مراتب الخوف الإنساني


فئة :  مقالات

مراتب الخوف الإنساني

أمكنني الاصطلاح على ثلاثة أنواع من أنواع الخوف [وأنا إذ اجتهد هاهُنا فإني أبقي على هذا الاجتهاد في طور التنامي، ذاتياً وغيرياً، بعيداً عن أيّ فكر جاهز وناجز، نظراً لمُخاتلة الأطروحة بحدّ ذاتها] أعتقد بجوهرانيّتها، وخضوع كثيرٍ من الأعراض الخارجية لمقتضيات وقعها الداخلي.

1- خوف بيولوجي متوارث.

2- خوف اجتماعي مكتسب.

3- خوف مصيري مُنتظَر.

وإذا كان لي أن أؤطّر هذه الأنواع تأطيراً يحسم علائقيّتها بالوجود، لكي أقدّم رؤية تكون أوضح وأشمل، فإنّ:

1- الخوف البيولوجي المتوارث هو خوف برسم الذات.

2- الخوف الاجتماعي المُكتسب هو خوف بإزاء العالَم.

3- الخوف المصيري المُنتظَر هو خوف بإزاء الغيب.

إذاً، نحن أمام ثلاثة مفاهيم جوهرانية فيما يتعلّق بموضوعة الخوف (= خوف بيولوجي متوارث + خوف اجتماعي مكتسب + خوف مصيري منتظر) سيكون لها ارتباط وثيق بثلاثة كيانات جوهرانية أخرى (= الذات + العالَم + الغيب)، وسيكون الإنسان حلقة الوصل بين هاتين الثُلاثيتين [بالتقادم ستنبثق ثلاثية أخرى] فهو القنطرة الواصلة بين ثالوث الخوف وثالوث التعالقات مع هذا الخوف. ومع هذا الإنسان ستتمظهر الأعراض لتلك الجواهر في الواقع المعيش، ما يجعل الإنسان المُجسّد الأكبر لتلك المخاوف، لذا ستتداخل عناصر ثالوث الخوف، في كثير من الأحيان، ساعةَ تتجلّى في الواقع المعيش، على الرغم من الحدود الفاصلة بينها على المستوى المفاهيمي.

وعليه، سأقدّم إطاراً تنظيمياً لكلّ نوع من أنواع الخوف، وتمظهرات هذا النوع في الواقع المعيش، حيث تكون الصورة أوضح وأشمل كما أسلفت.

1- الخوف البيولوجي المُتوارث:

هو خوف متوارث بالأحرى؛ إذ يكون قد تشكّل عبر سُلالة بشرية طويلة إلى أن استقرّ في إنسانٍ ما، وفي مكانٍ ما وزمنٍ ما. وفي العادة، لا يحتاج مثل هذا الخوف إلى تعليم أو تدريب؛ بل يكون قارّاً، إلى حدّ كبير، في أعماق النفس الإنسانية، وعند لحظة ما ينبثق إلى الخارج. وثمّة مثال مشهور يتمّ تداوله بكثرة في مجال العلوم النفسية مُتعلق بخوف الإنسان من العقرب أو العنكبوت، فبمجرد رؤية الإنسان للعقرب يجفل ويتّخذ وضعية الاستعداد لكي يُدافع عن نفسه. في حين أنّه لم يستطع حتى هذه اللحظة من تكوين مورّثة فيما يتعلق بالسيارة مثلًا، على الرغم من أن السيارة أداة قتل أشنع وأفظع من العقرب؛ بل قد تتحوّل إلى أداة قتل جماعي، في حين أنّ لدغة العقرب غالباً لا تقتل، وإن حدث ولدغت العقرب فإنّها تلدغ شخصاً، لا مجموعة دفعة واحدة، كما هو الحال مع السيارة.

لكنّ الأمر هُنا لا يتعلق بمجرد تصنيف عقلي لما هو عليه الحال، بقدر ما هو تأصيل بيولوجي بالأحرى بين أداتين: واحدة عمرها، بوصفها أداةَ قتلٍ وخوفٍ، آلافٌ مؤلفة من السنين، توارثت سُلالات بشرية متعاقبة مورّثتها المُخيفة، واستقرت في الواعية الإنسانية، لذا صار استدعاء هذه المورّثة، ساعةَ رؤية هذه الأداة، لازمةً حتمية. في حين أنّ الثانية، بوصفها أداةَ قتلٍ وخوف، عمرُها يكاد يصل إلى قرن، لذا لم تتشكّل في الواعية الإنسانية مُورّثة مخيفة تجاه هذه الأداة، لذا يبقى ضررها في المخيال أقلّ وطأةً من الأداة الأولى.

