السِّمات العشر للانتفاضات العربية: قراءةٌ نقدية في توصيف عليّ حرب


فئة :  مقالات

السِّمات العشر للانتفاضات العربية: قراءةٌ نقدية في توصيف عليّ حرب

مشكلة الإنسان الحالم المركزية، أو لنقُل بتعبير أدقّ المتفائل هي أنّه يعتقد أنّ كلّ أوهامه قادرة على لعب دور حاسم في عملية التّغيير، والإصلاح، والثّورة على الفساد الاجتماعي، وأشكال الاستبداد المختلفة التي يعاني منها عالم اليوم. هذا الأمر تنبَّه إليه ماركس[1] في زمانه، وهو ينتقد فلسفة الحقّ عند هيجل، إذ اعتبر أنّ الأوهام في عمقها هي بمثابة منشّطات، أو لنقُل محفّزات نحو الاستمرار في هذه الحياة وتشعّباتها، وهواجسها، وإشكالاتها. لذا، فعندما تطلب من شعب التخلّي عن الوهم حول وضعه، أيّا كان هذا الوضع، فكأنّما تطلب منه التخلّي عن واقع أو وضع يحتاج لوهم.

إنّ الثّورة العلمية أكبر من باقي الثورات، لكنْ لا تثير اهتمام النّاس، بالقدْر الذي تثيره باقي الثورات، خاّصة الثورات السّياسية

كلّنا ندرك أنّ تغيير الواقع، أيّا كان هذا الواقع، أمر عسير، ليس فقط بسبب حصانة هذا الواقع، أو قوّة هذه السّلطة وتلك، أو حتّى بسبب عدم رغبة دفينة في عدم الانزياح على مواطن الأمان. ولكن عُسر هذا الأمر، وصعوبته، وفي بعض الأحيان استحالته ناتجة عن أنّ السّلطة الحقيقية لأيّ واقع لم تعُد تفهم على أنها تمركزٌ في أعلى هرم السّلطة، بقدْر ما هي متشعّبة في كلّ جزء من أجزاء الواقع، وتحديدا في بنيات المجتمع التّقليدية والمحافظة، ممّا يجعل عملية التّغيير إذا ما اعتبرنا أنّ كلّ ثورة هي في عمقها إرادة، أو رغبة في تغيير واقع يراه الثّائرون يفتقد للشّرعية. هذا الواقع أشار إليه فوكو محدّدا طبيعة السّلطة، حيث لم تعد متمركزة بالنّسبة إليه في شبكة علاقات دقيقة جدّاً. كما أنّ هذا الفرد نفسُه هو نتاج مؤسّسات الدّولة الانضباطية. هنا تكمن قوّة هذا الطّرح الفلسفي كما أشار إلى ذلك مطاع الصّفدي حين قال بأنّ: "ولادة المجتمع الانضباطي الشامل تحقّقتْ تلقائياً، عندما تغلغلت شبكيات التّنظيم في كلّ مجال فردي ومؤسَّسي. وأصبح هاجس التّنظيم يبرِّر كلّ أساليب الإخضاع والإشراف والإصلاح والتّوجيه... إذ يغدو كلّ فرد رقيباً على ذاته وغيره؛ حيسوباً لأتفه التصرّفات، مقيّما إياها بما تستحقّ أو لا تستحقّ، تحت طائلة طبقيات لا تنتهي من القيم والاعتبارات والعادات."[2].

