الثقافة العربية والقيم والعالم: مساءلة أولية


فئة :  مقالات

الثقافة العربية والقيم والعالم: مساءلة أولية

كيف يمكننا أن نُنجز برنامجًا كليًّا ينهض باستراتيجيّة ثقافية تَخصُّنا؟ وهل يمكن أن نتحدث عن هذه الاستراتيجيّة بمنطق التجنيس، فنقول استراتيجيّة ثقافية عربية؟ وهل نفكر أو نخطط للثقافة بعيدًا عن العالم الذي نقيم فيه؟ ولماذا نطرح سؤال الاستراتيجيّة أصلاً، هل هناك ما يهددنا أو ما يريد أن يقتلعنا من الوجود؟ وهل ينبغي أن نطرح سؤال الخصوصية الثقافية بعيدًا عن سؤال الكونية والكوسموبوليتية؟

إنّني أتحسس من هذه الأسئلة، التي تحمل في داخلها تخوفًا رهيبًا من المستقبل، إنّ ما ينبغي أن نطرحه هو ما نملكه من قوة في مواجهة العالم، لأنّ الهشاشة والتخوف يجعلنا نقع دومًا في سؤال النرجسية التاريخية الذي لا أريد أن أقع فيه مرة أخرى. أو إنّ الهشاشة فيما يقول بول ريكور طريق للخطيئة والإثم والشر[1].

وعليه فإنّ تَفكُّر الاستراتيجيّة في منظوري لا يتم عبر رؤية مغرقة في الإحصاء والجدولة والبيانات بقدر ما يجب أن نكون على وعي عميق بالإطار العام الذي يمكننا أن نبني فيه هذه الرؤية الاستراتيجيّة، أي ما يمكن أن نسميه؛ استراتيجيّة الاستراتيجيّة، والعناية بالتحديات الملقاة على عاتقنا عربًا ومسلمين في العالم اليوم، من أين يمكننا تَفَكُّر هذه الاستراتيجيّةcomment on peut penser la stratégie، أي أنّ الاستراتيجيّة تنطلق أساسًا من تذليل كل المعوقات التي يمكنها أن تقف حجرة عثرة في طريقنا، ما يعني أن نؤسس وعيًا عميقًا بوجودنا اليوم هنا في هذا العالم، أي أن نقطع مع كل الوجوديات المزيفة؛ الوجوديات البلاغية والمخيالية التي استنزفت مقدراتنا، خصوصا أنّنا بوصفنا عربًا لدينا مشكل بنيوي في تصور العالم، هل هو هنا أم هناك؟ إنّنا فعليًّا موجودون هنا، لكن الحقيقة هي أنّنا نعاني إشكاليات عالم قديم، هل يمكننا بناء اسراتيجية ثقافية دون تجفيف عميق لمشكلات الأمس، وهي على وجهين؛ مشكلات مخيالية ناشئة عن كوننا لم نختبر الحياة إلا بالقياس على فترة زمنية أولية، أي أنّنا نعيش زمنيًّا ضمن نقطة ثابتة، أو ضمن زمن ثقافي واحد، نحتاج معه أن نراجع مفهوم الزمن بشكل جذري كما يتصور محمد عابد الجابري: "هنا من جهة تداخل بين العصور الثقافية في الفكر العربي، منذ الجاهلية إلى اليوم، ممّا يجعل منها زمنًا ثقافيًّا واحدًا يعيشه المثقف العربي، في أي مكان من الوطن العربي، كزمن راكد يشكل جزءًا أساسيًّا وجوهريًّا من هويته وشخصيته الحضارية، والسمة البارزة في هذا الزمن الثقافي العربي الواحد هو حضور القديم لا في جوف الجديد يغنيه ويؤصله، بل حضوره معه جنبًا إلى جنب ينافسه ويكبله"[2]، ومشكلات استعمارية تتعلق بتلك الروابط التاريخية مع الاستعمار الذي قمنا بتصفيته جغرافيًّا، لكنه ما يزال يسكننا عقليًّا، فكيف نقوم بتجفيف ذلك الحلول الكولونيالي في العقل، لأنّ تحرير الوعي من أشكال الاستعباد المخيالي يَجرُّنا دومًا إلى مركزة الزمن أي إعادة بناء الزمن، فنستأنف زمننا لا زمن غيرنا، حتى لا نغرق في اليوتوبيا اللاهوتية، والولاء لمركزيات كولونيالية تجعلنا تابعين في القرار والفعل، اللذين يمنعان عن العقل استئناف التعقل بما هو إمكانية حضارية تعمل على بناء وعي عميق بالعالم الذي ننتمي إليه، من لحظة إدراك عالم الخصوصية إلى إدراك الكونية، كلاهما يرتبطان ببعض ويُمكِّنُنا من بناء استراتيجيّة تنظر إلى المستقبل، وتندفع إليه على بصيرة، أو لنقل كما قال المهدي منجرة تساعدنا على بناء المستقبل وتجاوز كل الإحراجات المحتملة، لأنّه يتصور أنّ المستقبل يحمل حروبًا يسميها حروب القيم يقول: "حين يكون الإنسان واعيًا بقيمة القيم، فإنّ ذلك قيمة في حد ذاتها، لقد كتب كريكوري باتيسون: "الخبر هو الفرق الذي يصنع الفرق". نستطيع أيضًا أن نقول بأنّ "القيم هي الفرق الذي يكون الفرق" حين نخطئ في تقدير دور قيم الآخرين، فإنّ ذلك في حد ذاته منظومة قيم تنمي الجهل وتغذي الاستيلاب. لهذه الأسباب أعيد كل مرة قولة الماهاتما غانذي "أريد أن تهب كل ثقافات الأرض قرب منزلي، بكل حرية إن أمكن ذلك، لكني أرفض أن أنقلب من جراء رياحها العاتية"[3].

