الثقافة الرقمية

فئة :  مقالات

الثقافة الرقمية

الثقافة الرقمية

الكل يعلم طبيعة التحول الذي أحدثته الثورة الصناعية ومنتوجاتها على الإنسان في نظرته لذاته، وفي علاقة الناس بعضهم ببعض، ويكفي المقارنة بين ما كان عليه القرن العشرين بالقرن التاسع عشر؛ إذ سيتضح للوهلة الأولى طبيعة الفرق الذي حلّ بالقرن العشرين، بفعل العديد من التحولات في مجال المواصلات والاتصال (الهاتف. السيارة. المذياع...) كذلك هو الأمر اليوم في القرن الواحد والعشرين؛ إذ دشنت الثورة الرقمية والمعلوماتية والأنترنت أفق عالم جديد.

بالأمس كان الإنسان يعتمد على الآلة، اليوم وبوجود الذكاء الاصطناعي، سارت الآلة في محل الإنسان، تقوم ببعض من أدواره، فلم نكن اليوم في حاجة مثلا لعمال التذكار أمام محطات القطارات، والمترو... ولا شك قريبا سنكون في غنى عمن يجلس عند صناديق الأداء في الأسواق، ومن يعين الزبائن على اختيار مشترياتهم...السؤال هنا ما هي المهام التي يحتفظ الإنسان القيام بها، ولا قدرة للآلات الإلكترونية على القيام بها؟ الجواب عن هذا السؤال يقتضي سؤالا آخر ما هو الإنسان قياسا بالآلات التي صنعها؟[1]

لا شك أن الإنسان عقل في المقام الأول، فهو له القدرة دون غيره على إنتاج نظريات عن العالم.[2] ولكن رغم كل هذا، فهناك مشكلة في طريق الإنسان مفادها "الإنسان مبدع وساذج في آن معا".[3]

تأخذ صيغة الثقافة الرقمية مصداقيتها نتيجة التحولات المتسارعة التي أحدثتها وتحدثها الثورة الرقمية والمعلوماتية، وهي عملية الانتقال من التقنيات الميكانيكية والتماثلية إلى الإلكترونيات الرقمية، والأنترنت. فمستقبل العالم والحضارة القادمة لا شك أن الذي نسميه اليوم بالذكاء الاصطناعي سيكون له دور كبير على مختلف جوانب الحياة، فلا محالة فعالم الروبوتات أو الإنسان الآني سيغير وجه العالم، وهو موضوع حير العلماء من جهة توقع ما سيكون عليه الإنسان بوصفه تحكمه عواطف وله وجدان يكره ويحب...وله انتماء ثقافي وتاريخي وطموح. فهل سيكون للذكاء الاصطناعي تدخل مباشر أو غير مباشر في التأثير على الإنسان من جهة التحكم في عواطفه واهتماماته؟ أم إن الذكاء الاصطناعي سيكون له دور هامشي فقط، يحيل بينه وبين أن يمس بشكل مباشر جوهر ما يتميز به الإنسان؟

لقد ظهرت مجموعة من المصطلحات في دراسة جيل الأنترنت، بوصفه جيل زيد (Z) فالباحثون ووسائل الإعلام قد حددوا منتصف التسعينيات إلى أواخرها كبداية سنوات ميلاد هذا الجيل وأوائل عام 2010م. وغالبية أفراد هذا الجيل هم أبناء الجيل إكس(x)، وهو مصطلح يشير إلى الفئات التي ولدت ما بين أوائل الستينيات إلى أوائل الثمانينيات، ويستعمل هذا المصطلح في عدة مجالات منها الدراسات السكانية وعلم الاجتماع والتسويق.

*-ثقافة الذكاء الاصطناعي

ما هو الفرق بين الذكاء الاصطناعي والإنسان، في جميع الأحوال، الإنسان يملك عواطف وروح وعقل... "ليس للآلة جسد ولا مشاعر، كما أنها تفتقر للروح، فهي لا تملك المخيلة الإبداعية للبشر... وهي لا تستطيع تعميم معرفتها على مواقف مجهولة"[4] لكن في الوقت ذاته يمكن لها أن تقوم بعمليات لا يمكن للبشر العاديين القيام بها أبدا، مثل تقييد آلاف الصفحات في الجزء من الثانية، أو استنتاج مجموع العديد من العمليات في الحساب والهندسة في لحظة من الثانية... بالإمكان الحديث أن مختلف المهام فيما هو قادم سيتم توزيعها ما بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، فالإنسان يتولى المهام التي تحتاج إلى الفطرة السليمة، وبالأخص في العلاقات مع الآخرين، وتتولى الآلة والذكاء الاصطناعي مختلف المهام التي تتطلب الإحصاء...

وقد يكون للآلة دور فيما تقدمه بأن ينجح اجتماع معين أو تنجح سفقة تجارية ما، الإنسان يتولى مهام الإبداع في مختلف العلوم والفنون. والذكاء الاصطناعي يتولى الإجراءات التقنية الروتينية في برمجة ذلك وتحويله الى تقنية وواقع.[5] وبهذا الشكل، فالإنسان قد يتأثر ويستفيد في الوقت ذاته من الذكاء الاصطناعي. ولكن الأمر سيكون له في بعض من جوانبه أثر كبير على حرية وصحة الإنسان.

