الجسد نقطة تواصل بين الإعلام والثقافة والوشم

فئة :  مقالات

الجسد نقطة تواصل بين الإعلام والثقافة والوشم

الجسد نقطة تواصل بين الإعلام والثقافة والوشم

على سبيل البدء:

يعدّ الحديث في موضوع الجسد من بين المواضيع التي تشغل حيز تفكير الإنسان، نظرًا إلى تشعب معانيه وتداخله مع عدة مفاهيم، من بينها مفهوم "البدن"؛ فكلمة "بدن" هي: كيان حي يتكون من جسد وروح، ويجمع بين الجانب الروحي والجانب المادي. أما كلمة "جسد"، فتعنى كل ما له طول وعرض؛ أي الشكل الخارجي أو البنية المادية للكائن الحي، هذه الثنائية التي تضمنت جسدًا وروحًا اعتبرت في الفكر الفلسفي المعاصر وحدة أساسية قامت عليها الذات الإنسانية، لكن مفهوم الجسد لم يتوقف عند هذا التعريف البسيط، بل ساهمت وسائل الإعلام في بلورة تعريف مغاير له؛ وذلك عندما تدخل الإعلام بخلفياته الإيديولوجية، ليصبح الإعلام أيقونة توجه اختصاصات ومعاني الجسد.

حظي مفهوم "الجسد" باهتمام كبير من قبل الفلاسفة والمؤرخين على مر الأزمنة، فكلمة جسد هي الكلمة الأكثر تداولا في عالمنا المعاصر كما في باقي العصور؛ لأنه محط اهتمام الفلاسفة والعلماء ورجال الدين والسياسة...، فهو محط اختلاف وإجماع في الوقت نفسه، بوصفه يدخل في الموروث الثقافي بكل تجلياته، إلا أنه في ذات الوقت أداة ووسيلة للتغيير، ومن خلال دراسة هذا الموروث وإعادة تصحيحه، يمكننا إعادة الاعتبار للجسد، بهدف الوصول إلى خلاص هذا الجسد؛ وذلك عبر إعطائه الحرية بإعادة قراءته بوصفه قيمة جمالية، وصولا إلى محاولة فهم الذات والمجتمع، فالجسد عندما يرتبط بالمجال الإعلامي يصبح المجال التجاري هو الأساس الذي يحركه، والذي يرتكز على عملية البيع وترويج السلع والخدمات.

أصبح جسد الإنسان يخضع لمعايير الإعلام بدخول هذا الأخير في الحياة اليومية للإنسان، لم يعد جسد الإنسان يحمل قدسيته من خلال الحفاظ على خصوصياته، بل انتهكت هذه الخصوصية عندما وجه الإعلام أدواته لجسد الإنسان، وحول هذا الجسد إلى مادة للترويج لأغراضه الإيديولوجية.

لقد صرنا في هذا القرن نتعامل مع تعريف الجسد ككائن غريب عنا، لم يعد بإمكاننا تعريف الجسد بأنه ذلك المفهوم الذي يحافظ على قدسيته ككيان مستقل يحمل روح وبدن، بل أصبح ذلك الكائن الغريب الذي من الواجب علينا معاملته بكثير من الحيطة والحذر، وهذا راجع للدور الذي أصبح منوطا به، وهو استعارته ليكون واجهة لأعمالنا الاقتصادية والثقافية والسياسية، من خلال استثمار طراوته في: (الرقص، الإعلانات الإشهارية، الدعارة، حقل التجارب ...)، بهدف تحقيق الربح المادي بصورة سريعة، وإن كانت على حساب حقوق وحريات الأفراد، وأيضا من خلال العلاقة التي يقيمها الأفراد فيما بينهم، وهو ما يفسر حضور مفهوم الجسد بشتى أشكاله وفي جميع الأمكنة وعبر شتى وسائل الإعلام، حتى إن حياة الناس ونشاطهم اليومي أصبحا مشروطين بإغراء الصورة والحركات والألوان والخطاب المصاحب الذي يشكل أهم دعائم الإعلام.