و أية استراتيجيّة ثقافية تنطلق من تحويل جذري لقدرة الطبيعة أو التراب إلى قوة تعمل على الانخراط في إنتاج الأفكار؟ ولقد أشار مالك بن نبي إلى هذه الفكرة بنوع من الذكاء الشديد حين قام بدراسة مشكلة الثقافة، ونقل إلينا تعريفات مهمة تنتهي كلها إلى أنّها العناية بالأرض، أي أنّ الثقافة تعمل على تطهير الجغرافيا من الضغط الكولونيالي حين نقوم بتحويلها من كونها مجالاً مختزنًا في الزمن الكولونيالي، إلى كونها مجالاً لإنتاج الإرادة، وصرف الضغط الاستعماري بتحويل الجغرافيا إلي نقطة حيَّة، يعاد عليها بناء الأفكار الكبيرة وتجاوز كل الأفكار الميتة، حتى لا تبقى الجغرافيا خبيئة عالم الأشياء، أو الأشخاص.

و لا يكون تحريرها إلا بنقلها إلى مجال الأفكار، وأن تصبح هي في ذاتها عالمًا للإبداع يقول مالك بن نبي: "فالفكرة والشيء، إذن مرتبطان ومتعاونان تعاون الذراع والعجلة في الآلات التي تغير حركة أفقية إلى حركة دائرية، فالذراع هو الفكرة، والعجلة هي الشيء. والذراع هو ولا شك العضو المحرك، ومعلوم أنّه لا يستطيع أن يتجاوز ما يطلق عليه النقطة الميتة في حركته، إذا لم تساعده العجلة على اجتيازها بفضل ما لديها من طاقة مختزنة"[4]. هذا لا يعني أنّ عالم الأشياء عَالةٌ على عالم الأفكار، بقدر ما يدل على أنّ الأسبقية للفكرة التي يمكنها أن تجعل الشيء ضمن دورة التاريخ. فالأشياء محكوم على بالوجود المادي منذ الأزل لكن ما يجعل لها وجودًا بشريًّا هو ما يوظفه الإنسان في تصييرها من حالة الكمون والقوة إلى حالة الحركة والسيولة، وهنا تصبح الجغرافيا خارج كونها وجودًا معطًى في المتخيل إلى كونها فعلاً في إنتاج حركة جديدة للتاريخ، وهذا الفعل وحده يمكننا من تجاوز معضلة عبء الجغرافيا ومحمولاته التاريخية الصرفة.

