بلاغة الجسد الثائر: البوعزيزي كائناً سردياً


فئة :  مقالات

بلاغة الجسد الثائر: البوعزيزي كائناً سردياً

بلاغة الجسد الثائر: البوعزيزي كائناً سردياً

يمثل جسد البوعزيزي الحالة الشعرية القصوى التي جعلت رأس النعامة يخرج من الرمال التي طمست الحقائق، هذه الحالة الشعرية حررت الإنسانية من معتقلها التاريخي الكبير، خرجت الإنسانية أخيرا لتعبر بقوة عن رفضها للسطوية المضاعفة؛ سياسية وفقهية وأن تقول تلك الشعرية أن القوالب والنمطية لا يمكنها أن تعتقل الفرد طويلا لتحيين اللحظة الأنطولوجية القاسية التي أدت إلى حدوث منعرج حاسم من الشعرية الجمالية التي كانت تكتبها الفردانية على جسد الثقافة العربية، النمطي الثقيل الذي لا يقبل بسهولة الخروج عن الطوق، إلى جمالية سلبية جعلت الفرد يكتب قصيدته بجسده، يدمر الجسد لتنكتب القصيدة بقسوة، إن الجسد هنا اكتسب دلالة طائر فنينق الذي يخرج كل مرة من رماده بعد مشهدية مأساوية عن دلالة الاحتراق، هنا تبتت الحياة في المفهوم الجذري للحظة النقد الشعري الذي يعبر عن حالة تأزم عميق في الجسدانية العربية، حالة تأزم عميق في السلطة العربية المزدوجة.

فالجسد كقيمة غير لغوية تجاوز النظام الأورتذكسي لتلك البلاغة المعجمية لصالح بلاغة استعارية تعرَّى فيها الناسوت من كل أشكال الناسوتية، ليصبح اللاهوت في مأزق حقيقي، الجسد هنا تحرر من القيمة النرجسية، من عقدة الامتلاك إلى تطور إلى حلقة اكثر إحراجا للسياسي والفقهي.

ما قام به البوعزيزي أحرج العقل الفقهي وأوقفه عند تناهيه، وجعله يقف عند حدوده القصوى للتهالك الذي أصاب المنظومة الفقهية، ومن ثمة صادر كل الأحكام المبدئية عن مشكلة الانتحار ودلالتها بالنسبة للفقه الإسلامي الذي صادر حرية الفرد في جعل جسده ديناميت يتفاعل من خلال تحطيم القيود القصوى للتحرر من أشكال الاستعباد التاريخي ضد السلطان العربي المصاب بلوثة الشرعية والفقهية من اللحظة التي اتحدت فيها كل الرمزيات السياسية بأخرى دينية.

ففعل البوعزيزي جعل الفقيه يقف عند حافة الإفلاس ليجتهد في الوضعية الأنطولوجية، ويتساءل هل ما آل إليه الجسد البوعزيزي انتحارا أم فعلا تحرريا للقيم الإنسانية؟ التي ظلمتها الإرادات الاختزالية للسلطة العربية، تلك السلطة المركبة والمتسمة بأكثر من رأس؛ سياسية الواجهة الاولية وفقهية في الواجهة الخلفية، هذه السلط المضاعفة التي حجمت دور الفرد وأيقنته في اتجاه واحد من أنه تابع، بل جعلته عبدا إضافيا للتركة أو "ذاتا" مقبورة في الجماعة.

وبالتالي حرمته؛ أي تصرف بمطلقية في جسده الذي أصبح قلعة برومثيوسية أخيرة في اتجاه تعديل الوضعية التاريخية للجسد الذي طالما كان ملكا للجماعة، ولم يكن ملكا للفرد، هذه الوضعية أهدرت الفرد من الداخل، وجعلته يشعر بأنه تابع للمنظومة ومتبوع كقيمة لفقهها ونظامها الأخلاقي، لكن السِّياط والجروح التكرارية على جسد الفرد والإهدارات المتكررة لحقوقه في الحصول على قيمة السعادة، جعلته يشعر أنه لم يعد شيئاً. لذلك قرر أن يعيد تصويب الوضعية الأخلاقية لجسده وهذا يجعله يثور ضد كل الأيقونات الفقهية والسياسية التي تضافرت في تسييج الجسد واختزاله كقيمة لاهوتية لا يمكن التصرف فيها، هنا فقط خرج الجسد عن طوره، ليصبح قيمة تهديمية أو كقيمة تعبيرية وإنجازية لإفلاس السلطة العربية المزدوجة، وجعلها تقف عند حدودها لذلك حين تحول الجسد إلى ديناميت.

