الدولة المدنيّة على أساس المواطنة


فئة :  مقالات

الدولة المدنيّة على أساس المواطنة

 الدولة المدنيّة على أساس المواطنة[1]


 المواطنة هي أن تتحوّل الأرض التي نقيم عليها إلى وطن، والإنسان الذي يعيش فيها ويشارك في صوغ حياتها إلى مواطن، ويوثّق هذا الواقع في دستور، تلك هي المواطنة؛ أي مشاركة المواطن الأصيل في صنع القرارات، ما يتيح له تكوين نظرة متوازنة إلى ذاته وبلده وشركائه في صفة المواطنة، على أساس المساواة في الحقوق والواجبات.

إذ يجتهد الأشرار، أعداء الحياة، في تعميم اليأس ليستأثروا ويمنعوا أبناء الحياة من الحياة، بما هي معنى أو نعمة لا يختزلها الخبز... بل تضارعها الحريّة.. يجتهد الأخيار فيمانعون، يعتصمون في عمارة مكوّناتهم الأصليّة، قيماً وأفكاراً، يعيدون بناء رجائهم وإرادتهم على شروطها، التي تبدأ من الرحمن وتزهر في الإنسان، أو تبدأ من الإنسان لتستريح خالصة في كنف الرحمن.

ولعلّه أمل، فليكن أملاً، لأنّ الرسوليّين محبّي الرسل وأحبّاءهم، وهم غير أو نقيض مستثمريهم ومعهم محبو الناس برسل أو من دون رسل، ولكن برسالة يفترض أن يتقبلها الرسل، لأن الإنسان هو المقصد، والبيت أهم من الطريق إلى البيت، على ما قال محمود درويش. هؤلاء جميعاً وأحب أن أكون منهم، ملزمون وملتزمون بالأمل، لعلّه أمل ليس يتيماً، ولكنّه قد يكون شاقاً، في هذا المناخ الذي يعمل عاملون من أجل أن يسوء ويسود ليسود معه الإحباط والفقر والجهل والاستحواذ والاستتباع، بما يشبه أن يكون استرقاقاً حضارياً شاملاً، أمل آخر أن نلتقي منهمكين بتركيب مستحضر معرفيّ من دمنا وحبرنا، من إيماننا بالله وحبّنا لعياله، من توحيدنا ونزوعنا إلى تحقيق معادله في الوحدة، ومن وحدتنا ضابطاً لاختلافنا، واختلافنا فضاءً لحوارنا وإبداعنا وتعارفنا وتثاقفنا الدائم، لعلّ هذا المركّب يضيء لنا ما تبقّى مبهماً من حقيقتنا أو ما تراكمت عليه الجهالة المتبادلة فأخفته، أو ما هو آخذ في الظهور المتواتر من حقائق جديدة أو مؤنسة نتّقي وحشتها التي تتسرب بعض ملامحها بين ربيع عربي وآخر، بالمعرفة الهادفة، ونستحقّ أنسها بتبادل المعارف وتداول الحقائق والقول بالحقّ النسبي دائماً.

