التّصوّف والفلسفة-ولتر ستيس


فئة :  قراءات في كتب

التّصوّف والفلسفة-ولتر ستيس

قراءة في كتاب "التّصوّف والفلسفة-ولتر ستيس"([1])


لاشكّ في أنّ بين التّصوّف والفلسفة وشائج تفرغ على وعي المشتغل بهما إمكانات تفحّص بعض إشكالات الوجود والعدم، الحقّ والحقيقة، داخل حدود العبارة والمنطق، أحياناً، وفي سبحة الهباء الهيوليّ أخرى، كذلك أنضج الفيلسوف الإنكليـزي النّشأة (ولتـر ستيـس walter Terence Stace 1967م-1886م)[2] تجربة مفادها البحث في هذه التّخوم، والحفر في العلائق الممكنة بين الدّيني المفارق والعقليّ الكلّي الميتافيزيقي، وما يترتّب على اجتماعهما من قيم الخير والجمال؛ لذلك شغلته مسألة الماهيّة الإلهيّة، وفيض أنوارها على التّجربة الصّوفيّة، كما شغلته مسألة الجمال بمفاهيم مجدولة ضمن إكراهات الزّمان والمكان، الكمّ، والعلّة، والكيف، وعليه أقام جدلاً مفتوحاً بين العقل والإيمان، وهو يتباحث طفرة النّظريّات العلميّة المثبّتة للقوانين السّببيّة.

جاء كتاب (التّصوّف والفلسفة)[3] حاملاً مثل هذه المشاغل، مشتغلاً بها، ولأنّ التّصوف خصب ممتدّ لا يحتكره شرق ولا غرب، منتشر كحبّات الرّمل وقطرات الماء، محتاج إلى الفحص والتّشريح، أثّث الفيلسوف أثره بفصول ثمانية، أجاد (أ. د إمام عبد الفتاح إمام) تقديمها، وقد بدت على درجة من التّراتب والمنطقيّة، حيث استهلّت:

الفصل الأوّل: (افتراضات مسبقة للبحث)، حدّد الكاتب فيه الأفكار؛ التّي تستبان بوساطتها العلائق الممكنة بين التّصوّف والفلسفة، أو الفضاء المشاع، حيث تتقاطع أسئلة الفيلسوف، وبراهين العالم، ويقين المتديّن، وحدس الصّوفي، أو لنقل، المناطق الرّئيسة التّي تسمح بترتيب التصّوف ضمن نسق فلسفيّ معيّن.

الفصل الثّاني: (مشكلة المحور الكلّي العام)، تأمّل الكاتب في تشكّل التّجربة الصّوفيّة، وتمظهراتها الانفعاليّة والمجازيّة، وأطال النّظر في الأحاديّة والكليّة من خلال كلّ من التّجربة الانبساطيّة المفتوحة الحدود، والتّجربة الانطوائيّة المكثّفة للمضامين الحسيّة والتّصوريّة، وانتهى إلى ضرورة التّمييز بين توحيد الكثرة وطمسها.

الفصل الثالث: (مشكلة المرجع الموضوعيّ)، بحث الكاتب في موضوعيّة التّجربة الصّوفيّة كي لا تكون دليلاً عائماً وغائماً؛ لذلك تفحّص برهان الإجماع من حيث الفروق المسجّلة بين (الأنا) الخالص و(الأنا) التّجريبي، كما تناول مسألتي (الخواء والملاء)، ولأنّها أمور تناقش، عدَّ الكاتب أنّه لا يمكن نعت التّجربة في هذا الخصوص بالموضوعيّة، ولا بالذّاتيّة لكونها تجاوز ذلك، وتعلو عليه.

الفصل الرابع: (وحدة الوجود - الثّنائيّة - الواحديّة)، جاء الفصل دعامة للتّساؤلات والتّحاليل السّابقة على أساس زيادة التّعمّق والفهم، حيث طال محاور شديدة الاتّصال بالتّصوف، مثل: الهويّة والاختلاف، وأخرى وثيقة الصلة بالأديان السماويّة مثل علويّة الجوهر الإلهي، وثالثة مرتبطة بالفلسفة مثل رفض الواحديّة، وإثبات الوجـــــود المستقل (ديكارت).