وهذا ما يصنع وعيًا كليًّا بالشيء وما يجعله فعلاً في التاريخ، حين يصبح له تقديره الثقافي كأن تتحول الجغرافيا إلى مساعد على سيولة الحركة الاقتصادية من خلال تفعيل قوي للسياحة مثلاً، أن يتحول الضغط التاريخي السابق إلى مساعد على إنتاج الثورة، هنا يمكننا أن نتجاوز المركزية التاريخية إلى صناعة الثروة. من خلال ربط الشيء بالفكرة أي أنّ ارتباط الجغرافيا بالفكر، يجعلها تتحرر من مخزونها التاريخي الذي يجعلها حبيسة ذاكرة مكلومة ومجروحة، إلى أن تكون تطهر الجغرافيا من الذاكرة حين تنخرط الذاكرة نفسها في صناعة الثورة وتوفير الكرامة للفرد، من خلال انخراطها في عملية إنتاج الثروة، أو إنتاج المستقبل.

وهذا لا يتم إلا بتثقيف الجغرافي وتحرير مفهوم الثقافة ذاتها من التصورات التقليدية، إلى إعادة تصور وضع مفهومي للمفهوم، أي أنّ الثقافة تنتقل من دلالة مادية حافة إلى دلالة أخرى، حيث تصبح هي بناء وضع جديد للإنسان.

هذا يجعل الثقافة تفرغ الإنسان من كل أشكال السلبية التاريخية، إلى وضع يتخذ فيه شكل التكامل، وذلك بتجاوز الإحراجات التاريخية، أي أنّ الثقافة تعمل على استعادة الإنسان لإنسانيته، بتجاوز جميع أشكال الاختزال الكولونيالي واللاهوتي، وهذا فعلاً يقع في صلب ما أشار إليه الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير في معرض حديثه عن الثقافة bildung على اعتبار ها موجهة للنزعة الإنسانية، وذلك بإعادة تأمل الوضع المفهومي للثقافة في تاريخه، والقيام على الاختزال الرهيب الذي تعرض له المفهوم، من خلال إحالته على معان خارجة عن جوهر الفرد، إلى الأشياء المادية أو المعطاة في العالم الخارجي، يقول: "لم يعد هنا معنى كلمة bildung نفس معنى كلمة kultur أي أنّها لم تعد تعني تطوير مدارك الفرد مواهبه، وفي الواقع يستحضر ظهور كلمة bildung التراث الصوفي القديم الذي كان الإنسان طبقًا له حاملاً في روحه صورة الله التي تشكله، ويجب عليه أن يزرعها في نفسه.. فالثقافة كالطبيعة nature ليس لها غايات خارج ذاتها.. وعندما لا يكون للثقافة غايات خارج ذاتها، فإنّها تتجاوز المفهوم الذي يقتصر على أنّها مجرد تثقيف للمواهب، ذلك المفهوم الذي استمدت منه.. ومن هنا، فالثقافة، في ارتقائها نحو الكلي مهمة إنسانية، فهي تتطلب تضحية بالوجود الجزئي لصالح الوجود الكلي"[5].

