الحاكم المدني ورجل الكنيسة التسامُح والإصلاح في العصر الحديث؛ جون لوك أنموذجاً


فئة :  مقالات

الحاكم المدني ورجل الكنيسة التسامُح والإصلاح في العصر الحديث؛  جون لوك أنموذجاً

شهدت أوروبا في القرن السابع عشر ولادة جديدة لفكر التسامح الحديث في وقت كان الفكر الفلسفي يفكِّك المنظومات الفلسفية الميتافيزيقية الكبرى، ويشذِّب حمولات العقل البشري الماورائية، ويدفع بالخرافة خارج بنية العقل البشري، ويهمُّ بفصم العلاقة الموروثة بين الدِّين والدولة التي أحالت (الدِّين المسيحي) إلى مجرَّد أداة لتشويه جوهر العقيدة الإيمانية والإلهية وفق مصالح بشرية لم تؤدّ إلاّ إلى مزيد من الظلم والحرمان وغياب العدالة البشرية، فضلاً عن الحروب الدِّينية التي راح ضحيتها مئات الآلاف من البشر.

في الواقع، ما كانت بلاطات الملوك في الغرب الحديث خالية من إرادات إصلاحية يمثلها أشخاص أدركوا الطريق المسدود التي باتت تحاصر البشر في حياتهم العامة. ولم تكن إنجلترا بعيدة عن كل ذلك؛ إنجلترا التي ولد وعاش وتوفي فيها الفيلسوف جون لوك (1632 - 1704)، الذي ربطته علاقات صداقة منذ عام 1666 مع رجل البلاط الملكي (أريل شفتسبري)، ذلك اللورد الذي كانت (فكرة الإصلاح) تلوح في ذهنه وسط شعور حقيقي بفداحة الصراع الدائر في أوروبا وإنجلترا جرّاء الانشقاقات الدِّينية بين أتباع الدِّيانة المسيحية بمختلف مذاهبها الفرعية، والتي كانت تنعكس على البلاط الملكي، ذلك اللورد الذي كان استبطن قدراً من التطلُّع لضرورة إحلال التسامح (Toleration) كخيار فلسفي بين أولئك الأتباع لتكون الطريق الآمنة صوب الخلاص، إلاّ أن تلك التطلُّعات بدت تهدِّد مكانة (شفتسبري) في البلاط بالويلات ممّا اضطر، هذا الأخير، في سنة 1682 إلى الفرار نحو هولندا بعد إدراكه الباكر بأنه سيكون المتهم بالعداء للملك (تشارلز الثاني).

في تلك الأجواء، شعر جون لوك، وهو المقرَّب من صديقه (شفتسبري)، بأنه سيتعرض إلى التهديد أو الاعتقال، ففرَّ من جانبه إلى هولندا ليلتحق بصديقه الشريد، فصار الفيلسوف في مواجهة تنذر بالخطر مع السلطة السياسية التي تتغلَّف برداء الدِّين لتحقيق مصالح عُليا، ما دعاه إلى وضع فكرة التسامح على مسطرة التفكير الفلسفي، لاسيما أن صديقه الهولندي المقرَّب إليه (فيليب فان لمبورش)، كان يحثه على كتابة شيء من هذا القبيل بتحريض من اللورد (أريل شفتسبري) شخصيا.

لذلك، شرع جون لوك بكتابة (رسالة في التسامح) باللغة اللاتينية لا الإنجليزية لينشرها في 1689 من دون إيراد حتى (توقيعه) أو (اسمه) عليها خشية التلقَّي السَّلبي الذي قد يؤدِّي بحياته في ظلِّ اتساع رقعة الارتياب الدِّيني والحكومي بأية كتابة إصلاحية أو تسامحية تدعو الدولة والكنيسة معاً إلى الإصلاح بالانطلاق من إحلال مبدأ التسامح الشامل في المجتمع أو ما أسماه بـ "السبب الكلي للتسامح"([1]).

وفي غضون ذلك، كان بعض قرّاء (رسالة في التسامح) يحدس أن جون لوك هو كاتبها، فقام هذا الأخير بكتابة رسالة أخرى حول (التسامح)؛ وذلك في سنة 1690؛ بل كتب رسالة ثالثة عن (التسامح) في سنة 1692، لكن لوك، وفي الرسائل الثلاث، بقي عند أفكاره الجوهرية بشأن فكرة التسامح والإصلاح.

