الحركات والأحزاب الإسلامية وفهم الآخر


فئة :  قراءات في كتب

الحركات والأحزاب الإسلامية وفهم الآخر

"إنَّ الإشكالية الأساسية في التاريخ الفكري للإسلام لم تكمن في شرعنة التعدّد والاختلاف، بل في النهائية التي ادّعتها مذاهب فقهية، ومدارس فكرية وربط الالتزام الديني بها، وتحوّل اضطهاد المذاهب بعضها لبعض إلى مصدر للعداوة والبغضاء". صالح زهر الدين

أتى كتاب (الحركات والأحزاب الإسلامية وفهم الآخر) من تأليف "صالح زهر الدين" كمتنٍ تاريخي ووثائقي في آن واحد؛ فهو يتسلسل في السلسة التاريخية، من عصور إسلامية قديمة إلى العصر الحديث، مُستعرضاً أبرز الحركات والأحزاب الإسلامية (خصوصاً تلك التي كان لها حضور بارز على المستويين السياسي والديني)، ومن ثمَّ هو يُوثِّق لأبرز هذه الحركات وما شهدته من تطوّر –سلبي كان هذا التطوّر أم إيجابي-، والتأثير الذي مُورِسَ من قبل هذه الحركات و الأحزاب على الذات والآخر. وقد جاء الكتاب في مقدمة وأربعة عشر فصلاً؛ وقد أماطت المقدمة اللثام عمَّا آلت إليه الحركات والأحزاب الإسلامية من ادّعاء بامتلاك الحقيقة وضرورة قبول الآخرين لها، بصفتها حقيقة نهائية غير قابلة للجدل أو النقاش، وهذا ينسحب رفضاً –بالتالي- على بقية الأحزاب والحركات – من قبل حركة بعينها- من حيث إنَّ رؤيتها ناقصة وغير مكتملة طالما أنها على غير ما هي عليه هذه الحركة. وقد كان من الطبيعي – بحسب المؤلِّف- أن يشهد تاريخ الإسلام خلافات عدة وتعدداً في الرؤى بسبب تعدّد تفسيرات النص الدين الإلهي، وبسبب تغيّر الظروف الاقتصادية والعلمية و الاجتماعية والسياسية... إلا أن اضطهاد المذاهب بعضها لبعض تحوّل إلى مصدر للعداوة والبغضاء، فرأى كل مذهب أنه التجسيد العملي للنص، مع أن ثمة وجود مقياس موضوعي لذلك معدوم، وبذلك – نتيجة لهذا التطاحن- تعمقت الانشقاقات، ونشأت حروب وصراعات، ودعوات انشقاقية واستئصالية.

وفي سبيل خلق نوعٍ من التوازن بين البدايات التي طبعت الوجود الإسلامي، ثمة تأسيس مبدئي –لا سيما في العصر الإسلامي الأول؛ عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين- للآخر من وجهة نظر الأنا الإسلامية، خصوصاً ضمن حقلي السياسة والدين؛ فقد أسَّس النبي صلّى الله عليه وسلم لإطار جديد في التعامل مع الآخر دينياً وسياسياً، وألغى المعايير القبلية في فهم الآخر، وشكلّـت الصحيفة التي نظمّت بموجبها العلاقة بين المسلمين، وبقية العناصر المشكِّلة لمجتمع المدينة إطاراً فكرياً وتطبيقاً لحرية الاعتقاد التي آمن بها الرسول قولاً وفعلاً. وقد شكَّلت حياة النبي عليه السلام، لاسيما علاقته بيهود المدينة من خلال المواثيق، وعلاقته بقريش من خلال صلح الحديبية وعلاقته بالملوك من خلال المراسلات، وعلاقته مع المسيحيين من خلال حادثة النجاشي النصراني، إطاراً فكرياً وعملياً لعلاقته المميزة بالآخر واحترامه لمرجعياته ومعتقداته، بعيداً عن أيّ إكراه أو قسر. وقد أدت وفاة النبي إلى إحداث شرخ في بنية الدولة الإسلامية الوليدة، وقد كان خلاف سقيفة بني ساعدة – وإنْ أخذ طابعاً سلمياً على ما يقول صالح زهر الدين- أول خلاف حقيقي في هذه الدولة؛ حيث استندَ في "مرجعياته إلى أسس قبلية وعشائرية". ومع تطور البنية الاجتماعية والسياسية للدولة الإسلامية حُوفِظَ –تحديداً في عهدي أبي بكر وعمر- على وصايا الرسول فيما يتعلّق بالعلاقة بالآخر سياسياً ودينياً. لكن تسلّم عثمان بن عفان كان نقطة حاسمة في تاريخ الدولة الإسلامية؛ فقد "جسّد أمويّته العصبية واقعاً حياً في خلافته؛ حيث لاقى انتقادات كثيرة جراء عصبيته هذه لأقربائه وتوليتهم الأمصار إثر تنحيته بعض كبار الصحابة عنها".