انتقال الملكية من الجماعة إلى الفرد سهل بعمق تهاوي السلط العربية السياسية والفقهية وأصبحت عمامة الشيخ أمام مطب حقيقي وجوهري هل نعد فعل البوعزيزي انتحارا أم شهادة؟، هذه الرؤية التعبيرية جعلت البوعزيزي كقيمة نصية في مشهد الحرق ينتقل رمزيا من معبد الآلهة إلى تحقيق بشرية الفعل أن يسقط الفعل في التحميل الديني إلى كونه ظاهرة إنسانية مؤقتة، ونعتبرها حدثا شكَّل مفصلا أساسيا بين وضعية الجسد المهدور ووضعية الجسد المتحرر والذي قاد ثورة ليس فقط على السياسة العربية التقليدية البدوية، بل حتى ثورة على الفقهية العربية التي تعرت من التباسات التاريخي وأصبح لزاما أن تراجع موقفها، لذلك سارعت بعض الأصوات الفقهية والمرجعيات الدينية أن تعطي سندها الديني للفعل وتحمل الرؤية الدينية عكس بناءها التقليدي هذا الإفحام الذي تعرض له الشخص الديني ينم عن عجز رهيب في السلطة الدينية التي طالما وقفت تاريخيا إلى جانب سلطان مغشوش عمل على استيلاب الفردانية واختزال دورها وتحجيمها في مبدأ الجماعة.

إن تدمير الجسد بالمفهوم البوعزيزي يعني إعادة تدبير الذات التي وقفت بشجاعة امام إحراجاتها وإكراهاتها؛ فالحرق هنا لا يمكن أن نقرأ ضمن تلك الآلية التقليدية، بل يمثل الحد الأقصى لانهيار الريع التاريخي، باعتبار الجسد قيمة تاريخية مختزنة في مفهوم الجماعة، إنه الممكن الأخير للقيمة التعبيرية عن حالة القلق، أو هو لحظة الامحاء القصوى حين يعزل العقل عن التعبير عن ممكناته أمام سلطة لامعقولية، سلطة لاهوتية، سلطة تراثية.

فالبوعزيزي دمر كل هذه الأبعاد وأصبح في مشهد الحرق قيمة جمالية غاية في التراجيدية، ذلك المشهد عن كومة النار يحمل دلالة مفصلية لشعلة النار التي نزلت بخطاب الجسد من قيمة تاريخية ودينية لمكانة دنيوية، ويصبح الجسد له دلالة أرضية، هذا الانزلاق جعل النزعة التطهيرية تشتغل بقوة إضافية للمأساوية المريعة لكن القربان لم يكن تيساً في التقاليد التراجيدية للموكب الساتيري، بل كان الإنسان في أوثق العلائق للجسد الذي وقعت عليه الطقوسية والاحتفالية، فالحرق يعبر عن خرق لكل تلك التقاليد الموروثة كابرا عن كابر، إنه توليد لطاقة جديدة ينتهي فيه التقييم الرمزي للجسدانية العربية، باعتباره قيمة مضافة للسلطة إلى كونه قوة تدميرية لتلك السلطة، هذا التدبير المختلف للجسد في فضائنا الفقهي والسياسي أعاد ترتيب قيمة الحياة، هل الإفناء ضد نزعة الحياة وبالتالي لا يملك الفرد وضع حدا لحياته؟ هذه الصورة "صورة الحرق" تحمل برنامجا سرديا مغايرا تعود بنا إلى لحظة إهدار العقل، إنه تعبير عن التعطل والتكلس المطلق لإعادة بناء عقلانية عربية يمكنها إعادة تأويل المجتمع، فالجسد الذي خرج عن طوره يعبر عن إفلاس في العقلانية العربية التي صادرتها اللامعقولية السلطوية التي انبت أساسا على عالم الدروشة والايهام وبنت الفرد خارج الضرورات الأساسية لقيمة الحياة، فالخطاب الفقهي التقليدي طالما مج الحياة وجعلها منبوذة.

