فلاح رحيم : الحركة التنويرية في العالم الإسلامي


فئة :  حوارات

فلاح رحيم : الحركة التنويرية في العالم الإسلامي

الحركة التنويرية في العالم الإسلامي([1])


عُرف فلاح رحيم (بابل 1956) مُترجماً عراقياً نقل للغة الضاد عن الإنجليزية دراسات متعددة في التأويل والسَّرد والإبستمولوجيا، حتى باتَ في مقدّمة المترجمين العرب. واصل همّه المعرفي الممتد على أكثر من خمسٍ وثلاثين عاماً جلّها قضاها مخفوراً بالترجمة، إلى أن أضاف لمشروعه ميدانين إبداعيين؛ الرواية (عبر روايتيه "القنافذ في يومٍ ساخن" 2012 و"حبّات الرمل حبّات المطر" 2017، وله رواية ثالثة "صوت الطبول من بعيد" تحت الطبع)، ثمَّ الاشتغال المعرفي الحافر في ثقافة بلد مشرقي كالعراق، من خلال كتابه الأحدث الموسوم بـ "أزمة التنوير العراقي: دراسةٌ في الفجوة بين المثقفين والمجتمع" الصادر هذا العام 2018 عن جامعة الكوفة في العراق.

للكتاب أهمية تنطلقُ من جدَّته في الفحص الإبستمولوجي، عند زاوية لم ترصد بعناية، وهي الأنتلجنسيا العراقية، على تنوّع طروحاتها ويقينيّاتها، ونزوعها نحو التنوير والحداثة على شتى المجالات، وبموضوعية من لدن الكاتب فلاح رحيم، تثير الإعجاب، مهما بلغ الاختلاف مع رؤى المؤلف، وطروحاته، والسياقات التي وضع فيها المحاور التي تناولها نقداً وقراءة فاحصة في فصول الكتاب، لنزوع الكاتب نحو اللامجاملة، وحيادية التحليل والنقد، وتداول الأفكار.

وللبحث في هذه الموضوعة، وضع المؤلف خطاطة للكتاب تمتدُّ على ستّة فصول، سبقها مهاد نظري عن التنوير العربي؛ بوصفه المظلة الكبيرة، والمهيمنة، التي تفرّع منها تنوير بلد مثل العراق، مضيفاً أسباب مأزق التنوير العربي، لاسيما بعد ثورات الربيع العربي، وفشل مشروع التنوير الذي يطرحُ سؤالاً جوهرياً حول ماهية دور المثقف خصوصاً بعد فقدان "الجماهير" الثقة به لعدّه تابعاً للسلطة.

ليتوسّع في الفصل الأول متناولاً تاريخياً التنوير في أوربا، وتحوّلاته وأزماته، عبر مفاتيح نقدية كتبت في الموضوعة هذه، استفاد منها رحيم، للتوغل -لاحقا- في شريحته التنويرية العراقية المُنتقاة، فتناول في الفصل هذا موضوعات تنويرية أوروبية كالماركسية والليبرالية وطروحات الإيطالي غرامشي والفلسطيني إدوارد سعيد.

أمّا الفصل الثاني من الكتاب، فكان تناولاً للكيفية التي كُتب فيها تاريخ العراق الحديث، منذ دخول القوّات البريطانية وإنهاء الاحتلال العثماني آنذاك، متناولاً المؤرشفين العراقيين، كـ (عليّ الوردي، وحنّا بطاطو، وفالح عبد الجبّار، وعبّاس كاظم)، على تباين نوازعهم الإبستمولوجية، ومنطلقاتهم البحثية.

