الثورات العربية وإشكالية ماهية الدولة


فئة :  مقالات

الثورات العربية وإشكالية ماهية الدولة

1-الواقع العربي ورحلة البحث عن الجواب:

يعد البحث في قضية الدولة من البحوث المثيرة للجدل؛ فالمجال السياسي مجال يحتاج إلى الكثير من الدراسة لحساسيته من جهة، وأيضا لتركيبة المجتمع الإسلامي من جهة أخرى. لهذا شغل البحث في طبيعة الدولة حيزا كبيرا من اهتمامات المفكرين قديما وحديثا. ولعل مطلع القرن العشرين وسقوط الإمبراطورية العثمانية أسهم في بلورة سؤال الدولة المدنية أو الدينية بشكل كبير، وانبرت الأقلام تنظر، وتفكر، وتضع الإطار النظري لشكل الدولة المرجوة بين داع إلى فصل الدين عن الدولة، وترك المجال السياسي، ليشتغل في إطار ما هو مدني، برؤية تبلورت مع مشروع الحداثة الغربي. وبين مؤمن بأن شكل الدولة لا يمكن أن يخرج عن المشروع الإسلامي الذي تبنته الكثير من الحركات السياسية الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين في مصر.

موضوع السياسة والحكم ومجال السلطة بشكل عام، من المجالات المثيرة التي لا يمكن أن تتبلور لدى المتتبع دون أن يفسح المجال للنقاش الحقيقي والفعال

كان كل اتجاه من هذه الاتجاهات يبرر مشروعه، ويدافع عنه بالوسائل الممكنة، ويريد أن يخضع الآخر لقناعاته دون أن يترك المجال للبحث والنقاش للتفاعل، خاصة وأن موضوع السياسة والحكم ومجال السلطة بشكل عام، من المجالات المثيرة التي لا يمكن أن تتبلور لدى المتتبع دون أن يفسح المجال للنقاش الحقيقي والفعال، بعيدا عن ضيق الرؤية أو التحيز الذاتي. بلغ الصراع ذروته بين الفريقين إلى الحد الذي قتل فيه فرج فودة، وحورب علي عبد الرازق، وكل من أطر أو نظر للمشروع المدني، حينما كانت الأقلام تشير بأن أمر الرسالة السماوية يتجاوز لعبة السياسة، خاصة وأن هذا المجال تعتريه مجموعة من الشوائب والإخفاقات، ويجب أن نبعده عن كل استغلال ديني أو طائفي. وفي المقابل، نجد من التطرف العلماني ما يبرز قبح الممارسة الفكرية، حين يغتال حسن البنا وسيد قطب، ويحارب العديد من المفكرين والحركيين ذوي المشروع الديني في ممارسة الحكم والسياسة. وبين هذا وذاك، تبقى الحقيقة "غائبة" على حد تعبير فرج فودة، ولربما نغتال الحقيقة من حيث لا ندري، حين نختار لنا التطرف في القول والموقف والسلوك، ونتحيز إلى مسبقاتنا، ونعتبر الآخر هو العدو والخصم، في صراع وهمي لا زالت آثاره ممتدة إلى حدود عالمنا المعاصر الذي تشكَّل فيه سؤال مدنية الدولة ودينيتها بشكل بارز، واعتلت الكثير من الحركات الإسلامية منظومة الحكم، لتجيب على سؤال النهضة بشكل واقعي، وتؤكد بالملموس هل هي قادرة على بلورة مشروع ديني للحكم أم لا؟

كان للثورة الإسلامية في إيران دور كبير في بلورة سؤال النهضة الديني، وظل الكثيرون ينتظرون ساعة الإخفاق، لعل نظرية علمانية الدولة تتزكى من خلال إعلان ساعة الفشل. وبدأت معالم الثورة الدينية تتبلور مع الكثير من المفكرين، كالإمام الخميني وعلي شريعتي، وانساق المجتمع ليسقط حكم الشاه، وتتولى إدارة البلاد ثورة كان مشروعها سياسيا دينيا تحت ولاية الفقيه، كما يعرفها الفقه الشيعي. وفي المقابل ظهر في تركيا العلمانية الأتاتوركية مشروعٌآخر يسوقه حزب العدالة والتنمية، كان من إنتاجاته تنمية محلية كبيرة، جعلت تركيا تدخل معترك المنافسة الإقليمي، وتحتل مراتب كبيرة في السياق الدولي، مما جعل الكثيرين يعيدون النظر في تركيا حول سؤال علمنة الدولة، كما نظر لها جمال أتاتورك، وكما حافظ عليها الجيش التركي.

