عرض كتاب "عصر الثورة" لـ"إيريك هوبزباوم"


فئة :  قراءات في كتب

عرض كتاب "عصر الثورة" لـ"إيريك هوبزباوم"

عرض كتاب "عصر الثورة" لـ"إيريك هوبزباوم"

وُلد إيريك هوبزباوم في مدينة الإسكندرية المصرية سنة 1917، وتوفي في بريطانيا سنة 2012 عن عمر ناهز الخامسة والتسعين سنة، والمعروف عن هوبزباوم أنّه مؤرّخ وكاتب موسيقى "الجاز". صدرت له العديد من المؤلفات التاريخية، ومنها: "المتمرّدون البدائيون"، و"الكابتن سوينغ"، و"ثوار: مقالات معاصرة"، وتوّج هوبزباوم تأليفه بما يمكن وصفه بأنه أهم الأعمال التأريخية التي صدرت خلال القرن العشرين، والمقصود هنا ما أُطلق عليه فيما بعد بثلاثية التاريخ الحضاري الأوروبي، هذه الثلاثية التي تشكّلت من ثلاثة كتب هي على التوالي: "عصر رأس المال"، و"عصر الإمبراطورية"، و"عصر الثورة"، وبعد أن انضاف كتاب "عصر التّطرُّفات" إلى هذه الثلاثية أضحت رباعية. ونعتقد أنه لا يمكن أن تخلو مكتبة أي مهتم بالتاريخ والفلسفة السياسيين من بعض عناوين رباعية هوزباوم، إن لم نقل كلها.

نقترح أن نعرض من ضمن هذه الرباعية كتابًا له راهنيته وسياقاته في المنطقة العربية الإسلامية، وهو كتاب "عصر الثورة" الذي يُعدُّ من أهم الكتب التي عُرِف بها هذا المؤرّخ ذو التوجّه الماركسي، لكن ماركسيته مختلفة عن كثير من الماركسيين، وهذا اليهودي الذي يكره "إسرائيل"[1]، إذ استطاع هوبزباوم بأسلوبه السّردي المتميز أن يُسجِّل ضمن مؤلّفه تاريخاً مليئاً بالأحداث والمفاهيم والتصورات المرتبطة بفكرة "الثورة"، علماً أن المؤلّف لم يكتفِ بالسّرد الوصفي للوقائع التاريخية وحسب، وإنما تدخّل في أكثر من موقع لتحديد بعض المفاهيم، ونحتبعض العبارات المتفرِّدة، وهو ما يؤشِّر على أننا أمام مفكٍّر اهتمّ بالفلسفة السياسية بقدر اهتمامه نفسه بتاريخ الوقائع والأحداث. والواقع أن هوبزباوم لا يكتب فقط من أجل معرفة التاريخ، وإنما كما يقول عن نفسه - من خلال المقدمة التي صدّر بها الترجمة العربية لكتاب "عصر الثورة"[2]- للقارئ الذكي المتعلِّم الذي لا يسعى إلى إشباع فضوله لمعرفة الماضي فحسب، بل يريد أيضاً أن يَفهم كيف ولماذا أصبح العالم على ما هو عليه الآن، وإلام سيؤول" (ص19).

وعلى الرّغم من أن صاحب كتاب "عصر الثورة" لم يُضمِّن عمله هذا أحداث ما أصبح يعرف بـ"الربيع الثوري" الذي عاشته بعض البلدان ذات الأغلبية المسلمة، إلا أن القراءة المتأنّية للكتاب تجعل القارئ في جدل دائم حول إمكانية المقارنة بين التواريخ وبين حاضر البلدان العربية الإسلامية. كما أن هناك من الكتّاب والباحثين من استطاع أن يحصل على رأي هوبزباوم في هذه الأحداث، واستخلاص موقفه منها.

سنحاول بداية، أن نعرض لكتاب "عصر الثورة" بشكل وجيز، ثم نختم هذه المقالة برؤية هوبزباوم لواقع "الربيع الثوري" خلال الفترة التي أمهله القدر أن يعيشها؛ أي إلى حدود أكتوبر من سنة 2012.