وحتى تكتمل الصورة، نحا فلاح رحيم، باتجاه من تناول تاريخ العراق من الكتّاب الغربيين دراسةً للبلد وأرشفةً لسرديته من منظور آخر مثل: ريفا سبكتر سيمون عبر كتابها "العراق بين الحربين العالميتين: الأصول العسكرية للطغيان" عبر دراسة أسباب هيمنة النزعة القومية في العقل الحاكم للعراق. وفيبي مار وكتابها "تاريخ العراق الحديث" متناولة سردية بداية الحكم في العراق وانتهاءً بخاتمة دراماتيكية لحكم البعث في العام 2003، فيما عرض المؤلف لكتاب آخر لتشارلس تريب هو "تاريخ العراق" مارّاً بالعرض على عوامل إخفاق الدولة الدستورية في العراق لعوامل عدّة كالاستبداد وشبكة العوائل والعشيرة المهيمنة على موارد البلد والتحكّم السياسي باقتصاده، فضلاً عن منظومة العنف الممنهج الذي مُورس على امتداد الأنظمة المتعاقبة في العراق.

وجاء الفصل الثالث لقراءة مشروع الناقد العراقي سعيد الغانمي، وكيف بدأ حداثوياً مرتمياً في حضن البنيوية فلسفةً ومنهجاً، وكيف صار الغانمي في كتبه الحديثة بعيداً عن فكره البنيوي، مؤثّراً ميادين منهجية أخرى تقتربُ من الظاهراتية وملاذ الأسطورة، حسب وصف فلاح رحيم.

فيما خصّ الفصل الرابع لقراءة منجز حسن ناظم النقدي والترجمي، راصداً تحوّلات ذلك المنجز بوصفه مُقارباً نقدياً للشعر الحديث وفق المناهج الشكلية، إلى مقارب للشعر بالكيفية التأويلية، عبر المغامرة بالكشف العميق لرؤى النصوص في صيغتها الإنسانية، معتمداً على مقدرة الناقد الساكنة في ذاته أي "حسن ناظم" وعدّته الثقافية الكبيرة.

وكان الفصل الخامس خاصا بالمترجم والمختص بالفلسفة عليّ حاكم صالح وقراءته لدراسة حاكم الخاصة بالروائي فؤاد التكرلي المعنونة بـ "المجتمع اللااجتماعي"، وكتابه الآخر "الأيديولوجيا وتمثيلاتها الفلسفية في الفكر العراقي الحديث"، لينهي فلاح رحيم رأيه الخاص في قراءة عليّ حاكم صالح بخيبته من انسياق الفلسفة في العراق - بوصفها تنويراً- وراء الأيديولوجيا، ومن ثمّ خيبة من المجتمع برمّته، حيث تشي مظاهر المجتمع عكس ما يضمره من فواجع.

وجاء الفصل الختامي من الكتاب، للحديث عن تجربة المفكّر عبد الجبّار الرفاعي وما حملته مدونته المعرفية من الوقوع بداية تحت سلطة الموروث الديني والعرفاني بوصف الرفاعي خرّيج حوزة النجف الدينية، وانتهاءً بحصول أزمة، وخيبة كبيرة لدى الرفاعي، في كتبه الأخيرة كـ "الدين والظمأ الأنطولوجي" من الأيديولوجيا الدينية وفاعليتها السياسية التي حكمت العراق بعد زوال نظام البعث في نيسان 2003، وغرق تلك الفاعلية الدينية السياسية بفوضى حُكم، وبؤس إدارة، ومنظومة فساد عال، ومسؤولية عن تغيّرات اجتماعية فادحة ومشوّهة.

الكتاب جديد في فكرته، وتحليلاته، وطروحاته، وقد أثار لدى المهتمين الكثير من التساؤلات، وهو ما دفع مجلة "ذوات" إلى تخصيص حوار معه حول فحوى الكتاب وإشكالاته، ليكون بذلك أول حوار يجريه المترجم والكاتب فلاح رحيم طوال مشواره الثقافي الثري.