وفي سياق الثورات العربية والانتفاضات الشعبية التي عرفها العالم العربي، لم يكن بد من أن نعيد البوصلة من جديد إلى سؤال علمنة الدولة ودينيتها. فالعالم العربي منذ حصول دوله على الاستقلال، وهو يراوح مكانه، وأغلب الأنظمة التي حكمته كانت تحكمه بقبضة من حديد، وبقواعد شمولية هي إلى الحكم العلماني أقرب؛ فكل شيء في هذا العالم فرداني، الحريات مقيدة، الحزب الحاكم واحد، ديمومة السلطة واحدة، المؤسسات الديمقراطية منعدمة، وهكذا...

جاءت الثورات العربية لتخلق واقعا جديدا، يعيد رسمه الحركات الإسلامية العربية، ولأوّل مرّة يعتلي نظام الحكم في مؤسسات الدولة ومفاصلها تيارات تؤمن بدينية الدولة، وتحارب الاتجاهات العلمانية بمختلف أشكالها، وتسهم بشكل أو بآخر في إدارة الشأن العام، بعد أن كانت مبعدة عنه بفعل الإكراه السياسي. تبتدئ ثورة البوعزيزي ومعها الشعب التونسي، ويسقط رأس النظام التونسي الذي كان يمثل استثناء في الحالة العربية، باعتباره امتدادا لفكر بورقيبة الذي حارب كل مظاهر التدين في المجتمع، بما فيها الحريات الشخصية، من حجاب ولباس وصيام. وفي هذا السياق تعرض الإسلام السياسي للانتكاسة، وهجّرت قياداته في المنفى، وظلّ التصوّر العلماني يدير مفاصل الدولة إلى حين إعلان ساعة الصفر، ليبتدئ العداد من جديد، وتدار اللعبة بطريقة أخرى، يكون فيها الإسلام السياسي لاعبا أساسيا بعودة راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، وتتسلم زمام الأمور قيادات إسلامية في تونس، تعيد طرح السؤال الإشكالي في كل جوانبه، حول علمانية الدولة ودينيتها.

تبدأ الثورة، ولم تقف في حدود ما رسمته شهادة البوعزيزي، وتنتقل إلى حدود الجوار، حيث توجد أكبر جماعة إسلامية في العالم العربي والإسلامي، وأكبر من نظروا للفكر السياسي، وخاضوا معارك انتهت بموت القادة والمؤسسين. تنتقل الثورة، ويسقط رأس النظام المصري والحزب الحاكم المعارض للتوجه الديني في ممارسة السياسة، وتنتقل الكرة من جديد إلى ملعب الإسلام السياسي في جدلية ربما لن تنتهي عند هذه الحدود. وفي المغرب بعد أن استنفذت الطبقات الشعبية كل الخيارات، بما فيها المناوئة للاتجاهات الدينية، جاء الوقت ليتم تجريب الأحزاب الإسلامية، ويترأس حزب العدالة والتنمية الحكومة في ظرف دقيق يطرح العديد من الإكراهات أمام سؤال النهضة.

كل هذا السياق المتشابك من الأحداث والوقائع، يطرح أمامنا سبل البحث في قضية لها أهميتها، ولها حساسيتها وخطورتها، بالنظر إلى النتائج المترتبة عليها. ولا يمكن أن نغفل هذا المسار التاريخي، لنؤسس رؤية منفصلة عنه، ونجيب عن سؤال النهضة في ظل واقع ديني، وسياسات أحزاب تحكم تارة باسم علمنة الدولة، وتارة أخرى باسم الدين.

2-مدخل الإصلاح مفاهيمي:

تنبع أهمية الموضوع انطلاقا من كل ما طرحناه سابقا؛ فمسألة الدولة ليست قضية ثانوية في الفكر الديني عموما، والإسلامي منه على وجه الخصوص. وكذلك، تنبع من السياق الواقعي، الداعي إلى فتح النقاش حول طبيعة الدولة ومؤسساتها، ومدى قدرة التيارات الدينية على المنافسة، من خلال الجودة وتكريس مبادئ حقوق الإنسان، والمحافظة على القيم المشتركة بين كل مكونات هذا الكون.