لا شك أن الذكاء الاصطناعي ستتبعه ثقافة اجتماعية في نظرتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، مع الذكاء الاصطناعي ستختفي مثلا بعض المهن في المنزل، وفي الشغل وفي عمارة السكن... من قبيل: (مهنة بواب العمارة، مصلح الكهرباء، تنظيف أرضية البيت وقاعات الاجتماعات والألعاب..، إحضار طلبيات الزبائن في المقاهي والمطاعم "النادل" الذهاب عند الطبيب في بعض الحالات "أنت في البيت والطبيب يتابع صحتك"...)

تثبت الثورة المعلوماتية سنة بعد سنة، أن لها القدرة على تقديم جميع الخدمات عن بعد، بما فيها التسوق... وهذا التقديم بهذا الشكل، سيمس شكل الاقتصاد والربح ورأس الماء والعملة التي قد تتحول الى عملة افتراضية لا يلزم معها طباعة وصك عملة محسوسة...

*-تحولات ليست بالبعيدة

فيما هو قادم ليس على الإنسان أن يقود سيارته، فهي مبرمجة أن تقود نفسها بنفسها، هذا الأمر يبدو غريبا اليوم، كما كان يبدو غريبا بالأمس، إن قال لك أحد إنك ستكلم أحد أقربائك صوتا وصورة، وكمثل من قال لأحد قبل ثلاثة قرون سيظهر اختراع تبث عبره الأغاني والخطب أي المذياع، فهذه أمور غريبة، وليس مفكرا فيها عند القدماء.

وهناك أمور أخرى تخص زمنهم وغير مفكر فيها بالنسبة لنا، وقد تبدو غريبة ومعقدة، وربما أننا نعجز عن حل ألغازها، بالرغم من التقدم العلمي في مختلف المجالات، فلازال العلم يحيره سؤال كيف بنيت الأهرامات؟ وكيف تم وضع التصميم الهندسي لها؟ ومن أين جاء البناؤون بالحجارة هل تمت صناعة حجارة الأهرامات من رمال الصحراء؟ أم تم جلبها من مكان بعيد وكيف تم ذلك؟ كلها أسئلة ليس هناك جواب كاف وشاف عنها، رغم كثرة الأجوبة والنظريات. وليس لدينا مثلا معطيات كثيرة حول لغز نظام الساعة المائية لنافورة السباع الموجودة في قصر الحمراء ذات الأسد الاثنى عشر لنافورة قصر الحمراء. وهناك أمور كثيرة لا نعلم عنها كثيرا، قام بها الأقدمون.

المشكلة التي أثارها هذا التحول المتعلق بأن الإنسان ليس عليه أن يقود سيارته، مشكلة أخلاقية مفادها، إذا وجدت السيارة معضلة تتمثل في دهس أحد المارة، وهو شاب مثلا تجنبا لدحس آخرين فماذا تفعل؟ ولمن الأولوية في تجنبه دهسه هل الشاب أم الآخرون، وهم كبار في السن؟ هل يمكن للسيارة أن تميز بأن أحد المارة له الأولوية في الحق بالعبور دونها؟ هذه الأسئلة تبدو ساذجة؛ لأنها سابقة لأوانها، ولكنها مهمة لمصنعي الخوارزميات والمختصين في عالم الذكاء الاصطناعي لماذا؟ لأنها تجعلهم أمام مختلف الافتراضات للعالم القديم الذي ستظهر فيه الكثير من الآلات ذات الذكاء الاصطناعي التي تتخذ كثيرا من القرارات في المجال التطبيقي في معالجة المرضى، وفي تشغيل مختلف البرمجيات في مختلف الميادين...[6]

فمسألة الأخلاق والتقنية اليوم مسألة ليست بالسهلة؛ إذ يجب على مختلف المختصين في جميع المجالات العمل على بسط رؤى جديدة للأخلاق والقيم، فهذا من تخصص الإنسان وليس من تخصص التقنية، فليس كل ما يمكن أن تقوم به التقنية يجب القيام به، تبعًا للفعل الإنساني فليس بالضرورة أن الإنسان يمكن له أن يقوم بكل ما يمكن له أن يقوم به، فمادام الإنسان يتأرجح بين الشر والخير، ويميل إلى الخير قصدًا ومطلبا...ويتورط في الشر لدواعي وظروف لا يمكن تبريرها في كثير من الأحيان. كذلك هي التقنية.

[1] دنيال كوهين، الإنسان الرقمي والحضارة القادمة، ترجمة علي يوسف أسعد، دار صفحة، السعودية، الطبعة، 1، 2022م. ص.24

[2] نفسه، ص.25

[3] نفسه، ص.30

[4] نفسه، ص.39

[5] نفسه، ص.46

[6] نفسه، ص.90