وبالتالي، يعبر الحرق هنا عن قمة الزهد في عنصر الحياة، بل هو من جهة أخرى يعبر عن نقلة في أقنوم الحياة التقليدية التي رسخت السلطة العربية التي جعلت الفرد خارج حدود الجغرافيا المعاصرة التي تجعل اللذة وعناصر المادة أساسا للحياة الكريمة، بل سَوَّقت للحياة التي تعتمد مفاهيم الخصومة المطلقة مع ضرورات الإشباع وشجعت لاستنساخ نمط الزهد والتقتير لذلك فشل الفرد العربي في إنتاج عالم اللذة، لأنه أحد المرجعيات الكبرى في بناء ثقافة الشرخ التي يمكن أن تنقل الفرد من كونه تابعا لكونه مستقلا، معتزا بفرادته لأنه قيمة منتجة في التاريخ لا قيمة تنتجها السلطة التاريخية، ولعل قيمة عالم اللذة هي المحرك الفعلي لإنتاج خطابي علماني حين يمكن للفرد أن يشعر بالسعادة بعيدا عن المعبد التاريخي المحروس بالأسوار، والتأويلات التي جعلت الجغرافيا العربية مليئة بالعشوائيات وعززت من مبدأ القحط والزهد لأن البناء التحتي للفقيه يرفض فصلا بين السلطة السياسية والفقهية وعالم اللذة يحقق تلك العلمانية حين يمكن للفرد أن يبني مجتمع السعادة بعيدا عن الآلهة.

وهنا أطرح سؤالا جوهريا ما معنى أن ننتج من الجسد المتشظي خطابا للثورة؟ بل ما معنى أن يصبح جسد البوعزيزي قيمة بلاغية وجمالية حررت العقل العربي من كل السلطانيات البلاغية والفقهية؟ بل حرر الذات من هيمنة الجسد بالمفهوم الدوغمائي، والجسد بالمفهوم الاخلاقي؛ الجسد المستور، المتواري خلف الحجب المضاعفة للتاريخ/الثقافة / التقاليد تلك السلطات الرمزية التي مارست تغييبا للجسد العربي الذي اختزنته في بعد تدميري واحد هو الشهادة تلك القيمة الأخلاقية التي تشرعن تحول الجسد إلى ديناميت قاتل، وهي قيمة متاحة تاريخيا، وهي ليست موضع حديثنا بقدر ما سنتحدث عن تجربة البوعزيزي من جانب سردي تأويلي.

ما معنى أن نفكر في أجسادنا لنتجاوز معضلة التقنين الرمزي للقيم الكبرى، تلك السرديات التي جعلت العربي مستلب الإرادة سياسيا وفقهيا؛ فالجسد بمفهوم البوعزيزي خرج عن طوره، إلى كونه ديناميت هو النص الأمثل الذي خرج عن الأمثول المؤسساتي الذي رسمته السلط المختلفة سياسية أو فقهية، خرج عن نظام الرقابة والمصادرة الكامن في العقل التاريخي.

إن جسد البوعزيزي أوقع المنظومة السياسية والفقهية العربية في حرج شديد كان معه لتلك المنظومة من لزوم مراجعة تخاريجها المتوارثة إلى نوع من التجديد والثورة المعرفية، لكنها ما تزال متكلِّسة باعثة على الخواء، لأن الجسد المحترق مارس إقلابا كليانيا قاد جيل الثورة نحو إحداث قطيعة مع المفاهيم الكبرى التي ستتوارد في شكل نقد جذري للقيم السلفية.

الإحراق هنا؛ هو تدمير للكينونة المعطلة لمفهوم التساؤل لماذا أنا موجود؟ إنه خروج إرادي للقوة الكامنة في الذات نحو تصدير هوية جديدة تتجاوز التكلس الفقهي والسياسي الذي جعل الذات العربية مهدرة القيمة تابعة لزمنية مفقودة، من لحظة الاسترقاق لصالح هويات شعائرية تمجيدية للسلطان، تلك الأنظمة مفلسة معرفيا وراكدة تاريخيا متوارية خلف الزجاج الحامل لقيمة الانكسار الذاتي.