محمّد فاضل المِشْلَب: كيف نشأت فكرة الكتابة عن موضوعة التنوير في بلد شرقي، مثل العراق؟

فلاح رحيم: ذكرتُ في بداية كتاب "أزمة التنوير العراقي" أن موضوعة التنوير وأزمته عراقياً وعربياً وعالمياً، ظلّت شاغلي الأول منذ عقود، وهو ما يتضح في محاولتي تدوين التاريخ العراقي الحديث في رواياتي: "القنافذ في يوم ساخن"، و"حبّات الرمل ... حبّات المطر"، و"صوت الطبول من بعيد". أزمة التنوير موضوعة رئيسة في هذه الروايات، وبهذا المعنى يكون كتاب "أزمة التنوير العراقي" جزءاً من اهتمامي بالموضوع. ذكرت في أكثر من موضع أن للتجربة العراقية خلال نصف القرن الأخير خصوصيات كثيرة، تجعلها غنية في قدرتها على تمثيل الجوانب المتعددة لأزمة التنوير في كل مكان، وهنالك اهتمام عالمي بدراسة التجربة العراقية على نطاق واسع، لهذا السبب ضمن أسباب أخرى، نحن أولى بتأمل معضلاتها والتحاور بشأنها في نطاق عراقي.

محمّد فاضل المِشْلَب: كيف تقدّم للقارئ هنا فكرة التنوير بوصفها أفقاً أوروبياً؟

فلاح رحيم: التنوير الأوروبي موضوعة متشعبة ومعقدة دُرست باستفاضة وتعمق على نطاق واسع، وقد لا أستطيع الإحاطة بجوانب الموضوع في هذه العجالة. الواقع أنني تجنبت التوسع في التنوير الأوروبي وأزمته في كتابي لأن الدراسات متوفرة عن الموضوع، وما تُرجم منها إلى اللغة العربية، توفِّر عليّ هذا الجهد وتجنبني التكرار. بدأ التنوير الأوروبي كحركة تعلي من شأن العقل والعلم وتؤمن بالتقدّم، وكان له دور كبير في ترسيخ النظرة الإيجابية إلى العلوم وتأسيس نظرية العقد الاجتماعي، والدفاع عن حكم الأغلبية سياسياً. والتنوير الأوروبي لم يقدم نفسه بصيغة واحدة، بل تمثل في مدارس فلسفية كثيرة، أبرزها الفلسفة النفعية، وفلسفة العقد الاجتماعي، والماركسية، وكلها اعتمدت مبدأ اليقين ووقفت ضد كل أشكال الشك، وآمنت بإمكانية تقدّم البشرية. بحسب التنوير، يتبوأ الإنسان الصدارة في هذا الكون، لأنه يعرف ما يصنع (كوجيتو ديكارت)، ويملك ما يصنع (نظرية الملكية الخاصة أو العامة)، ويقدر على إقامة الدولة الخيّرة (العقد الاجتماعي). هذه الصورة المشرقة لإمكانات الإنسان وآفاق تطوره تعرضت إلى إخفاقات كبيرة خلال الربع الأخير من القرن العشرين تحديداً، وإن كان ظهور أعداء التنوير قد رافقه منذ بدايته. وأعتقد أن ميراث ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية والهرمينوطيقا هو أبرز تمهيد فلسفي وفكري لتفاقم أزمة التنوير، التي انطلقت على المستوى التاريخي والسياسي أصلاً. عندما تهز هذه التيارات المنشقة عن التنوير الثقة في قدرة الإنسان على التمكن من عالمه، وعلى الكلام بيقين، وعلى الاعتماد على أية مؤسسة عابرة للأفراد في إدارة شؤونه، فإنها إنما تنقض ما سعى إليه التنوير. وما يحدث في عالمنا اليوم من نكوص إلى الهويات القومية والدينية وصعود العنصرية والشعوبية في أوروبا والجدالات الواسعة بخصوص إعادة الدين إلى المجال العام، هي نتائج حرق الأرض الذي مارسته ما بعد الحداثة وضروبها من التيارات النقدية. إذا لم يكن العقل قادراً على توفير اليقين للإنسان، فإنه سيتجه إلى القلب وإلى الجماعة وإلى الموروث ليحصل عليه، هكذا يجادل العالم اليوم. لن يقبل البشر المتاهة التي نجمت عن أزمة التنوير الأوروبي طويلاً، والطريقة التي سوف يُسد بها فراغ التنوير تدعو للقلق.