الجسد بين الربح المادي والغاية الإيديولوجية:

تتجلى أهمية الجسد في حضور الإنسان، هذا الأخير يبرز حضوره في العالم من خلال الجسد، فمن خلال هذا الظهور يتلخص الجسد في مظاهره الجسدية والحركية، لكن رغم هذا التميز لا يمكن حصر الجسد في الحضور المادي فقط، بل يحمل إيحاءات وإبداعات تظهر إما في شكل أعمال فنية من خلال الصورة image التي يقدمها الفنان في عمله، وهي صورة غالبا ما تكون غير بريئة، وإنما تحمل إيديولوجيا معينة، أو في حضور إعلامي يهدف إلى ترويج منتوج معين، هذه الإيحاءات هي لغة خاصة تسخر حسب احتياجاتها، إما في خدمة الأهداف التجارية باستهداف "ترويج السلعة وليس الدفاع عن القيم الإنسانية أو تحليل وضعية اجتماعية أو معالجة قضايا الذات أو المجتمع"[1]، وإنما يسخر كل أدواته الترويجية لتحقيق الغاية الربحية، التي تبقى الغاية الإيديولوجية التي يسعى الإعلام إلى تحقيقها، من خلال استحضار الجسد في وضعيات أو صور أو ملابس تحرك الرغبات الجنسية المكبوتة في داخل الإنسان عن طريق الوازع الأخلاقي، ومن أجل نجاح هذه المهمة يستخدم كل الوسائل الفنية والبلاغية الممكنة، بما فيها محاصرة انتباه الناس يوميًّا بعبارات وصور إلى أن تصبح واحدة من الصور التي تحتل موقعا في الذاكرة المغربية، فتتحول بالتالي إلى بنية متحكمة إلى حد ما في التفكير والاختيار، عبر التحكم الغير مباشر في نظرتنا لمعتقداتنا وأذواقنا وسلوكياتنا تحت ذريعة الإشهار.

إن حضور الجسد في الأعمال المعاصرة من بينها الإشهار والتسويق، يدل على أن موقع الجسد لم يعد ذلك المعطى الطبيعي فقط، بل تعداه إلى تفكيك الجسد والتلاعب به من خلال الإيحاءات الرمزية والجنسية. يمكن القول إننا أصبحنا نعيش في مجتمع إيقوني نتيجة "الثورة الإيقونية"[2]، التي تعتمد بشكل كبير على تأثير الصورة التي يهدف الإشهار من خلالها إلى التأثير في نفسية المتلقي، مما جعل هذا المتلقي محكوم بوسائط جديدة تقدمها التكنولوجيا الحديثة، التي تغير نظرة الفرد إلى نفسه ونظرة الآخرين له.

علاقة الجسد بالثقافة والإعلام:

يعدّ الإعلام "وعاء الثقافة"، فهو يعمل على استلاب الثقافة المحلية وتعويضها بثقافة أجنبية تحمل في طياتها فكرة الاستغلال والاستلاب، على اعتبار أن هناك تشاركا واندماجا بين الفعل الثقافي والنشاط الإعلامي؛ فالإعلانات الإشهارية تتزايد بشكل كبير لتدعيم مجتمع الاستهلاك، مما جعل العمل الإيديولوجي حاضرا بقوة في تعريف الثقافة، سواء بشكل علني من خلال السياسات والأنظمة والقوانين ...، أو من خلال الثقافة التي تروج لها وسائل الإعلام وأغلب البرامج الثقافية، فالإعلام والثقافة تربطهم علاقة تأثير وتأثر في إطار مجموعة من الأحداث والمتغيرات، هذا الإعلام من خلال أدواته المتمثلة مثلا: في الإشهار أصبح العامل الأساسي في صناعة وخلق ثقافة الاستهلاك في عصرنا الحالي.

تعد الثقافة أساس وحدة الهوية، رغم اختلاف وتعدد الثقافات تبقى الثقافة المحلية الأساس الذي تتشكل منه شخصية كل إنسان، وعندما يتم المساس بهذه الثقافة من خلال دمجها في الثقافات الأخرى دون مراعاة ولا المحافظة على الثقافة المحلية لكل مجتمع، تندثر بشكل تدريجي هذه الثقافة ومعها يتم طمس هوية الفرد، فثقافة الإشهار "الهامبورغر" استهلاك ليس فقط من أجل الطعم والمعدة، وإنما هو تصدير وترسيخ الثقافة ومطعم المجتمع الأمريكي، كما هو الشأن بالنسبة إلى ماكدونالز. وهذا ما عبر عنه "ثيودور أدورنو" "بإعادة النتاج الثقافي"، أو "مفهوم صناعة الثقافة"؛ وذلك لكي يوضح الدور الذي تلعبه "الممارسات الثقافية" المتخفية في الخطاب الإشهاري، فمن خلال مفهوم صناعة الثقافة يتم إعادة إنتاج الثقافة وتحويرها لتتلاءم مع اقتصاد السوق.