ومنه؛

لنؤسس هذه الاستراتيجيّة الثقافية علينا أن نُحدِّد موقفنا من العالم الذي ننتمي إليه، هل نحن جزء من العالم القديم أم العالم الحديث؟ لأنّ تحديد الانتماء سيجعلنا نفهم أُسَّ المعضلة التي نُعَانيها، يبدو أنّنا ننتمي من جهة الموضوعات والقيم إلى عالم قديم، وننتمي إلى عالم جديد أو حديث شكلاً فقط من ناحية أنّ المغلوب مولع دائمًا بتقليد الغالب، ونكون بهذا قد انتقلنا من تقليد متوارث للعالم القديم، إلى تقليد مُسِفٍّ للعالم الجديد، هذا التحديد سيجعلنا نقف من القيم موقفًا جديدًا حاسمًا، ويجعلنا نتجاوز النظر البائس والثابت للقيم، لأنّ هذه الأخيرة في العالم الجديد متحركة وليست ثابتة كما يتصور أنصار النظرة الإسلامية الكلاسيكية، فهم ينطلقون في ذلك من مدار ثابت للعالم تحكمه نظرة قديمة للفقه التقليدي الذي يقسم العالم إلى دارين؛ دار الإسلام ودار الكفر.

هذا التقسيم الذي جعل الحوار وممكناته ضعيفة بين العالمين، لأنّنا صادرنا الآخر وأفرغناه من أيّ إضافة، وبالتالي فشرط الحوار مجهض ابتداءً. لأنّ القيم بهذا التقسيم التقليدي تجعل دائرة العالم القديم صحيحة دائمًا، ودائرة العالم الحديث فاسدة دائمًا، استحال معها أن نتصور حلاًّ لهذا الإشكال.

هنا؛ ودون تفريع، علينا أن نرى القيم المنتصرة والفاعلة الآن؟ هل هي قيمنا أم قيم غيرنا؟ هل هي قيمنا الثابتة التي ننظر إليها وراءنا، بحكم أنّ هذا الماضي؛ مستودع الخيرية ونقطة الثبات الوحيدة في حياتنا، أو قل هي مرجعيتنا، أو قيم الآخر المتفوق. هذه المقايسة مهمة لأنّ القيم التي لا تقاس تكون دومًا خارج التاريخ، تستمد مرجعيتها من نقطة ثابتة في الزمن، وهي خارج التاريخ بحكم أنّها ليست فاعلة الآن، فالسقف الرمزي للقيم المهيمنة الآن هي قيم الغرب، وبالتالي نحن باعتبارنا مسلمين نعيش خارج العالم الجديد المبني على قيم مختلفة عن قيمنا، فنحن مستهلكون لقيم هذا العالم الجديد، وزُبَنَاء لديه، ولا يمكن أن نُزَاحِم العالم الجديد قَيمِيًّا إلا إذا وضعنا قيمنا في سوق المنافسة.

أن نخرج من طور النَّظر خلفنا، إلى دخول التاريخ؛ يعني وضع قيمنا في منافسة مع قيم الآخر. لأنّ هناك كثيرًا من القيم عندنا يُمكن أن نُراهن عليها لأن تُحاور الغرب لا من جهة الغلبة عليه، وإنّما من جهة الإضافة إليه، ولا يكون ذلك إلا بسَدِّ باب التقسيم التقليدي للعالم، وبناء تصور جديد ينظر للعالم كعالم فقط، دون أي تصنيف لاهوتي يجعلنا موقفنا من العالم في حرج، علينا أن نقوم بحركة كوبرنيقية جديدة للعالم، وذلك بتغيير المدار التقليدي من السماء إلى الأرض، أن نعطي للعالم نظرة أرضية تحتفي بالإنسان، ليكون الإنسان هو أساس العالم ومحوره، لأنّ القيم في النهاية هي ما يمكن أن نعيش به وسط الآكلين والشاربين، بعيدًا عن أيّ نظرة تيوقراطية، سَتتفتح ولا شك الدلالة الأرضية للقيم الإنسانية، على ذلك التراث الضخم للاحتفاء بالإنسان في الإسلام، وكذلك ستُفتح الأبواب واسعة لإعادة انتشال الإنسان من وضع أنطولوجي صعب جرته عليه التقنية والرأسمالية الفظيعة التي جعلته سلعة، ستمكنه أن يُسائل هذه الإنسية، ويُسائل مصيرها.