فالجسد قيمة غير لغوية تجاوزت النظام البياني/ الخطابي التقليدي، لصالح بلاغة جديدة اتخذ فيها الناسوت قيمة تحريرية له من التبعية للاهوت، من عقدة الامتلاك إلى كونه ديناميت، هذا الجسد المتفاعل ذاتيا نتيجة تعطل مبدا الجماعة في العقل، نتيجة إفراغ الجسد من صيغ تمظهر السلطة عليه في شكل تراكم أنهك الجسد في الحفاظ على استمرارية الحياة، من لحظة الإحراق، فهو نوع من قهر السلطة لجسدها باعتباره/الجسد/ ممنوحا باسمها وملكية لجامعتها.

إنه إفناء وجودي لقيمة الجسد الذي لم يعد له معنى في ظل ترسب البدوية التي غطت الجسد في بعد واحد، فالبوعزيزي أحرق الجسد كتعبير عن تأزم العلاقة بين الناسوت واللاهوت، ذلك الأخير الذي لم يعد يواكب تطور الجسد نظير التحديث الكبير الذي عرفته الجسدانية العربية ضمن التبرج العمراني أوقع الفقه البدوي في إشكال خطير.

ذلك الفقه الذي لم يحدد أسئلته ولم يتجاوز نمطيته الصحراوية التي اختزنت الإنسان وجعلته مملوكا دنيويا سخيفا وتابعا آخرويا ممجدا للعذاب السلطاني في أشكاله السياسية واللغوية المختلفة.

الحرق هنا؛ تفكيك للأبنية التاريخية، نحو تجديد العلاقة بقيمة الحياة خصوصا، إذا كان تفجيرا لأنظمة الرقابة والمصادرة بقطع الصلة بالسلطان الفاسد، نحو تأسيس تفاعل قيمي جديد نحو تجاوز الأثر الصحراوي /البدوي/القبلي إلى التخريج الجديد الذي انهارت فيه قيمة الجسد المنصهر في دلالته؛ الحرق، فإذا ارتبط الجسد بهدف ديني يصبح الفعل مبررا، مع ان الحرق كفعل واحد يبرر منطق هزيمة الجماعة أمام الفرد، لأن قيم الجماعة لم تستطع أن تؤسس في الفرد قيمة المحافظة على جسده باعتباره ملكا جماعيا /بل باعتباره أمانة ووديعة.

إنه إنتاج لخطاب جديد لأسطورة فينيق الذي يحيا من رماده بجسد اكثر شهوانية، البوعزيزي قتل كل الأبنية الرمزية في العقل التاريخي، أصبح الفرد هو المعذب بقراره، تجاوز الإرث الأخلاقي، لأنه انتهاك للسلطة نتيجة الفراغ الكبير في اقناع الفرد بضرورة حماية الجسد العربي من كل ما يحاك به من خطر ليصبح التدمير الذاتي هو ضرب للجسد من الخارج بعد تلك المراجعة التي حصلت بجلد الذات بعد الهزائم المتكررة للإنسان العربي أمام أعداءه، فيصبح المتبقي الوحيد للانتقام هو الجسد، باعتباره الممثل السيميائي الوحيد للسلطة المغشوشة في يد الفرد.

على الرغم من خطورة القرار والدوافع المؤدية لهذا النزوع الذي يحمل قيمة الانتحار؛ فانهيار الجسد هنا يقول أمرين:

-انهيار التاريخي لصالح سلطة الراهن.

-انهيار البعد اللاهوتي الضامن لفقه الجماعة لصالح حرية الفرد.

مع البوعزيزي، تجاوز الجسد القيمة الريعية له من كونه ملكا للجماعة /مستوي الأمانة تلك اللزوماتالسكونية في التاريخ، لم تنتج خطابا جذريا، بل بقيت محافظة على لزوميتها نتيجة الأحكام الذوقية للمصادرة في شكل الحرام الأبدي.