ولعلنا نلاحظ ههنا تلك الثورة التي كانت تعتمل روح جون لوك بإصراره على كتابة أفكاره في التسامح، رغم المخاوف التي كانت تحيق به من كل جانب، فبدا أنموذجاً للفيلسوف الشجاع الذي يدافع عن أفكاره، والداعي لضرورة وجود فكر تسامحي إصلاحي يُنقذ البشرية من جهالات استثمار الدِّين لتحقيق مصالح الملوك ورجال الدِّين في تلك الأزمان.

كانت العلاقة مع لوك، من جهة، و(اللورد أشلي) الذي أصبح اسمه تالياً (أرل شفتسبري) بعد أن أصبح مستشار الدولة الأول، وفيليب فان لمبورش، من جهة أخرى، مجرَّد أسباب قريبة، كما يُقال، لظهور فكرة كتابة (رسالة في التسامح). أما الفكرة البعيدة أو الجوهرية لكتابة رسالة من هذا النوع، فتكمن في الخطاب الفلسفي لجون لوك نفسه، ذلك الخطاب الذي أخذ على عاتقه الدعوة إلى إصلاح وضعيّة الفكر البشري برمته، وهو ما كشف عنه لوك نفسه في عدد وافر من كتاباته ورسائله ومؤلَّفاته منذ أحبَّ الدرس الفلسفي وتعلَّق به، وراح يُغامر في مناقشة تفاصيله بإرادة عارمة، وشغلته مسألة المعرفة البشرية والبحث الاستباقي في إمكانات العقل البشري ليضع رسالة صغيرة رسمَ خطوطها الرئيسة في هولندا بعنوان (في العقل الإنساني)، وهي الرسالة التي كانت عماد تفكيره في مسائل المعرفة على مدى عقدين من الزمان تقريباً، بل كانت مقدِّمة أو مدخلاً لكتابه ذائع الصيت (مبحث في الفهم البشري) سنة 1689 بداية ليطوُّره وينقِّحه في طبعة أخرى صدرت سنة 1690 تالياً، ومن ثم يُظهره في طبعة جديدة في سنة 1694.

كانت دراسة جون لوك للاهوت في (مدرسة وستمنستر) ذات النزعة الدِّينية البروتستانتية لما كان في الرابعة عشر من عمره، والتي استمرت حتى عام 1552، وكذلك التحاقه بـكلية (Christ Church) من أعمال (جامعة أكسفورد) أثرهما الجلي في كتابة نصه (رسالة في التسامح)؛ فقارئ هذه (الرسالة) يجد تضلُّع هذا الفيلسوف بالنصوص الدِّينية، اليهودية والمسيحية والإسلامية، من النواحي الفقهية والعقائدية والتاريخية، ومعرفته الشاملة بالحركات الدِّينية والملل والفرق والمذاهب الكنسية (Church).

ويعتقد الدكتور ماجد فخري في تقديمه وترجمته لكتاب لوك (في الحُكم المدني) بأنه "كان لجامعة أكسفورد، والنزعات الفكرية والسياسية التي كانت تتصارع فيها، أكبر الأثر في تحوُّل جون لوك، شيئاً فشيئاً، عن النزعة الدِّينية المتزمتة التي درج عليها منذ حداثته في سومرست وفي وستمنستر، وجنوحه إلى الأخذ بالتساهل الدِّيني كشرط لازم لاكتناه الحقيقة"([2])، لا سيما في ظل وجود أشخاص تأثر بهم لوك، ومنهم "إدوارد بوكوك، أستاذ العربية والعربية، الذي كان شديد الولاء للملكية، وجون أوين، عميد كلية Christ Church، الذي كان يصدح بضرورة التساهل الدِّيني"([3]).

على الصعيد العربي، حظيت (رسالة في التسامح) بترجمتين عربيتين لها؛ ففي عام 1988 ترجم الفيلسوف المصري الراحل الدكتور عبد الرحمن بدوي (رسالة في التسامح) عن لغتها اللاتينية إلى العربية، ونشرها في دار الغرب الإسلامي ببيروت في ذلك العام. وفي عام 1997 صدرت ترجمة الرسالة نفسها عن الإنجليزية نهضت بها الأستاذة منى أبو سنه بتقديم الفيلسوف المصري مراد وهبة لتصدر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة.