هنا في مُمكِن القيم الإسلامية المنفتحة أن تتدخل أرضيًّا في حوار جذري وعميق مع هذا العالم الجديد. وهذا يفترض منا القيام باستراتيجيّة متعددة الأبعاد، تعمل على تثوير الأنوار الإسلامية فعلاً مُخلِّصًا للإنسان من سؤال النهايات الذي يطرحه العالم الجديد الآن، بل ستطرح هذه القيم بعمق لما لها من ممكنات داخلية؛ سؤال الأقليات والعرقيات والجندريات، الذي يجعل الغرب يتهاوى في دَعَاواه، عليها - القيم الإسلامية - أن تمنع الغرب من السقوط الآن، لأنّ الغرب بهذا الاعتبار مُنتجٌ من منتجات عالمنا القديم الذي نعمل على حواره وتجاوز مآزقه الأيديولوجية والأنطولوجية، فتصحيح المسار الغربي؛ فيه اندفاع لقدرة القيم الإسلامية نحو تعزيز إمكانية المحبة والصدق باعتبارهما سلوكيين حضاريين متينين للقيم الإسلامية الراشدة.

هذا السبيل في تصوري يجعلنا نُعزِّز إمكانيات القيم الإسلامية الأرضية، بعد هذا التاريخ من التعليق الفينومينولوجي، فتعزيز إمكانيات الإنسان المسلم في دائرة الغرب، ومساعدة الحضارة الغربية على عدم السقوط، والقيام داخلها بمشروع حواري هو ما يعزز القناعة لدى الآخر من جدوى القيم الإسلامية لأنّها قيم كونية لا تختص بالمسلم فقط، وإنّما تختص بالإنسان إنسانًا، لأنّ فيها كمالات العالمية التي حدثتنا عن الآية الكريمة: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".

إنّ مساعدة العالم الجديد على عدم السقوط/الانهيار هو تعزيز لدائرة القيم الإسلامية ومنحها صفة الكونية، وتعزيزها لممكنات الاعتراف، وتنقية لإنسان العالم الجديد من كل القراءات الاختزالية الكلبية والبوهمية والماركسية.

هذه المحاولة الجذرية لربط المصير الإنساني ببعضه، وتأسيس فقه الخلاص الجماعي سوف يفتح داخلنا نحن المسلمين أن نتخلص من كل الفقه البدوي لننتج فقهًا كونيًّا، بل ويجعلنا نتخلص من كل اليوتوبيات التقليدية التي أنكبت العالم القديم بحلم الفتوحات التقليدية، ويجعلنا ننتقل من فتح الجغرافيا بالمفهوم الحرفي لكلمة الفتح، إلى فتح عقل إنسان العالم الجديد وقلبه لقيم الإسلام، لحظتها ستكون الجغرافيا تابعًا للعقل والقلب معا.

ستنكسر على عتبات كونية القيم الإسلامية كل الإيديولوجيات الجهادية التي تجعل من المسلم ديناميت سوء الفهم، فتعميم القيم يجعل الفهم في حالة وضوح كوني، ساعتها ستكون كل الأرض دارًا للسلام وتفقد كل الفقهيات الجهادية مبرراتها. إنّه فقه كوني يعمل فيه الإنسان على إنقاذ أخيه الإنسان من المصير العبثي والكلبي والجهادي.

هذا العمل المرحلي يتطلب جهدًا عمليًّا وليس فقط قدرة تنظيرية متينة، بمعنى أنّ الوثبة القيمية التي ننادي بها تجلعنا نتجاوز شكلين من التقليد وقعنا فيهما؛

- التقليد الداخلي للعالم القديم الذي صنعناه.

- التقليد الاستهلاكي للعالم الجديد الذي صنعه غيرنا.