الفصل الخامس: (علاقة التّصوّف بالمنطق)؛ لأنّ المنطق الصّوري له قوانينه على غرار عدم التّناقض، والثالث المرفوع، ولأنّه لا يقبل وضعيّة الحضور والغياب معاً، نظر المؤلّف في بعض المتناقضات الواردة في النّظريات والتّجارب الصوفيّة، خصوصاً مفارقة الخواء والملاء، وفناء الذّات ودوام جوهرها، والسّكون والحركة، والنّور والظّلمة، ويخلص إلى أنّ قوانين المنطق هي قوانين الوعي المألوف، لا الوعي الصّوفي الذّي يعدّه على ذلك مخصوصاً.

الفصل السّادس: (التّصوف واللّغة)، تعرّض الكاتب إلى اللّغة الصّوفيّة من حيث الرّمزيّة، والمجاز، والاستعارة، ولأنّها تتكيّف أكثر مع القول بعدم إمكان الوصف، فالأرجح التّسليم بكون التّعبيرة اللّغوية الخالصة قاصرة على الإدلاء بكنه التّجربة ذاتها.

الفصل السّابع: (التّصوف والخلود)، وخصوصيّة هذا الفصل أنّه يحمل تساؤلات لا يجيب بالضّرورة عنها؛ لأنّ الأمر يتعلّق بالوعي المتبقي من النّفس بعد الموت، وقد استطاع الكاتب إغناء الفصل بنظريّات علم النّفس والفلسفة.

الفصل الثّامن: (العلاقة بين التّصوّف والأخلاق والدّين)، واللافت أنّ المؤلّف يعود في هذا الفصل من حيث بدأ؛ أي: من مشغل أخلاقيّ جامع لأهمّ مباحث التّصوف، والدّين، والفلسفة.

ولعلّ أوّل ما يحضر الذّهن، بعد قراءة متمهّلة لهذا الأثر، مجموعة ملاحظات منها ما يتعلّق بالكاتب، ومنها ما يتعلّق بالمادّة المطروحة في الكتاب، فالواضح أنّ الفيلسوف حاضر بكلّ ثقله في هذا العمل، وقد أعلن من البداية، أنّه يقارب الأمور بقلم الفيلسوف لا المتصوّف، وهو، على الرّغم من استعداده لإعادة قراءة بعض الرؤى الفلسفيّة، وعدم اعتبار اليقين نافذاً في بعض المواضيع الصوفيّة، فإنّه، وفي جلّ الفصول، يتناول التّجربة بأقيسة فلسفيّة، والعكس لا يستقيم لديه، من ذلك معالجته نظرة الواحديّة المعبّرة عن تلاشي الانفصالات الظّاهريّة للوجود من خلال نظريّة رينيه ديكارت (René Descarte) (1596-1650م) القائمة على تأكيد الوجود المنفصل وفق قانون بديهيّ مفاده: أنا أفكّر إذاً أنا موجود (بذاتي)، ومنه قياسه بقاء الرّوح وبعض توابعها على نظريّة التّطوّر، أو الاصطفاء الطّبيعي لتشارلز روبرت داروين (Charles Robert Darwin) (1809-1882م)، ومنه النّظر إلى الإشراق الصّوفي لا بعين شيخ الإشراق شهاب الدين بن يحيى السّهروردي (1153-1191م)، وكتابه (حكمة الإشراق)، ولكن بعين ريتشارد موريس باك (Richard Maurice Bucke) (1837-1902م). وفي تجربة إضاءات خاصّة، يمكن إدراجها ضمن اهتمامات التّصوّف، ومن خلال كتابه (الوعي الكوني)، وفي ذكره التّصوف الانطوائي، يسوق الكاتب حديث دافيد هيوم (David Hume) (1711-1776م) المؤرّخ الإسكتلندي المهتمّ بطبيعة الانفعالات البشريّة، وبالتّاريخ الطبيعي للدين، عن حزمة الإدراكات المختلفة المشكلّة لوعي الفرد، كذلك تناول الكاتب قضيّة وعي الصوفي باللّغة وأقيستها عبر الاهتمامات الميتافيزيقيّة للفيلسوف اليوناني أفلوطين (Plotin) (203 أو 205م - 270م)[4]، وعلى الرّغم من غزارة الإنتاج الصّوفي الإسلامي؛ فإنّنا لا نجد له أثراً واضحاً في دراسة المؤلّف للحقيقة الشّعريّة، ولا باب وحدة الوجود، ولا الاتّحاد والحلول.. إذ اكتفى بذكر بعض الأسماء عرضاً، أو نقلاً عن مصنّفات غيرهم.