***

لقد تضمَّن نص الرسالة 12 فقرة داخلية كتبها جون لوك بلغة لاتينية تمكَّن عبد الرحمن بدوي من تمثيلها وترجمتها بلغة ترتقي إلى روح الكتابة الفلسفية الرائقة عن لوك، والأمر نفسه نجده لدى الأستاذة منى أبو سنه، وهي تترجم نص الرسالة، لكنّنا سنعتمد، في هذه الدراسة، على ترجمة الدكتور بدوي لما تتضَّمنه من إشارات مقارنة إلى النَّص اللاتيني مع التأكيد على اعتزازنا الشديد بالجهد الذي بذلته الأستاذة المترجمة منى أبو سنه في صنيعها الترجمي الرائع.

تبدو أفكار جون لوك عن التسامح محصورة في تجربته النَّقدية للتعامل مع الممارسة الدِّينية في الغرب الحديث، فمعالجة إشكاليات التطرَّف الدِّيني لا تتم إلاّ عبر التسامح الذي هو طريقة للخلاص من مشكلات عدّة بات أمرها يثير التعقيد في الحياة الدِّينية والسياسية وأثرها في علاقات أبناء المجتمع في ما بينهم، خصوصاً أن التسامح يجد أصوله في الدِّين المسيحي نفسه، وكذلك في العقل.

وهذا ما دعا لوك إلى القول إن "التسامح بين أولئك الذين يعتقدون عقائد مختلفة في أمور الدِّين هو أمرٌ يرضي الإنجيل والعقل حتى إنه لأمرٌ غريبٌ عند الناس أنْ يكون المرء أعمى في ضوء ساطع كهذا"([4]). وهذا لعمري موقف كفيل بتأصيل التسامح في هذين المصدرين؛ في (الكتاب المقدَّس) = (Gospel)، وفي (العقل البشري) = (Human Mind)؛ في (النقل) وفي (العقل) بلغة الفقهاء المسلمين.

إن تقويض التعصُّب (Zealotry)، وكذلك التطرُّف (Extremeness)، ومعرفة حدود الكنيسة والدولة والفرد، يبدأ من تحديد المعنى الحقيقي للدِّين؛ فالدِّين الحق، يقول لوك: "لم يوجد للفخفخة المظهرية External Pomp، ولا لسيطرة الإكليروس، ولا للعنف؛ بل وجد لتنظيم حياة الناس وفقاً للفضيلة والتقوى"([5]). إن الاقتراب من الدِّين الحق يوجب على الإنسان "أن يبدأ بإعلان الحرب على رذائله واستكباره وشهواته، وإلاّ فإنه بدون طهارة الحياة، وصفاء الأخلاق، والشفقة ووداعة النَّفس"([6]).

وفي ضوء ذلك، وجد لوك أن معالجة التطرُّف وعدوى التعصُّب والهرطقة وتأصيل التسامح في المجتمع يبدأ من إصلاح حال دور الحاكم المدني (Civil Magistrate) أو الملك أو رئيس الدولة أو الوزير وما أشبه من التسميات المنخرطة تحت نظام الحُكم المدني. وتعبير "الحاكم المدني" سيكون له شأنه الكبير في رؤية لوك السياسية لاحقاً، فهو يستبطن بذرة الفصل بين الدِّين والدولة؛ إذ ليس الحاكم هو رجل الكنسية أو رجل الدِّين الذي يقضي بأمر الله في شؤون الرعيّة، إنما هو رجل لا بد أن يمارس مهنته بعيداً عن المرجعيّات اللاهوتية التي تسوِّغ لرجل الدِّين حُكم الآخرين.

السُلطة المدنيّة

ومن هنا، وضع لوك استراتيجية لدور الحاكم المدني في الدولة والمجتمع، إذ ينحصر واجبه في أن "يؤمِّن للشعب كله بواسطة قوانين مفروضة بالتساوي على الجميع، والامتلاك لكل الأشياء التي تخص الخيرات المدنية Public Good كالحياة، والحرية، وسلامة البدن وحمايته ضد الألم، وامتلاك الأموال الخارجية مثل: الأرض، والنقود، والمنقولات. إنَّ كل تخصُّص الحاكم المدني يقتصر فقط على هذه الخيرات المدنية، وأن حقوق السُّلطة المدنية تنحصر في المحافظة على تلك الخيرات، وتنميتها، خصوصاً دون غيرها، ولا ينبغي أو لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تمتدَّ إلى نجاة النُّفوس"([7]) أو الأرواح، ما يعني أن "السُّلطة المدنية لا ينبغي لها أن تفرض عقائد الإيمان بواسطة القانون المدني، سواء تعلَّق الأمر بالعقائد أو بأشكال عبادة الله"([8]). كما وأن "كل سُلطة الدولة لا تتعلَّق إلاّ بالخيرات المدنية، وأنّها مقصورة على رعاية شؤون هذه الدُّنيا، وأنه لا يحق لها أن تمسُّ أي شيء يتعلَّق بالحياة الآخرة"([9])، وكذلك "من العبث أن يرغم الحاكم رعاياه على اعتناق دينه هو بدعوى إنقاذ أرواحهم"([10]). وإلى جانب ذلك، يرى لوك أن الحاكم "لا يستطيع أن ينهى عن استعمال ما هو مقرر في الجماعات الدِّينية من طقوس مقدَّسة أو شعائر، لأنه لو فعل ذلك لقضى على الكنيسة نفسها؛ إذ الغرض منها هو عبادة الله بحرية وفقاً لاعتقادها"([11]).