وهذا ينسحب على كثير من المخاوف المُتوارثة والقارّة في أعماقه، قبل أن يتصّل بالعالَم، ولا يعرف من أين تنبثق فجأةً وعلى حين غرّة، وكأنّها جاهزة سلفاً لأيّ طارئ. مثل الخوف من المجهول أو الخوف من الأشياء المُتوارية أو المخفية، التي -وإن شكلت في مجملها سطوة على الإنسان- كانت أحد الحوافز الكبرى لانتقالاتٍ معرفية ساهمت في منح الإنسان مزيداً من التطمينات. فمن الميكروبات الصغيرة إلى المجرات الكبرى، وما قرّ بينهما من أشياء مخفية أو متوارية، كان على الإنسان أن يبحث عن فهم لتلك البنى التي تُخيفه وتجعله في خوف دائم.

وبإزاء هذا النوع من الخوف، عمل الإنسان على البحث عن مصادر هذه المخاوف، ومحاولة فهمها وتفكيك أبنيتها إلى وحدات صغيرة؛ لكي تصبح واضحة له ومكشوفة أمامه، حيث يَحدّ من غلواء حضورها في حياته. وقد كان للنقلات العلمية، التي انتقلها الإنسان عبر تاريخه الطويل، الدور الرئيس في الحدّ من مخاوفه، وصولاً إلى النقلات العلمية الكبيرة التي وصل إليها في القرن الماضي؛ إذ ساهمت المكتشفات العلمية في تجلية ما كان خافياً ومتوارياً، وأصبح الإنسان قادراً على فهم طبيعة، أو الاقتراب من حالة فهم طبيعة؛ الأشياء التي أخافته لفترة طويلة من حياته. وربما كان لعلمي البيولوجيا والفيزياء الدور الكبير في كشف اللثام عن الكثير الذي كان متوارياً، ويسبّب لنا الكثير الكثير من المخاوف. لكنّ ذلك لا يعني، بأي حال من الأحوال، أننا تحرّرنا من مخاوفنا، أو أننا في طريقنا، في القريب العاجل، إلى التحرّر منها بشكلٍ قاطع ونهائي؛ بل لا بُدّ من تخزين مورّثات موازية لتلك التي شكلت مخاوفنا، حيث تتشكّل مكانها مورّثات غير خائفة، ويتمّ نقلها من ثمَّ إلى أجيال مُتعاقبة، حيث تقرّ في أذهانهم لتبدأ عملية التأسيس الجديدة. ومع هذا أظن أن الخوف البيولوجي المتوارث سيبقى ميزة كبرى من ميزات هذا الإنسان طالما أنّه موجود في الزمن والمكان، فدائماً ما تتكشف لنا مخاوف جديدة، إن لم تُنبئنا بها تصرفاتنا أنبأتنا بها أحلامنا وكوابيسنا.

2- الخوف الاجتماعي المكتسب

وهو خوف يتمّ اكتسابه بالتقادم، وتبدأ معالمه بالتشكّل شيئاً فشيئاً مع أوّل خوف يتعرّض له الإنسان بعد ولادته. ورّبما كان هذا النوع من المخاوف هو الأوسع والأكثر انتشاراً، نظراً لكثرة المخاوف التي تطبع الطبيعة الإنسانية في ممارساتها العملية، وكثرة الأنظمة والتعاليم والقوانين التي وُضعت لكي تُخيف الإنسان. فمن مخاوف الطفل من عقوبة حرمانه من ثدي أمه، إلى الخوف المنتشر بين الناس من بطش أجهزة الشرطة والدرك والمخابرات، إلى عددٍ لا يحصى من المخاوف المنتشرة في مشارق الأرض ومغاربها.

وبإزاء هذا النوع من المخاوف، ثمّة سعي دؤوب من قبل الإنسان لغاية إحكام سيطرته على الإنسان، عبر بثّ الخوف والرعب فيه، سواء أكان بثاً معنوياً يأخذ طابعاً غير ملموس مثل النظرات الاحتقارية أو الإيحاءات المُسيئة... إلخ، أم بثاً مادياً يأخذ طابعاً محسوساً، عبر القوانين أو الضرب أو التلفظ بألفاظ مهينة أو جارحة أو السجن أو الاعتقال أو الاغتصاب أو القتل أو الإبادة أو التنكيل... إلخ.

