الخيال السياسي للإسلاميّين


فئة :  قراءات في كتب

الخيال السياسي للإسلاميّين

اختارت أستاذة العلوم السياسية، الدكتورة هبة رؤوف عزّت، لكتابها الأخير، عنوان (الخيال السياسي للإسلاميين: ما قبل الدولة وما بعدها). صدر الكتاب عن «الشبكة العربية للأبحاث والنشر»، سنة (2015م)، ويقع في (144) صفحة، وهو مقسّم إلى مقدّمة، وأربعة فصول، وخاتمة على شكل فصل إضافي. حاولت الدكتورة هبة عزت، من خلاله، أن ترصد حركات السؤال السياسي، الذي يفرضه الواقع، ويُطرح في الساحتيْن الإسلامية والعالمية. وعلى الرغم من رأينا حول أفكار الكتاب المتزاحمة والمكثّفة أحياناً، فهذه السطور لا تشكّل قراءة نقديّة، أو دحضية، أو كمادة صحفيّة في ملحق ثقافي، بقدر ما هي وقوف شامل على فصول الكتاب، من أجل خلخلة الحاجة إلى مداخل موازية تغني أهمية موضوعه.

مقدّمة لتمهيد المقدّمات:

كان الكتاب في حالة جنينية قبل أحد عشر سنة، على شكل دراسة بعنوان (إسلاميون وديمقراطيون)، وبحكم انخراط المؤلّفة مبكراً في الصحوة الإسلامية في جيل السبعينيات والثمانينيات، فهي أقرب إلى دائرة الصراع الإسلامي في ساحة وغى (المفاهيم الحركية). وهي ترى تلك الساحة بحاجة إلى مناقشة تصوّرات من قبيل الدولة، والدولة الإسلامية. وكيف نفكر في الدولة ونتخيّلها، بعد أن نكون قد فتحنا حواراً حول المتغيّر المفاهيمي للدولة الحديثة في صورتها القومية. لكن إذا كانت الدولة القومية ونشأتها - حسب المؤلّفة - عبارة عن (ثقب أسود يلتهم الإيديولوجيا والأخلاق لصالح الهيمنة، والتحكُّم، ومصالح رأس المال). فما الذي نحتاج إليه اليوم لفتح المجال أمام الخيال ليتخيّل، أو ليصوغ خياله السياسي؟

تورد المؤلّفة أنّ غاية البحث في الدولة هو النظر فيها «كمفهوم تنطلق منه الدولة كآلة للسيطرة، وأداة للتعبير عن المصالح، وانتهاج السياسات العامة... ولا يمكننا فكّ أضلاع المثلث الذي تقوم عليه، فهي قومية نشأت على الفكر القومي، وقطرية قامت على ترسيم الحدود الجغرافية لنفسها، واستباحت حدود الآخرين بالاحتلال، وهي حديثة؛ لأنّها تأسّست على أركان فكر الحداثة الذي لا يؤمن بالغيب «(ص12)، كما أنّ مراجعة فكرة (أسلمة) الدولة القومية القطرية الحديثة تحتاج إلى الإحاطة بالنقد العميق لإيديولوجيات من داخل منظومتها الحضارية، كالماركسية، وفكر ما بعد الحداثة.

لا تزال خطابات الإسلاميين تتمحور، أغلبها، حول مقارنة الشورى بالديمقراطية، ولا يزال الهاجس الأكبر، عندهم، العلمانية، باعتبارها بديلاً للحاكمية، مفهوماً يُتيح إدارة الدولة، والتحكُّم في زمامها. بيد «أنّ كثيراً من خطاب الإسلاميين ليبرالي رأسمالي في جوهره، ومتسربل بالديباجة الدينية، يسعى إلى الأسلمة بتنقية الهياكل من ظواهرها الرأسمالية من دون نقض لها» (ص18).

تُشير الدكتورة رؤوف، في هذا الكتاب، إلى إشكال بالغ الأهمية؛ هو تقابل سؤال أيّ ديمقراطية، وأيّ علمانية، أمام السؤال الحديث: أيّ إسلام نريد؟ وعلى الرغم من أنّها لم تقف طويلاً على علائقية التقابل، وتحلّل أبرز حدود التماس الممكن فيه، إلا أنّها تبقى أسئلة مهمّة تضاف إلى الجغرافية الفكرية المؤجّلة.