تبقى علاقة الثقافة بالجسد علاقة معقدة، لا تنحصر فقط فيما هو ظاهري، بل تتعداه إلى ما هو نفسي وعقلي، فالثقافة تتداخل ضمن ما يشكل هوية الجسد، فثقافة الجسد هي موروث ثقافي يختلف من مجتمع للآخر، وبتداخل مجموعة من الأسباب يصبح "جسدنا معطى ثقافي بفعل الواقع، فهو نص، سواء أردنا ذلك أم لا، فمن خلال جسدنا، إشارتنا، وضعياتنا الجسمية، ألبستنا، حيلنا... نتيح القراءة، فالجسد مهما يكن من أمر، موضوع عمليات حل الشفرات. فلغة الجسد تتيح لكل فرد معرفة المجموعة التي ينتمي إليها والوضعية التي يشغلها فيها"[3]، يمكن القول إن الجسد هو وعاء الثقافة، عبر أدواته التي تتجلى في اللباس الذي يعبر عن ثقافة بلد معين، أو من خلال الرسم أو الوشم في الجسد الذي يظهر بدوره ثقافة كل بلد ومميزاتها، فهو يعبر عن انتمائه الجغرافي أو الطبقي.

بحكم الثنائيات التقليدية التي وضعت الجسد في إطار إما نفس أو بدن، يدافع نيتشه عن الجسد من خلال إسقاط قناع الأنا الديكارتي، والدعوة لقبول الجسد بوصفه تجسيدا للأنا في أثناء الفعل، وليس في أثناء الكلام فقط. توجد الذات عينها Soi Selbst خلف "الأنا" العارف. لا ينكر نيتشه وجود الأنا ولا وجود الذات عينها، لكن الجسد لم يعد يقوم على خدمة الأنا، بل أصبح يرى بعيون الحس ويسمع بآذان العقل. وبعدما كانت مرتبطة بوحدة الوعي بالذات وسيادة النفس على البدن، أصبح الجسد هو الذي "يواجه ويرد ويغزو ويدمر، فهو الآمر، بل أصبح سيد الأنا"[4]، فالجسد حسب نيتشه أصبح سيد نفسه وليس تابعا طيعا للأنا.

كان حضور الجسد يرتبط بالدرجة الأولى بالغرائز وسجن النفس، مع العلم أن الجسد هو حضور ذاتي وموضوعي أي عقل وغرائز، لتحقيق التوازن بين الجسم والروح، وإذا لم تسعى الأنا إلى هذا التوازن سيكون هناك صراع وعدم توازن بين قوى هذا الجسم، هذا الأخير أصبح يجسد إنسانية الإنسان عبر فهم شخصية هذا الإنسان عبر جسده، الذي أصبح المرآة التي ينظر الإنسان من خلالها إلى الآخر؛ أي ذلك الغير المختلف عني والمتشابه معي في كثير من الصفات.

كان لابد من إعادة الاعتبار للجسد بتحريره من هذه الثنائية "فأمام قوة هذا التيار الجارف اعتملت الثقافة الغربية بتيارات مضادة، تدعو إلى رد الجسد إلى نصابه الأرضي، والاحتفاء بالقيم الحسية، والمصالحة بين المعقول والمحسوس، كما هو الشأن مع الكلبيين والأبيقوريين قديما ثم نيتشه وهوسرل وميرلوبونتي وغيرهم من فلاسفة الاختلاف حديثا"[5]، رغم أن نظرة المجتمع إلى الجسد تختلف من النظرة الثنائية التي تضم جسد وروح بوصفه رمز العفة والطهارة والعلم ...، والنظرة الاستهلاكية التي تنظر إليه كمصدر للربح وتجسيد للخطيئة والشهوة والجهل...، يبقى الجسد كيان مقدس يوازن بين الجانب العقلي والجانب المادي.

