا فيها، لأن الناس جميعا، والعلماء كذلك، غاصين ومنغمسين فيما هو حسي وواقعي، ويظل صدى ما هو حسي حاضرا في الأفكار العلمية ولو بلغت حدا أقصى من التجريد؛ لأن البشر يخضعون لشروط فيزيولوجية، وبيولوجية، واجتماعية تحول بينهم وبين الانفصال عن الحس والواقع.
على الرغم من أن بعض التمثيلات في العلم تكون في غاية الأهمية، فإن التقدم العلمي لا يمكن أن يقوم على تمثيلات معطاة، وإنما يقوم على أفكار جديدة، وعلى تجريدات متزايدة، وهذا يفسر أن التشبيهات البدائية كانت مرتبطة بماضي العلم. ويرى أݣاسي في هذا الصدد أن التقدم العلمي ينطلق في البداية مما هو مباشر أكثر وضيق أكثر إلى ما هو تجريدي أكثر ومتسع أكثر؛ والزيادة في التجريد والاتساع تبعدا التشبيه البدائي عن العلم.
إنَّ صفتيْ الاتساع والتجريد هما اللتان جعلتا آراءنا في العلوم الإنسانية أكثر تجريدا، وهذا ما جعل العلوم الإنسانية تفقد جوهرها الإنساني، وتصبح فاقدة لما هو ذاتي، باعتبار ما هو ذاتي العنصر الأساس المحدد لها. ولهذا، فإذا كان من الصعوبة بمكان الوقوف ضد التشبيه البدائي في العلوم الإنسانية، فإنه من الأفضل الوقوف ضد ضيق الأفق في التفكير، وضد القصور في النظر سواء تعلق الأمر بالعلوم الطبيعية أو العلوم الإنسانية.
[1]- Merriam-Webster’s Collegiate Dictionary, Springfield, Massachusetts, U.S.A, Eleventh Edition, 2003, p. 53:«an-thro-po-mor-phism/-,fi-zem/n (1754): an interpretation of what is not human or personal in terms of human or personal characteristics: HUMANIZATION.».
[2] - سورة الشورى، الآية 10.
[3] - اللُّغة العامية عندنا غاصة بالتَّشخيص أو الشَّخصنة، والَّتي تستعملُ، على الغالب، للتخلص من المسؤولية، وإلقائها على الأشياء، نحو: "ضربني الحائط"، "سد علي الباب"، "ذهب عني القطار"...والغريب أنَّ هذه العبارات متداولة وشائعة في العامية، لكن غير سليمة التَّركيب والمعنى باللُّغة الفصحى (وهذا القيد تحدث عنه سيبويه في الفصول الأولى من "الكتاب")، فبدل من أنْ تقول: "ضربني الحائط" بالعامية، تقول: "اصطدمتُ بالحائط" بالفصحى، وبدل من أن يكون الفاعل في العبارة العامية هو "الحائط"، أصبح بالفصحى هو "التاء المتحركة" الَّتي تعود على ضمير المتكلم "أنا"؛ وبدل من أن تقول: سُدَّ علي الباب" بالعامية، تقول: "تأخرت، ووجدت الباب قد أوصد أو موصدا" بالفصحى، وهنا بدل من أنْ يكون "الباب" هو الَّذي سُد، أقر بتأخري، وأصف وضع الباب الذي وجدته موصدا في جملة حالية. وفي هذه الأمثلة الواردة في العامية دليل، من ضمن الأدلة الأخرى القاطعة، على عدم صلاحية العامية للتدريس من النَّاحية المنطقية، ودليل قوي على أنَّ اللُّغة المحكومة بالقواعد تكون منطقية، والمنطق والنحو متلازمان. (المترجم)
[4] - Anthropocentrism، لفظ ترجع أصوله إلى اللغة اليونانية، وهو مركب تركيبا مزجيا من كلمتين: anthropōs، يفيد "بشري"، وkéntron، الذي يفيد "مركز". وهو اعتقاد بأن الكائن البشري هو مركز الكون، وأسمى الكائنات، وكل شيء في الطبيعة مسخر لخدمته، وربما هذا هو الذي شكل عائقا في فهم ما اكتشفه كوبيرنيكوس من طرف الكنيسة الكاثوليكية التي كانت ترى الإنسان مركز الكون، والأرض مركز الكون, لقد أزاح كوبيرنيكوس الإنسان من المركز، ودفعه نحو الهامش. (المترجم)
[5] - يعتبر هذا التفسير تفسيرا غائيا، ينظر فيه لماهية الأشياء من منطلق الوظيفة والغاية التي توجد من أجلهما.
