الحالة الدينية مستدلا عليها بالفلسفة والفنون


فئة :  مقالات

الحالة الدينية مستدلا عليها بالفلسفة والفنون

يقول هيغل إن "الفكرة الداخلية تصبغ الواقع الخارجي"؛ فالواقع المحسوس أو المتعين، إنما يعكس فكرة داخلية شكلته أو منحته هوية.. وهكذا فما من منتج أو سلعة أو لباس أو طعام أو بيت أو شارع أو مدينة... إلا وتعكس أفكار المنتجين.

لقد كانت الفنون على الدوام وسيلتنا لفهم الدين، ولذلك فإننا بالنظر إلى الحالة الدينية القائمة في عالم الإسلام والمسلمين، يمكن أن نستدل على أزمة فهم الإسلام وتطبيقه، ذلك أنه في غياب التعبير الفني عن الدين أو قصور هذا التعبير أو تشوهه أو عجزه، يمكن الاستدلال على القصور والفشل والتشوه في الحالة الدينية، وليس غريبا في تشخيص حالة التطرف والكراهية ردّها إلى حال الفلسفة والفنون وعدم قدرة المتدينين على إدخالهما واستخدامهما وتطبيقهما في الشأن الديني، أو بتعبير أصح التشوه والفشل في استخدامهما وتطبيقهما، ذلك أنه لم لا يمكن نظريا وواقعيا أن يفهم الدين أو يطبق من غير فلسفة وفنون، ولكنها في غياب استيعاب التجارب الإنسانية والعلمية والتطبيقية في الفلسفة والفنون تكون الحالة الدينية تعكس فلسفة خاطئة أو مشوهة، وتحل في أوعية مشوهة من التطبيق والممارسة تعجز عن استيعاب مقاصد الفكرة الأساسية أو تمثلها تمثيلا يرتقي بأصحابها، بل تسوق أصحابها إلى الهاوية.

في تعبير الجمال عن الفكرة يقول هيغل: "ثمة واقع خارجي له بما هو كذلك طابع محدد، ولكن داخله يبقى في حالة تجريد وعدم تعيين، وتتجلى هذه الداخلية من حيث هي فكرة في امتلاك الحياة النفسية في ذاتها ولذاتها، وفي صبغها الواقع الخارجي بداخليتها، ما يجعل الواقع الخارجي تظاهرا صريحا للداخل" وفي محاولة اقتباس المقولة في المجال الديني يمكن الاستدلال على الخواء والأزمة الروحية في عالم تطبيق الدين، عندما يتحول هذا التطبيق إلى كراهية وتدمير للحياة والناس أو كما يقول تعالى (سورة البقرة، آية 204): "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد".

صحيح أن المقولة مثالية بمعنى أننا (البشر) في المرحلة التي نحن فيها لم يتوصل الجمال بعد إلى هذه الوحدة بين الجمال والفكرة، بمعنى أن الفن لم يصل بعد ليعكس الفكرة بدقة، ولكنها تظل مقولة صحيحة في التحليل والمراجعة، وإذا كان الجمال يقاس بالتناظم والتناظر والتناسق، فيمكننا اليوم تطبيق هذه المبادئ على التطبيقات الدينية أيضا وملاحظة العلاقات المنطقية والجمالية في الفكر والأداء والممارسات كما المؤسسات والعلاقات، "فالفكرة بما هي الجوهري والعام وفهم العالم هي الجمال الكامل بذاته"، وفي تقديمها إلى الواقع نسعى دائما (يفترض) أن يكون الواقع والفكرة متطابقان، وهما لن يتطابقا غالبا ولكن الواقع يحاول الاقتراب من الفكرة، وبالرغم من صحة المقولة (نظريا) في أن الفكرة (وهي هنا الدين) مستقلة عن المتدينين، فإنه لا يمكن فهمها والنظر إليها إلا من خلال المؤمنين بها، فالفكرة المجردة تكاد تكون غير موجودة أو غير مفهومة إلا بتلقيها الواقع وهو ما لا يمكن إلا بالمطابقة بين الواقع والمفهوم، فالحياة كما يقول هيغل: "لا توجد إلا في شكل كائنات حية فردية، والخير لا يتحقق إلا عن طريق بشر أفراد، وكل حقيقة لا تكون حقيقية إلا بالنسبة إلى وعي يعرف، وإلى روح يوجد بالنسبة إلى ذاته".