ولقد خلقت هذه الأنواع من المخاوف نسقاً عمودياً بين الناس، ما حَدّ من حضور المُدوّنـة الأخلاقيـة على حساب التمظهرات الأحادية للشخصية الأنانيـة. نعم، يتمّ سنّ الكثير من المخاوف الاجتماعية، التي تسعى إلى ضبط الأفكار والسلوكيات، بنيةٍ طيبة، فالخوف الذي تتمّ إشاعته في نفس الطفل، جرَّاء حرمانه من ثدي أمه، لا شكَّ في أنه في جوهره خوف في صالح الأم وطفلها. لكنّ الكثير الكثير منها سُنَّ بنوايا سيئة، وذلك ليس من باب الضرب في الخيال ومعرفة الدواخل، بقدر ما هو استقراء لواقع حال تلك النوايا، ولا سيما ساعةَ تتمظهر في الواقع المعيش.

فكثير من المخاوف، التي تنشرها العوائل بين أفراد أسرها، تقود في نهاية المطاف -وإن كانت قائمة أصلاً على نوايا سليمة- إلى تدمير حيوات هؤلاء الأفراد؛ إذ تكون مخاوفهم كابحاً أمام طموحاتهم، لذا يقضون جزءاً كبيراً من حياتهم في معالجة هذه المخاوف، لا في تحقيق طموحاتهم.

وكثير من النواميس المُخيفة، التي تشرعن وجودها بعض المجتمعات، تكون غايتها إخافة الناس لكي لا يخرجوا على تلك النواميس بصفتها تُشكّل بُعد تلك المجتمعات الروحي، وتحافظ على لحمتها من التهتك والتفسّخ.

وكثير من القوانين، التي تُشرعنها الدول، هي قوانين وُضعت لإخافة الإنسان والإبقاء على نُظم العبودية، حتى وهي تُمرَّر تحت وطأة حفظ العلاقات الاجتماعية، أو ضبط الأمن، أو الحفاظ على روح الأمة، وما إلى ذلك من مُبرّرات رنّانة؛ مثل قوانين الطوارئ التي تُبيح للأنظمة العسكرية والديكتاتورية وأجهزتها العسكرية والأمنيـة والمُخابراتيـة استباحة حرمات الناس، وانتهاك أعراضهم، وتعريض حيواتهم للتعذيب والامتهان والابتذال، وحتى في حال عدم تفعيل هذه القوانين على أرض الواقع، فإنّ وجودها في حدّ ذاته، ووجود أجهزة قادرة على تحويل سياقاتها النصيّة إلى تطبيقات عملية فورية، يبثّ الخوف والرعب بين الناس.

ولقد خلقت مخاوف كهذه أنساقاً عمودية بين الناس كما أسلفت. فالزوج، نتيجة لأنظمة الخوف التي يتمّ إشاعتها وشرعنة أنساقها، لا يقف في علاقة أفقيـة مع زوجته، والأب لا يقف جنب ولده في علاقة أفقية، وشيخ القبيلة لا يقف في علاقة أفقية مع أبناء قبيلته، وهكذا، وصولاً إلى آخر هذه العلاقات العمودية، سواء أأخذت طابعاً داخلياً على مستوى الأنساق الاجتماعية داخل الدولة الواحدة، أم أخذت طابعاً خارجياً على مستوى الأنساق الاجماعية والسياسية في علاقات الدول بعضها مع بعض.

وربّما نتجت هذه الأنساق القائمة أصلاً على معمار من المخاوف التي يكتسبها الإنسان في علاقاته وتعالقاته مع العالم المحيط به، كَبُرَ هذا العالَم أم صغر، من نقص أخلاقي حادث في البنية التكوينيـة للإنسان على الإطلاق. فهو، في نهاية المطاف، كائن أنانـي (حتى وهو اليوم يرتقي مرتقىً عظيماً على المستوى العلمي) يسعى إلى اعتلاء ظهور الآخرين لكي يُحقّق مطامحه، لكنّه سيبقى خائفاً، حتى وهو يتمثّل حالة الراكب أو المركوب، إلى أن يُطوّر ميكانيزماته الأخلاقيـة، ويجعل منها ميكانيزمات تشتغل على فكرة الإنسانية اشتغالاً أفقياً، لا اشتغالات عمودية، بطريقة تعيد إنتاج العلاقات بين البشر إنتاجاً لا يخضع لأنماط مسبقة من الخوف الاجتماعي المكتسب.