ألا ترون، كيف أنّنا عندما نستيقظ على مواجعنا وأحلامنا المشروعة، نبدع شراكتنا في الوطن، تصبح خصائص كلّ جماعة منا مطلّات على الآخرين؛ وعندما يصرفنا صارف عن المشتركات الرحبة والخصائص الجميلة جمال الضرورة والحريّة داخلتين في الجدل الجميل، نرتكب التقابل ونتبادل الإلغاء، تصبح الخصائص كهوفاً وسجوناً رطبة ومعتمة، نمارس في أقبيتها ودهاليزها محواً للذات في الآخر والآخر في الذات؛ أي للذات بالذات في الذات في المحصّلة؟! نغدو وكأنّنا حاطبو ليل!!! معذرة إن اتّكأت في مقالتي على ما يصرّح بأنّني أنتمي إلى دين بعينه، وإن كنّا غير مدعوّين إلى التخلّي طمعاً بالقبول. إنّ ذلك لن يكون مقصوداً من قبلي، بل هو إيحاء متعمد بأنّي آتيكم كما أنا، ولا أرغب أن أراكم إلاّ كما أنتم، على أنّ قيافتي كافية للدلالة على انتمائي الطائفي، والذي لا يختزل هويتي المركَّبة، بل يدخل كعنصر فيها، يحضر... ولكنه لا يحضر دائماً، وإن حضر فإنه لا يعطل العناصر الأخرى، وإن كانت المسوح تمسح محتوياتها في كثير من الأحيان، فإنّنا متعاقدون ضمناً على تغليب المضمون الواحد على الأشكال المتعدّدة، وإن كانت وحدة المضمون لا تمنع، بل تقتضي تنوّع التجليات. إذن، فالشكل مدعوّ كي يكون جزءاً من المضمون، والمضمون ملزم بإغراء الشكل بذلك. ومن هنا، فإنّ قصارانا كأهل إيمان ووطن أو كيان، أن نحفر عوامل الالتباس بيننا؛ أي أن يلتبس أحدنا بالآخر، من دون هجران لذاتيّاته؛ أي أن يدخل الآخر في تعريف الذات وتعيينها وتعيّنها، لتكون الذات قد دخلت في تعريف الآخر، وحينئذٍ يصحّ لنا أن ندّعي بأن التوحيد جامعنا وعاصمنا، ولكلّ منّا بعد هذا الالتباس الجميل، أن يعود إلى ذاتيّاته وخصائصه، حتى لا تكون وحدتنا إلغاء لتعدّدنا، أو أن يكون تعدّدنا هدماً لعمارتنا، إذن نفشل وتذهب ريحنا... ومن دون وحدة رحبة وخصبة، أنّى لنا أن نكدح إلى الواحد أو نلاقيه؟ غير أنّ الحصيف العارف بلحن الخطاب، لن يعدم في كلامي إيقاعاً إنجيلياً يأتي من رغبة وحاجة ودربة على الحياة المشروطة، المشروطة بالأحياء، كلّ الأحياء الذين يحيون فيك فيحيونك، في حين أنّ تقييد الحياة بالجماعة الإثنيّة أو المذهبية أو السياسية، هو إفقار لها من الرواء والحيويّة وتجفيف لمنابع الإبداع... وأنا أسلك نفسي في سلك المؤمنين الذين دعاهم القرآن إلى ما يحييهم في الدنيا والآخرة على حدّ سواء، وبالضرورة طبعاً "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" ومن (يوحنا): "أمّا أنا فقد أتيت لتكون لهم الحياة وتكون لهم بوفرة" وإلاّ فلماذا كانت الدنيا؟ إذا لم تكن مشروعاً ننجزه معاً، وإذا ما كانت آخرتي فرديّة؛ أي خلاصي "لا تزر وازرة وزر أخرى" "كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً"، فإن الممرّ الآمن إليها محفوف بالآخر والآخرين، كلّ الآخرين، بالخلق عيال الله، كلّ الخلق من الأخ في الدين إلى النظير في الخلق، كما في نص نهج البلاغة الذي يعطف بالواو مساواة من دون مفاضلة فيما يترتّب على ذلك من حق المحكوم على الحاكم... هذه الإنسانية أو الأنسنة، تغريني بالاعتراف بأني، في لحظة يقظة، وجدتني ملزماً بالحدّ من تديّني؛ أي من التشدد الحَرْفي أو الحِرَفي، في تطبيق الأحكام الشرعية وإدانة أو نبذ من لا يتشدد، حرصاً مني على ديني؛ أي انتمائي إلى الدين، كما أني مضطر إلى الحدّ من الركون التمامي إلى منظومتي العقدية الدينية، حرصاً على موقع في فضاء الإيمان الكبير؛ أي العابر لحدود الأديان، الذاهب إلى الله والإنسان، أو الذاهب إلى الله من الإنسان ومن أجله؛ أي من أجل الإنسان، لا من أجل الله المتفق أنه غني عن العالمين.. ذلك الفضاء الرحب هو الفرصة الوحيدة للاجتماع مع المؤمنين، كل المؤمنين؛ أي ذوي القلوب العامرة بالحب، وقد يتورطون أو يورطهم أحد بالكراهية، ولكنهم سرعان ما يتوبون... ولا أستثني إلا من يستثنون أنفسهم؛ أي قلة من البشر الظالمين، والذين مهما يكثروا، يبقوا استثناء... ومن أسباب حسرتي، أني قضيت شطراً من عمري مريضاً عن طريق العدوى، بالشعور بأني متفوق دينياً وأقوى وأفضل عند الله من الآخر، في الدين الآخر أو المذهب الآخر، حتى رفاقي وأساتذتي وإخواني وأمي وأبي، لأني أطبق أحكام الشريعة بحذافيرها، أو بحروفها، حتى حروف العلة والجر والنصب، فضلاً عن الجزم الذي هو مضيعة للحقيقة، لأكتشف أن العلم من دون الآخر؛ أي من دون قلب؛ أي من دون الحب، ليس علماً، بل هو أجهل الجهل، بل وإن العقل من دون قلب ليس عقلاً... وتيقنت أني كنت أطبق أحكامي لا أحكام الله الذي خلقنا مختلفين رأفة بنا، ولكي نتكامل... هل أكون بهذا قد أكملت حجتي ودليلي على صواب اختياري للسفر المعرفي وعبور الحدود نحو معنى المعنى في الدين؛ أي الإيمان؛ أي الإنسان؟ أرجو ذلك، وأرجو أن تكون هذه الـ "لا" في (مؤمنون بلا حدود) معادلة لـ "لا" التوحيد ذاهبة إلى معناها الأسمى في كل مسمياته... وأستذكر المأثور عن الرسول (ص): "بعضكم يصلي ويصوم ويزكي ويحج، أكثر من بعض، ولكن أقواكم إيماناً، أكثركم معرفة".