وبشأن تدخُّل الحاكم في شؤون الكنيسة الداخلية، يرى لوك أنه "لا ينبغي للحاكم أن يمنع التمسك أو تعليم أيّة آراء نظرية في أيّة كنيسة، لأنّها لا تأثير لها في الحقوق المدنية لرعاياه"([12]). ومن الجانب الآخر، وبإزاء التطرف الدِّيني كالتكفير وانتشار البدع والتعصُّب وعبادة الأصنام، يذهب لوك إلى أن الحاكم "لا يجوز له أن يتسامح مع عقائد تتنافى مع المجتمع الإنساني"([13]). ولا يحق لأشخاص يعتقدون بمثل هذه العقائد "أن يتسامح معهم الحاكم"([14])، خصوصاً أولئك الذين "ينكرون وجود الله"([15])، مثلما ليس للحاكم "إكراه أحد في الأمور الدِّينية بواسطة أي قانون أو قوة قاهرة"([16]).

ما هو مهم هنا، أن لوك يستخدم مصطلح نجاة النُّفوس (The Salvation of Souls)، وكذلك مصطلح الحياة بالآخرة (The World to Com)، وهما مصطلحان يتعلَّقان بالشؤون الذاتية للإنسان، وتحديداً الشؤون الدِّينية الخاصَّة به أو علاقة الإنسان بالدِّين وبالخالق، والتي لا يحق للحاكم المدني أن يتدخَّل فيها لأنّها محض مسؤولية شخصية وقرار ذاتي، وهو أحد مظاهر فصم العلاقة بين الدِّين والدولة أو بين تديُّن الأفراد والحاكم أو نظام الدولة والحكم وفلسفتهما. ولذلك، يأتي لوك إلى ثلاثة اعتبارات أساسية تحتِّم على الحاكم المدني أو رئيس الدولة ألاّ يتدخَّل، من خلالها، في تديُّن الأفراء والمجتمع، وهي:

  1. لأنّه لا الحاكم المدني ولا أي إنسان آخر، مكلفٌ برعاية النُّفوس (The Care of Souls)؛ فالله لم يكلِّفه بذلك، لأنّه لا يتضح أبداً أن الله قد منح مثل هذه السُّلطة لأحد على آخر، حيث يرغم الآخرين على اعتناق دينه، وكذلك لا يمكن أنْ يكون الناس قد أعطوا الحاكم هذه السُّلطة، لأنه لا إنسان قد تخلى عن رعاية نجاته الأبدية الخاصَّة به، حيث يعتنق بالإكراه عبادة أو إيمانا يفرضه إنسان آخر، سواء أكان هذا أميراً أم فردا.
  2. إنَّ رعاية النُّفوس لا يمكن أن تكون من تخصُّص الحاكم المدني، لأنَّ كل سُلطة تقوم على الإكراه الخارجي. أما الدِّين الحق المنجِّي، فيقوم على الإيمان الباطن (Inward Faith) في النَّفس الذي من دونه لا قيمة لشيء عند الله، وإن من طبيعة العقل الإنساني أنّه لا يمكن إكراهه (To be Compelled) بواسطة أيّة قوة خارجية.
  3. إن رعاية النُّفوس لا يمكن أن تكون من تخصُّص الحاكم المدني، لأنّه حتى لو أقررنا أن سُلطة القوانين وقوة العقوبات قادرة على تحقيق تحويل النُّفوس، فإنّها لا تفيد شيئاً في نجاة النُّفوس([17]).