العالم العربي منذ حصول دوله على الاستقلال، وهو يراوح مكانه، وأغلب الأنظمة التي حكمته كانت تحكمه بقبضة من حديد، وبقواعد شمولية هي إلى الحكم العلماني أقرب

إضافة إلى المعطى الواقعي الذي يفرضه السياق السياسي والاجتماعي، لما نعيشه في وقتنا المعاصر، يبدو مفهوم العلمانية نفسه دافعا أساسيا لركوب البحث من جديد في مصطلح مثير للجدل، لم تنته معه كل البحوث إلى نتائج نهائية، وما زال السؤال مطروحا، والبحث مستمرا، والجدل محتدما بين أطراف كثيرة، يشكل لها بلورة مفهوم العلمانية تحديا كبيرا، وعلاقة الدولة بهذا المفهوم إشكالا لم تفك رموزه بعد. ومن لا يعي خطورة المفاهيم قد يستصغر الأمور، ويحسب أنها جاوزت القنطرة، ونحن في القرن الواحد والعشرين، لا زلنا لم نستطع أن نخلص إلى إجابات نهائية بسبب التحيزات و المسبقات، أو العوائق المعرفية المختلفة. ولعل أزمة المفاهيم من أخطر هذه الأزمات الفكرية، التي تحدث صراعات وتنشئ حروبا، وتقتل كل يوم فينا إنسانيتنا في التنعم بحرياتنا المفقودة، وراء الضغط الاقتصادي والاجتماعي لمجتمعاتنا المقهورة بمختلف مستوياتها. ومصطلح أو لفظ بسيط في أعين متتبع، قد ينشئ حروبا، وقد يميت أبرياء تحت مسميات عدة، تارة باسم الدين، وتارة باسم السياسة، وتارة باسم الحرية وحقوق الإنسان.

هذا المنزلق الحضاري الذي تستدرجنا إليه اللغة، وما يحوم حولها من أعمق الأزمات الضاربة في بنية الفكر الإنساني عموما. والدين بحد ذاته مفاهيم مستقلة، تؤثر وتتأثر في مسيرة تواصلية بآلياتها ومصطلحاتها وألفاظها. ولعل الناظر فيعمق الفكرة المشار إليها، سيتضح له حجم الهوة التي قد تسقطنا فيها مفاهيم كبيرة، لا زالت مجتمعاتنا تجر سلبياتها وإيجابياتها.

إن الواقع الجديد لما سمي بـ "الثورات العربية" دفع من جديد إلى البحث في قضية الدولة وعلاقتها بالعلمانية، فلا بد من نفض الغبار مرة أخرى عن هذا المصطلح، وتتبعه بشكل دقيق في سياقاته التاريخية لعلها توضح لنا المستور، ونستطيع بذلك الخروج بمفهوم يجلي حقيقة التطرف العلماني الذي يريد أن يؤطر علاقة الدولة بالفرد أو المواطن خارج حدود الدين كما يسوق البعض لذلك، ومن جهة أخرى أن نستفيد من المشترك الإنساني والقيم والحقوق في علاقة الدولة بالدين، وتصبح بذلك الدولة مفهوما مؤسسا على الحق والعدل والحرية، ونتجاوز بذلك التطرفات العلمانية أو الدينية، إلى آفاق يتعايش فيها الكل في إطار يبدأ من الإنسان وينتهي إليه كما هي أبعاد التنمية البشرية.

يقتضي البحث في موضوع المصطلح تقريب وجهات النظر المختلفة، فليس مصطلح العلمانية دائما مساويا للإلحاد والتفسخ والانحلال الأخلاقي، وليس الدين دائما مقابلا للتخلف والجمود والإرهاب؛ فلا بد للباحث أن يتوخى الموضوعية قدر الإمكان، ولو أن سؤال الموضوعية والحياد سؤال إشكالي في طرحه منذ نشأة الفكر الإنساني، وصولا إلى العالم المعاصر بكل تجاذباته وتقاطعاته، ومن الصعب الجواب عنه بالرغم من المحاولات الكثيرة التي أحيطت بطبيعة هذا الموضوع الشائك، لأن ولوج مثل هذا السؤال وكشف الغامض من حقيقته، يظل ضربا من التخمين النظري والتجريد المثالي بملامسته عالم الإنسان. فأيّما وجد الإنسان كانت الموضوعية هدفا يسعى لتحقيقه هذا الكائن، من خلال أبحاثه وجهوده الفكرية، وأيما وجد الإنسان أصبح الحديث عن المثالية أماني نفس يصنعها الخيال أثناء معركة الحياة، سواء كانت فكرية أو لها ارتباط وثيق بالعالم المعيش للإنسان.

تعرض الإسلام السياسي للانتكاسة، وهجّرت قياداته في المنفى، وظلّ التصوّر العلماني يدير مفاصل الدولة إلى حين إعلان ساعة الصفر، ليبتدئ العداد من جديد

إن طبيعة هذا السؤال طبيعة مدمرة، إذا لم نتبين أيضا أبعادها ومآلاتها المستقبلية على الواقع البعيد والقريب. فلعل أهم معطى قد يترتب عليه خطر في حجم ما نحن بصدده، هو علو الإنسان بدعوى الموضوعية والعلمية، وخروجه عن حجم حقيقته المحدودة في الزمان والمكان، والمؤطرة سلفا بحجم سقفه المعرفي. وإذا تم العلو فكرا وسياسة واقتصادا واجتماعا، ضاع الإنسان في فلك التجبر على الآخر، بكل ما يحمله هذا الآخر من قيمة مضافة، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا. وبات الإقصاء بكل تجلياته، هو السبيل الممكن لتنميط الناس وفق رؤية معينة، وتعليبهم بشكل يفقد الكون تنوعه المبثوت، وفق سنن وقوانين ثابتة، لا تحابي في دقتها وعظيم صنعها أحدا.