وهنا نطرح سؤالاً جوهريًّا؛ كيف السبيل لأن ننتج قيمًا جديدة تخلصنا من حالة الشعور بالذنب اتجاه حضارتنا الإسلامية، وتجعلنا نعيش في سلام مع الآخر، هذا الأمر لا يتم إلا بالنهوض ضد كل أشكال البناء المعرفي التقليدي الذي ما زلنا نردده، أن نكون ضد كل أشكال التقسيم البدوي للعالم، أن ننتقل بكتلة التراث من فقه البداوة إلى فقه المدنية، هذه الدلالة الاجتهادية لا تعمل على نسف القيم القديمة، بل بالعكس على إتمام مكارم القيم التي ما عاد بعضها يصلح لأن يكون مادة نستهلكها في العالم الجديد الذي نعيش على ضفافه، ولعل منبت هذه القيم يجعلنا نحفر أو ننبش في الفقه المقاصدي الذي يفتح أسئلة المآلات بشكل قوي، ويعطينا بشارات يمكننا أن نبدأ منها لتعزيز الإمكانيات الحضارية للقيم الإسلامية. هذا الشكل سيجعلنا نتجاوز كل الفقه الغنوصي والكلامي المشرقي المبني أساسًا على تعزيز إمكانيات القبيلة والعشيرة، أي أن ننتقل لأول فعل يجعلنا ندخل التاريخ وهو بناء الدولة. ومع الدولة تنتهي أشكال العصبيات البدوية، تتماوت على عتباتها القبيلة والعشيرة لتصبح القيم في جهة تعزيز المواطنة والعيش المشترك.

وهذا يملي علينا أن نتحدث عن نقلة جديدة من؛ الفقه القابع في النصوص إلى فقه الإنسان، وهو الفقه العملي الذي يفتقد له المسلم اليوم. هذا الفقه يجعلنا ننتقل من اللحظة المشرقية التي تحتفي بالنُّصوص، إلى الفقه الأندلسي الذي يحتفي بالإنسان، ولما نقول الفقه العملي نتحدث عن القيم العملية، المعززة لدائرة الأخلاق، التي تؤدي ولا شك إلى صناعة متميزة للإنسان، هنا فقط نخرج من سؤال البيضة والدجاجة لنُسلِّط الضوء كيف تبيض الدجاجة القيم، فتصبح الدولة هي الآلة التي تبيض القيم. وليست أشياء متعالية معلقة من عرقوبها.

وهنا نصبح كائنات فاعلة في التاريخ وليس كائنات زمنية بالمفهوم الدَّهري؛ أرحام تدفع وقبور تبلع، أن نتجاوز الرؤية الدهرية، لنُقيم في الدهر ونُعمِّره، فدخول التاريخ من خلال فعل الدولة يكون ببناء المواطن، ومعه القيم المشتركة التي تحميه من العدوان، وتؤسس للتعايش المشترك، هنا فقط نفهم أنّ القيم متحركة بين الفاعلين الاجتماعيين تتغير بتغير المصالح، وليست واحدة منذ وجد الإنسان. وعليه نفهم بأنّ القيم تتغير بتغير الأفق الذي ينظمها، وتجديد فهمنا للإسلام يكون نتيجة لرهانات هذا الأفق الذي تتحرك فيه القيم. هذا المسار يفرض علينا طرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية؛

- ما شكل التاريخ الذي نريد صناعته بعيدًا عن كل أشكال الرداءة الآنية والسابقة؟

- هل تركت لنا المشاريع الفكرية العربية والإسلامية ما يمكن أن نتعلق به لتحقيق فعل الوثبة؟

- أين تكمن الأنوار الإسلامية التي تخلصنا من الرؤية التقليدية للعالم؟

- متى يكون لنا موقع في هذا العالم؟

- هل تكفينا قيم الاعتصام لأن نُحصِّن أنفسنا؟

وغيرها من الأسئلة التي تجعلنا نؤكد أنّ غالبية المشاريع الفكرية العربية تكاد تكون في مجملها مذكرات شخصية، بحثت عن ما يشبهها داخل حلقات التاريخ، كالبحث في الرشدية للعقلانيين، والبحث العرفاني للمتصوفة، وغيرها من النرجسيات التي تضخم من دائرة الشخص، وتعدم كل الطرق التي تُنقذ الأمة من تفعيل دورها، وتفعيل الدور لا يجعلنا نتحدث عن زمنية معينة تأسيسية، لأنّ تلك الزمنية هي متفردة ليس في مقدورنا الآن أن نحذوها بمجرد تشخيص سلس لمجموعة من العنعنات التي تبحث لها عن مصحح يثبت جدواها، فالتاريخ لا يمكن إنقاذه بهذا السبيل، لأنّ التاريخ ننقذه بالأفعال وليس بالمرويات.