إن الحرق هنا؛ عبَّر عن عودة العقل إلى ممارسة التفكير في لحظة فجائية فجائعية، وهل التفكير إلا حرق للذاكرة؟ وتشكيل وعي جديد باندثار الوعي القديم إلا من أثره، إنها فلسفة الغياب والنسيان للوصول إلى أكثر المحطات الإبداعية في تاريخ البشر /الثورة. ففي تلك اللحظة التي تناسى فيها البوعزيزي من يكون حرر العقل العربي من تبعياته التاريخ-بترولية.

- إن جسد البوعزيزي يمثل قطيعة مع الارث /الثروة الطبيعية للإنسان المهزوم في فردانيته، المغشوش في أنطولوجيته.

- إنه عقاب للإجماع الجسداني /دلالة الستر/الكتمان نحو الفضيحة الكليانية لكل الخيبات المتوارثة للامعقول خلف الستار السلطوي /للشذوذ الكامن في أس السلطة العربية.

- إنه ثأر بالمفهوم الصحرواي للمتبقي القبلي في عقل البوعزيزي، ثأر من شيخ القبيلة من عمامة الشيخ من التسنين الرمزي للفحولة /إنه إخصاء لتلك الفحولة السلطانية، وتوسيع مجالي لسلطة الأنثى التي تصرب بيد شيخ القبيلة (كرمزية للشرطية التي صفعت البوعزيزي) حين تعجز الفحولة في الفراش، فإنها تداس بالأقدام في العلن، هذا الترميز أنهك الجسد الذكوري، لأن الدولة العربية أصبحت عبارة عن فراش الطويل تمارس فيها الأنثى اللَّطم المزدوج النياحة والبكاء، وصفع الرجولة كجزء من فعل السلطة مقابل الريوع الجسد الكثيرة، تلك الأنثى التي تمثل انتقاماً خارجياً لعربدة السلطان على الفراش.

والبوعزيزي هو الهادم في تاريخ السلطة الذي انفجر ضد كل تلك المهزلة ليقتل رمزية الرجل في التاريخ المستلب، فالتاريخ الحقيقي هو تاريخ الأسرة، إنه استيلاب أو إعادة كتابة التاريخ المخصي، فالجسد البوعزيزي أصبح لوحة فنية على قساوتها تحمل رؤية قبيحة للسلطة العربية ونصا مفتوحاً على ألف قراءة.

مع البوعزيزي، فقد الجسد جماليته /فقد الشهوة /اللذة /ليصبح دالا سلبيا على انحسار دور الشهوة /الإشباع/ ليصبح الجسد ذاته ديناميت، الجسد حطم الوثوقيات الكبيرة التي خذلت الإنسان العربي في العيش بكرامة.

فالجسد مع البوعزيزي يمثل الحالة النقدية الجذرية التي يمكن أن تراجع فينا كل المتخيل التاريخي للمفاهيم الكلية للحرية، الإنسان، الوطن...

ولقد عمل الجسد هاهنا على مراجعة المنظومة الثقافية المتسمة باللاتواصل اللانقدي؛ فهي منظومة تقوم في أس ثقافة العويل والندب تلك الشعرية المنفتحة على فضاء مفتوح تاريخيا وجغرافيا.

وما تبقى من البوعزيزي في تلك الصورة الفنية التي أصبح فيها نص الصورة يعبر عن لوحة فنية تمثل فعل مقاومة ضد كل الأيقونات الاختزالية للفرد، الفن يحرر الذات من جبروت الدوغمائيات أو ضد كل الأنماط التاريخو-صحراوية التي شكلت نماذج متعددة لفعل المصادرة الكامن في العقل العربي الذي أسفر عن كائن شاحب مستلب الإرادة كائن صحراوي رملي. فالفن بالتوليد البوعزيزي رهان تحرري من الاسترقاق، والذي بات يروج له البترو دولار في تحالفه مع الأنظمة الرمزية للمنظومات التاريخية والبدوية التي نمطت الإنسان وجعلته مواطنا مهدرا من داخله، هذا التقدير الجمالي لصورة البوعزيزي هي الضامن الوحيد لحرية الفرد العربي الذي بدأ فعلا بكتابة تاريخا بشريا من لحظة مناهضة القيم القصوى المتوارثة لصالح قيم حياتية تؤكد على فلسفة المعيش.