وهذا ما جُلِّيَ في الفصلين الأول (= فهم الآخر لدى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم)؛ والثاني (= الخلفاء الراشدون وفهم الآخر)؛ أما الفصل الثالث (= الدين و الدولة في الإسلام بين الحاكمية و ولاية الفقيه)، فقد بدأ يُؤسَّس فيه لإرهاصات بداية الخلافات التي عصفت بالدولة الإسلامية، وما آل إليه الوضع بالتقادم من استغلال للدين والمقدَّس في تعطيل العقل والتفكير والإبداع وارتكاب الفظائع، متدرجاً في عرض أبرز مراحل هذا التطور وصولاً إلى العصر الحديث، والدور الذي لعبه –أولاً- أبو الأعلى المودودي في التأسيس لمفهوم (الحاكمية) وما تبعه من تنشيط لمفهوم التكفير، والدور الذي لعبه – ثانياً- سيد قطب (خصوصاً في العالم العربي) في تطوير مفهوم المودودي عن الحاكمية والتكفير. فسيد قطب "يعتقد أنه مسلم بامتياز، غير كل المسلمين". وبإزاء هذا التطور على المستوى السنّي، أتى التطوّر الشيعي عن طريق تطوير مفهوم (ولاية الفقيه). ويشير المؤلف ههنا إلى أن "الحاكمية المودودية – القطبية السنية كمفهوم تقابلها ولاية الفقيه الشيعية، التي اكتسبت أهمية بالغة كمفهوم على يد الإمام الخميني، وانتصار الثورة في إيران ضد الشاه محمد رضا بهلوي سنة 1979".