الجسد وعلاقته بالوشم في الثقافة الأمازيغية:

يعد الجسد اليوم رسالة توجه لتمرير شفرة معينة؛ بين الحرية والإثارة والتغيير، عبر عدة طرائق من بينها الوشم، هذا الوشم الذي وجد منذ عقود كنوع من أنواع العادات والتقاليد للشعوب، فهو في بعض المناطق يرمز للهوية، ويجمع في رسمه بين العلم والثقافة، فمثلا في الثقافة الأمازيغية، وهي "الثقافة الأصلية لشعوب شمال إفريقيا، وتتميز بكونها تعتمد على اللغة الأمازيغية / البربرية، وظلت لقرون طويلة شفهية تقوم على التعابير الأدبية التقليدية كالحكاية والأمثال والألغاز والشعر، وعلى التقاليد المتوارثة كالاحتفالات الجماعية الدينية والاجتماعية والزراعية، وتتميز بتنوع شديد في فنون الغناء والرقص..."[6]، يتميز الجسد الأمازيغي بسمة الوشم، هذا الأخير لم يرسم عبتا، بل لكل وشم طريقة خاصة وحدث من أحداث الحياة، من تاريخ ميلاد ووفاة وسعادة وشفاء من الأمراض وخصوبة وإبعاد الحسد ورمز لجلب البركة والرزق، وهو ما يشير إلى أن أغلب الوشوم التي يتم وضعها على الجسد تحمل دلالة معينة.

شكل الوشم في الثقافة الأمازيغية نوعا من أنواع التواصل الاجتماعي، ورمزا للهوية والجذور التاريخية، "تعد الثقافة الأمازيغية من أكثر الثقافات الشعبية احتفاء بالجسد والوشم في الوقت نفسه. إنها ثقافة، ترصد من خلال الوشم، تصوراتها الوجودية والوجدانية على حد سواء وتحول الجسد في حضرة الوشم إلى لوحة فنية فسيفسائية تتقاطع فيها الخطوط، وتشحن بالكثير من دلالات اللذة والمتعة والجمال"[7]، الوشم ليس مجرد رسم أو كتابة. إنه تحديد للوجود، وعمل فني بامتياز يحمل كل الدلالات الرمزية والتقاليد التي تم تداولها، أو التي تم نقلها بالسمع من الأجداد. إنه تاريخ مبطن لجل الأحداث التي عاشها الفرد داخل هذا المجتمع.

يعد الوشم أحد الأدوات التي تعبر عن الثقافة من خلال رسمها أو كتابتها على الجسد، و"هكذا يشتغل الوشم على واجهتين ثقافيتين: إما لعلة تزيينية محضة أو لعلة علاجية محضة، أو هما معا. وأحيانا وُظف الوشم لقصدية تعذيبية أو جزائية كما هو الحال بالنسبة إلى السجناء أو العبيد، أو كشفرة تواصل بين القراصنة"[8] يحمل الوشم غاية ثقافية واجتماعية ويتطور نتيجة تراكمات فكرية.

تطرق جون بودريار في كتابه: ""مجتمع الاستهلاك" إلى أن الجسد، بعد عدة قرون من العفة والماهوية، "أصبح الأسطورة الموجهة لأخلاق الاستهلاك" لقد أصبح رأسمالا نستثمر فيه بوصفه يدل على الوضع الاجتماعي. كما أصبح مقدسا، بل مؤلها: "من الوقاية إلى التبرج، مرورا بحمام الشمس، والرياضة وكثرة تحرريات الموضة، يمر اكتشافه عبر الأشياء أولا". هناك هوس بالنحافة والإثارة اللتين تكتسحان الإشهار والأدب. بعبارة أدق، أضحى الجسد بالنسبة إلى بودريار موضوع نرجسية وخطوة اجتماعية، يتطلب مجموعة من السلوكيات الاستهلاكية تستجيب لأوامر اجتماعية مثل "الخط، والشكل، والنشوة الجنسية..". يفرض مجتمع الاستهلاك على الفرد أن يعتني بجسده، إذا أراد أن يكون في انسجام معه، أولا بإزاحة كل ما يعيق حركته الخارجية والداخلية أي المادية والمعنوية، وثانيا بمعالجته وتقويمه. لقد أعلن جون بودريار أن "الجسد أجمل مواضيع استهلاكنا"[9]، فالجسد من المواضيع التي تحمل عدة أوجه للدراسة. لذا يبقى موضوعا حركيًّا يمكن دراسته من عدة جوانب.