في ظل تنامي هذا التفكير الذي يبحث دومًا عن الأنوار الإسلامية التي تبحث في الوحدات المرعبة، وذلك السؤال القيمي المرعب من نحن؟ الذي جعلنا ندفع تكاليف باهظة من عمر الأمة دام قرنًا بكامله، لماذا لا نبدأ بأن ندخل التاريخ من خلال التَّبَنيُن في فعل البناء الغربي مع محاولة تشخيص داء هذا الكيان لإنقاذه من الانهيار الذي يُبشر به فلاسفته ومفكروه سنؤكد هنا على أمرين؛

- أن نقدم وجه الإسلام الإنساني.

- أن نقدم الصورة المكتملة للإسلام باعتباره وحدة الأديان الكلية، وصفته العالمية أو الكوكبية، هنا سيتعرض الإسلام الكلاسيكي لرجة كبرى، سيتجاوز البنية الأولى البدوية التي خلقته، ليجري إلى دلالة أكثر قوة هي الدلالة الإنسانية، من خلال تفاعله خارج دائرة العالمية الإسلامية الأولى، هذا الأخير يُعزِّز تلك النقلة من مكة إلى المدينة، أو النقلة من القبيلة إلى المَدَنيَّة/ الدولة.

وهذا يجعلنا ندخل صراعًا حقيقيًّا حول صورة القيم التقليدية سنُخلِّص العالم من قيمه الكلبية، ونُخلِّص أنفسنا من قيمنا التقليدية. وعليه سنقدم فعل التاريخ على فعل الأنوار، إن كان مشروع الأنوار مرعبًا لهذا الحد، ومجرد تحريكه يثير فينا حساسية عامة، ورهاننا أكبر من كل هذا؛ علينا أن نُقدِّم كَمَالات الرؤية الإسلامية للعالم الجديد. وهنا نصنع لحظتنا أو لنقل تتحرك إرادتنا، فلما تتحرك الإرادة نتغير على ما نحن عليه في الواقع، وهنا نؤسس لرهاننا، أي نصنع أشياء جديدة لواقع جديد. وبالتالي تحقيق تلك الوثبة التي نرجوها جميعًا.

وهنا نطرح سؤالاً جوهريًّا هل ينبغي علينا أن نتحدث عن إصلاح جذري للقيم التي فسدت أم نتجاوز قيمنا التي ما عادت تصلح ولا تَتَواءم وهذا الزحف الليبرالي والعالمي والأحادي، معنى هذا سنبقى زبائن مطيعين إما للماضي، وإما للغرب، ولا فاعل قيمي الآن نصنعه بأيدينا، إنّ الصناعة تعني هاهنا كيف يمكننا أن نسعى في تكوين فرد يتجاوز أزماته؟ لعل سؤال القيمي هنا يرتبط بمسائل منها تتعلق بعموم الاستراتيجيّة التي نحن بصدد الحديث عنها:

- إصلاح كلي على مستوى الحضارة.

- إصلاح وسطي على مستوى الملة التي ننتمي إليها.

- إصلاح محلي على مستوى البلد الواحد.

- إصلاح داخلي على مستوى العائلة.

- إصلاح ضيق على مستوى الفرد.