كأني ألتمس أو أتلّمس معنى المواطنة تحت أو خلف أو في عمق صيغتها النظريّة أو الروحية؟ بلى.. وإذا ما كنا من أهل الروح؛ أي أن الروح هي الأولى في ناظمنا الكوني، في كينونتنا، رعاية للجسد وإعلاء لشأنه لا حطّاً منه، فإنّنا ملتزمون دوماً باستبيان الروحيّ في المادي "كان في مكة حجر يكلّمني ويسلّم علي" و"إذا صَمَتـّم فإنّ الحجارة سوف تنطق" ويمكن بحسب الإنجيل، إن لم نحسن بنوّتنا لإبراهيم فإن الحجارة جاهزة لتحمل شرف وأعباء هذه البنوّة. إذن.. ففي لحظة توحيد وتوحّد، يمكن أو ينبغي رفع المادي إلى مصاف الروحي؛ أي تجريد المادي بحثاً عن الثابت أو الجوهري في معناه، وفي الوقت ذاته يمكن أو ينبغي أنسنة الروحي بتنزيله على العيان؛ أي بتمثيله وتمثّله في الحياة والعلائق، في اليوميّ، في الملموس.. هنا.. مثلاً يصبح الوطن هو ما يسكنك لا ما تسكنه، أو أنك تسكنه فيسكنك. "رعته الفيافي بعد ما كان حقبة رعاها" كما يقول أبو تمام... حتى لا نعفي ذواتنا من مستحقات التراب والماء والهواء والأهل والأحباب، حتى نتحيّث؛ أي يكون لنا حيث نسعه ويسعنا فنحميه ونحمي أنفسنا فيه، طالما أن البشر الذين هداهم الله النجدين، قد أغضى أو يُغضي بعضهم أو كثير منهم عن جادة الخير، فيعتدي ويغزو ويحتل ويستعمر ويطرد ويقصي ويلغي أو يصادر، يقتل الروح والجسد... إذن، فمن معنى المواطن أن تفدي، أن ترد العنف. أما عندما يصبح الوطن عقاراً، فإنه قد يهون، لا يعود عُقاراً شافياً، ووطن مريض هو وطن للمرض، والعافية جدل بين الوطن والمواطن، وكما المكان بالمكين، فإن المكين بالمكان "الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام.. حتى الظلام، هناك أجمل، فهو يحتضن العراق" (السياب).