محمّد فاضل المِشْلَب: للتنوير الأوروبي فلاسفة أوجدوا مناخاً إبستمولوجيا لتحديث العقل في مجتمعاتهم، كروسو وكانط ومارتن لوثر، فهل يملك العربُ فلاسفة من طينة من ذكرتُ، حتّى من أسميتهم في استهلال الدراسة كالجابري وإدوارد سعيد وأدونيس، هم نقَّاد ومفكِّرون، وحضرتك - دون شكّ - تعي الفروق بين هذه المصطلحات؛ فكيف تنظرُ إلى هذا الإشكال؟

فلاح رحيم: ثقافتنا العربية وصلت التنوير متأخرة، بينما حدثت النقلة من عصر النهضة الذي ختم القرون الوسطى في أوروبا إلى عصر التنوير في القرن الثامن عشر خلال مئات السنين. وصلتنا قيم النهضة والتنوير في حقبة واحدة هي أواخر القرن التاسع عشر. وتشبه هذه الحالة تعاقب البنيوية وما بعد البنيوية في فرنسا تاريخياً، ثم وصولهما معاً في وقت واحد إلى بريطانيا والشرق الأوسط. مثل هذه المفارقات، كما أرى، تسبب لدينا خلطاً بين مفهومي النهضة والتنوير، بينما العلاقة بينهما تعاقبية في أوروبا، حيث هما مفهومان، وكل واحد منهما مستقل عن الآخر. نجد أن المفهومين مترادفان في الثقافة العربية، وهذا لبس لابد من الانتباه إليه. لذلك، أرى أن كل ما كتب عن النهضة العربية يقع ضمن بحث التنوير العربي ويقر بوجوده. فضلاً عن هذا، لا يعتمد التنوير لتأكيد وجوده، على حضور فلاسفة من طراز روسو، وكانط، ولوثر في ثقافتنا العربية. يصح هذا إذا عزلنا بعض التواريخ المحلية المختلفة في عالمنا العولمي الذي نعرفه عن البعض الآخر، ويصح إذا قلبنا التاريخ على رأسه، واعتمدنا في التحقيب التاريخي نظرة نخبوية تشترط الأسماء الكبيرة على مستوى الفكر للإقرار بحضور فكرة، مثل التنوير في عالمنا العربي. التنوير اقتحم المجتمعات العربية بكل قيمه الغربية على شكل قوة استعمارية غازية، وطرح نفسه نوراً وناراً في آن واحد. هنالك من يجادل أن العرب والمسلمين يعانون من صعوبات في هضم قيم التنوير لميلهم إلى المحافظة والتقليد، والواقع أن أزمة التنوير العربي تكمن في أن قيم التنوير الغربية كانت ولا تزال تقتحم حياتنا على شكل قوى طامعة في خيراتنا، ومزلزلة لوجودنا الاجتماعي والسياسي. المفكرون الذين تفضلت بذكرهم اعتنقوا قيم التنوير الغربي بشكل صريح: زكي نجيب محمود اعتمد القيم الوضعية المنطقية، وعبد الله العروي والطيب تيزيني الماركسية، والجابري الهوية القومية، وأدونيس العلمانية العدمية. وهؤلاء حققوا حضوراً كبيراً في الحياة الثقافية العربية حتى أواخر القرن العشرين، عندما بدأ ينحسر الاهتمام بمقولاتهم، ويصعد نجم التقليد ومعاداة التنوير. أما عن مستوى نتاج هؤلاء الفكري، فلا يرقى إلى ما صدر عن الثقافة الأوروبية، وهو أمر لا أقبله دون تحفظ، لأن بعض كتاباتهم لا يقل شأناً عما يصدر في الغرب، فإنه لا ينفي حتى لو قبلنا به حقيقة وجود حركة اجتماعية سياسية فكرية تستلهم التنوير الغربي. هنالك الفكر وهنالك تاريخ الفكر، والأخير مبحث مهم معروف يتناول الطريقة التي تنتقل بها الأفكار في الزمان والمكان بغض النظر عن عمقها وألمعيتها.