وترى المؤلّفة أنّ جدل العلمانية والدين يعدُّ أكثر حدّة؛ لكونه يتعلّق بالدولة والسلطان، وليس بالإدارة السياسية، وهو نقاش يُخلق عند الإسلاميين بناء على:

ـ أنّ العلمانية تعني إنكار الوحي، وتحكيم العقل المحض، والتخلّي عن الحاكمية الإلهيّة؛ أي إنّهم تعاملوا معها كمقابل للكفر والإلحاد، وليس كمرادف للسياسة.

ـ أنّ العلمانية مرادف إفقاد الدّين قوّته، وإخضاعه للدولة.

ـ أنّ العلمانية، وفصل الإسلام عن السياسة، جدل أنشأه الاستعمار لإضعاف الأمّة مند بداية القرن العشرين، وتصاعد تجدّده في العقود الماضية، مع نموّ حركة الصحوة، حتى تستردّ الأمّة شرعيتها، وتعود إلى الإسلام ريادته، فدولته، فخلافته.

ـ أنّ هدف العلمانية تكريس الفرديّة، وغايتها نسبيّة الأخلاق.

لم تحدّد المؤلّفة، في كتابها، مقوّمات الخيال السياسي، وكيف يكون؟ فضلاً عن تجلّيه في خطابات الإسلاميين، وحاجتهم إليه، والذين وضعتهم - أي الإسلاميين - في كفّة واحدة. ولم تحدّد منهجياً، من خلال مبتغاها، ما المقصود بالإسلامي في كتابها، كحركي، أو نظري، أو كفترة تاريخية؟ ومن هو الذي من خلاله نعرف كيف يفكّر العقل الإسلامي، ويتخيّل مفاهيم الشريعة، والأمّة، والشورى، والعدل، وغيرها؛ أي كيف يرسم خريطة السياسة في تصورّه؟

من ظاهر الجدل السياسي إلى البحث في آفاق المعنى:

في الفصل الأوّل، ارتأت الدكتورة عزّت أن تعرج، أوّلاً، على المفاهيم، للغوص في جدليات ما قبل السياسي، لاعتبارها أدوات ضرورية لفهم الواقع وتخيّله، وحتى نتمكّن من فتح المجال أمام العقل المتلقّي أوّلاً، ليستوعب آفاق المعنى، من خلال التحليل المفاهيمي. لكن - كما أشرنا أعلاه - لم تُعرّف لنا المؤلّفة الخيال، والتخيّل، والإيجابي والسلبي في الخيال. إذا كان هذا الواقع الذي يعيشه الإسلاميون، ويحتاجون فيه إلى مفاهيم يسعون، من خلالها، إلى اكتشاف حدود الخيال، فهذا الأمر يذكّرنا، بطريقة عكسية، بمسألة الحدود، التي دأب الأكثرون أن يعرّفوها، ولا يعرّفون المجال الذي يفصلنا عن الحدود؛ أي المسافة التي يقع فيها الشيء، وتفصله عن نهاية وحدود المجال.

تجيب المؤلّفة عن سؤال: لماذا نبحث في المفاهيم، ونسعى لاكتشاف حدود الخيال؟ بأنّه: محاولة للتمييز بين الخطاب السياسي (Rhetoric) الواقعي، والخطاب الفلسفي؛ أي بين ظاهر المنقول والبنية المعرفية أو المعقول (من العقل والتصوّر)، التي تحدّد حدود الخيال السياسي، وتحكم الفعل السياسي الحركي. كما أنّ الديمقراطية، أيضاً، في الخطاب الليبرالي، في نزعته النفعية، تُعـدُّ نوعاً من الخداع؛ حين يجرِّد الإسلاميين من عقلهم، ويجعلهم في موقف الدفاع فحسب. وهذا الأمر يتيح التساؤل عن كُنه الديمقراطية كصيغة لا تنفكُّ عن سؤال الشورى الإسلامية. إضافة إلى كون نقاط التلاقي في المساحة، التي تتحرّك فيها الأنساق الثقافية الإسلامية للبحث عن المشترك، لا عن التأويلات الصدامية مع الأنساق الفكرية الأخرى، تفضي إلى الجواب عن أيّ ديمقراطية تتوافق مع أيّ رؤية إسلامية؟