يطمئن الوطن إذ يطمئن المواطن، ويطمئن المواطن إذ يطمئن الوطن. كيف يطمئن الوطن الواحد إذا ما صار اثنين أو أكثر؟ ومن أين يأتي وجع الجرح؟ أليس من صيرورة الواحد اثنين، وكلما كان الجرح أعمق كان الوجع أوجع، وكان البرء أصعب وأبعد.. "أفهمت عذاب النهر إذا اغتربت عنه الشطآن" (محمد علي شمس الدين)، غير أن البشر المواطنين أو المواطنين البشر، أهل مشاعر ومخاوف ومطامح ومطامع ونوايا حسنة قد تسوء وسيّئة قد تحسن، ومشارب وحساسيات ومناشئ ومذاهب وعلائق وأديان وأقوام وجهات وسلالات وعواطف وأمزجة وغرائز ورغائب وشهوات وأشواق وأوهام وأحلام.. "ولا يزالون مختلفين... ولذلك خلقهم".. إلى مشتركاتهم الإيمانية والإنسانية الواسعة، ولكنها ليست متروكة لتشتغل وحدها، ولذلك أرسل الله الرسل، ولو كانت الأمور تستقيم من دونهم لما أرسلهم... وليست هذه شكوى من خلق الإنسان وخُلُقه، إذ لولا هذا الجدل الدائم بين الخير والشر، بين المختلف والمختلف، لساد السكون وتعطّلت الحركة والإبداع وبُطل الثواب والعقاب... أي اختلّت منظومة القيم لاختلال القانون أو اختل القانون لاختلالها.. إذن فما الحلّ؟ وهل من حلّ ناجح أو ناجع دائماً؟ كل حلّ يحتاج إلى حل آخر، على أن يكون هاجس الحل هو الاختيار الدائم أو التظهير الدائم لنوازع الخير ودوافعه، وتغليبها من دون عنف مباشر أو غير مباشر، من دون إبطال للعقاب العادل وللقصاص بما فيه من حياة.. إذن، فالقانون.. الحق، هو نصاب المواطنة، التي تتيح للكلّ أن يحيا بالكلّ في الكلّ وللكلّ.. القانون.. الحقّ، المواطنة... أي الدولة... والتحدّي الأعظم لدولتنا الحديثة هو أن تمارس دورها، انطلاقاً من كونها ضرورة اجتماع له أو عليه أن يحوّلها من سيدة إلى أجيرة، تجد في أداء الواجب من أجارتها مجالاً وحيداً لسيادتها، سيادتها الطوعية، والسيادة الطوعية تأتي من جهة المحكوم، من قناعته؛ أي أنّ الدولة الأجيرة الملتزمة بعقد إجارتها يصبح قمعها مدخلاً مطلوباً ومقبولاً إلى سيادتها... وإذا ما كانت المواطنة هي التي ترقى بحالنا من القبول بالتعدّد على مضض ريثما.. إلى رفعه إلى مستوى الأطروحة الحضارية وضرورة الوجود والعقل والحضور، فإن الدولة في تكييفها المدني على موجبات قانونية، تنتقل بهذه الدولة من إطار المعتاد في سلوكنا معها، بتأثير من سلوكها مع نفسها ومعنا؛ أي من المراوغة والمفاضلة الزبائنية، إلى إطار نراها من خلاله فينا وترانا فيها، من دون استبعاد متعسّف لاحتمالات القصور أو التقصير، وهنا يمسي شرط الحرية، الذي تتيحه الدولة، أو تحفظه، حافظاً للعلاقة التبادلية، تسديداً ونقداً، بين المواطن والدولة الجامعة لأنها حاضنة، والحاضنة، لأنها جامعة والقادرة لأنها عادلة والعادلة لأنها قادرة. أليس من أهم مشكلاتنا مع دولتنا الحديثة أنها قصّرت في أداء دورها الجامع؟ ومن هنا أغرت اجتماعنا بعدم الاجتماع، فإذا المذاهب والأديان والطوائف والجماعات عموماً، والمؤسسات الأهلية وحتى المدنيّة، كيانات في الكيانات ومفتوحة دائماً على التكثّر؛ أي على المزيد من الكينونات الفرعية على مقتضى الخصوصيات المتحقّقة أو المخترعة أو المتوهّمة أو المضخّمة، ألا ترون إلى أن هناك من يدقّقون في اختلافاتنا ويستغلون خلافاتنا، ليؤسسوا عليها خلافات أو صراعات إضافية، في كل لحظة نشارف فيها على التحرير والتحرّر والتقدم والنهوض والوفاق والتضامن والتكامل والتنمية الناجعة.