وإذا كنا لا نرى أو نلاحظ سوى الواقع المعاين أو الظاهر، فإن ثمة عللا باطنة للأفعال والأحداث هي وإن لم تظهر على الدوام إلى السطح، وتظل في حدود المنطقة الدفينة التي تقيم فيها، فإنها في الوقت نفسه هي التي تنشئ هذا الواقع الظاهر، وهنا تساعدنا الفلسفة والفنون في إدراك حقائق الأشياء ثم تطبيقها في الحياة والتصورات للكون والحياة والذات والعلاقة مع الله ومع الوجود والكائنات.

والمسألة ببساطة يمكن توضيحها كما يلي: الإيمان فكرة فردية.. لا يؤمن الإنسان إلا فردا ويتحمل وحده مسؤولية إيمانه أو عدم إيمانه، وما من فكرة إلا ويحب التعبير عنها على نحو تصوري.. وفهمها بأدوات تعبيرية من اللغة والرسم والموسيقى وسائر الفنون، فلا يمكن فهم فكرة أو استيعابها من غير تعبير، ولا يمكن التعبير إلا بالأدوات التي نملكها ونعرفها.

التعبير عن الفكرة ليس الفكرة ولكنه تقديمها أو تعبير عنها.. ودائما هناك فرق بين الفكرة في أصلها وكما هي وبين وجودها أو تقديمها في وسيلة تعبيرية،.. يعتمد ذلك على مسألتين: الفكرة نفسها وفنون وأدوات التعبير عنها، فاللغة والفنون تعكس الفكرة ومدى وضوحها وقوتها أو مدى قدرات مواهب من يقدم الفكرة،.. وفي ذلك فإننا في مأزق كبير ومعقد! فإن لم تنجح هذه القاعدة في ملاحظة العلاقة بين الفكرة والواقع أو في ملاحظة الفرق والفجوة بينهما أو في كون الفكرة تطبق وتظهر على السطح في حالة من التطرف والكراهية والعنف والتعصب، فإننا أمام مجموعة من الافتراضات التي يجب اختبارها، ومن ثم إعادة تشخيص الحالة واقتراح تصميمها وتنفيذها وتطويرها على النحو الذي نقدر أنه "جميل" بمعنى الانسجام بين الفكرة في اصلها وبين تجليها.

ومن هذه الافتراضات:

1-   الفكرة الدينية لا تساعد أصحابها على رؤية أنفسهم وحياتهم كما يجب أن تكون.

2- لا يملك أصحاب الفكرة والمؤمنون بها "الجمال" بما هو المهارات والأدوات والمواهب "الذائقة" لاستيعاب الفكرة وتجليتها وتحويلها الى واقع عياني ملموس يتفق مع جمالها المفترض.

وببساطة ووضوح، فإنه اذا كان لا يمكن فهم الإيمان أو تقديمه من غير اللغة والفنون والآداب، فإنها تمثل ضرورة قصوى للإيمان والدين، وسيكون قصورا في الدين والإيمان أن تكون اللغة والفنون والآداب عاجزة أو قاصرة عن استيعاب الدين والإيمان، أو يكون الدين والإيمان عصيين على اللغة والفنون!

لقد ظلّ الدين سؤالاً، وإن كان يبدو إجابة أو ملجأ من السؤال، حتى لدى المؤمنين بأن ثمة حقا نزل من السماء، فهذا الحق النازل من السماء يحلّ في لغة الأرض، ويستنطَق ويُفهم ويُؤول بأدوات الإنسان التي طورها في البحث والمعرفة والعلم والفلسفة والفنون والتصوف أو التأمل. وفي ذلك، يبدو التاريخ الديني جدلاً متواصلاً وبلا انتهاء بين الإنسان ونفسه أو مع الطبيعة والكون. لكن بعض المتدينين أنشأوا بذلك أسوأ تجربة إنسانية، وأسسوا لتناقض يبدو عصياً على الحلّ.

فالإقرار واجب بأنه لا يمكن فهم الدين وتطبيقه إلا بالفلسفة والفنون، بالنظر إلى الفلسفة بوصفها "الأداة المنهجية في معرفة حقائق الأشياء"، والتي من دونها فإن اللغة، بما هي وعاء النص الديني، لا تمنح المعنى والدلالة والتأويل، أو أنه لا يمكن إدراك ذلك إدراكاً صحيحاً. وأما الفنون، فهي أداة التعبير عن الأفكار والمشاعر والأحاسيس والخيال وتحويلها إلى معرفة ترشد الإنسان وترتقي به.