يرى هوبزباوم أن الثورة الصناعية البريطانية في أواخر القرن الثامن عشر هي التي مهّدت الطريق للنمو الاقتصادي الرأسمالي، وللتّغلغُل العالمي، وللثورة السياسية الفرنسية الأمريكية التي طرحت نموذجاً مثالياً متقدّماً لمؤسسات المجتمع المدني البورجوازي (ص21)، حيث يركّز على التحولات العالمية إبّان الفترة الممتدّة بين سنتي 1789 و 1848، وهي التحوّلات التي يُرجعها هوبزباوم إلى ما يسمّيه "الثورة المزدوجة" المتمثّلة في ثورة فرنسا السياسية ومعاصِرتها البريطانية الصناعية، دون أن يقْصِر الكاتب اهتمامه على تأثيرات هذه التحولات على البلدان التي دارت على ترابها تلك الثورات، بل إن الكِتاب يتضمّن حديثاً مستفيضاً عن البلدان الإفريقية واللاتينية والآسيوية، فتجده مثلاً يفيض في وصف التفاعلات التي قامت بين المشرق الإسلامي والغرب الأوروبي، وتأثير الثورات الأوربية على العديد من البلدان العربية والإسلامية.

وعلى الرغم من أن الكتاب يعتبر من الكتب كبيرة الحجم (ما ينيف عن الـ 500 صفحة)، إلا أن قارئه لا يشعر بكثرة عدد الصفحات أو إطنابِ الكاتب، وذلك لأن أسلوبه يتميّز بنوع من الإثارة وعُمق التحليل. فغالباً ما يجنح هوبزباوم إلى قطع السرد التاريخي لكي يتدخّل من أجل التفسير والتأويل، واستباق ما يمكن أن يطرحه القارئ الناقد من تساؤلات. وبهذا يشعر القارئ، كأنه في جِدالٍ مع الكاتب وفي حوار غير مملّ أو متحيّزٍ. فبعد تصدير الكتاب، والمقدمة الشاملة التي بسط خلالها هوزباوم نظريته في الموضوع وإشكالية البحث ومنهجه، قام بشَطر عمله إلى قسمين أساسيّين؛ تطرق في الأول إلى التطورات المحورية التي شهدتها الفترة التي يشملها البحث، بينما رام في القسم الثاني تحديد الخطوط العريضة لطبيعة المجتمع الذي أنتجته الثورة المزدوجة، مع العلم أن هذا التقسيم هو ما فرضته الضرورات المنهجية فقط، لأن هناك العديد من خطوط التماسّ بين القسمين كما يقول الكاتب نفسه.

يعتقد هوزباوم أن الثورة المزدوجة كانت أهم تغيير حصل في التاريخ، فقد نقلت هذه الثورة العالم بأسره من حال إلى حال، وما زالت تفعل ذلك" (ص 36). ولهذا يستحضر المؤرّخ سياق ما قبل الثورات، حيث ضيق العالم قياساً على معرفة الناس بالجغرافيا المحيطة، وقِلّة عدد السكان، وريفية العالم حيث إن الحواضر كانت محدودة جداً، ونقص المواصلات وسبل التواصل، والأوضاع الاقتصادية والزراعية التي يتحكّم فيها النبلاء والإقطاع، وبداية ملامح التطور التجاري والصناعي، وسيطرة الملكيات المطلقة على أغلب الدول الأوروبية، وفي هذه الظروف سيطرت على الفكر "المتنوّر" نزعة فردية علمانية عقلانية تقدُّمية تهدف إلى تحطيم الأغلال التي كبّلت الحرية الفردية، وإلى التحرّر من تقاليد الجهل التي سادت القرون الوسطى وظلت تُلقي بظلالها على العالم، ومن شعوذة الكنائس". (ص 67)

فالثورة الفرنسية، وبَعدها الثورة الصناعية البريطانية سنة 1848، هما اللّتان ساهمتا في إلغاء الإقطاع الزراعي في جميع أنحاء أوربا الغربية والوسطى (ص71). الواضح إذن، أن هوبزباوم يُركِّز على التأثير القوي الذي أحدثته المُبتكرات الصناعية على انتعاشة الأفكار الآملة في المستقبل الأفضل، كما يُقِرّ المؤلِّف بأن اسم الثورة الصناعية بحد ذاته يعكس آثارها البطيئة في أوربا، "لقد وُجدت الثورة في بريطانيا قبل أن يولد اسمها. ولم يُخترع هذا الاسم إلاّ في العشرينيات من القرن التاسع عشر، ربما تأثّراً بما كان يحدث في الثورة السياسية الفرنسية". (ص 79)