إن الدولة المعاصرة، من دون خطأ اعتبار الماضي مثالاً ناجزاً، كما يحلو للأصوليين الإسلاميين، الماضويين، الذين يستقبلون الماضي فيستدبرون المستقبل، ويقتلون كلاً منهما بالآخر، ومن دون خطأ اعتبار الحداثة أو التحديث قطعاً أو بتّاً مع الذاكرة أو الموروث، الذي يحتاج إلى نقد منهجي من دون شك، أي من دون افتعال معركة ضارية وشاملة بين الثابت والمتغيّر، هذه الدولة ربما كانت كفيلة بتحويل المواطنة من شعار إلى واقع احتياطاً من الوقيعة، ولا أعتقد أن هناك مجالاً لتحرّرنا ونهوضنا وسلامنا الداخلي وتقدمنا، إلا أن نعود إلى تشغيل إواليات اجتماعنا، وهي لا تشتغل إلّا على فرضية حضارية وإنسانية قد تكون بالغة الصعوبة، ولكنها هي الحلّ الذي يحصِّننا من الاستحواذ علينا مرة أخرى، بما يعني ذلك من احتمال استخدام الربيع العربي المهجوس بالخبز والحرية، في إعادة إنتاج الاستبداد والفساد.. وبمساعدة العالم الحرّ مرة أخرى ولصالح نظام مصالحه غير المشتركة بيننا وبينه، والتي يحتاج تحريرها إلى رؤية مشتركة توسع مجال التبادل بين المعرفة والثروة. هذا مناخ يتيح لنا أن نعود أهل توحيد ووحدة بما هي الوحدة معادل موضوعي وتاريخي للتوحيد، وبما يقتضي ذلك من اكتشاف الجوامع بين المختلفات... بذلك تكفّ المواطنة عن أن تكون بديلاً للدين أو المذهب أو أية جماعة مؤسسة على مشتركات موروثة أو مستجدة، ويكف الدين أو المذاهب أو الجماعة الأهلية أو المدنية بديلاً للدولة أو للوطن، لأن في ذلك إفراغاً للوطن من مواطنيه، ومن دون مواطنة قائمة على الحق والقانون والعدل والمحبة، يصبح الوطن مفهوماً أو مكاناً بارداً ويابساً، يصبح فراغاً ويسهل التنازل عنه أو نسيانه.