ما حدث أو يحدث منذ 2011 من وقائع يستلزم التوقّف، ويضعنا أمام أسئلة لا تستلزم فقط أجوبة، بل نقاشاً عميقاً في معاني الثّورة، ويمكن أنْ نستعير هنا سؤالاً كبيراً طرحه هاشم صالح[3] في مواجهة هذا الحدث الضخم: هل الانتفاضات العربية حدث تاريخي أم زوبعة في فنجان؟. هذا السّؤال لا نهدف من خلاله إلى تتبّع ما قاله هاشم صالح بشأن ما سمّاها بالانتفاضات العربية، ولا وضْع هذه الأحداث في سياقٍ جدليّ يفهم الانتفاضات على ضوء فلسفة هيجل التّاريخية، فتغدو كلّ هذه الأحداث بمثابة مجال لتنفّس التّاريخ؛ أيْ إنّ التَّاريخ المكبوت كما يقول هاشم صالح والمحتقن تاريخياً ينبغي أنْ ينفجر بكلّ قيحه وصدئه الطّائفي، حتّى يمكن للتّاريخ في جدليته وصيرورته وسيرورته أنْ يتنفّس الصّعداء. هذه قراءة محترمة ولها ما يعضّدها من الواقع، وأحداث التّاريخ. ولكنْ ما يهمّنا في هذا البحث تحديدا هو تتبّع هذه الأحداث لنكتشف من خلالها مميّزاتها، على ضوء ما كتبه عنها أحد المفكرين الكبار في الفكر المعاصر، ألا وهو علي حرب. ولأنّ القراءة هي أكبر من رصدٍ وتتبّعٍ، فهي في نهاية المطاف استسلام أمام كلّ الجروح التّي تواجهك بها الثّقافة والواقع. إنّها أشبه بالمشي على الحبال، فالسّقوط يعني نهاية اليقين.

لكن قبل أنْ نتحدّث عن السّمات العشر لهذه الأحداث المسمّاة ثورات، أو ربيع عربي كما يحلو للإعلام أنْ يغزو عقولنا به، فلا بدّ من مواجهة هذا الأمر بأسئلة كبيرة ووجودية:

1- الانتفاضات الشّعبية وإشكالية السّلطة:

هل الثورة أنْ تقيم للوطن دولةٌ أخرى، أم الثّورة أنْ تقيم للنّاس وطناً؟. هكذا يتساءل عبد الرزاق الجبران[4] أسئلة وجودية يطرحها الواقع في معاناته، وليستْ أسئلة فقهية يطرحها المعبد في كتبه وأوراقه؛ أيْ إنّ الباحث في أصل كلّ هذا الحراك الشّعبي، من حقّه أنْ يتساءل ماذا قدّمت له كلّ هذه الحراكات. ولكن قبل ذلك، يمكنه أنْ يتساءل عن السّبب الحقيقي الذي جعل من كلّ هذا الحراك الشّعبي أمراً ممكنا. هنا يمكننا رصد مجموعة من الأسباب الموضوعية التي ساهمتْ بشكل أو بآخر في تحريك هذه الجموع، وسوقها من طبيعة الحال إلى حيث المآلات الكارثية التي وصلتْ إليها الحراكات.

أولا: الحالة التي يعيشها العالم العربي بسبب الفساد المستشري في أوصال كلّ البنيات الاجتماعية، واتّساع الهوة بين طبقات المجتمع.

ثانيا: التحرّك في الشّارع بعفوية جعل الناس تكسِر جدار الصّمت والخوف الملازم للإنسان العربي.

ثالثا: الإحساس المتزايد بأنّ الإنسان، أو المواطن البسيط يعيش حالة من العزلة النّاتجة عن عدم الاعتراف بحقوقه ومصالحه.

رابعا: اعتبار الخروج إلى الشّارع شكلا من أشكال التّعبير، وانتزاع الحقوق، وردّ الاعتبار للذات المجروحة.