محمّد فاضل المِشْلَب: هل يصحّ لنا القول بوجود تنوير عربي، على غرار أوروبا؟ وهل له مستندات فكرية تمكن من الإمساك به "بحثياً"، وبالتالي الحديث عن "تنوير عراقي"، وقراءة أزمته؟

فلاح رحيم: يختلف التنوير العربي في أوجه كثيرة عن التنوير الأوروبي، وقد وضحت بعض جوانب الاختلاف في إجابتي السابقة. أما حقيقة أن قيم التنوير قد اعتُمدت لردح طويل من الزمان في البلدان الخارجة من الحقبة الاستعمارية، فأمر يتفق عليه معظم المؤرخين والباحثين المتخصصين. هنالك اتفاق أيضاً على أن هذه الحركة التنويرية في العالم الإسلامي قد اعتورتها منذ البداية علل كثيرة، أهمها الاستبداد (أي إسقاط ركني العقد الاجتماعي وحكم الأغلبية، وهما من أهم أركان التنوير)، وعلل الميراث الاستعماري والتدخل الخارجي في شؤون هذه البلدان. نعلم أن الحياة السياسية والفكرية العراقية ظلت حتى عام 2003 مسكونة بهاجس التنوير، تسعى إلى إقامة دولة التنوير العادلة، ومعظم النتاج الفكري العراقي الذي ساد المجال العام منذ بداية القرن العشرين، استلهم قيم التنوير. الواقع أن من أسوأ الحقائق بصدد الوضع العراقي الراهن، أن الإطاحة باستبداد البعث وتعسفه، ترافق مع الإطاحة بقيم التنوير وبسيادة البلاد، ذلك أن البعث ادعى مُثل التنوير في أدبياته (القومية من أبرز تمثلات التنوير في أوروبا)، بينما كان يمارس القمع ويعتمد النعرات الطائفية والعشائرية في سياساته الفعلية. من معضلات التنوير العراقي هذا الالتباس في هوية البعث، ومن نتائجه في عراق اليوم، أن كل من يدافع عن قيم التنوير يتهم بالحنين إلى حقبة البعث. الكتاب يحتوي توضيحات لهذه الأفكار.

محمّد فاضل المِشْلَب: ما هي المقاييس المنهجية التي اعتمدتها في اختيار عينة الدراسة؟ بمعنى لماذا هذه الأسماء (سعيد الغانمي، حسن ناظم، علي حاكم صالح، عبد الجبار الرفاعي) وليس غيرهم؟