تزايد الاهتمام بالجسد سواء على المستوى الفكري أو الإبداعي؛ إذ يسعى الكل إلى التفوق العلمي والفكري، لذا كثرت المسابقات والإبداعات العلمية والثقافية، واليوم نلاحظ أن الاهتمام بالجسد توجه إلى المظهر الخارجي، من خلال الحفاظ على جماليته عبر المحافظة على التمارين الرياضية أو التغذية أو بعض الكريمات المساعدة على الحفاظ على نظارة البشرة.

يلعب الوشم دورا تواصليا، فهو عبارة عن وثيقة تعريفية دالة على الموشوم، "يعتبر الوشم ضرورة ملحة بالنسبة للشعوب التي تفتقر إلى وسيلة الكتابة، حيث تصبح العلامات التي تتركها آثار الوشم على الأجسام ذات أهمية، حيث يتسنى عن طريق وحدات الوشم وتعرف الأهالي عليها، نقل عادات وتقاليد، بل الكثير من المعلومات المتوارثة إلى الأجيال الجديدة كلغة شكلية، وتصبح وحدات الوشم حينذاك رصيدا من المعلومات، حيث يمكن للمرء تمييز القبيلة التي ينتمي إليها صاحب الوشم، بل (الطوطم) المميز لتلك القبيلة، ثم المركز الاجتماعي لصاحب الوشم، وكذلك سن ذلك الإنسان وغير ذلك من معلومات يصبح في متناول المجتمع البدائي التعرف على كافة تفاصيلها".[10]

يخلق الوشم وظيفة تواصلية بين الفرد ومجتمعه، فهو عبارة عن نظام فكري وإيديولوجي، يخلق نوعا من التواصل عبر مساحة الجسد مع مجتمعه والآخرين من خلال كل ما يدون ويرسم عليه من كتابات ورسومات ...، وقد عبر فوكو في كتابه "المراقبة والعقاب" عن الأساليب والضغوطات السياسية والثقافية التي يخضع لها الجسد عندما قال: "ينخرط الجسد أيضا، بشكل مباشر، في المجال السياسي، فعلاقات القوة لها هيمنتها المباشرة عليه، فهي تستثمره، تضع علاماتها عليه، تدربه، تعذبه، تجبره على تنفيذ المهام، على أداء المراسم، على بث الإشارات ...، وهو يخلص في موضع آخر، إلى أن الجسد هو سطح لنقش الأحداث"[11]، يستخدم الوشم كشكل من أشكال الكتابة على الجسد لتدوين أهم الأحداث التي مرت على الفرد سواء كانت أحداثا سعيدة أو أحداثا حزينة، الأهم أن نستوعب أنه ظاهرة اجتماعية وبيولوجية في نفس الوقت.

يعد الوشم نوعا من أنواع التطهير؛ إذ "يرتبط الوشم بوظيفة التطهير، أي تطهير النفس الإنسانية من الشرور والآثام، وتنقيتها من الشوائب والذنوب والكبائر الدنية، بإثارة الخوف، والشفقة، والتوبة، والرغبة في الاستغفار... أي: إن الوشم بمعنى الخدش والاختراق للجلد رغبة في تشطيبه وتنقيته وتحليله وشقه لوشمه ووسمه، وفق مجموعة من القواعد الطقوسية، والشعائر المرعية والقواعد الاحتفالية، علاوة على ذلك، فإن الوشم عبارة عن تضحية قربانية ووفاء وإخلاص وصدق وفداء من أجل نيل الرضا الروحاني، وبالتالي الحصول على القداسة الميتافيزيقية، والوصول إلى التعالي، بمعنى أن صفد الجسم وخدشه بوشم ما يعني ذلك تطهير للذات المستوشمة، وتعذيب مازوشي لها، وتحلية لها قصد تحقيق الصفاء الروحاني والوصول العرفاني والماورائي، كما يعبر الوشم عن جسر وسيط بين المادة والروح، بين الجسد والمقدس الأخروي أو الميتافيزيقي"[12]

الجسد أيقونة التواصل:

يتحدث جسد الإنسان لغة خاصة، تختلف من مجتمع لآخر حسب العادات والتقاليد، ويمكن أن تكون هناك بعض الخصائص المشتركة لهذه اللغة داخل نفس المنطقة أو خارجها في بعض الأحيان.