كل هذه المعطيات تبدو معقولة، كما تضفي نوعاً من التّبرير والشّرعية على أيّ سلوك احتجاجي على أوضاع يرى أصحابها أنّها يجب أنْ تغيّر، ولو بالخروج بالمطالبة السّلمية بتغيير أنماط الحُكم المسؤولة عن هذا الوضع، أو في بعض الأحيان بتعبيرات حاقدة وراديكالية، إذا ما أخذنا برأي عبد الله القصيمي الذي يرى بأنّ الثّورة ليستْ دوماً خطوة نحو التحضّر، بل على العكس من ذلك عقابٌ للحضارة؛ فالثائر ليس سوى إنسان له القدرة على تحويل طموحاته ورغباته ونواقصه، إلى تعبيرات اجتماعية حاقدة. لكن المشكلة التي تواجهنا هنا هي أنّ للثورة منطقا، وللاحتجاج منطقا؛ فالثّورة تُولد بذاتها ما يعمل ضدها، وليس بالضّرورة أنْ يكون هذا الشّيء الذي يعمل ضدّها هو النّظام أو فلوله كما يحلو للبعض تسميته. فللحركة نظامها أيضا، ومن يمتلك القدرة على توجيهها هو الذي يملك زمام المبادرة. وقد تنبّهت الماركسية لذلك، حينما جعلت من عملية التّغيير قائمة على ثلاث واجهات: الصّراع الاقتصادي، الصّراع السياسي، والصّراع الإيديولوجي. والمسألة يجب أنْ تطرح على هاته الواجهات كما قال جورج بوليتزر[5]؛ معنى ذلك أنّ الإنسان لا يمكنه أنْ يناضل من أجل لقمة الخبز، بدون النّضال عن السّلام، وعن الحرية. كذلك بالنّسبة إلى الصراع السّياسي، فلخوض هذا النّضال يلزم أنْ يأخذ الإنسان بعين الاعتبار الجانب الاقتصادي. أمّا بالنسبة إلى الصّراع الإيديولوجي، فيخضع لنفس الأمر؛ أيْ إنّه يجب عليه أنْ يضع في عين الاعتبار الوضعين السّياسي والاقتصادي. فكلّ هذه الأرضيات مرتبطة ببعضها البعض، فالذي يملك القدرة على النّضال في جميع المجالات، هو الّذي يوجّه الحركة في اتّجاه الأفضل.

وهناك أيضاً معطيات أخرى، تفسّر لنا هذا الفشل الذّريع لكلّ الحركات الاحتجاجية:

أولا: أنّ السّلطة من حيث منطقها هو انفراد بالأمر. والانفراد هو ممارسة للإقصاء، والعنف في حقّ الآخرين بغضّ النّظر عن طبيعة هذا العنف.

ثانيا: أنّ النّظام الذي يخرج من أجل تغييره الجموع هو جزء منها، وهو صنيعتها، كما أنّه يترك أثره فيها. هذا الأمر طبيعي إذا ما استحضرنا ما قاله باولو فرايري[6]، حيث أشار أنّ مشكلة الإنسان المقهور هي أنّه يعاني من ازدواجية في ضميره. فبالرّغم من شعوره بالحاجة إلى الحريّة، فهو يهابها، حيث يزاوج بين إحساسه الخاصّ، وإحساس قاهره القابع في ضميره، وهكذا يحتدم الصّراع بين أنْ يحقّق المقهور ذاته، وبين أنْ يكون ذات قاهره، وبين أنْ يعمل على تحقيق كماله الإنساني، وبين الإبقاء على غربته الذّاتية، بين أنْ يصبح متفرّجاً، وبين أنْ يصبح ممثّلا، بين أنْ يلعب دوره الحقيقي، وبين أنْ يلعب دور قاهره، بين أنْ يتكلّم بصدق وصراحة، وبين أنْ يلزم الصّمت خوفا ورهبة.

ثالثا: الخوف من النّقد، وهذا اتّجاه متأصّل في الوجدان الشَّعبي، خاصّة الشّعوب العاطفية؛ فكلّ تحرُّك للشّعب يصاغ بصبغة المطلق، وتضفى عليه الشّرعية الشّعبية. هي الإشكالية نفسها التي تحدّث عنها طرابيشي[7] متتبّعا فشل الدّيمقراطية في مجتمعاتنا. إنّها إشكالية الذّئب والحمَل؛ أيْ إنّ الدّولة هي الذّئب، والحمَل هو الشّعب، أو ثنائية الجلاّد والضحيّة. في حين أنّ المجتمع المدني أو الأهلي، هو نفسُه يعاني من مجموعة من الأمراض أهمّها الفئوية الطائفية واللّوبوية الدّينية. وبما أنّ الشّعب يخرج بمطالب التحديث والدّمقرطة، فلا سبيل من طبيعة الحال بالنّسبة إلى هواة الشّعبوية إلا الرضوخ لهذه المطالب. وهنا نستحضر ما سمّاه أيضا جورج طرابيشي بإشكالية الصّندوقين: صندوق الاقتراع، وصندوق جمجمة الرأس؛ فالدّيمقراطية قبل أنْ تكون احتكاماً إلى صندوق الاقتراع. فإنّ الصندوق الأوّل الذي تختمر فيه هو جمجمة الرأس، وإنْ لم يتضامن الصّندوقان مع بعضهما، تحوّل صندوق الاقتراع إلى تعبيرٍ عن ديكتاتورية الأغلبية.