فالتقريب مطلب ملح في عالمنا اليوم؛ فكل الصراعات القائمة الآن سببها هذا التباعد في وجهات النظر، وهذا الإقصاء المتعمد لكل الأطراف، دون السماح لقنوات التواصل أن تأخذ مجراها، وبدل أن ينشغل الإنسان بالبحث عن المشترك ينشغل بالبحث عن الجزئيات المفرقة وما أكثرها. ولعل ثقافة الإقصاء أهم عامل أساسي في عدم الوصول إلى مقاربة، فيها نوع من التلاقي بين القيم المشتركة على مستوى تسيير الدولة.

نستفيد من المشترك الإنساني والقيم والحقوق في علاقة الدولة بالدين، وتصبح بذلك الدولة مفهوما مؤسسا على الحق والعدل والحرية، ونتجاوز بذلك التطرفات العلمانية أو الدينية، إلى آفاق يتعايش فيها الكل في إطار يبدأ من الإنسان، وينتهي إليه كما هي أبعاد التنمية البشرية

عندما نربط الأمور بسياقاتها الاجتماعية والتاريخية والثقافية، نجد بأن العلمانية الغربية هي وليدة عصر الحداثة بشكل عام، كما نظَّر لها المؤسّسون الأوائل، وهي وليدة ظروف محددة. ولكي ننقلها إلى واقع مغاير وثقافات مختلفة، يجب أن نراعي الشروط الموضوعية لظهور هذه المفاهيم وهذه المصطلحات. ولعلّ أهم الأسباب الحقيقية في بروز معالم هذا التوجه في إدارة الدولة والحياة، هي تسلط الكنيسة. وعندما نتحدث عن الكنيسة كمؤسسة دينية، فإننا نتحدث عن رجال الدين ودورهم السلبي في محاربة كل مظاهر العلم والفكر والثقافة الخارجة عن إطار الدين. كما عرف الانحراف والاستبداد والتحالف مع الحكام، والفساد في المؤسسة الكنسية، أوْجَهُ في القرون الوسطى، جعل الفكر التنويري والحداثي يقف وقفة الثائر أمام هذا التسلط وهذه الوساطة التي تحول بين الإنسان وربه، وبين الإنسان ومظاهر الخلق؛ فقد قتل العلماء، وأحرق المفكرون، وحورب كل من سولت له نفسه الخروج عن النسق، لتصبح الظروف ملائمة للحد من هذا التسلط، ولو باستعمال مقولة الإنجيل: "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، تعبيرا عن فصل السلطة السياسية عن المؤسسة الدينية.

إن سؤال ماهية الدولة وتشكلاته المعاصرة يبحث أيضا في إخفاق بعض التجارب الإسلامية ونجاح أخرى في مقاربتها لحكم الدولة. نتساءل عن الأسباب، وعن النتائج، وعن المشروع وتقاطعاته مع المشروع المدني للدولة. وأهمية التساؤلات ومشروعيتها نابعة من عمق الأسئلة التي يطرحها المواطن، وتشكل هاجسا مخيفا له أطلق عنه الغرب "الإسلاموفوبيا"؛ فانتقلت هواجسه إلى قلب دارنا، لتطرح الأقليات الدينية في بلداننا الإسلامية أسئلة وجودية حول المصير والمآل والمنتهى. فبلد مثل مصر، يشكل الأقباط جزءا مهمًّا من نسيجه الاجتماعي، ولضمان الحق في العيش والمعتقد والدين والأمن، يحق لهاته الأقليات أن تعطى ضمانات بعدم المساس بحقوقها، وتشعر بأن الوطن يجمّع برغم اختلاف المرجعيات أو الإيديولوجيات الدينية أو السياسية. وما يقع في سوريا وليبيا مؤرق بالنسبة للكثيرين ممن يهمهم الجواب عن سؤال الدولة. وليس عيبا أن نطمئن الناس على حقوقها في إطار الدولة الدينية، وأن المواطنة حق للجميع، يتساوى فيه المسيحي واليهودي والمسلم وغيرهم تحت قاعدة "لا إكراه في الدين"، كما يقرر القرآن الكريم.