الديمقراطية السويسرية


فئة :  قراءات في كتب

الديمقراطية السويسرية

الحلول الممكنة للصراعات داخل المجتمعات المتعددة الأديان والثقافات

قراءة في كتاب: "الديمقراطية السويسرية" لـ: فولف ليندر


Swiss Democracy

Possible Solutions to Conflict in Multicultural Societies

Wolf Linder[1] ; 2010

الديمقراطية السويسريّة

الحلول الممكنة للصراعات داخل المجتمعات متعددة الثقافات

فولف ليندر، ترجمة: هاني شلبي، منشورات الجملة، ط1، 2013


يتميّز كتاب "الديمقراطية السويسريّة" بقيمة علمية معتبرة داخل حقل العلوم السياسية، ودراسة التجارب المقارنة، كما يتّسم براهِنِيّة يمكن للقارئ العربي أن يستشعرها أثناء تصفّحه لفُصول الكتاب. فهذا الكتاب الذي اختار له مُؤلّفه العنوان الفرعي التالي: "الحلول الممكنة للصّراعات داخل المجتمعات متعددة الثقافات" يعطي لمحة عميقة عن تجربة تشبه في بداياتها، إلى حد كبير، ما يحدث في بعض الأقطار العربية من صراعات طائفية وقبلية. كما يتّسم الكتاب بنوع من الحيوية والمواكَبة نتيجة لحِرص صاحبه على تحيين معطياته وإعادة صياغة فقراته منذ سنة 1994، وهي السنة التي صدرت فيها الطبعة الأولى للكتاب، ثم تلتها طبعة ثانية، قبل أن تأتي الطبعة الثالثة سنة 2010، في محاولة من فولف ليندر لدمج المستجدات العلمية والإحصائيات الميدانية بهدف تيسير الكتاب لغير المتخصّصين في العلوم السياسية، وكذلك بُغية تضمينه أهم المستجدات التي عرفتها التجربة السويسريّة.

تتضمّن الطبعة الثالثة للكتاب، وهي الطبعة التي تمّ تعريبها سنة 2013، العديد من المعلومات والإحصائيات التي صاغها المؤلف بطريقة علمية دقيقة، وبمنهجية تُزاوج بين الوصف والتحليل والنقد. لهذا يأتي التأكيد على فرادة الكِتاب وقدرته على تقديم مادة علمية لكل الباحثين في نماذج للديمقراطية التوافقية، ويكفي أن يعلم القارئ العربي أنّ الترجمة العربية للكتاب تمّت بتمويل من وزارة الخارجية السويسرية، كما أنّ السلطات السويسرية تقوم بتوزيع الكتاب على الوفود الرسمية التي تزور البلد رغبة منها في إطلاع القراء من مختلف الثقافات على ما يحدث في سويسرا. وما كان لهذا الاحتفاء أن يتم لولا أهمية الكتاب وقدرته على الإحاطة بكل ما يروج في الاتحاد السويسري من ثقافةٍ ومؤسساتٍ سياسية وتفاعلاتٍ مجتمعية.

يقع الكتاب في 351 صفحة من الحجم الكبير، قسّمها المؤلف على خمسة فصول، تناول في أولها تاريخ نشأة الدولة السويسرية وما صاحبه من الالتواءات والتطوّرات؛ وتطرق في الفصل الثاني إلى مؤسسات النظام الفيدرالي مُسلّطاً عليها مقاربة عالِم السياسية المتشبع بالتحليل القانوني، أمّا الفصل الثالث فخصّصه المؤلف لما يتعلق بالديمقراطية المباشرة، حيث يفيض ليندر في بسط العديد من البيانات والوقائع والتعريفات التي تساعد المهتم على فهم ما يحصل في سويسرا، وجاء الفصل الرابع لكي يعطي صورة شاملة عن الديمقراطية التوافُقية وما تعود به من إيجابيات وسلبيات على الشعب السويسري، أمّا الفصل الأخير فقد رامَ من خلاله الكاتب إحداث نوعٍ من المقارنة بين التجربة السويسرية وبعض التجارب التي أثّرت فيها أو تأثّرت بها، لا سيّما التجربة الأمريكية.