وفي استكشاف خرائط الأنساق المفاهيمية لرسم ملامح التحليل المفاهيمي، اختارت المؤلّفة خوض غمار اللغة، التي هي «شرط قبلي للسياسة في الواقع والتنظير». أو كما يقول ترينس بول: «حين تسكت اللغة يكون البديل لها هو تشظّي الجماعة السياسية، وتوقّف التفاعل بين عالم الأفكار، والعالم المادي المحيط، ويكون الخطر هو اندلاع العنف» (ص30).

لكن الدكتورة عزّت تؤكّد، في بداية حديثها عن اللغة، أنّ المفاهيم لا يمكن إدراكها أو ضبطها، مستدلّة بغالي، الذي رجّح ذلك إلى عدّة عوامل، منها أنّها تعكس إنجازات تاريخية تتضمّن مُـثلاً وقيماً (مثل الأمّة، والشريعة أو الدولة، والمواطنة)، وأنّها (أي المفاهيم) تحمل أفقاً مستقبلياً منفتحاً. ولهذا لا يمكن مطابقتها مع الواقع، كالذي يتخلّل الديمقراطية من مثالية. في حين أنّ تمثُّلها الخارجي هو عميلة تحوّلية في التاريخ، ما يُكسبها انفتاحاً وارتباطاً مع الأنساق الفلسفية، لا العلوم الطبيعية.

وقفت المؤلّفة طويلاً، واستنجدت بالمدرسة التفسيريّة الألمانية؛ لسبر المفاهيم لغوياً وألسنياً في سياق تحوّلها داخل الخطاب. وتنقّلت من نظرة فتغنشتاين للغة على أنّها مفعول به في يد اللاعبين السياسيين، إلى غادامير، الذي اعتبر أنّ للغة روحاً، وأنّ للحرف، أيضاً، روحاً باحثةً عن آفاق للمعنى، ومتجاوزاً لأفكار هايدغر. فقد ذكر جادامير أنّ «التفسير والتأويل هما حوار بين الباحث، وصاحب النصّ الأصلي، وسياقات كلٍّ منهما تاريخية؛ لأنّ القول أنّ فهم النصّ لا يتمّ إلا في ضوء سياقه التاريخي فحسب، هو إغراق في النسبية، وأنّ للنصِّ روحاً، وللغة حقيقة» (ص37)، وبما أنّ التعبير عن معنى واحد يتمُّ من خلال كلمات متعدّدة، فاللغة ستظلّ عاجزة عن الإحاطة بالفكر. ومن ثمّ يستوجب غادامير دراسة تشكُّلات المفاهيم.

يعلّل غادامير رفضه ما ذهب إليه فتغنشتاين، الذي اعتبر اللغة أداة، بأنّنا نستطيع التحكُّم في الأداة، ولا نقدر على السيطرة على اللغة. ورفض تفكيكية دريدا، أو إعطاء السلطة الكاملة للقارئ على النصّ. كما أنّ التفسيرية، عند غادامير، لا تنشغل بالنصّ فحسب؛ بل بفنّ الفهم ذاته، والتنظير له، ولعلاقته بالمعنى، وبالوجود، والفلسفة، والتاريخ. ومن هنا، ترى الدكتورة هبة أهميّة فهم نصوص متعلّقة بالوحي، أو الفقه، أو النصّ التاريخي؛ أي الاستفادة من التأويلية الغاداميرية للوصول إلى أفق المعنى. لكنّها، في الوقت نفسه، ركّزت على أفق المعنى الفلسفي، ونسيت أفق المعنى السياسي. أو بالأحرى، ينسى القارئ برهةً بين هذه السطور أنّ الكتاب عن الخيال السياسي الإسلامي، بمعنى أنّها تجرّدت مع فلسفة الفهم، ولم تربط على الأقلّ تفسيريّة اللغويين بأمثلة عن المعنى السياسي لبعض المفاهيم، لا عن آفاق المعنى الأكثر تجرّداً. نعم لقد حاولت الربط بين الحقل اللغوي، والحقل الفلسفي، انتقالاً إلى السياسي التمثُّلي، لكنّ السطور، التي سبقت، لم تكن تسمح بالتعالي الكانطي وما القبلية، حسب تعبيرها، لتربطه بالخيال الإسلامي بحلقة مفرغة، كما هو انتقالها، مثلاً، من كيف صاغ الإسلاميون خطابهم (وهي نفسها لم تتكلّم عن خطابهم بقدر ما جرّدت اللغة عن الخطاب، ناهيك عن كونه إسلامياً)، إلى «سؤال: لماذا صاغوه بهذه الكيفية، على الرغم من وجود بدائل مختلفة للاجتهاد».