يتضحُ من هذه الاعتبارات الثلاثة أن لوك يرفض مبدأ الوصاية؛ وصاية شخص على غيره في مسائل الدِّين والعقيدة والإيمان أو رعاية النُّفوس أو الأرواح، لأّنها شأن الله في عباده الذين تحصَّلوا على حرية التديُّن من الذات الإلهية مباشرة من دون وسيط سوى (الكتاب المقدَّس) و(الرسول أو النبي) في ظل حرية خصَّ بها الله البشر من عباده.

إن نقد مبدأ الوصاية سيظهر لدى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 - 1804) في رسالته (ما هو التنوير؟)([18]) في نهاية القرن الثامن عشر، خصوصاً الوصاية الخارجية على العقل البشري. كما أن لوك يرفض مبدأ الإكراه؛ فالحاكم المدني ليس شأنه إكراه الرعية على نمط التديُّن والعبادات أو التدخُّل في شكل وطريقة النَّجاة من مشكلات الدُّنيا للظفر بنعيم الآخرة. وكُل ذلك يعني أن نجاة الأرواح أمر يتحكَّم به الفرد بعينه سواء عبْر الكنيسة أو من دونها، ولا أحد يستطيع أن يتدخَّل، خصوصاً رجل الدولة أو الحاكم أو الدولة نفسها، في تحديد المسار الذي يتخذه الإنسان للظفر بشكل الجزاء في عالَم الآخرة أو يوم الحساب عن الله.

يبدو نقداً لوك مزدوج المسار؛ ففي الوقت الذي نقد فيه علاقة الدولة والحاكم المدني بطبيعة تديُّن الأفراد أو الرعية، كذلك توجَّه إلى نقد المؤسسة الدِّينية المتمثلة بـ (الكنيسة)، ومثلما نظر لوك إلى الحاكم بأنه لا يعدو أن يكون مجرَّد إنسان من بين بقية البشر، كذلك نظر إلى رجال الدِّين، فهؤلاء ليسوا سوى بشر انخرطوا في الكنيسة بمحض إرادتهم؛ فلا أي أحد منهم بوصفهم بشراً "ولد عضواً في كنيسة"([19])، إنما هم مجرَّد "جماعة أقامتها الطبيعة بين الناس"([20])، جماعة "حرة ذات إرادة"([21]). ما يعني أن لوك لم يؤمن بنظرية التوريث البيولوجي ولا المفارق في مسائل القيادة الدِّينية أو العمل في المجال الكنسي والدِّيني إلاّ من باب التمهُّن والتعلُّم والرغبة الفردية بإرادة حرَّة؛ يقول لوك عن العاملين في الكنيسة: "الكنيسة هي جماعة حرة مؤلَّفة من أناس اجتمعوا بإرادتهم لعبادة الله علناً وعلى النَّحو الذي يرونه مقبولاً عنده وكفيلاً بتحصيلهم للنّجاة"([22])، كما أن هذا الفيلسوف لم يمنح الكنيسة أية سُلطة في الأمور الدُّنيوية من شأنها تحطيم الآخرين؛ ذلك أن "السيف والنار ليسا أداتين صالحتين لتنفيذ الأخطاء أو تعليم الناس وهدايتهم"([23]).

السُلطة الدينيّة

ولهذا، يرى لوك أن سُلطة رجال الكنيسة لا ينبغي أن تمتدّ خارج حدودها المؤسساتية، فمهما كان "المصدر الذي عنه تصدر سُلطتهم ما دامت كنسيَّة، فإنّها يجب أن تنحصر داخل حدود الكنيسة، ولا يمكن أن تمتدّ إلى الشؤون المدنية، لأن الكنيسة نفسها منفصلة تماماً ومتميزة من الدولة، وكذلك من الأمور المدنية"([24]).

وإذا كان أحد رجال الكنيسة "خليفة للرسُل، وأخذ على عاتقه مَهمة التعليم، فهو ملزم أيضاً بأن ينبِّه سامعيه إلى واجبات السلام والإرادة الخيرة تجاه كل الناس؛ تجاه الضال كما هو تجاه المستقيم العقيدة على السواء؛ تجاه من يخالفونه في الإيمان والعبادات كما تجاه منْ يتفقون معه"([25]).

نلمح في هذه النُّصوص دعوة لوك إلى حرية المعتقد والاعتقاد الدِّيني وغير الدِّيني داخل المجتمع الواحد، ولذلك نجده يؤكِّد بأنه "لا يستطيع أحد، مهما كانت وظيفته في الكنيسة، أنْ يحرم أي إنسان آخر ينتسب إلى كنيسة أخرى أو إلى إيمان آخر، من حياته أو حريته أو أي جزء من خيراته الدنيوية، بسبب الدِّين"([26]).