لقد حاول ليندر طيلة فصول الكتاب أن يجيب عن السؤال التالي: كيف أمكن خلق مجتمع سياسي واحد من أربع مناطق لغوية مختلفة بما في داخلها من انقسام ديني بين البروتستانت والكاثوليك، وبدون تدمير للهويات الثقافية؟ إذ يَعتقد أنّ الحالة السويسرية مفيدة في التعرُّف على كيفية تحقيق الوحدة السياسية مع الحفاظ على التنوع الثقافي. فقد كانت الكانتونات قادرة على خلق دولة إقليمية حديثة، بالرغم من اختلاف ثقافاتها ولغاتها ودياناتها، وبالرغم من أنّ معظمها قد تمتع لقرون طويلة بالاستقلالية السياسية، نقرأ للكاتب قوله: "إنّ الحالة السويسرية مفيدة في التعرف على كيفية تحقيق الوحدة السياسية مع الحفاظ على التنوع الثقافي. فقد كانت الكانتونات قادرة على خلق دولة إقليمية حديثة. بالرغم من اختلاف ثقافاتها ولغاتها ودياناتها، وبالرغم من أنّ معظمها قد تمتع لقرون طويلة بالاستقلالية السياسية". (ص 277)

ومن بين الإجابات التي وقف عليها فولف ليندر، نجد تأكيده على أنّ سويسرا مَدِينَة في تطويرها لمؤسّساتِها السياسية التي استطاعت أن تُوحّد شعباً مُتعدّد اللغات والأديان والثقافات. كما استطاع النظام الفيدرالي أن يُتيح للشعب السويسري بناء الدولة من الأسفل إلى الأعلى وأن يحقق التوافق بين مؤيدي ومعارضي قيام حكومة مركزية. كما أنّ التنوع الثقافي في الاتحاد السويسري جنّب البلاد أن تكون محطة للصراع الدولي، وهذا راجع إلى رُزمة من العوامل من قبيل العامل الثقافي، ففي "السياق السويسري نجد جذور هذا المبدأ في كلٍّ من الفلسفة الاجتماعية الكاثوليكية والفكر الليبرالي اللذين أكسبا مبدأ التبعية اللامركزية معنى إضافياً، وهو أنه يجب على الدولة أن تتحمل فقط المسؤوليات التي لا يمكن للمنظمات الاجتماعية القيام بها" (ص 106)، فقبل أن يقرر التعديل الدستوري لسنة 2000 مبدأ اللامركزية، كان الشعب السويسري قد تدرّب على اللامركزية وأدمجها ضمن ثقافته السياسية، وعلى عكس شعوب العديد من الدول المجاورة فإنّ استطلاعات الرأي تؤكد أنّ الشعب السويسري ميّال للدولة غير التدخّلية، حيث يميل الشعب السويسري إلى العمل التطوّعي، ويحاول أن يبقي لنفسه بعضاً من الاسستقلالية. ومن ملامح اللامركزية السويسرية نجد أنّه للحصول على الجنسية السويسرية يُشترَط أن توافق البلديات أولاً على ذلك. فمن يرغب أن يصبح سويسرياً عليه أن يُتقن إحدى لغات الدولة، وأن يكون على دراية بالمجتمع السويسري ومؤسساته، وأن يكون مُندمِجاً داخل المجتمع.