نحن لا نخاف النّقد، لأنّنا موقنون بأنّ ما عليه ثقافتنا يكتسب طابع الإطلاق واليقين والثّبات، بل فقط لأنّ الخوف والتردّد من ملامسة المسكوت عنه مهمّة صعبة في واقع ثقافي مغلق، يعكس بجلاء حجم الهوة السّحيقة التي وضعتنا فيها الثقافة، وكذلك يكشف الممارسات المكشوفة والخفية التي تمارسها الثقافة لضمان استمراريتها وبسط نفوذها على هذا الكائن الإنساني، في رغبة ملحَّة وأبدية هدفها التّكرار من أجل الاستمرار. ولا ضير ما دامت وظيفة كلّ فكرة مغلقة، هي أنْ تنزَع بالإنسان ليكون فردا ضمن قطيع، أو فردا يفضل الطّاعة على التّفكير، والخضوع على بديهيات وأولّيات الفعل الإنساني.

لكن يبقى السؤال مطروحا هل الثورة تغيير نحو الأفضل أم الأسوأ؟. هذا السّؤال يظلّ مثارا للجدل، لكنّ المؤكّد تحديدا، هو أنّ للثّورة منطقها الدّاخلي، وسيكولوجيتها كما سنرى مع غوستاف لوبون.

2- الثورة ومنطقها الدّاخلي: لوبون محلّلا سيكولوجية الثّورة

يبدأ غوستاف لوبون كتابه بالجزء الأوّل الذي عنوَنه بـ "روح الثّورات"، ويستهلُّ الحديث عن أقسام الثّورات سواءٌ العلمية أو السّياسية، ويستفيض بالتّحليل كعادته، فيتحدَّث لنا عن أنّه بالرّغم من أنّ أصل الثّورة هو العقل، فإنّ الأسباب التي تهيئها الثّورة لا تؤثّر إلاَّ بعد أنْ تتحَّول إلى عواطف. فهذا كلام مبنيٌّ على سيكولوجية الجماهير، التي تدار ويؤثّر فيها الوجدان والعواطف، أكثر مما يؤثِّر فيها الجانب العقلي. فالجماعة حسب لوبون: "تُتِمُّ الثّورة ولا تكُون مصدرها، وهي لا تقدر على شيء ولا تريد شيئا، إنْ لم يكن عليها رئيس يقودها"[8].

إنّ الثّورة العلمية أكبر من باقي الثورات، لكنْ لا تثير اهتمام النّاس، بالقدْر الذي تثيره باقي الثورات، خاّصة الثورات السّياسية التي تنشأ عن معتقدات تأصّلت في النّفوس، شأنها شأن الثّورات الدينية. لكن قد تنشأ عن عوامل أخرى عبّر عنها لوبون بكلمة الاستياء. فمتى عمَّ هذا الاستياء تألَّف حزبٌ قادر على مكافحة الحكومة. فعمق الثّورات السّياسية هو ما تفرزه من نتائج؛ فالمنتصر في الثّورة السياسية ينظِّم المجتمع وفْقَ مصالحه، ويسُنُّ القوانين التي تخدم جماعته، وهذا هو منشأ الصّراع ومنطلقه، حين يبدأ النّظام المنتصر بتقويض القديم، واضطهاد عناصره. فواقع الثّورة الفرنسية وغيرها من الثوّرات تؤكد ما أشار إليه لوبون في تحليلاته للثّورات السّياسية.