وانطلاقاً من مفهوم "التسامح المتبادل" الذي تصدَّر رسالته، يرى لوك أن "لا سُلطان لواحدة من الكنائس على أخرى حتى لو كان الحاكم المدني يتبع واحدة منها، وما دامت الدولة لا تستطيع أن تمنح حقاً جديداً للكنيسة، كذلك لا تستطيع أن تمنح الدولة حقاً جديداً؛ إنها لا تكتسب قوة السيف بانضمام الحاكم إليها، كما أنه، وإذا تركها، فإنها لا تفقد بذلك سلطتها التي كانت لها من قبل"([27]).

ومثلما طالب لوك بفصل الدولة عن شؤون التديُّن، كذلك نراه يدعو في (رساله التسامح) إلى فصل الكنيسة عن الدولة والمجتمع؛ فليس من شأن الجماعة الكنسية أن تمارس القوة تجاه الدولة والمجتمع فذلك حق الدولة فقط، ولا شأن لها بتداول خيرات المجتمع المدني؛ فالأمر رهن الدولة والمجتمع، وأن مَهمة الجماعة تنحصر في داخلها: "إنَّ غاية كل جماعة دينية هي العبادة المقامة لله، وعن هذا الطريق كسب الحياة الأبدية، ولهذا فإن كل نظام ينبغي أن يهدف إلى هذه الغاية، ويجب أن تنحصر كل قوانين الكنيسة داخل هذه الجماعة"([28]).

وبذلك، نتوافر على قدر من الوضوح الذي من شأنه توليد التسامح بين الكنيسة والدولة، وبين الكنيسة والفرد، وكذلك بين الدولة والفرد وفق نظام من الحرية المقرونة بالتعامل العقلاني القائم على العدالة في احتياز الحقوق والواجبات. وهذا ما قاد لوك إلى دراسة واجبات المجتمع تجاه التسامح من خلال جُملة من التوضيحات الآتية:

1. لا يحق لشخص خاص، بأي حال من الأحوال، أن يضر بأموال الغير المدنية أو أن يدمرها بدعوى أن هذا الغير يؤمن بدين آخر أو يمارس شعائر أخرى.

2. إن السلام والعدالة والصداقة أمر ينبغي أن تراعيها الكنائس المختلفة بعضها مع بعض مثلما يراعيها الأفراد من دون مطالبة بهيمنة لوحدة على الأخرى.

3. من الواجب تشجيع التسامح فيما بين بعضهم وبعض، وإذا ما تقووا بالسلطة المدنية، فإن بوسعهم أن يتحمّلوا بصبر وثبات عدوى الوثنية (عبادة الأوثان) Idolatry، والخرافة Superstition، والهرطقة Heresy في محيطهم الذي يثير في نفوسهم الخوف على أنفسهم وعلى دينهم([29]).

ويخلص لوك إلى أن الجميع لا بدَّ له أن يكون تحت طائلة المشاركة في التسامح؛ "فلا الأفراد، ولا الكنائس، ولا الدولة، لديها أي مبرّر عادل للاعتداء على الحقوق المدنية وسلب الآخرين أموالهم بأنفسهم بدعوى الدِّين"([30]).

يختم لوك رسالته بدعوة الحاكم المدني ورجل الكنيسة معاً إلى ممارسة كل منهما تخصٌّصه الذي له؛ فمهمة الحكّام المدنيين بوصفهم "آباء لبلادهم يوجِّهون كل جهودهم ونصائحهم لزيادة الرخاء المدني العام لأبنائهم ما عدا منْ كانوا خبثاء أشراراً لا يرعون"([31])، ومهمة رجال الكنيسة "الذين يعلنون عن أنفسهم أنهم خلفاء للرُّسل، والسائرون على طريق الرُّسل، لا يتدخَّلون في السياسة، يكرِّسون أنفسهم بسلام وتواضع لرعاية نجاة النُّفوس"([32]).

بهذا يفصل جون لوك بين الدِّين والدولة على نحو واضح بعدد من الحجج، وكذلك بقدر واضح من التحليل المدهش، وجعل من التسامح مبدأ تبادلياً شاملاً في المجتمع المسيحي يتلاقى عنده رجُل الدولة ورجُل الدِّين وأفراد المجتمع معاً في تواصل تعاضدي معزز بإدراك واع لدور كُل طرف منهم في الحياة من شأنه حقن دماء الناس، ودرء العنف فيما بينهم على أساس مذهبي أو ديني، وتحقيق مجتمع العدالة والحرية المتبادلة.