هذا، ولأنّ (الصّوفي) لا يحصر بقيود المنطق، ويتعقّل نفسه في كلّ مراتب الوجود، ولأنّ الحقيقة لديه واحدة في جوهرها، متكثّرة في صفاتها وأسمائها، ولأنّ (الفلسفي) يبحث في ماهية الخلق والأخلاق المنظّمة له، لم يجد الكاتب بدّاً من جمع المواد المبعثرة في عدد من الاختصاصات، حيث استدعى فضاءات دينيّة مخصوصة ساهمت في إجلاء بعض الإشكالات الخاصّة في الموضوع المطروح، ومن أظهرها:

- الفضاء (الهندوسي) والفضاء (البوذي)، وقد خبرهما على الميدان، ولعلّهما طرحا عليه جملة أسئلة حضرت آثارها في هذا العمل، فقد تعرّض الكاتب إلى تجربة (بوذا) الذّي وصف المطلق الدّيني بالخواء، ونظر إلى تقاطعات (النيرفانا)[5] وإرادة إفناء الوجود في آخر، لأجل إدراك حالة الغبطة.

- الفضاء الأنثروبولوجي والنّفسي، حيث يتزاوج الديني والثقافي، وأيضاً الطبيعي والسيكولوجي، وحيث (تتوافق بعض التّجارب الدينيّة لمجتمعات مختلفة تاريخيّاً وجغرافيّاً، متواطئة في تجربتها الإنسيّة تجاه المعتقد)[6].

- فضاء الدّيانات الكتابيّة، لاسيّما لدى القدّيسين واللّاهوتيين المسيحيين.

وعليه يتبيّن، من خلال مادة البحث، الحاجة إلى تفكيك المفردات المقتطعة من التجربة الإنسانيّة، فلسفيّة كانت أم عرفانيّة، وإعادة ترتيبها، ولاسيما أنّ المجال الصّوفي يطمح إلى ملامسة اللّانهائي من حيث شموليّة البرهان، وكليّة الشّاهد.

استطاع الكاتب تعقّب الجوهر الصّوفي من خلال المقامات، والأحوال، كما استبان قدرة الفلسفة على ولوج العوالم المشدودة إلى المتعالي، وكان موضوع الإيمان في بحثه داعماً لاستجلاء حقيقة إيمانيّة واقعيّة تثبّت، في شكل من أشكالها، أنّ بين الانفصالات الظّاهريّة وحدة ومطلباً أعمق، وقد أكّد الكاتب، في أكثر من موضع، وشائج بين الفلسفة والتّصوف في مجال مشاع يمكن أن يرفع الفيلسوف إلى عوالم التّصوف، وينزل التّصوف إلى العقل التّجريبي، وفي الآتي ما يبرّر ذلك، ويدعمه:

- مقام الفناء المصوّغ للمعرفة، والمجلّي لصور الحقيقة.

- تجلّيات النّشوة الصّوفيّة، وتوهّج المحبّة فيها، ولو أنّ تناول الكاتب لذلك لا يدلّ على تمعّن عميق للأثر الصّوفيّ الإسلامي، حيث كانت قراءة الكاتب فوقيّة في هذا الصدّد.