وكنوعٍ من الموازنة بين ما آلَ إليه الوضع على يد أصحاب الرؤى الأُحادية، القطعية، أتى الفصل الرابع (= المتنورون الإسلاميون وموقفهم من الآخر الديني السياسي)، وقد تناول فيه المؤلِّف الحالة التنويرية الإسلامية التي اضطلعَ بها بعض الشخصيات الإسلامية، سواء في المشرق أو في المغرب. وقد أتى على ذكر كل من "رفاعة الطهطاوي" وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، والأمير شكيب أرسلان، ومحمد رشيد رضا، وعبد العزيز الثعالبي، وعبد الحميد بن باديس. وقد أتى المؤلف على أبرز مواقفهم من الآخر، سياسياً ودينياً، والتي أخذت بعداً تفاهمياً، وقبولاً للآخر من حيث هو كذلك. ولقد اشترك هؤلاء التنويريون في رؤيتهم للآخر؛ فرفاعة الطهطاوي "آمن بإنسانية الإسلام، لذا كان موقفه مميزاً تجاه المختلفين عنه في الأديان والعقائد، ويعتبر كتابه مناهج الألباب خير معبّر عن ذلك الفكر المستنير والسماحة الفكرية". هذا وقد "كان للآخر الديني والسياسي احترامه لدى جمال الدين الأفغاني، انطلاقاً من وعيه العقلاني لإنسانية، هذا الآخر – مهما كان- وحقّه في الوجود كإنسان له حقوق وعليه واجبات". أما الإمام محمد عبده؛ فقد "كان إنسانياً بامتياز ومصلحاً ومجتهداً وفقيهاً بامتياز، تماماً كما كان في تسامحه الديني وموقفه من الآخر الديني والسياسي". وبالمثل كان عبد الرحمن الكواكبي؛ فقد "دعا إلى تحرير الإنسان العربي والمسلم، والأمة العربية والإسلامية من الجهل والتخلّف، كما دعا إلى تحرير كل آخر دينياً كان أو سياسياً أو اجتماعياً- من كل أنواع الاستبداد والجهل والعبودية، لإيمانه بوحدانية الحرية ووحدانية مفهومها". من جهته وإضافة إلى إيمانه بالاتحاد بين الأقطار العربية والإسلامية والتحرّر من الاستعمار، والسير في مركب النهضة والعلم والبحث، فقد "دافع - الأمير شكيب أرسلان- عن مسيحيي لبنان والموارنة منهم، خاصة من ظلم جمال باشا وأحكامه العرفية". أما رشيد رضا، فقد وصف نفسه بنفسه – كما يُوضِّح المؤلِّف- بأنه: "سلفي، أثري، مدني، عصري، إرشادي، اجتماعي سياسي". وقد "امتازت حياته بانقلاب مفاجئ جعله يُغالي في أحكامه على خصومه الفكريين". من جهته شكَّلَ عبد العزيز الثعالبي "حالة فريدة من نوعها في العالم العربي والإسلامي...وقد كان الآخر الديني- السياسي هو الجوهر الرئيس والمحور الأساسي في فكر الثعالبي، كما في عمله وميدان نشاطه على كافة المستويات". وبالمثل شكَّلَ عبد الحميد بن باديس "نموذجاً مثالياً في التعامل مع الآخر".

واعتباراً من الفصل الخامس وحتى نهاية الكتاب، سيعمل المؤلِّف على ذكر أبرز الحركات والأحزاب الإسلامية في العصر الحديث، فارداً لكلِّ حركةٍ منها –لا سيما تلك التي امتازت بحضورٍ قوي سياسياً ودينياً- وقد جاءت الفصول تباعاً لتتحدث عن هذه الحركات والأحزاب وموقفها من الآخر الديني السياسي؛ فقد جاء الفصل الخامس ليتحدث عن حركة الإخوان المسلمين في مصر وموقفها من الآخر الديني-السياسي (لازمة الديني السياسي ستتكرر دائماً تابعة لأي حركة أو حزب، بما يعني فكًّا لعنونة الكتاب وإيضاحًا لمدلوليتها). أما الفصل السادس؛ فقد تناول الحركات المتطرفة في مصر، وخصص السابع لكلٍّ من حركة أمل وحزب الله في لبنان، والثامن لـحزب التحرير، والتاسع لحركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، في حين جاء الفصل العاشر ليتناول الأحزاب الإسلامية الشيعية في العراق، وجاء الفصل الحادي عشر ليتحدث عن الحركة الإسلامية في الجزائر، والثاني عشر للحركة الإسلامية في تونس، والثالث عشر لحركة الإسلامية في السودان، في حين خصص الفصل الأخير (الفصل الرابع عشر) للحركة الإسلامية في المغرب. ولربما أعاد هذا التشظِّي، مع ما احتمله من ادعّاء لامتلاك الحقيقة من كل طرف، مع منعها عن الآخرين نظراً لقصر رؤيتهم، أعاد إلى الواجهة ما بُدِئ به آنفاً من قبل المؤلِّف إلى أنَّ "العارض الكبير في التاريخ الفكري الإسلامي هو في النهائية التي ادّعتها مذاهب فقهية، ومدارس فكرية، وربط الالتزام والاختلاف، وربط الالتزام الديني بها".