من ناحية أخرى، رأت المؤلّفة ضرورة النظر إلى انتقال المفاهيم إلى «الأساطير التي تحكم الخيال السياسي؛ أي معرفة الرؤى المهيمنة على النسق المفاهيمي، التي تشكّله بصورته المحدّدة، في مرحلته التاريخية، والتي تؤدّي إلى كشف المتغيّر والثابت... المقدّس والعقلي» (ص40). أمّا علم الاجتماع، فينظُر إلى الأساطير من ناحية تحليلية، ويَعدّها أداة لفهم الواقع، وللتفسير.... وبحسب بيرك بيتر، هي تعبير عن اللاوعي غير المناقض، بدوره، للعقلانية، وهي مساحة من مساحات العقل الإنساني. وتتجلّى الأسطورة - حسب المؤلّفة - في مجاز أو استعارة تتمكّن من السيطرة على العقل. كما الحال مع الاستعارة الذهنية في التعريفات المفاهيمية لدى جورج لايكوف، الذي اعتبر المجاز أو الاستعارة أكثر من كونها أسلوباً بلاغياً؛ بل هي طريقة تفكير تتمّ بها إعادة تشكيل الخرائط الذهنية والمفاهيمية، كاستخدام الوطن الأمّ، أو الدولة الصديقة، في الخطابات السياسية. وخلصت المؤلّفة، في نهاية هذا الفصل، إلى طرح تساؤل عن الإمكانية التوليدية للتيارات الإسلامية بين التشكّل والاصطناعي، بعيداً عن مناخ الهيمنة أو المواجهة.

مجلة (المنار) بين خرائط التفكير ونسق الخطاب:

قامت المؤلّفة هبة عزت، في الفصل التالي، بمسح شبه كلّي لأهمّ المتغيّرات الدينيّة، من خلال ما كتبه الإسلاميون أنفسهم في مجلة (المنار الجديد)، والمسمّاة تيمّناً بمجلّة (المنار) للشيخ رشيد رضا. ولمكانة المجلّة العلميّة وتاريخها، حاولت الاقتراب من آراء الإسلاميين، وحدود تفكيرهم، على امتداد سنوات صدور المجلّة منذ سنة (1998م). وتنقّلت بين هموم ومراجعات الإسلاميين الحركيين في العمل السياسي داخل جهاز الدولة. بيدَ أنّ مسحها بقي محصوراً بتجربة خاصّة، ومرتهناً بجغرافية فكريّة في مصر، ومن ثمّ لا يُتيح لها مسحها إشراك الإسلاميين خارج المنطقة.

ولتصوّر السياسة، والانتخابات، والعنف، مرّت المؤلّفة من السعيد حبيب، عن جماعة الجهاد، إلى صلاح هاشم، عن الجماعة الإسلامية، إلى أبو العلا ماضي، عن حزب الوسط، إلى عصام العريان القيادي الإخواني، إلى جمال سلطان السلفي المستنير. ولتصوّرات الدولة، والمشروع الإسلامي، وجدلية الدين والدولة، استحضرت المؤلّفة علاءَ النادي، وحامد عبد الماجد، ومحمد عمارة، وطارق البشري. ثمّ مرّت بالمسألة القبطية الحسّاسة، آنذاك، فضلاً عن حضور الآخر الديني في الساحة المدنية والدينية، متمثّلة في سامح فوزي الباحث القبطي، وهاني لبيب. ثمّ عن مسألة المرأة وتحريرها، ذكرت عبدَ السلام بسيوني، وصافيناز كاظم، إلى كتابات توفيق الشاوي عن فقه الشورى، إلى المواطنة، والعولمة، والديمقراطية، والليبرالية، وحقوق الانسان.