الله والعقل

حافظ لوك في خطابه الفلسفي على وجود الله، فهو الذي قال: "لا ينبغي التسامح مع منْ ينكرون وجود الله"([33]). وهذا يعني أن التطلُّعات العَلمانية لدى لوك مقرونة بإيمان جلي بالذات الإلهية، وهي التطلُّعات نفسها التي تنطلق من التوزان بين الحياة الدنيا والآخرة، فـ "للإنسان، بجانب روحه الخالد، حياته في هذه الدنيا"([34])، كما أن رؤية التوازن لديه جعلته يميل إلى عدم تكفير أتباع الأديان الأخرى، ومنهم اليهود والمسلمين، فلكُل منهم شأنه في دينه.

لقد أولى لوك العقل أهمية كبرى في رؤيته الخاصَّة إلى التسامح الذي وجده "يرضي الإنجيل والعقل" معاً كما أسلفنا القول حتى لتبدو كل معالجاته لفكرة التسامح مبنية على رؤية متوازنة تستمدُّ قوتها من العقل نفسه ولكن ليس على طريقة رينيه ديكارت (1596 - 1650) الذي قرأه لوك بإمعان وأعجب به، ويبدو ذلك جلياً في الروح الاستقرائية المقارنة بين الفِرَق والمذاهب والأديان وأنظمة الحكم التي أبداها، وهو يبحث في مسائل التسامح، تلك الروح التي تعاضدت مع نزعته التجريبية المتأتية إليه من مطالعاته الواسعة لمؤلَّفات مواطنه وسلفه الإنجليزي فرنسيس بيكون (1561 - 1626)، وكذلك من دراساته للنَّظريات العلمية التي انكب عليها في حياته الجامعية، والتي نّماها وأصَّلها في وعيه غبر دراسته الأكاديمية للطب.

وإذا كانت العقائد المسيحية ينطوي صلبها على قدر من التسامح الذي تلوي عنقه بعض القراءات الدينية الفقهية المتطرِّفة، فإن العقل السليم ينطوي - وبحسب تكوينه الطبيعي - على مُمكنات التسامح من دون أن تكون موروثة فيه، لذلك يُعدُّ العقل، في عُرف جون لوك، صفحة بيضاء يكتسب معارفه تالياً أو بعدياً بلغة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، لكن لوك يميل إلى اعتبار فكرة التسامح عنده فكرة عقلانية لكونها تتفق ومتطلَّبات العيش السليم الذي لا تحركه بذرات التعصُّب المذهبي، ولا روح التكفير الجهوي المؤسَّس على أهواء ومصالح ذاتية مشبعة بالأنانية المؤذية أو والرغبة البذيئة بالانقضاض على حياة البشر لدواع دينية مذهبية طائفية يرفضها منطق العقل البشري السوي.

لقد جاءت فكرة لوك لكتابة (رسالة في التسامح) بعد مخاض عسير شهدته أوروبا وبريطانيا، وتحديداً منذ عصر الإصلاح الذي شهد "انقسامات مسيحية وسيطة كانت تطرح مسألة التعدُّدية الدِّينية في الدولة بحدّة غير معهودة؛ حيث لم تعد الطوائف اللوثرية والزفنغلية والكالفينية والأنجليكانية هي وحدها التي تتصادم في ما بينها ومع الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر؛ بل نشأت في وجهها شيعٌ وحركات دينية مفرطة التشدُّد تهدِّد بدورها مواقف الإصلاح؛ بل لنقل، باختصار، إنه عالَم من الكنائس والشِّيع التي تطالب بحقوق المواطنية"([35]).

بإزاء كل ذلك الصراع الحاد بين تلك الأطراف الدِّينية، وبينها والدولة، يعتقد جوزيف لوكلير أن الكثير من الدراسات التي تناولت التسامح في العصور الأوروبية الحديثة، والتي نشطت في خلال النِّصف الثاني من القرن العشرين كانت "في معظمها أحادية الاتجاه"([36])، لكنه يحتفظ بهذا النَّقد حتى عندما يأتي إلى ذكر جون لوك في (رسالة التسامح)، فهو يعتقد بأن المرافعة التي كتبها روجيه وليامز في سنة 1655 عن حرية الضمير كانت "أكثر اتساعاً في الرؤية وغنى العقيدة ما جعلها تتخطّى بأشواط تلك الرسالة التي كتبها جون لوك نفسه سنة 1689، حيث سيقتصر فيها على إظهار المواقف الفكرية المشتركة بين اللاامتثاليين في عصره، بكل ما فيها من قصور ومحدودية، إلى حدّ عدم السماح للكاثوليك بإقامة شعائرهم الخاصَّة"([37]). ولم يكتف لوكلير بذلك فحسب؛ بل وجد في محاولة لوك انتقائية ما دفعت برسالته ألا تكون شاملة في تناولها لصور التسامح الذي درسه في رسالته مركِّزاً على الفرق البروتستانتية دون الكاثوليكية في إنجلترا على أيام آل ستيوارت وكرومويل([38]).