وبهذا، يحاول هوبزباوم التقرير بأن الثورة الصناعية مدينة للمجهودات البسيطة للحرفيين والمصانع الصغيرة، ودَور العلم ومحاربة الأمية في تحقيق التقدّم. كما يتميّز هذا المؤرخ بقُدرة نقدية لم تمنعه من نقد اقتصاد البلد الذي يعيش فيه، فهو يرى بأن "الصناعة البريطانية بنت احتكارها على أساس الحرب، وعلى ثورات الشعوب التي استعمرتها" (ص91). ويعترف صاحب "عصر الثورة" بأنه إذا كان "علم الاقتصاد في القرن التاسع عشر قد تَشكّل على نحو أساسي تحت تأثير الثورة الصناعية، فإن السياسة والأيديولوجيا في ذلك القرن تشكّلا بتأثير من الفرنسيين"(126). لقد قدمت الثورة الفرنسية للعالم أهم المفردات الخاصة بالسياسة الليبرالية والحرية والديمقرطية الراديكالية، بحسب هوبزباوم، كما قدمت فرنسا القانون الدستوري لأكثر الدول، واخترقت مبادئ الثورة الحضارات القديمة التي كانت تأبى الأفكار الأوروبية.

الواضح، أن المؤلف يَكُنّ احتراماً خاصاً للثورة الفرنسية، وقد تجلى ذلك في المقارنات الكثيرة التي يقوم بها إزاء باقي الثورات؛ فهو يصف الثورة الفرنسية بأنها الوحيدة التي حَملت "رسالة رسولية"، وهي التي هدفت إلى تثوير العالم، بعكس الثورة الأمريكية التي ظلّت حدثاً مصيرِياً في نطاق التاريخ الأمريكي، ولم تخلف وراءها غير آثار سلبية قليلة في الخارج". لقد كانت الثورة الفرنسية هي "الحركة العظيمة الأولى لأفكار المسيحية التي تركت أثراً حقيقياً في عالم الإسلام"، وتجلى هذا التأثير بشكل أساسيّ في الكثير من المصطلحات المستعملة في العالم الإسلامي". ففي أواسط القرن التاسع عشر أصبحت الكلمة التركية (فطن/ وطن/Vatan)، المستعملة حتى ذلك الحين لتصف مكان ولادة المرء أو إقامته، تستخدم تحت تأثير الثورة الفرنسية للدلالة على معنى آخر هو الوطن/المواطن؛ أما مصطلح الحرية، الذي كان قبل سنة 1800 يستخدم باعتباره تعبيراً قانونياً يقابله الرِّق والعبودية، فقد غدا له مضمون سياسي". (ص129)

وعلى عكس ما تروّجه بعض الكتابات العربية من أن أحد شروط الثورات أن تتوفر على قيادات سياسية وأفكار تؤطّرها، فإن المؤرخ هوبزباوم يؤكد على أن الثورة الفرنسية "لم تحدث على أيدي حزب أو حركة قائمة بالمعنى الحديث للكلمة، ولم يتزعّمها رجال يحاولون تنفيذ برنامج منهجي منَظم، بل إنها لم تطرح "قيادات" من النوع الذي عودتنا عليه ثورات القرن العشرين" (ص135). وعلى الرغم من اعتراف هوبزباوم بأن الثورة الفرنسية كانت ستحدث من غير آراء الفلاسفة، إلا أنه مع ذلك يحمل الفلاسفة مسؤولية الثورة، وذلك "لأنهم ربما سرّعوا في الانتقال من مرحلة تحطيم النظام القديم إلى استبداله بسرعة بنظام جديد". (ص135)

ومن اللافت للانتباه، ذلك التحقيب المتميّز الذي يؤرّخ به هوزباوم للثورة الفرنسية، إذ يُبين مراحلها المتعددة، والخلفيات السياسية والاجتماعية والفلسفية والاقتصادية، حتى المسمّيات التي ترُوج في عالمنا المعاصر تكاد تكون مفارِقة لما أريد منها إبان الموجات الثورية في أوروبا وفي فرنسا بشكل خاص، فتعبير من قبيل "الثورة المضادة" لم يكن يحمل المعنى السلبي الذي يأخذه اليوم، بل إن فكرة الثورة المضادة كانت دعوة يسارية ضد الفكر المحافظ، حيث اعتُبِرَت الثورة المضادة أمل الشعب من أجل تحقيق أهداف الثورة الأولى التي حاول المحافظون السيطرة عليها. ومن الأمور اللافتة في ما يطرح هوبزباوم ذو الخلفية الاقتصادية أن بعض الفئات الاجتماعية كانت تناضل ضد مصالحهاوتجاوزاً لطبقتها، وهذا حال البرجوازية اليعقوبية "إن جانباً من الطبقة الوسطى الليبرالية كان مستعداً للإبقاء على روحه الثورية إلى أن يبلغ، بل يتجاوز حدود الثورة المعادية للبورجوازية، وهؤلاء هم "اليعاقبة" الذين أصبح اسمهم مرادفاً للثورة الراديكالية الجذرية في كل مكان" (ص 141)، دون أن يمنع ذلك صاحب "عصر الثورة" من التركيز على سنوات ما يسميه "مرحلة الإرهاب" التي قتل فيها آلاف الثوار، واستبدَّ فيها الخوف بالناس، وانتشر العنف والمحاكم الثورية، فقد كان ذلك يعتبر بالنسبة للطبقة الوسطى الصلبة الأسلوب الوحيد للحفاظ على البلاد. إلى أن انتهى الوضع بإعدام قائد هؤلاء بالطريقة التي كان يَعْدم بها من يعارضه.