حاولت المؤلّفة، بعد مسحها هذا، أن تحلّل ماورائيات نصوص مجلّة المنار. وذلك من خلال ثلاثة مداخل: ملامح النسق المفاهيمي الذي تعكسه النصوص، وخصائص النسق المحكوم بالمرجعية والذهنية والخيال المؤطّر لتفكيرها، والنظر في التناصّ المقارن والموازي، لتخلص إلى الآتي:

ـ تقف الدولة العلمانية كخطر يواجهه الخيال الإسلامي، ويعيق تفكيره نحو تصوّر جديد للدولة، إلى جانب عدّة إشكالات، كالعلمانية، والليبرالية، والاهتمام بالاقتصادي العسكري على حساب الديمقراطي الشعبي. ولمّا فكّر هذا الخيال في إمكانية أسلمة أبنية العمران في البناء الليبرالي، حسب التصوّر الراديكالي، وجد منطقها مغايراً لفلسفة الاجتماع الإسلامي. وتُشكّل إشكالية (الفتنة الكبرى) تحوّلاً محورياً في التاريخ السياسي الإسلامي ومعوقاً كبيراً، يبرّرُ اتّقاءَها، حسب الجابري في كتابه (العقل الأخلاقي)، قبولُ العيش باستكانة تحت الحكم الذي أصله فتنة.

- الخيال الإسلامي العربي مسكون بفكرة الهجمة على الإسلام، ودائم التركيز على الآخر-الغرب؛ الآخر المستعمر، المهيمن، المسيحي، اليهودي، في غياب اهتمامه بالحركات والأفكار الإسلامية غير العربية؛ كالإسلام في إفريقية، والبوسنة، وأندونيسيا، أو البحث في المساحة الممتدّة على المشترك الإيجابي.

ـ غلبة العقلية السجالية بدلاً من العقلية الاجتهادية، لا سيما حول المسائل الفرعية. وهو ما خلق، لدى الدكتورة هبة، تساؤلاً افترضت فيه بحثاً جانبياً عن تدنّي الأفق المعنوي للمقالات في المجلّة، مع مستوى كتابات المرجعيات الحركية الاسلامية في ذلك الوقت، كالقرضاوي، والغزالي، والغنوشي.

ـ ثم غياب التخصّصية الشرعية، والنظرتين الاجتماعية والسياسية لدى الإسلاميين.

كلّ ذلك أنتج «لغواً إيديولوجياً غزير الكمّ فقير النوع» فشل في تحقيق النهضة، حسب صاحبة الكتاب.

افتراض المستقبل:

ركّزت الدكتورة هبة، في الفصل الرابع من الكتاب، على إعادة تشكيل الخيال لاستشراف المستقبل. وذلك عبر لعبة مفاهيمية تقوم على تغيير المقدّمات، ودراسة» السيناريوهات»، لتغيير النتائج. وكما هو دارج في الفقه الافتراضي بما يُعرَف بمنهج (أرأيتيين)، فالأمر، في هذه الحالة، حسب المؤلّفة، مرهون بعدّة أمور مفاهيمية لتطوير سقف الخيال، وإعادة بنائه. منها إشكالية الأمّة، حيث ارتبط هذا المفهوم عبر التاريخ السياسي الإسلامي بالدولة، وتمّ اعتباره بمثابة تراكم أسمى لقوّة الدولة، كما عند المودودي. وذهب آخرون إلى اعتبار الوصول إلى الحكم هو سبيل بناء الأمة. فيما تمّ تقديم الدولة كحقيقة أخلاقية وحضارية وتاريخية أسمى في تصوّرات أخرى. ولهذا، اقترحت الدكتورة هبة أربعة مفاهيم لإعادة مفهوم الأمّة: الفطرة، والعالمين، والمجتمع المدني العالمي، ثمّ المجال العام.