ولعل التقدير الجذري للإصلاح لا يبدأ من فوق، وإنّما يبدأ من تحت: أي من الفرد/الإنسان، هاهنا علينا أن نطرح سؤالاً جوهريًّا هل الإنسان اليوم متأزم لنُغيِّر فيه قطع غياره الفاسدة، أم أنّ الأمر يحتاج لأن نضع أيدينا على الداء وعلى مكمن الجرح الحقيقي. ما الفاسد في الإنسان العربي لنُصلحه، هل الفساد كامن في العقل، أم في الدين، أم في اليد؟ هذا يجعلنا نَقلب الصورة فكاملات الإصلاح تبدأ من الفرد، هذا السؤال يجعلنا نقرر أنّنا لم نحتف بالفردانية، لذلك مشكلتنا بوصفنا عربًا اليوم بإيجاز في فقه الجماعة، الذي لم يراع القدرات الخاصة، جعلنا جميعًا في قفة واحدة، ذلك أنّ تاريخنا هو تاريخ الجماعة والقبيلة والعشيرة، والكوكبية اليوم تُعزِّز الفرد في قدراته الخاصة لفارق جوهري أنّ الجماعة تقلد ولا تبدع، والفرد يبدع ولا يقلد. ومكمن تطور أيّ أمة في فردياتها. وتاريخنا الإسلامي حافل بتاريخ الإساءة للأفراد.

هاهنا علينا أن نستنفذ الرؤية لتكون الاستراتيجيّة متكاملة، وليست مجرد صياغة لغوية مشحونة عاطفيًّا، ما نحتاجه هو هذه النزعة الفكرية الجامعة التي في مقدورها أن تتصور وضعًا للقيم يتجاوز ما نعيشه اليوم من تأزم أو قل من تكلُّس.

و بالتالي فالمشروع عبارة عن قراءة أولية تنطلق من قلب جذري لما ألفناه، حيث ينطلق هذا المشروع من:

-   محاولة إيجاد وضع أنطولوجي للمسلم الأخير ينطلق من حاجة ضرورية للتخلص من الإرث الوثوقي والبياني المشرقي، ونحت طريق نحو تجذير الفقه الأندلسي والمغاربي الذي يحتفي بقيم الأرض والإنسان.

-   إنقاذ صورة المسلم الأخير وذلك بجعله في قلب الرهان الغربي، ومشاركة الإنسان الغربي في إنقاذ مشروع الحضارة الإنسانية، وتقديم بدائل جذرية في عمق نقد الكلبية والعبثية الغربية وتأسيس بداية جديدة وتغيير جذري في قيم النهايات التي يروج لها العقل الغربي وفتح سؤال المصير بتقديم حلول جذرية للإنسان من حيث هو إنسان.

-   هذا العمل يمكن المسلم من تجاوز كل الفقهيات الجهادية الناتجة عن الحلم البدوي للفتوحات بالمفهوم الجغرافي لتعزيز إمكانيات الفتح المعرفي. وبه ينطلق المسلم في قلب هذا المشروع من تبييض صورة دينه بكشف كل الفهوم الجهادية البعيدة تمامًا عن فقه الحياة.

-   إبعاد شبح الأسئلة النهضوية والأنوارية المرعبة، وتأسيس فعل الدولة لدخول التاريخ، وتحقيق المواطنة الحقة بتأسيس عقد اجتماعي فاعل وقوي وحاسم، يتجاوز كل العنجهيات العشائرية والقبلية.


[1]- ينظر بول ريكور، فلسفة الإرادة؛ الإنسان الخطاء، ترجمة عدنان نجيب الدين. المركز الثقافي العربي الطبعة الثانية. 2008

[2]- محمد عابد الجابري. تكوين العقل العربي. المركز الثقافي العربي الدار البيضاء بيروت. الطبعة الثامنة 2000. ص 49

[3]- المهدي منجرة، قيمة القيم، المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء / بيروت الطبعة الثانية2007. ص 14

[4]- مالك بن نبي. مشكلة الثقافة. ترجمة عبد الصبور شاهين. دار الفكر. دمشق. ص 44

[5]- هانز جورج غادامير. الحقيقة والمنهج؛ الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية. ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح. دار أويا للطباعة والنشر.الطبعة الأولى. طرابلس.2007. ص ص 57.58.59.60.61