في الكتاب العديد من الانتقادات التي يوجّهها المؤلف للتجربة السويسرية، بالرغم من أنّه يقرّ في النهاية بأنّ المواطنين يَعُونَ جيّداً بعض نواقص نظامهم السياسي، ومع ذلك هم مستعدون لدفع ضريبة نظامهم من أجل الحفاظ على هوياتهم، كما يبدو أنّ لديهم رأياً يفيد بأنّ الفيدرالية تستطيع توفير مزايا عديدة من قبيل بيروقراطية أقل واندماج سياسي أفضل، وتطابق كبير بين هويّة المواطنين مع السلطات، وقدر وافر من التجاوب والتفاعل بين الساسة ورغبات المواطنين. فالسويسريون ـ حسب ليندرـ يفضّلون الحكم اللامركزي بشدة، فهو يجعل الدولة أقرب إلى الناس، يقول صاحب الكتاب: "يبدو أنّ السويسريين على استعداد لأداء ضريبة نظامهم من أجل الحفاظ على هوياتهم، كما يبدو أنّ لديهم رأياً يفيد بأنّ الفيدرالية تستطيع توفير مزايا عديدة من قبيل بيروقراطية أقل واندماج سياسي أفضل، وتطابق كبير بين هويّة المواطنين مع السلطات، وقدر وافر من التجاوب والتفاعل بين الساسة ورغبات المواطنين". (ص 154)

يرى فولف ليندر أنّ السويسريين قد استهدفوا الحرية من أجل تسوية الخلافات، وهذا ما تظهره روح العيش المشترك لدى هذا الشعب، إذ أنّ الانفصالات الداخلية بين الكانتونات تبقى محدودة، أمّا مطالب الانفصال عن الدولة المركزية فهي من اللامفكر فيه لدى المواطن السويسري، فقد لعب الحكم المحلي دوراً مهماً في إذكاء مطلب الوحدة والتضامن. حيث يُنظَر إلى الفيدرالية على أنّها اتحاد دائم، وذلك على النقيض من النظام الكونفيدرالي الذي يفتقر إلى مثل هذا الالتزام، ووفق هذا التصور فإنّ التفكير في ترتيبات مسألة الانفصال أمر لا داعي له. فالنظام الفيدرالي، من المنظور التاريخي، ناجح عندما يتمكن من التحول من كونه ترتيباً دستورياً إلى كونه التزاماً محسوساً ومقبولاً من طرف الجميع.

ولقد أسهمت الثقافة السياسية للديمقراطية المباشرة في تطوير التعلّم الجماعي الذي يحتاج دائماً إلى تصحيح الأخطاء، ومن هذا المنظور فالتطور من أسفل إلى أعلى ومن المستوى المحلي إلى الوطني هو أكثر ملاءمة من التطور من أعلى إلى أسفل سواء بالنسبة للديمقراطية النيّابية أو المباشرة (ص 269). وإن كانت هناك ضريبة تدفعها الديمقراطية السويسرية فهي تتمثّل في أنّ المفهوم الأغلبي للديمقراطية يقع تحت وطأة النظام الفيدرالي الذي لا يميّز بين الأغلبية الديمقراطية والأغلبية الفيدرالية، لكن السويسريين يفضلون الحكم اللامركزي بشدة، فهو يجعل الدولة أقرب إلى الناس، وللحكم اللامركزي اليوم معانٍ حديثة في دولة الرفاهة المعاصرة، فالحكم اللامركزي، فيما يرى مؤلِّف الديمقراطية السويسرية، يعتبر الأصلح للحفاظ على قيم الشعوب.

وتكمُن رصانة الكتاب الذي بين أيدينا أيضاً، في أنّ صاحبَه يدرك جيداً أنّ البحث في التجربة السويسرية ليس من قبِيل البحث عن شيء يمكن استيراده، وإنّما هو بحثٌ يساعد على الاستفادة من التجارب المقارنة من أجل تجنّب سلبياتها واستدماج بعض آلياتها. إذ في نظره لا يمكن فرض الديمقراطية وإنّما ينبغي أن تنمو وتزدهر من خلال الإرادة السياسية للشعب، وظروفه الاجتماعية والاقتصادية، وتراثه الثقافي الخاص.