وبخلاف الاعتقاد السائد لدى قطاعات واسعة من الشعوب المعاصرة أنّالثورة الفرنسية كانت موجة واحدة استطاع من خلالها الشعب الفرنسي تحقيق أهدافه، فإن المؤرّخين المتميزين، ومنهم هوبزباوم، يمنحون القارئ تاريخاً آخر للثورة في فرنسا، وهو تاريخ يبين أن الثورة الفرنسية دامت لأكثر من عشرة قرون على الأقل، فبعد المرحلة الثورية الأولى (1789- 1895) التي انتهت بإعدام الملك ومحاولة بناء نظام جديد، ستدخل الثورة عدة منعطفات تجلّت بحكومة الإدارة (1795- 1799)، فالقنصلية (1799-1804)، فالإمبراطورية (1804- 1814)؛ فملكية البوربون المستعادة (1815-1830)، فالملكية الدستورية (1830ـ 1848)، فالجمهورية (1848- 1851)، فالإمبراطورية (1852-1870). ويصفُ هوبزباوم، بحسّ متفرّد، أحداث كل مرحلة من هذه المراحل بشكل يمتزج فيه الوصف السّردي بالتحليل الاقتصادي والاجتماعي، دون أن يفوته التركيز على الأبعاد النفسية التي تحكّمت في شخوص المراحل الثورية (روبسبير، نابوليون....).

كما امتاز كِتاب "عصر الثورة" بغزارة المعلومات والتفاصيل التي صاغها المؤلِّف بأسلوب غير مملٍّ، حيث لا يذكر المعلومة إلا عندما يضعها في سياق من الفلسفة والسياسة، ولا يُورد رقماً إلا إذا استدعاه التأسيس البنائي والحاجة إلى التوضيح. فنجده مثلاً في الفصلين الرابع والخامس المخصّصين على التوالي للحرب والسلام، يستدعي العديد من البيانات والمعطيات المتعلّقة بتينك القضيتين: أسباب الحرب، وتأثيرها على الدولة المهاجِمة كما على الدولة المهاجَمة، ودرجة تقبّل الحرب، وأعداد القتلى قياساً إلى عدد السكان، والتحالفات، ومعاهدات السلم، والاختراقات، والثورات المجاورة...

والشيء نفسه نجده في الفصل السادس من الكتاب، الذي يركّز فيه صاحبه على الموجات الثورية التي عرفها العالم الغربي ما بين العامين 1815 و1848، حيث كانت الموجة الأولى بين سنتي 1820 و1824 في حوض البحر الأبيض المتوسط وأمريكا اللاتينية، بينما جاءت الموجة الثانية من المدّ الثوري في الفترة ما بين (1829-1834)، وتركت آثارها على جميع أرجاء أوروبا وشرقي روسيا وأمريكا الشمالية. أما الموجة الثالثة، وهي الأضخم في نظر هوبزباوم، فقد اندلعت في وقت واحد تقريباً مع حلول العام 1848، نتيجة للأزمات التي كانت تعيشها فرنسا وإيطاليا والدول الألمانية وسويسرا، وكان تأثيرها أقل على بعض الدول كإسبانيا، والدانمارك...فهذه الموجة هي التي يمكن أن توصف، من وجهة نظر المؤلِّف، بمفهوم الثورة العالمية، وقياساً إلى ما حدث إبان هذه المرحلة، يمكن القول بأن "ما حدث سنة 1789 لن يعدُو أن يكون مجرد انتفاضة شعب واحد بدا الآن وكأنه "ربيع الشعوب" في القارة الأوروبية برمّتها" (ص 224). لم يكن ذلك وليد المصادفة، وإنما تضمّن الكتاب العديد من الأسباب التي أسهمت في هذه العولمة الثورية، من هذه الأسباب ما هو سياسي، ومنها التراكم الذي أحدثته الثورة الفرنسية، ومنها ما يتعلق بالتنظيم المحكم والتخطيط الجيد، ومنها ما يتعلق بدور الفكر الاشتراكي والفلسفات السياسية المؤيدة للثورات...