3- الخوف المصيري المُنتظَر

وهو خوف مُتولّد من فكرة المآلات البَعْدية، ولا سيما مرحلة ما بعد الموت. ففكرة مثل فكرة العَدَم تضغط على الإنسان ضغطاً هائلاً؛ لذا هو دائم البحث عن تطمينات لكي لا يسقط في هذه الهوّة المُرعبة. وقد كان للأديان دور حاسم في مجال التطمينات التي يخلقها هذا النوع من الخوف، لكن لن تعمل الأديان على تقديم جرعة مجّانية من التطمينات للإنسان الخائف على مآلاته البَعْدية؛ بل ستعمل على إشاعة جُملة كبيرة من المُخاوف الجانبية لكي تُحقّق، أو بالأحرى لكي تضمن؛ أنّ طمأنينة الخائف لا تتأتّى إلا عن طريقها. فلكي يصل المرء إلى برّ الأمان في الأديان التوحيدية على سبيل المثال، ولا ينجو من هوّة العَدَم فحسب؛ بل يضمن مستقبلاً باهراً يوم الدينونة، عليه أن يخضع لجملة من المخاوف، التي على التابع أن يمتثل لشرعتها، حتى يضمن النجاة من جهة والفوز من جهة أخرى. وقراءة لتاريخ الخوف، الذي أشاعته هذه الأديان، على شكل صيغ من التعاليم والشرائع، وضرورة التقيّد بهذه التعاليم والشرائع تقيّداً كاملاً حتى لا يتعرّض إلى عقوبات كبيرة، سواء في هذه الحياة أم في الحياة الآخرة، ستكشف لنا كمّ المخاوف الكبيرة التي أشاعتها هذه الأديان، تحت شعار البحث عن تطمينات لأتباعها، وإراحة لهم، ومنحهم أملاً آمناً في مرحلة ما بعد الموت.

لكن بعيداً عن أية أديان، تبقى ثمّة مخاوف مصيرية يشعر المرء بأنّها تتجاوز بنيتيه: البيولوجية والاجتماعية، لذا يُلازمه خوف دائم على مآلاته المستقبلية، ولا سيما بصيغتها البَعْدية، تحديداً مرحلـة ما بعد الموت. ويمكن لجملة من الظروف أن تُساعد على التقليل من نسبة هذه المخاوف أو زيادتها، مثل تصالح الناس أو إشاعة منظومـة تصالح الناس، عبر أنظمة تربوية متقدّمة ومتطورة معرفياً وأخلاقياً، مع فكرة الموت، تصالحاً (حتى لمن لا يؤمن بإلهٍ) أنطولوجياً. فالموت جزء من جدليات الإنسان في هذه الحياة، وعلى نحو مخصوص أكبر جدل في وجوده؛ لأنه يتناغم تناغماً تصاعدياً من لحظة الميلاد، وصولاً إلى الذروة القصوى بالموت. فالتربية التصالحية مع فكرة الموت، تنسجم -إذا ما أردنا التخفيف من وطأة الخوف المصيري- انسجاماً كبيراً مع وجود الإنسان في هذا العالَم، فالمُحرّك الأصلي لتدافعاته في الزمن والمكان، هو مُحرّك جدلي، لا بُدّ له من شحنتين مختلفتين لكي يُبقي على دفقيته. ومن شأن شحنة الحياة العظيمة ألا تحظى بشحنة أقلّ عظمة من شحنة الموت، فالإنسان، في نهاية المطاف، لا بُدّ له من إراحة رأسه نوعاً من المُكافأة على جهده الذي بذله طول حياته، وهو يجتهد في فعل الخيرات وما يمكن أن يقلّل نسبة الألم لديه ولدى الآخرين، وفي الوقت ذاته إشاعة الأمل، بما يجعله يطمئنّ إلى أنّه لم يفعل شيئاً يُثير ريبته أو مخاوفه؛ بل يُقبل على الموت بصفته المُتمّم أو الذروة لنشاطه الإبداعي ذلك (تخفيف الألم/ إشاعة الأمل). ففي نهاية المطاف، يتحرّر من آلامه مرة واحدة وإلى الأبد.

إذن، خلاصةً لما سلف، ثمّة ثلاثة أنواع من الخوف تقترن بثلاثة كيانات، وثلاث منظومات + زائدة في المنظومة الثالثة.

القسم الأول: خوف بيولوجي متوارث + الذات + العلوم.

القسم الثاني: خوف اجتماعي مكتسب + العالَم + الأخلاق.

القسم الثالث: خوف مصيري مُنتظَر + الغيب + الأديان + الأنماط التربوية والأخلاقية المُوازية للأديان، لكن من منطلق إنساني وبعيداً عن أيّة مآلات إلهية تستبطن إكراهاً من أيّ نوعٍ كان.