ينتقل بنا الكاتب إلى تحليل عناصر الثّورة الدِّينية خاصّة في شقِّها الإصلاحي، كالثّورة التي قادها مارتن لوثر، فيقول بأنّ أحوال ثورة الإصلاح تشبِه بكثير الثّورة الفرنسية، خاصّة في الجزء النفسي: "فقد رئي في هاتين الثّورتين أنّ شأن العقل ضئيل في انتشار المعتقد، وأنّ الاضطهادات فاقدة التأّثير، وأنّ تسامح المعتقدات المتباينة مستحيل، وأنّ أشدّ المظالم والملاحم يصدُر عن تصادم العقائد المختلفة، وأنّه يستحيل تبديل عقيدة النّاس قبل تبديل كيانهم". لمْ يتوقَّف لوبون عند هذا الجزء من التّحليل النّفسي، بل أكّد أنّ انتشار الإصلاح الدِّيني لمْ يكنْ وليد البراهين والعقل، بل تحكّمت فيه عوامل أخرى كالتّوكيد والتّكرار والعدوى النفسية والنّفوذ، وهو الشيء نفسه الذي حدث إبّان الثّورة الفرنسية. فالحقيقة صادمة حسب تحليل غوستاف؛ فالثّورات الدّينية أو الثّورات القوية كما يسمّيها، تفرز لنا صراع المعتقدات، واستحالة التّسامح. تحت هذا العنوان ينحت لنا الكاتب واقعا مريرا يتجلّى في عدم تسامح المعتقدات القوية "فإذا نظرنا إلى المعتقدات التي شطّرت فرنسا زمنًا طويلًا رأيناها لا تختلف إلّا في الأمور الثّانوية؛ فالكاثوليكي والپروتستانتي إلههما واحد، ولا يختلفان إلاّ في كيفية عبادته، ولو كان للعقل شأن في صوغ معتقدهما لأراهما أنّ الله لا يبالي بالصّورة التي يعبد عليها". لمْ تكن كلّ نتائج الثّورات الدينية سلبية، بل كان فيها ما يعزِّز قيم الخير، وتقويم النّاس، وتهذيب الأخلاق.

يستقصي لوبون التّاريخ، فيحكي لنا من خلاله لحظات طويلة تميِّز شأْن الحكومات في الثّورات، وأهمّ ملامحها، فيبدأ بضعف مقاومة الحكومات في الثّورات، هذا الضّعف سببُه فجأة ومباغتة الثّورات لها، كما حدَث في فرنسا وإسبانيا وبلجيكا. وقد يحدُث أنْ تنتصر بعض الحكومات في بعض الثّورات كحال الصّين وتركيا: "فالحكومة تنجح عندما تكون الأمّة التي ترغب أنْ تكرهها على أنظمة جديدة مؤلّفة من قبائل وحشية خالية من القوانين الثابتة والتّقاليد الرّاسخة؛ أيْ من روح قومية قوية، ومن أمثلة ذلك روسيا أيّام بطرس الأكبر الذي حاول أنْ يفرنج الرّوس، واليابان مثال آخر للثّورات التي قامت بها الحكومات، ولكن طرق اليابان الفنيّة هي التي تغيّرت، لا روحُها القومية.".

إنّ شأن الأمّة في الثّورات يضفي عليها مجموعة من الخصائص لخصَّها غوستاف لوبون في:

1- ثبات روح الأمة ومرونتها.

2- الشّعوب لا تدرك معنى الثّورة ومغزاها إلا عبْر الزّعماء الذين يحرِّكونها.

ويحلّل نفسيات النّاس أيّام الثّورات، وهي خصائص نفسية مشتركة لكلِّ الثّورات بكل أنواعها:

1- تحوّل الشخصية

2- الحقد

3- الخوف

4- الحرص والحسد والزهو

5- الحماسة.