[6] - Robert Boyle (1627-1691)، فيلسوف، وفيزيائي إنجليزي، يعد من مؤسسي علم الكيمياء الحديثة. (المترجم)
[7] - Instrmentalism، مقاربة فلسفية عملية تنظر في الأساس إلى أي نشاط، سواء كان علما، أو قانونا، أو تربية على أنه أداة، أو وسيلة لتحقيق هدف عملي، بعبارات ليس مطلقة ولا مثالية. Language.oup.com
[8] - Francis Bacon(1561-1626)، فيلسوف، وسياسي إنجليزي، يعتبر من المؤسسين الأوائل للفلسفة التجريبية، ويعتبر الناقد الأول للمنطق التجريدي، وللتصورات الميتافيزيقية. أدرج بيكون التشبيه البدائي ضمن الأصنام المحدقة بالعقل، وذكره ضمن صنم القبيلة، الذي يقصد به اعتماد الناس على الحواس في الحكم على الأشياء ووصف الطبيعة، هذا في الوقت الذي تكون فيه الإدراكات الحسية والعقلية خاصة بالإنسان، ولا يمكن إسنادها للطبيعة، ثم إن العقل البشري لما يدرك الأشياء يعبث بها ويشوهها، وقد ذكره كذلك ضمن صنم الكهف، ويقصد به ذلك الوهم الخاص بكل فرد، فلكل فرد عالمه الخاص، وكهفه الخاص الذي ينظر من خلاله إلى العالم، ونظره إليه يكون خاطئا، لأنه ذاتي، وقد يطبع العالم بالذاتية إذا من انطلق من ذاته لفهم الطبيعة. (انظر: بيكون، فرنسيس، الأورجانون الجديد، مؤسسة هنداوي، 2017، ص.21). (المترجم)
[9] - Charles Robert Darwin (1809-1882)، عالم إحياء، وجيولوجي إنجليزي، يعتبر المؤسس الفعلي لنظرية التطور عند الكائنات الحية. (المترجم)
[10] - Thomas Malthus (1766-1834)، مفكر اقتصادي إنجليزي، اشتهر بنظرية التكاثر والنمو السكاني وعلاقته بالإنتاج الغذائي. (المترجم)
[11] - William Gilbert (1544-1834)، فيلسوف، وعالم طبيعي إنجليزي، يعدّ المؤسس الفعلي للهندسة الكهربائية.
[12] - Isaac Newton (1642-1727)، عالم فيزياء، ورياضي إنجليزي، اكتملت معه الفيزياء الكلاسيكية. (المترجم)
[13] - James Clerk Maxwell (1831-1879)، أكبر علماء الفيزياء المعاصرين وأشهرهم، عرف بأبحاثه حول الكهرباء المغناطيسية، وكانت أبحاثه بمثابة أسس قامت عليها نظرية الكوانطا، ونظرية النسبية الخاصة. (المترجم)
[14] - Michael Faraday (1791-1867)، فيزيائي، وكيميائي إنجليزي، له مساهمات علمية رائدة في مجالي الكهرباء المغناطسية، والكهرباء الكيميائية. (المترجم)
[15] - John Tyndall (1820-1893)، فيلسوف طبيعي، وعالم فيزيائي، كان صديقا للعالم مايكل فاراداي. (المترجم)
[16] - Herman Ludwig Ferdinand Von Helmholtz (1821-1894)، فيلسوف علم، وفيزيائي ألماني، اشتغل على الهايدروديناميكا، والبصريات. (المترجم)
[17] - Tractatus Logico-Philosophicus صيغ عنوان الرسالة باللاتينية، باقتراح من جورج إدوارد مور، اقتداء وقياسا على كتاب باروخ سبينوزا Tractatus Theologico-Politicus، الذي أقامه على أساس رياضي يشبه كتاب "الأصول" للرياضي اليوناني أقليديس. صدرت رسالة فيدغنشتاين بالألمانية سنة 1921، وترجمت إلى الإنجليزية سنة 1922. كتبت بأسلوب أدبي محكم وصارم، خال من الأدلة والحجج، تضمنت خمسمائة وخمس وعشرين عبارة خبرية مرتبة ترتيبا منطقيا بديعا. (المترجم)
[18] - على الرغم من أن الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل Bertrand Russell (1872-1970) كان أستاذا للفيلسوف الألماني لودفيغ فيدغنشتاين Ludwig Wittgenstein (1889-1951)، إلا أنه تأثر بأفكاره الفلسفية المبكرة. (المترجم)