لا أدري لماذا أشعر أمام موضوع المواطنة، وكأني أكثر تعرّضاً للحرج من كثير من الآخرين؟ ألأنني رجل دين مسلم؟ والإسلام السياسي مطروح الآن أكثر من أي وقت مضى على أنه الحل. بما يعني أنّ الإسلام السياسي يحمل مشروع دولة إسلامية، وقد يجعل المواطنة كناظم علائقي وقانوني، أمراً مستبعداً. حسناً... ولكن المواطنة إذا ما كانت أطروحتنا المشتركة والمعاصرة كناظم لتعدّدنا، يحفظ الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة، فإنّ أدبياتنا في الدين ونصوصنا التأسيسية، تضيء لنا المسار والمصير والمثال من خلال مكاشفتها لنا برؤيتها الكاشفة للتكوين في نظام الكون والإنسان القائم على الاختلاف والحوار شرطاً للوجود والحضور والتجديد والتجدّد، والحياة التي تتعدّى شكل الكينونة في دنيا أو وطن إلى معنى الحياة ومعنى الدنيا والدينونة والوطن.

"يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"، وفي يوحنا عن قيافا أنه "تنبّأ أنّ يسوع سيموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أيضاً في الوحدة أبناء البرّ المتفرّقين".

قناعتي المستندة إلى النص الديني والمسلك التاريخي، أنه ليس هناك وصف أو اقتراح لدولة دينية في النص التأسيسي الإسلامي، وإنما هو وصف لمجتمع تعدّدي حيوي وعادل، والدولة من ضروراته، التي تقدَّر بظروفها المتغيرة، ولم يتعبدنا ربنا بأيّ شكل من أشكال الدولة، ولا تعبد أصلاً في مجالات التدبير أو الحقوق، والتعبد محصور في مجال الحرام والواجب الديني؛ أي التكليف؛ أي العبادة لا العمل، ومن هنا لا تبقى الدولة –على عكس الإمامة- مجالاً للنص، بل هي مجال للعقل، الذي، ليكون عقلاً، لا بد أن يكون متغيراً؛ أي مطابقاً للمتغيرات في الحياة والمعرفة. ومن هنا، فالدولة بشكلها الحديث، كما في إيران، على نقد شديد للأداء، هي دولة حديثة كما وصفتها الحداثة الأوروبية.. وليست دولة دينية، بل هي دولة وطنية وفي دستورها الذي تشكل ولاية الفقيه -أي مركزة الدولة- عماده، لا تخفى روح القوانين والدساتير الغربية الحديثة والعلمانية، ولا بدّ من التذكير هنا بأن الدستور الذي أنتجته الحركة الدستورية (المشروطة) في إيران في أوائل القرن الماضي متناغمة مع ما كان يجري في إسطمبول، قد كان مرتكزاً مصدرياً على الدستور البلجيكي المكتوب عام 1851. وفقهاء الإسلام المتقدمون علماً ورؤية لا يكفون عن تذكيرنا بأنّ أكثر أحكامنا الشرعية هي إمضائية.. أي إمضاء معدل أو غير معدل لشرع من قبلنا.

وإيران، ذات ثقافة مجتمعية إسلامية بنكهة شيعية قوية، والإسلام فيها والتشيّع والشرع ليست غاية في ذاتها، بل رافعة اجتماع وإرادة، تخطئ وتصيب، لأنّ معرفة الدين بشرية وخلافية وغير ملزمة، لأن الإلزام بمعرفة ما، بالدين أو غيره، هو تعطيل للمعرفة.. الملزم الوحيد في الحياة هو القانون. وقد يتغير بل هو متغير. ولا يجوز التذرّع بإلهية الشرع المدعاة لمنع محاسبة السلطة خاصة في حالة ارتكابها لإنقاص الحرية في إيران أو خارجها.

على أن الدولة الدينية لا يمكن أن تكون إلا مذهبية، لأن مرجعيتها مذهبية عقدية وفقهية، وهي مرجعية خلافية إلى أبعد الحدود؛ فهي إذن، مقام تفرقة أو مفارقة والدين مقام اجتماع. وليس مستبعداً بناء على ما حصل في التاريخ أن يكون الإغراء السياسي بالسلطة سبباً لتحويل المذهب الواحد إلى مذاهب متقاتلة.