أمّا النفسيات التي تسود الثًّورة، فهي كثيرة بدءاً من النّفسية الدينية، إلى النّفسية اليعقوبية، وهو مصطلح نحته لوبون للدّلالة على تيّار كان يزعم استخدام العقل أيّام الثورة الفرنسية. إضافة إلى النّفسية الثّورية، والنّفسية المجرمة. فكما أنّ هناك نفسيات متعدِّدة، فإنّ هناك بالمقابل خصائص متعدِّدة تطبع روح الجماعات في الثّورات، ولعلّ أهمّ هذه الخصائص تغلُّب اللاّشعور الخاضع لأحكام منطق خاص يسمَّى منطق الجماعات، وسرعة الانفعال والتأثّر. فالإنسان، وهو جزءٌ من الجماعة، يهبط كثيرًا من سلَّم الحضارة، فتصدُر عنه عيوب الشَّراسة ومزاياها؛ أيْ أنواع الظُّلم والاستبداد وأنواع الحماسة والبطولة، فالجماعة وإنْ كانت من الجهة العقلية أدنى من الرّجل المنفرد قد تكون أسمى منه شعورًا وخلقًا، ويسهل عليها أنْ تقترف إثمًا كما يسهل عليها أنْ تضحِّي بنفسها. كما أنّ من أهم النتائج التي تنشأ عن تأثير الجماعة في أفرادها هي توحيد مشاعرهم وعزائمهم.

التيارات الأصولية كانت حاضرة، وبقوة في مجال الاستقطاب، والحشد والتّجميع، ولكن للأسف في خدمة مشروع التّمكين للأصولية الدّينية كي تلتحق بمراكز القرار

3- السّمات العشر للانتفاضات العربية: نقد رؤية علي حرب[9]

على الرّغم من أنّ الثورة في المخيال الجمعي الشّعبي تعني المطالبة بالتّغيير نحو الأفضل، وتحصيل واقع يفوق الواقع الذي عاشه الثّائرون من حيث النّتائج الإيجابية، غير أنّ الواقع يؤكّد أنّ كلّ ثورة تأكل أولادها، وربّما قد تقضي على كلّ أمل إذا ساقتها العواطف إلى اتّجاهات غير مرغوب فيها. لهذا يمكننا الحديث في هذا السّياق عن انتفاضات أو حِراكات شعبية، أكثر منها ثورة بالمعنى الجذري للكلمة، على اعتبار أنّ النتائج لم تكن في مستوى المطلوب، وكذلك لأنّها غيّرت شكل السّلط، أو هرم السّلطة في بعض الدّول، دون تغيير قواعد السّلطة وأساساتها، ونتحدّث هنا تحديدا عن الذّهنيات التي تحملها القواعد لمفهوم السّلطة. وهذا ما يجعلنا نختار مصطلح الانتفاضات والحراكات الشّعبية على الثّورة التي قال بها علي حرب. وهنا نطرح التّساؤل ما هي السّمات العشر التي ميّزت هذه الأحداث، وأفضتْ إلى النتائج الحالية، معتمدين في ذلك على ما كتبه علي حرب، ولكن بمنظار نقدي:

- السّمة الأولى: هي أنّ هذه الأحداث لم تكن نخبوية؛ أيْ إنّه لم يسُقها، أو يساهم فيها المثقف، بل فوجئ بها هو نفسُه. هذا ما أكدّه علي حرب، غير أنّ ما يمكن تسجيله هنا هو أنّ المثقف الذي غاب عن الأحداث هو المثقّف بمفهومه العضوي، والذي غالباً ما ينتمي إلى تيارات يسارية أو حداثية أو حقوقية. ولكنْ لا بدَّ من التّأكيد هنا على حضور المثقّف الدّيني الأصولي؛ فالواقع أنّ التيارات الأصولية كانت حاضرة، وبقوة في مجال الاستقطاب، والحشد والتّجميع، ولكن للأسف في خدمة مشروع التّمكين للأصولية الدّينية كي تلتحق بمراكز القرار. هذا كان واضحاً في كلّ النّماذج التي عرفت حراكات. فإذا غاب المثقف الحداثي، فإنّ المثقّف الدّيني كان حاضرا في كلّ نقطة من نقاط هذا الحراك، خاصّة في الجانب الإعلامي.