يتحدث الفرد من خلال لهجته عن المنطقة التي ينتمي إليها، لكن يبقى الأساس أن للجسد نظاما تواصليا خاصا، باعتباره نسقا عبره تتشكل المعاني والمحمولات الدلالية والرمزية، معرفية كانت أو وجدانية، سواء كان في وضعية تلقي أو إرسال، يتحدث سعيد بنكراد في الفصل السادس "سميائيات النسق الإيمائي" (الجسد ولغاته) عن "الجسد باعتباره نسقا تواصليا له امتدادات في مناحي الحياة العاطفية والعقلية والمخيالية. فالجسد ليس كتلة كلية، والروح ليست طاقة مبهمة توجد خارج الأجهزة التي تكشف عن مناحيها. إن الأمر يتعلق بجهاز يشتغل كسند للعيش والتواصل وإنتاج الدلالات. إنه لغة أو هو لغات لها قوانينها ومنطقها وأسرارها أيضا"[13]، الجسد وسيط تواصلي لذاته وللآخر، فالتواصل ليس بالضرورة باللغة، بل كل حركات الجسد والتعبيرات تعتبر نوع من التواصل يخلقه الجسد مع نفسه أو مع الآخر، "إذ إن الجسد المعاصر عبارة عن شبكة من العلاقات والإشارات الوظيفية (...)"[14]، الجسد يمتلك حركات وإشارات ولغات خاصة به تختلف من جسد شخص إلى آخر، فالتواصل الجسدي يدخل أيضا في ثقافتنا، فالتعبيرات الوجهية تظهر المشاعر مثل: نظرة العين في الثقافة هي محرك القلب، فللعين تأثير واضح على التواصل الجسدي، وطريقة الوقوف والمسافة بين المتحدثين أيضا نوع من التواصل تعكس درجة العلاقة بين الأشخاص ومدى تقاربهم.

هذه الإشارات قابلة للتحويل والتأويل بحسب المجتمع ونوع الثقافة التي يحملها عن الجسد، إما ثقافة تحترم حرية الجسد، أو ثقافة تقصي هذه الحرية تحت ذريعة أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية، خاصة جسد المرأة فمثلا: "تركيز الزينة في العينين والوجه يحوله إلى جسد مواز يخلق إيقاعا معينا لجدل التواصل ولأساسه المتخيل"[15]، يمارس الجسد لغته ليس بالضرورة بالكلام فالحركات والإشارات تعد أيضا لغة تنطق عن المسكوت عنه، إما بسبب وازع أخلاقي أو ديني أو ثقافي...

خلاصة:

إجمالا، يتبين أن الجسد معطى طبيعي، يجمع بين ما هو ثقافي واجتماعي وسياسي وأخلاقي...، فهو موضوع حيوي يلزمنا بالتفكير فيه من عدة جوانب، نظرًا إلى صعوبة حصر تعريفه في معنى أو معنيين، وهو ما جعله يحظى بأهمية بالغة في دراسته وتحليله، لكن هذه الدراسة غالبا ما اهتمت بالجسد كموضوع للتجارب سواء في ميدان الطب أو ميادين أخرى، فمثلا في ميدان الطب ارتكز الاهتمام بالجسد بغية السيطرة عليه من خلال تطوير الأدوات التكنولوجية لتسهيل عملية السيطرة عليه، فيصبح بذلك سلعة مربحة في عدة حقول، أو من المنظور البيولوجي بغية الانفتاح على البعد الثقافي في دراسة ظاهرة الجسد واستعماله كموروث ثقافي يرمز لمنطقة معينة من خلال وضع الوشم عليه، أو جعله نقطة تواصل مع الذات والآخر.

 

 

قائمة المراجع:

- حميد حميداني، "مدخل لدراسة الاشهار"، كتاب إلكتروني.

- سوفاجو آن، "الإيديولوجيا وآليات اشتغال الخطاب الإشهار"، ترجمة: أحمد الدويري، طبعة 2007.

- Franoise chenet- Faugeras & Jean- pierre Dupouy, Le coups, paris: Ed, Larouse, Collection «Idéologies et sociétés».

- Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra, Un Livre qui est pour tous et qui n’est pour personne, trad. M. de Candillac, Idées, Gallimard, 1971

- العلوي هشام، "الجسد بين الشرق والغرب: نماذج وتصورات"، مطبعة النجاح الجديدة منشورات الزمن – الدار البيضاء-، طبعة 2004، العدد 44

- محمد حلوش، "أنطولوجيا الوشم مقاربة أنثروبولوجية في حفريات الجسد الأمازيغي"، مقال إلكتروني، تاريخ النشر 2022

- الزهرة إبراهيم، "الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافية: وجوه الجسد"، النايا للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق- سوريا-، طبعة 2009.