من هنا تصبح خطابات الوحدة في الإسلام السياسي خادعة ولاغية، لأن التعصب المذهبي هو قوام الإسلام السياسي... ما يعني أن الدولة المذهبية حصراً، لن تكون إلا استبدادية أشرس من غيرها وأعمق فساداً، لأن الاستبداد والفساد يصبحان من مقدسات المذهبية، أي أن الرذائل تتحول إلى فضائل، وهذا المسلك لا يتفق مع فكرة الدولة أو دورها.

من دون صرف النظر عن الأحداث والوقائع، خاصة على هذا المفصل الشائك جداً والواعد (الربيعي)، يحسن أن ننجز معاً وعلى اختلاف مشاربنا وتجاربنا وحساسياتنا، مجموعة تفاهمات مفتوحة على الزيادة، مقدّمة لبناء دولة مدنية جامعة، لا تلغي نفسها والدين بإنتاجها المستحيل له، ولا يلغيها الدين ويلغي نفسه بإنتاجه المستحيل لها... أعني دولة الأفراد التي لا يمرّ الشأن السياسي أو التدبيري فيها بالطوائف، بل بأفرادها، ويمارس فيها رجال الدين حقهم السياسي كمواطنين كاملي المواطنة فقط... مع ضرورة حماية هذه الطوائف كمتّحدات اجتماعية وثقافية اختيارية. آخذين في اعتبارنا أن الدين أو المذهب لا يجري استحضاره كهوية فرعية فارقة وحاضنة للفرد أو الأفراد إلا بمقدار تراجع فكرة الدولة الجامعة. ألا يعني هذا الكلام أن التنوير الذي يؤول إلى دولة هو الحلّ المشروط بالحكمة والدقة وبالشجاعة والصبر... تماماً كما هو القول بأنّ الدولة لا يتمّ إنجازها واستمرار إنجازها إلا بما تتيحه من تنوير.. كأن هناك علاقة سببية متبادلة ومتعاقبة بين الدولة والتنوير الذي لا يستبعد عنفاً ما... ولكنه عنف من أجل اللاعنف، وربما كان هو عنف الضرورة أو الاضطرار الذي يمكن تفاديه أو تقليله أو حصره بمزيد من الحكمة والمعرفة.

ختاماً، إن الاختلاف كقانون كوني وسنَّة إلهية، ضروري جداً للحياة والحيوية والتعدّد الذي يكتمل بالوحدة، أي في الفضاء الرحب والجامع الضابط والمرن، والوحدة التي تتجلى في التعدُّد وتتيح حماية الخاص بالعام وإثراء العام بالخاص، هذا الاختلاف وهذا التعدد على نصاب الوحدة، لا يمكن الحفاظ عليه إلا بقناعة راسخة تقوم عليها دولة حاضنة، بأن الآخر شرط ضروري للذات، شرط معرفي وشرط وجودي، ولا يكفينا، بل يضرنا الاعتراف بالآخر على مضضٍ أو كأمر واقع، ولكي يكون مفيداً وحضارياً، فإنه لا بدّ أن يكون أطروحة تمكّننا من أن ننتج معاً، وبالشراكة مع الجميع هنا وهناك وهنالك، مشروعاً حضارياً، تتكافأ فيه مؤهلاتنا وذاكراتنا النقية وأحلامنا.

إن الأنسنة الآن ودائماً هي التي إذا استأثرت بعقولنا وقلوبنا، تمنحنا شرف التكامل من موقع الاختلاف وشرف تعزيز الروح في أنظمة علائقنا وحياتنا.


[1]- هذا نص المداخلة التي ألقاها العلامة هاني فحص في المؤتمر الافتتاحي لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 25 و26 أيار/ مايو 2013، مدينة المحمدية، المغرب.