- بلوغ درجة الاتّحاد بشهود الحقّ الواحد المطلق، واختبار إمكانات ذلك من عدمه عبر تصفّح التجربة في (الأوبنشادات)، وهي ملخّصات وتفاسير (فيديّة).

ما يمكن الانتهاء إليه، بعد قراءة هذا الأثر، هو أنّ وثبة العلوم الإنسانيّة اليوم تدعم هذا التّصور القائم على تناغم التّجارب الإنسانيّة في أبعادها الفلسفيّة، والأخلاقيّة، والدّينيّة، من حيث استعادة الإنسان المتشظي في أيديولوجيّاته، وطقوسه، وأعراقه، وقد بدت الحاجة أوضح إلى إرساء خطاب قائم على فهم رصين للأبعاد الرّوحانيّة، والثّقافيّة، والاجتماعية، خطاب يؤذن بعلائق أسلم بين مواضيع الحكمة، ومواضيع التّقيّة.


1 نشر ضمن مشروع "مقاربات في مفهوم الإيمان (1) الإيمان في الفلسفة والتصوف الإسلامييّن"، تقديم نادر الحمّامي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[2] ستيس، ولتر (walter Terence Stace) 1886-1967م، فيلسوف بريطاني النّشأة، ولد في بريطانيا في عائلة عسكريّة، إلّا أنّه فضّل الاشتغال على الدين والفلسفة، حيث اطّلع في بداياته على دقائق الكنيسة الإنكليزيّة، وولع بدراسة الفلسفة الهيجليّة، وتقلّب في مناصب حكوميّة، كما اشتغل بكولمبيا، حيث عاين عن قرب التّعاليم الهندوسيّة والبوذيّة، ودرّس بجامعة برنستون، وشغل منصب رئيس الجمعيّة الفلسفيّة الأمريكيّة.

استطاع الفيلسوف، بفضل هذا التّنوع في المعرفة، طرح أسئلة ناقلة لشكوكه وحيرته بخصوص المعتقد الدّيني من ناحية، والنّظريّة العلميّة الخالصة من ناحية ثانية؛ أسئلة من قبيل (إمكان تفويض الغائي قرينةً على النّهائي)، ولأنّ الإجابة عن مثل هذه التّساؤلات لا تحتمل الاحتباس في معتقد واحد، أجال الكاتب نظره في جملة من النّظريّات المتعلّقة بالفلسفة، والعلم، والدين، ومنه التّصوّف، والباحث، في ذلك، يستدعي بالضرورة التجربة الجماعيّة، والمواد النّموذجيّة من فضاءات زمنيّة، ومكانيّة مختلفة، وكانت مؤلّفاته عاكسة لذلك التّمشي:

- الفلسفة اليونانيّة 1920م.

- فلسفة هيجل 1924م.

- معنى الجمال 1929م.

- التّصوف والفلسفة 1960م.

wikipidia.org

[3] ولتر، ستيس، التّصوّف والفلسفة، ترجمة وتعليق وتقديم أ.د إمام عبد الفتاح إمام، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة، جامعة الكويت، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999م.

د. إمام عبد الفتاح إمام من مواليد 1934م، متخصّص في ترجمة الفلسفة والعلوم الإنسانيّة، وترجم عدداً من الأعمال من الإنكليزيّة إلى العربيّة.

[4] انظر أقوال الفلاسفة عن اهتماماته في: طرابيشي جورج: معجم الفلاسفة (الفلاسفة - المناطقة - المتكلّمون - اللّاهوتيون - المتصوّفون) دار الطليعة، بيروت، ط2، 1997م، ص77 و78

[5] Paupard Paul: Dictionnaire des Religions, Presse Universitaire de France, Paris, 1984, p. 01433.

[6] ليفي ستراوس، كلود: مقالات في الإناسة، اختارها ونقلها إلى العربيّة د. حسن قبسي، دار التنوير، 2008م، ص 66