- عالم الفكر، "الجسد"، مجلة دورية محكمة تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، العدد 4 المجلد 37 أبريل- يونيو 2009.

- حسيني علي محمد، "رموز الوشم الشعبي، دراسة مقارنة"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة- مصر، طبعة 2013.

هيلين توماس، "الأجساد الثقافية، الإثنوغرافيا والنظرية"، ترجمة: أسامة الغزولي، المركز القومي للترجمة، مصر، الطبعة الأولى 2010.

- جميل حمداوي، "ظاهرة الوشم في الثقافة الأمازيغية، مقاربة أنثروبولوجية"، دار الريف للطباعة والنشر الإلكتروني، طبعة 2020.

- سعيد بنكراد، "السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها"، الناشر: دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية- اللاذقية-، الطبعة الثالثة 2012

- آيت أوشن علي، "عري الكائن ودلالات الجسد، قراءة نقدية في المجموعة القصصية (عري الكائن) لعبد الحميد الغرباوي"، الملحق الثقافي، جريدة الاتحاد الاشتراكي، 28 يوليوز 1995، مسترجع بتاريخ 12 يونيو 2008

- فريد زاهي، "الجسد الأنثوي في الثقافة العربية: من البلاغي إلى المتخيل"، مقال في "المرأة والكتابة"، سلسلة ندوات، رقم 8، مكناس المغرب.

[1] - حميد حميداني، "مدخل لدراسة الاشهار"، كتاب إلكتروني، ص 81.

[2]- سوفاجو آن، "الإيديولوجيا وآليات اشتغال الخطاب الإشهار"، ترجمة: أحمد الدويري، طبعة 2007، ص،27

[3] - Franoise chenet- Faugeras & Jean- pierre Dupouy , Le coups, paris : Ed, Larouse, Collection «Idéologies et sociétés», p 14

[4] - Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra, Un Livre qui est pour tous et qui n’est pour personne, trad. M. de Candillac, Idées, Gallimard, 1971, p. 45

[5] - العلوي هشام، "الجسد بين الشرق والغرب: نماذج وتصورات"، مطبعة النجاح الجديدة منشورات الزمن – الدار البيضاء-، طبعة 2004، العدد 44، ص 80

[6] - محمد حلوش، "أنطولوجيا الوشم مقاربة أنثروبولوجية في حفريات الجسد الأمازيغي"، مقال إلكتروني، تاريخ النشر 2022

[7] - محمد حلوش، "أنطولوجيا الوشم مقاربة أنثروبولوجية في حفريات الجسد الأمازيغي"، مقال إلكتروني، تاريخ النشر 2022

[8]- الزهرة إبراهيم، "الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافية: وجوه الجسد"، النايا للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق- سوريا-، طبعة 2009، ص،129

[9] - عالم الفكر، "الجسد"، مجلة دورية محكمة تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، العدد 4 المجلد 37 أبريل- يونيو 2009، ص، 37

[10] - حسيني علي محمد، "رموز الوشم الشعبي، دراسة مقارنة"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة- مصر، طبعة 2013، ص، 65

[11] - هيلين توماس، "الأجساد الثقافية، الإثنوغرافيا والنظرية"، ترجمة: أسامة الغزولي، المركز القومي للترجمة، مصر، الطبعة الأولى 2010، ص 60، 61

[12]- جميل حمداوي، "ظاهرة الوشم في الثقافة الأمازيغية، مقاربة أنثروبولوجية"، دار الريف للطباعة والنشر الإلكتروني، طبعة 2020، ص 30

[13] - سعيد بنكراد، "السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها"، الناشر: دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية- اللاذقية-، الطبعة الثالثة 2012، ص 191.

[14] - آيت أوشن علي، "عري الكائن ودلالات الجسد، قراءة نقدية في المجموعة القصصية (عري الكائن) لعبد الحميد الغرباوي"، الملحق الثقافي، جريدة الاتحاد الاشتراكي، 28 يوليوز 1995، مسترجع بتاريخ 12 يونيو 2008.

[15] - فريد زاهي، "الجسد الأنثوي في الثقافة العربية: من البلاغي إلى المتخيل"، مقال في "المرأة والكتابة"، سلسلة ندوات، رقم 8، مكناس المغرب، ص، 21