- السّمة الثانية: هي أنّها ليست ثورات بيروقراطية؛ بمعنى أنّها كانت صنيعة، أو ساهم في تأجيجها الواقع الافتراضي، ووسائل التّواصل الاجتماعي أكثر من غيرها، بخلاف الثّورات التي عرفها التاريخ، والتي سبقها تنظير فكري، وتأصيل عقلي لمختلف أطوارها.

- السّمة الثّالثة: يقول فيها علي حرب إنّها ليست ثورة بطولات تاريخية ودموية. فشعارها ليس العنف، ومحرّكها ليس الانتقام. والواقع هو أنّ بداية كلّ هذه الحراكات، وربّما نهايتها لم يكن فقط، العنف فقط، بل هو التّأسيس لدولة العنف، والتّقعيد لها. وبما أنّ المحرّكات الأساسية، والدّوافع الرئيسة لكلّ هذه الأحداث كانت هي الأصوليات بشكل عام، فإنّ العنف هو السّلاح الملازم للتّقعيد لهذه المشاريع المطلقة. ويكفي أنْ ننظر في كلّ النماذج بدءاً من مصر، وسوريا، واليمن، وليبيا، لنرى أنّ العنف لم يكن فقط شعارا، بل قاعدة تأسّست عليها دول، وجبهات، وحركات. وبالتّالي ما ذهب إليه علي حرب من كون ما سمّاه ثورات هي ثورات لم تحركها دوافع الانتقام، هو شيء مخالف للواقع الذي يؤكّد عكس ذلك.

- السّمة الرابعة: يؤكّد علي حرب أنّ هذه الثّورات لم تستند على نصّ مقدّس، أو نظرية علمية لا تخطئ؛ غير أنّ ما قلناه سابقا، نعيد تأكيده هنا. فالمثقّف الذي قاد الثّورة، أو الحراك، لم يكن يشبه باقي المنظّرين السابقين، حيث إنّه ينتمي إلى تيار أصولي، ولا يمكن أنْ يكون المرء أصوليا، دون أنْ تكون قاعدة انطلاقه من مشروع مقدَّس، سواء تعلّق الأمر بنصّ، أو فكرة، أو مذهب، أو طائفة. فقد يبدو في الظّاهر أنّ هذه التّيارات سعتْ إلى السّلطة من خلال المشروع المدني، لكن بعد تسلّمها السّلطة حدث الفشل والإخفاق، نتيجة هذا التناقض الفاضح، بين متطلّبات المشروع المدني، وبين مستلزمات المشروع الأصولي في عمومه.

- السّمة الخامسة: أنّها ثورات كسّرت الهيمنة الذكورية من حيث المشاركة الفعّالة للنّساء، وهذا صحيح كما قال علي حرب. ولكن الواقع يكذّب جزءا كبيرا منه. ففي الدّول التي وقعت فيها الحراكات، لم تكن نسبة مشاركة النّساء كبيرة خاصّة في مراكز القرارات، أو مناصب المسؤولية.

- السّمة السادسة: أنّها ثورة تخلق إمكانات خصبة لقيام اتّحادات تتّسع للمتعدّد والمختلف والمعارض. هذا ما قاله علي حرب، في حين أنّ المتتبّع للأحداث، والمجريات يرى أنّ الانتفاضات خلقتْ واقعا توحيديا للغة القوة والسّلاح والعنف. ولا زال العنف هو سيّد الموقف في الكثير من الدول لحدود اللّحظة.

- السّمة السابعة: يؤكّد فيها علي حرب أنّ هذه الثّورة كسّرت ثنائية الزّعيم والحشد، غير أنّ هذا الأمر يخالف الواقع، فربّما الانتفاضات ليس لها زعيم بالمعنى التّقليدي للزّعيم، ولكن لها ما يحشد هذه الجماهير والحشود من أحزاب، وفصائل، وجماعات. ولا يمكن بحال أنْ نتحدّث عن سياق تحرّري على ضوء أحزاب وجماعات متناحرة فيما بينها، وتعتمد لغة السّلاح سبيلا لتحقيق مكاسبها السّياسية.