فالدرس الذي تقدمه الحالة السويسرية، حسب فولف لندر، ليس هو العمل كما يعمل السويسريون لكي يتمّ الارتقاء بالبلد، وإنّما ينبغي دراسة التجربة من أجل الاستفادة من إيجابياتها والحُؤول دون الوقوع في تعثراتها. فبعكس الطريقة التي تمّ سلكها أثناء بناء الدولة في البلدان النامية إبان جلاء الاستعمار الذي كان حريصاً على تكريس بناء الدولة من فوق، فإنّ الدولة الفيدرالية تسعى إلى بناء الدولة من تحت. وقد أصبحت فكرة التحول إلى اللامركزية أو حتى إلى النظم الفيدرالية أسياسية لدى وكالات التعاون الدولي من أجل التنمية في بحثها عن سبل لتحسين بنى الدولة في البلدان النامية في المدى الطويل. (ص 281)

لا يخلو الكتاب من دروس وعبر يمكن الاستفادة منها في واقعنا العربي، ففي هذا السياق يسجّل مؤلف "الديمقراطية السويسرية" أنّ النظام الفيدرالي لم يكن وحده حلاً لمشكلة التعددية الثقافية، فلتحقيق حماية الأقليات لا بُدّ أن يكون النظام الفيدرالي جزءاً لا يتجزّأ من الوسائل المؤسسية، من قبيل المفهوم اللاديني واللاعرقي للدولة المركزية، والتقليد القوي المؤثر لحقوق الإنسان، والعناصر المؤسسية لتقاسم السلطة السياسية (ص 284). فنظراً لبعض سلبيات الديمقراطية التمثلية التي تقوم على الأغلبية والأقلية، فإنّ الفكر السياسي لجأ إلى العديد من الإجراءات التصحيحية، من قبيل التنصيص على حقوق الأقليات، والحكم الذاتي، والفيدرالية، وتقاسم السلطة (التوافق). يرى "لايبرهرت" في هذا السياق أنّ "الديمقراطية التوافقية هي الأكثر ملاءمة للمجتمعات المجزأة ثقافياً من مؤسسات حكم الأغلبية.(ص 301) دون أن يعني ذلك، أنّ مسألة التأسيس للحكم الفيدرالي تتّسم بنوع من اليسر، فعلى عكس البناء المؤسساتي الذي لا يحتاج إلى وقت طويل، يرى فولف ليندر أنّ عملية التحول الديمقراطي في حاجة إلى مدد زمنية طويلة من أجل تغيير القيم الاجتماعية، وتنمية قيم مشتركة بين الثقافات المختلفة والتعددية الثقافية، خاصة في ظلّ ضغط العولمة، بغية التحديث المتسارع واتجاه المجتمع الدولي في عصر العولمة نحو التدخل في حالة الصراع. (ص 305)

بالإمكان القول، إنّ كتاب الديمقراطية السويسرية يُعدّ من أهم الأعمال الرّصينة التي ابتغت بحث النظام السويسري بكل تفاصيله وتعيُّناتِه تاريخاً وحاضراً. وقد لا يُجانَبُ الصواب في شيء، إذا ما قيلَ إنّ أي باحث يروم الاشتغال على الديمقراطية التوافقية أو التشارُكية لا يمكنه أن يغفل كتاب فولف ليندر، وذلك ليس من باب المحاكاة والاستيراد. فالمؤلّف نفسه يرى أنّ الحديث عن النموذج السويسري لا يعني كونه نظاماً مثالياً، وإنّما يعني به تصميماً مؤسِّساً لديمقراطية "التوافق" التي تختلف تماماً عن النماذج السائدة (الديمقراطية الأغلبية).


[1] ـ أستاذ الكرسي للعلوم السياسية بجامعة برن السويسرية.