هكذا لا يمكن فهم الدين فهماً صحيحاً من غير فلسفة، ولا يمكن تطبيقه تطبيقاً صحيحاً من غير فنون، لكن ذلك يؤنسن الدين وينزع عنه الغيبية، وأسوأ من ذلك بالنسبة إلى المؤسسة الدينية أن ذلك يعود عبئاً على الدين نفسه كما العلم... والموارد والضرائب!... ماذا يبقى من الدين عندما يحدث هذا التطور؟ يبقى كله بالطبع، ولكن السؤال الحقيقي: ماذا يبقى من المؤسسة الدينية والسلطة السياسية؟

في الجدل بين الدين والعلم، كان العلم يتمدد والدين ينسحب، ولكن ذلك حدث، لأن السلطة الدينية مدّت المقدس إلى كل شأن من شؤون الحياة والعلم، ولم يكن ثمة مجال بالطبع للتقدم سوى عبر التقدم وتحسين الحياة والتخفيف من آلام البشر، والواقع أنه كما يقول برتراند رسل، لم يعد ثمة حرب بين العلم والدين، ولم يعد الدين هو الخطر على الحريات والتقدم، لكنها الحكومات والأنظمة السياسية الاستبدادية.

ويظل التدين الفردي قابلاً للبقاء والاستمرار مهما تقدم العلم، أو أنه ما زالت ثمة حاجة إليه لم يقدمها العلم بعد وربما لن يقدمها، فالدين مرتبط بالحياة الخاصة التي يشعر بها المؤمنون، وطالما أن الدين يتلخص في طريقة الشعور، وليس فقط في مجموعة من المعتقدات، فإن العلم لا يستطيع أن يتعرض له، ولا يملك العلم ما يقدمه في شأن الأخلاق والقيم، لكنه يملك بالتأكيد ما يقدمه في علم الأخلاق. والحال أن المسائل المرتبطة بالقيم، أي المرتبطة بما هو خير أو شر في حد ذاته، بغض النظر عن نتائجه، تقع خارج نطاق العلم، كما يؤكد المدافعون عن الدين بشدة، وهم في نظر برتراند راسل محقون في هذا الشأن.

الدين يدرس في عالم العرب والمسلمين دراسة تطبيقية مهنية، فهو لتعليم وإعداد المتدينين والعاملين في مجال الدين (التعليم والإمامة والإرشاد والإفتاء...) وليس دراسة علمية (علم الأديان) كما تدرس العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهذا يجعل عالم فهم الإسلام وتطبيقه على عكس ما يقول المسلمون خاضعاً لمؤسسة دينية تحدد للمتدين فهم الدين وتطبيقه. فالمرجعية الدينية في الإسلام أو المؤسسة الدينية تملك سلطة تنفيذية ومعنوية هائلة تتجاوز التشريع والتطبيق إلى التهديد والعقوبات المشددة، بل تمتد إلى ضمائر الناس وأفكارهم ومشاعرهم!

وسيجد من يحاول أن يفهم الدين فهماً علمياً، أو باعتباره موضوعاً للبحث العلمي، نفسه مضطراً إلى أن يلجأ إلى الانتاج الفكري الغربي، فليس ثمة في عالم الإسلام سوى محاولات قليلة خجولة للعلوم الدينية. ليس لدينا لفهم الدين سوى تعاليم وقواعد تقدم لنا باعتبارها أوامر من السماء لا نملك إلا اتباعها وإلا فسوف تطبق علينا في الدنيا عقوبات الردة والزندقة والتفريق والسجن والغرامة والجلد، وفي الآخرة ينتظرنا عذاب شديد تقشعر له الأبدان يحق لمحكمة الجنايات الدولية أن تعتبرها جرائم بحق الإنسانية!

ويظل المأزق قائماً ومعقداً ولا يمكن مواجهته بسهولة أو في عجالة، ذلك أن علوم الإنسان ليس بمقدورها إدراك الميتافيزيقي (ما فوق الطبيعي)، ولكننا أيضاً في حاجة الى الإقرار بأنه لا يمكن بلوغ المقدس إلا عبر الإنسان. يقول تليش: ليست الرموز الدينية حجراً متساقطاً من السماء، بل هي مترسخة في كل التجربة البشرية، فلا يتيسر لنا فهمها إلا بوضعنا في الحسبان السياق الاجتماعي والثقافي الذي تطورت عبره، والذي وقفت ضده في بعض الأحيان.