ومهما كانت فكرة أحادية الاتجاه تنطبق على رؤية جون لوك في معالجة فكرة التسامح؛ بل ومهما كانت طبيعة الانتقادات حادَّة، تلك الموجَّهة إلى تجربته في هذه الرسالة، تبقى تلك التجربة تأسيسية في مجالها الفلسفي والفكري كونها جاءت، هذه المرَّة، من فيلسوف تجريبي أدرك أهمية المعالجة الفلسفية للتسامح والإصلاح في عصرٍ تناهت إليه الصراعات الدِّينية، رغم وجود حركات إصلاحية متتالية الظهور في العصر الغربي الحديث.

قد يبدو خطاب جون لوك في التسامح والإصلاح ابن عصره، إلاّ أن معالجته لهذين الموضوعين تبدو اليوم ذات أهمية فائقة؛ فزمن الفتنة في عصر لوك يُعاد اليوم بتجدَّد همومه وفظاعاته، وتلك إشكالية تلقي بظلالها اليوم على دور الفلاسفة والمفكِّرين والمثقفين بأن يبروا أذهانهم وعقولهم وإراداتهم من أجل فكر إصلاحي تسامحي جديد لمواجهة تحديات باتت تعصف بالإنسان في كل حالاته الذاتية والموضوعية.

[1]. جون لوك: رسالة في التسامح، ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي، ص 393، مجلة (فصول)، العدد (81/ 82)، القاهرة، ربيع 2012 أما النَّص الإنجليزي لهذه الرسالة فهو:

- Locke (John); Toleration, Jonathan Bennett, pdf, 2010.

عندما يستخدم جون لوك عبارة "السبب الكلي للتسامح" فهو لا يدل بها أي معنى ميتافيزيقي أو مفارق، إنما يقصد بها تقديم معنى شاملاً ثلاثي الأطراف للتسامح لا بدَّ على الكنيسة والدولة وأفراد المجتمع عامة المشاركة الشاملة في بنائه والعمل بموجبه

[2]. جون لوك: في الحُكم المدني، ترجمة د. ماجد فخري، "المقدِّمة"، ص (أ)، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، بيروت، 1959

[3]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، "المقدِّمة"، صفحة (ب).

[4]. جون لوك: رسالة في التسامح، ص 371

[5]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 367

[6]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص ص367 – 368

[7]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 372

[8]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 374

[9].. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 375

[10]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 394

[11]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 400

[12]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 408

[13]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص ص 313 – 414

[14]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 415

[15]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 416

[16]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 417

[17]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص ص 373 – 374.

[18]. Kant (Immanuel); Was ist Aufklärung? P 169. (Der Text stammt aus: Immanuel Kants: Werke. Band IV. Schriften von 1783 – 1788. Herausgegeben von Dr. Artur Buchenau und Dr. Ernst Cassirer. Berlin: Bruno Cassirer 1913. S. 167 – 176 und 538 – 539).

[19]. جون لوك: رسالة في التسامح، ص 375

[20]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 381

[21]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 381

[22]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 375

[23]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 383

[24]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 385

[25]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 385

[26]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 385

[27]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 381

[28]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص ص 378 – 379

[29]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 379 – 385

[30]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 384

[31]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 425

[32]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 425

[33]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 416

[34]. جون لوك: المصدر السابق نفسه، ص 410

[35]. جوزيف لوكلير: تاريخ التسامح في عصر الإصلاح، ترجمة: د. جورج سليمان، ص 19 – 20، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009

[36]. جوزيف لوكلير: المرجع السابق نفسه، ص 18

[37]. جوزيف لوكلير: المرجع السابق نفسه، ص 1094

[38]. جوزيف لوكلير: المرجع السابق نفسه، انظر: (ص 1115 – 1116)