تستشرف المؤلّفة، أيضاً، الحاجة إلى (الذات الفاعلة)، التي انتقلت من المجال العامّ إلى الشارع السياسي؛ فالسنوات الأخيرة شهدت اهتماماً كبيراً، داخل الدوائر الأكاديمية، بمفهوم الحركات الاجتماعية، ومفهوم المجال العام؛ أي الساحة العامّة، التي اعتبرها هابرماس مساحة للفعل التواصلي، وما عُرِف بديمقراطية التشاور والتداول. وظهرت معالم التغيير في المجال العام (المؤلّفة، هنا، تقصد مصر دون الإشارة إليها) عبر الفضاء الإعلامي، والفضاء الإلكتروني، واتّساع المساحة المكانية (السكنية والحركية)، لكن مع ذلك يصعب التنبؤ بالواقع، وتوقُّعه، بسبب التراكم الزمني، حسب هابراس، المعتمد على اللحظية-التلقائية، واللاتناظرية.

خاتمة لاستعادة المسار:

عنونت الدكتورة هبة خاتمتها بعنوان (من الدولة إلى التجديد)، محاولةً الدعوة إلى التحرّر من تغوّل الدولة كمفهوم يفرض نفسه على الخيال الفردي الإسلامي، أو على الخيال الجمعي. وذلك بتجنُّب (الثقب الأسود) للحداثة، بحتميّة معرفة موازية للدولة العربية مع الحركات الاجتماعية، وللمجال العام مع المجتمع في منظومة الإسلام. وبمحاولة قلب نظام التفكير، من خلال التركيز على ماهية المشروع الفكري للتنظيمات الإسلامية، التي لم تجب عن سؤال النهضة، أو قالب الخلافة، ولا عن أيّ شريعة لأيّ أمّة؟

ولتجديد أمر الدين، تقترح الدكتورة هبة أمرين؛ الأوّل: فهم الصيغ الاجتماعية والسياسية لإدارة القوّة والسلطة في المجتمع. وهو، تقريباً، ما يفسّره غياب التشكُّلات الاجتماعية كالتعاضديات العمّالية والحرفيّة في فكر الإسلاميين، كانتقال تدريجي إلى السلطة، لا كما زعموا تنحية (استبداد الدولة الحداثية). كما يجب على دعاة الدولة الإسلامية أن يعيدوا اختراع الدولة، بشكل حتميّ، عن طريق تحرّر عقلهم السياسي من الدولة القوميّة. والأمر الثاني، هو فهم التديُّن ومظاهره، ومعنى الشورى والاستشارة.

أظهرت المؤلّفة، هنا، في أواخر هذا الكتاب، أنّ الحداثة كلّها غير صالحة للمجتمع الإسلامي، وحصرتها في سياق صراع أثر المفهوم، كربط الحداثة بالرأسمالية، أكثر من حاجتها، على الأقلّ، إلى خيال مفهوم الحداثة نفسه، الذي ترفضه المؤلّفة، وتستبدل به مفهوم (تجديد أمر الدين) من دين وتديُّن. وكما تقول عن الحداثة إنّها »ابنة مشروع الاستنارة«، فقد حقَّ لأيّ حداثي (قياساً) أن يرفض الشورى مثلاً، بدعوى أنّها (حالة جنينية) للفتنة الكبرى في الإسلام.

يغلب على أواخر الكتاب جانب من (الوعظ الأكاديمي)، والإشكال التقابلي: هذا بذاك، ولو بنوع أقلّ حِدّية. فهي لا تحدّد الأمثل، وليس من واجبها، لكن تأطير المفاهيم في صراع التعالقات، في كلا الطرفين: الإسلامي والحداثة، لا يُفضي إلى توسيع أفق المعنى، كما تنشده، والذي يحتاج إليه أيّ (خيال فكري) إيجابي. فلا صراع الحداثة في هذه الفصول منح الحداثة تعريفاً يخدم تمثُّلاتها في الدولة فحسب، ولا الدّين المسجّى تارةً على مائدة الإسلام الحركي قدّم تصوّراً للسياسي، أو للإسلامي، أو للخيالي المحض، مساحة لنقاش أوسع، ولا خدم عنوان الكتاب الذي تاهت عنه ما قبليّة الدولة، وما بعديّتها.