فلاح رحيم: شكراً على طرح هذا السؤال، فقد وصلتني الكثير من التعليقات على اختيار عينة الدراسة، واتهمت بمحاباة هؤلاء الأعلام الذين تناولتهم. أودّ أن أنبه إلى أن أمراض الحياة السياسية العراقية، وأبرزها المحاصصة، بدأت تنتقل على نطاق واسع إلى الحياة الثقافية. هنالك ولع منقطع النظير بين المثقفين والمبدعين العراقيين بمفهوم الحصة، بالأوسمة والألقاب والأسبقية والنجومية، وكأن الفوز بحصة منها هو الغاية من العمل الفكري والإبداعي. لا يوجد ميل إلى طرح الأسئلة الإشكالية المحيرة في الخطاب الثقافي المعاصر، وتبدو الأسئلة وكأن أجوبتها محسومة سلفاً. يهيمن على الفكر العراقي والعربي عموماً نموذجان فكريان أساسيان، الأول هو النموذج التوتاليتاري، أو ما يعرف في العلوم السياسية بـ "النموذج ت"، وهو يذهب إلى أنك إذا جعلت التوتاليتارية عدوك الأول والأخير تمكنت من حل كل الإشكالات وفهم أية ظاهرة سياسية. وهذا النموذج يعاني من مشاكل كثيرة، وهو كما يعلم المتخصصون بعلم السياسة والتاريخ من نتائج الحرب الباردة، وقد وضع فيه وفي مشاكله المفكر العراقي الراحل فالح عبد الجبار، كتاباً مهماً لم يحظ باهتمام كبير بعنوان "التوتاليتارية". النموذج الثاني هو نموذج التحديث، وهنا يبدو كأنك إذا ما ناصبت التقاليد والتديّن العداء، تمكنت من حلّ معضلات البلد. من يتابع الدراسات الأكاديمية الرصينة الحديثة يعلمُ أن ثنائية التحديث/التقليد لم تعد كافية لفهم التاريخ. وقد ترجمت كتاب "قوة الدين في المجال العام" لكي أشير إلى هذه الحقيقة. حياتنا الفكرية، وهي أسيرة هذين النموذجين القاصرين، تغفل عن تنوع التجربة العراقية وإشكالياتها المعقدة، التي لا يكفي سجال متعجل في الصحافة أو وسائط التواصل للإحاطة بها. كتبت "أزمة التنوير العراقي" على مراحل، ولكن الموضوعة وفرضياتي بشأنها ظلت تتطور على نحو عضوي دون قسر أو إكراه. وقد اخترت العينات، لأنّها تمثل على نحو نموذجي ومنهجي المعضلة التي أتصدى لها. أما أن أغلب من تناولتهم قد مارسوا الترجمة، فهذا لا يقلل من شأنهم، بل يزيدهم شأناً. هنالك من يعترض على نعت حسن ناظم، أو علي حاكم صالح بصفة المفكر، ولا أدري كيف أصف من يترجم كتاب جورج غادامير "الحقيقة والمنهج" إلى العربية لأول مرة، بعد أن بقي نصف قرن بعد صدوره دون أن يقرب منه أحد من المترجمين؟

محمّد فاضل المِشْلَب: عطفاً على السؤال السابق، يجدُ قارئ الكتاب تهميشاً لأسماء مهمَّة تستدعيها الذاكرة ضرورةً، لها وقع في الجدل الثقافي العراقي (هادي العلوي، حسام الآلوسي، فاطمة المحسن) مثالاً، كيف تجابه هكذا استفهام؟

فلاح رحيم: هنالك أسماء أخرى افتقدها معلقون آخرون على الكتاب، منهم فالح عبد الجبار، وناجح المعموري، وعبد الله إبراهيم، وغيرهم ممن أعتز كثيراً بنتاجهم، ولا أشك في ضرورة التصدي له بتعمق واحترام. المشكلة أني لا أوزع حصص الدراسة والتقصي على المفكرين على أساس الأشخاص (أو المكونات، إذا استخدمنا قاموس العراق الجديد)، بل أوزعها على أساس محتوى الكتاب الذي أضعه والفرضية التي أسعى إلى كشف تعقيدها وأهميتها. هؤلاء الذين أتهم بتهميشهم يمثلون جميعاً الإيمان الكامل بقيم التنوير ومشروعه، وهم يندرجون في غالبيتهم ضمن منطلقات التيار الماركسي والقومي والليبرالي الغربي؛ أي إنهم باقون على العهد التنويري. أما العينات الأربع التي اخترتها، فقد تمكنوا من تلمس الأزمة وناصبوا التنوير العداء، وقدموا بدائل لمنطلقات التنوير عبر مناهج تعلن الشك والبراءة من التنوير. أردت أن أقرأ ما يقولون بعناية، لأنهم تلمسوا علّة غفل عنها كثيرون. قد لا نتفق معهم، ولكنهم جادون في طرح المشكلة، وقد كتبوا بتعمق ودراية ومنهجية، أتاحت لي التحاور معهم باتساق دون أن يربكني في خطابهم ما نجد من تخبط واضطراب في كتابات أعداء التنوير الآخرين. وقد أضيف هنا في مزحة سوداء ما قلته لأحد المعلقين على هذه المسألة على الفايسبوك: اخترت هؤلاء، لأنهم من أقرب أصدقائي، وأنا واثق من أني مهما قسوت عليهم وجادلتهم، لن يطلبوني عشائرياً كما قد يفعل من لا أعرفهم من أعداء التنوير في عراق اليوم.