- السّمة الثامنة: يقول عنها علي حرب أنّ هذه الثورات، هي ثورات لا يتحكّم فيها منطق العداء للآخر. ولنفترض أن هذا الأمر صحيح، فلماذا تهدّمت دول، وهجِّر النّاس، وأقيمت دول على أسس دينية عرقية، إذا كان المنطق الذي يحرّك هذه الثوّرات كما يقول علي حرب هو منطق المحبة والإخاء؟. إنّ ما يحرّك الثورة ولا زال يحرّكها هو منطق عدواني تّجاه الآخر، ويكفي أنْ نستمع إلى الإعلام الموجّه، والمدافع على هذه الأطروحات لنكتشف عمق هذه الثّورات. فالتّكفيريون صاروا ثوارا، والجيوش أصبحت فصائل وميلشيات، والدّول القائمة على أسس دينية هي دول شرعية وتاريخية.

- السّمة التاسعة: يقول علي حرب فيها إنّ المعطيات تغيّرت نتيجة هذه الثورات، فلم تعد المسألة مسألة صراع بين أنظمة معتدلة، وأخرى ممانعة؛ بمعنى أنّ علي حرب ينفي عن هذه الثّورات طابعها الإيديولوجي، والذي كان السّمة البارزة لمجموعة من الثّورات الأخرى. غير أنّ ما قلناه سابقا نؤكّده مجدّدا، فالطابع الأصولي لهذه الحراكات يضعها في عمق الإيديولوجي، من حيث دفاعها على مشروع الدّولة الدينية في مجموعة من الأقطار، وعلى فهمٍ ديني معين، ومحاربة الاتّجاهات المختلفة له كما رأينا في العراق وسوريا.

- السّمة العاشرة: يقول فيها علي حرب إنّ الثّورات تعيد خلط الأوراق، حيث إنّها كسّرت الثنائيات بين الدول والمعسكرات، فلم يعد الفرز بين ممانع ومذعن، بل أصبح الفرز بين من مع الثورات، ومن هو ضدّها. ويكفي هذا الأمر، لنقول عنها إنّها ثورات لم تخلق واقعاً متعدّدا، بقدر ما خلقت واقعا وحيدا، لغته العنف، والتّمكين على أسُس يحضر فيها الإقصاء ومحاربة الاختلاف.

  


[1]- ماركس، كارل. نقد فلسفة الحق عند هيجل. ملف pdf، ص 11

[2]- فوكو، ميشال. (1990). المراقبة والعقاب. ترجمة علي مقلد. مراجعة وتقديم مطاع الصفدي. مركز الإنماء القومي. بيروت. ص 3

[3]- هاشم، صالح. الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ، بيروت، دار الساقي، ط1، 2013. ص 16

[4]- عبد الرزاق، الجبران. جمهورية النبي. دون تاريخ أو طبعة أو دار نشر. ص 11

[5]- جورج، بوليتزر. مبادئ أولية في الفلسفة. ترجمة وتقديم فهمية شرف الدين، وضبط مصطلحاته الفلسفية موسى وهبة. بيروت، دار الفارابي. ط5، 2001. ص 27

[6]- باولو، فرايري. تعليم المقهورين. ترجمة يوسف نور عوض. بيروت، دار القلم، دون دار نشر، أو تاريخ طبعة. ص 31

[7]- طرابيشي، جورج. هرطقات عن الدّيمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية. بيروت: دار الساقي ورابطة العقلانيين العرب، 2006. ص 9

[8]- لوبون، غوستاف. روح الثورات والثورة الفرنسية. ترجمة عادل زعيتر. كلمات عربية للترجمة والنشر. ص 27

[9]- علي، حرب. ثورات القوة الناعمة. من المنظومة إلى الشبكة. الدار العربية للعلوم ناشرون، ط2، 2012. ص 144