محمّد فاضل المِشْلَب: وهل مناهج الحداثة التي استندتْ إليها الشريحة التي اعتمدتها بالدراسة في بداياتهم هي قيم تنوير، لأنه عندما انتهى الحال عند بعضهم إلى رفض تلك المناهج والارتماء في "تلقائية التلقي" للنصوص عموماً، انبثقت أزمة التنوير العراقي؟

فلاح رحيم: خرج ثلاثة منهم من رحم التنوير (هم: سعيد الغانمي، وحسن ناظم، وعلي حاكم صالح)، لكنهم انقلبوا عليه بسبب سقوط التنوير المدوي في العراق والوطن العربي. أما عبد الجبار الرفاعي، فهو رجل حوزوي خرج من قلب التقليد، ومارس العمل السياسي على أمل القدرة على التغيير، ثم خاب أمله في السياسة، فاتجه إلى محاولة ردم الفجوة بين خطابه والإيمان الفطري، والكتاب يحتوي تفصيلات هذه الإجابة.

محمّد فاضل المِشْلَب: ختاماً هل من حلول تقترحها الدراسة لهذا المنعرج (الأزمة)؟

فلاح رحيم: تبدأ الدراسة التي نحن بصددها من حقيقة أن تنظيم الفجوة بين المثقفين والمجتمع هي الأصل في مشروع التنوير، وهذا يعني أن المثقف التنويري بحاجة إذا ما شاء التشبث بأهداب الأمل والسعي إلى الفعل والمشاركة الإيجابية، أن يتمسك بمشروعه التنويري الذي قد يدفعه بعيداً عن المسلمات الجاهزة والمصادرات المبسطة. لكنه يحتاج أيضاً إلى وعي أزمة التنوير كما طرحها المفكرون الذين تناولتهم، والحرص على ضبط المسافة الفاصلة بينه وبين المهاد الذي ينشط فيه. وقد ذكرت من قبلُ نموذجي التوتاليتارية والتحديث، وتحفظت على منحهما الحضور المطلق في حياتنا الثقافية. أحاول في كتابي أن أقترح نموذجاً آخر يسدّ النقص في حياتنا السياسية والفكرية يضم النموذجين السالفين، ويتجاوز عيوبهما، هو نموذج الشرعية؛ أي الحاجة الماسة إلى قياس كل شيء لا بمنظور القبول بالفوضى بديلاً عن استبداد الأمس (النموذج التوتاليتاري)، ولا بمنظور أن كل حداثة خير وكل تقليد شر، وهو منظور مبسط عفا عليه الزمن (نموذج التحديث)، بل بمنظور الحرص على مؤسسات شرعية معافاة تضمن تنظيماً منتجاً للفجوة بين المثقفين وصانعي القرار والسلطات الحاكمة من جهة، والمجتمع العراقي بكل فئاته وطبقاته من جهة أخرى. العيب الكبير الذي لا ينتبه إليه دعاة المغامرة العسكرية العلمانية بوصفها ضمانة التحديث أن أية عدالة لا تعتمد شرعية دستورية عابرة للأشخاص، تمنح المجتمع حق الرفض والمطالبة بالشفافية، سيكون مآلها الظلم والتعسف، بل الكارثة كما نرى بأم أعيننا في بلاد العرب والمسلمين.


[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 52