ويُبرهن هوبزباوم بكثير من المعطيات والأرقام التي استخصلها من قراءاته المتعددة، على أن الثورارت الغربية لم ترتهن بشكل كبير لمسألة التعليم، فأرقام الأمية في الدول الغربية كانت مهولة، حيث إن بعض الدول لم تصل فيها نسبة التعليم واحداً في المئة من عدد السكان، كما أن أهم الدول الثورية (فرنسا مثلاً) كانت نسبة التعليم فيها أقل من 40 في المئة. غير أن هوبزباوم لا ينفي أن تكون الثورات قد نتجت عن وعيٍ سياسيٍ، وإن كان هذا الوعي غير مرتبط بنسبة التعليم، ويعطي بذلك مثالاً على الفكرة القومية التي كانت شديدة الارتباط بالطبقات الوسطى المتعلِّمة، حيث يستعرض المؤلف مختلف التجارب القومية في البلدان الأوروبية بما في ذلك البلدان الإسلامية (ألبانيا، الإمبراطورية العثمانية...).

ويُظهر المفكر جانباً مهماً من سِعة وشمولية اطّلاعه؛ فالرجل لا يترك منطقة من العالم إلا ويحيطها بمعرفته التفصيلية، فتجده يسرد الكثير من الوقائع التي يستدلّ بها، مثلاً، على أن مصر إبّان حكم محمد علي، هي التي "مهّدت لأول حركة قومية في العالم الإسلامي". (ص279)

ويخصص هوبزباوم القسم الثاني من مؤلّفه للنتائج التي خلّفتها الثورة على عدة مستويات، من قبيل تأثير الثورة على العقارات، وعلى استئجار الأرض، وعلى الزراعة (الفصل 8)، حيث استهدفت الثورة تحويل الأرض إلى سلعة، وإلغاء الإقطاع، والإصلاح الزراعي، وتغيير النمط الاقتصادي المرتبط بالأرض...وفي الفصل التاسع المخصص لتأثير الصناعة بالثورة، يستعرض هوبزباوم التطورات الصناعية بعد الثورة وانعكاسها على الأوضاع في الدول التي شهدت ثورات، وما صاحب ذلك من نمو سكاني مطّردوتحولات في المشهد العمراني، ونمو التجارة بسبب ما وفّرته لها الصناعة من بنية تحتية. ولم تكن نتائج الثورات محدودة في المجالات الزراعية والصناعية والاقتصادية، بل إن هوبزباوم يفيض في توصيف انعكاس الفعل الثوري على مستوى القيم الإنسانية، والفلسفة السياسية، ومسألة الأقليات (الفصل 11)، والآداب والفنون (الفصل 14)، والعلوم (الفصل 15)، فضلاً عن دور الثورة في تكريس مجموعة من الممارسات التي ليست بالضرورة إيجابية.

غير أن أهم النتائج المترتِّبة على الثورة، والتي حَرصَ هوبزباوم على استجلائها، هي ما يتعلّق بالمسائل الدينية والأيديولوجية والعلمانية، والتي خصّص لها الفصلين الثاني عشر والثالث عشر. ولعل القارئ العربي في أمسّ الحاجة العلمية والسياسية للاطلاع على تأثير الثورات على هويات الشعوب والبلدان الغربية، حيث يمكن القول بأن النقاش الدّائر اليوم حول قضِيتَي"الدولة الدينية" و "الدولة المدنية" يشبه إلى حد التطابق النقاش الذي ساد إبّان الثورات الغربية. فصاحب "عصر الثورة" موقِنٌ بأن ما يسميها "الأيديولوجيا العلمانية" قد انتصرت على نظيرتها الدينية بعد الثورة، لا سيَما عقب الثورتين الأمريكية والفرنسية، فـ "للمرة الأولى في التاريخ الأوروبي، غدت المسيحية لا ضرورة لها. وقد غلب الطابع المسيحي على اللغة، والرموز والملابس سنة 1789" (ص 410). وهناك الكثير من الأدلة والوقائع التي يستحضرها هوبزباوم في سياق الدّفاع عن مسعاه هذا، وهي كلها أدلة مستوحاة من تاريخ الفكر والممارسة الغربيين. ولأن من شأن أيّ تلخيص لأفكار المؤلف في هذا الإطار سيكون مخلّاً بالمضمون، فإننا ندعو القارئ المهتم للعودة إلى الكتاب للمزيد من الاستيضاح، فنحن في هذا العرض لم نهدف لتلخيص الكتاب، وإنما لإبراز بعض الأفكار التي يمكن أن تُسهم في تعرّف القارئ بالمؤلَّف والكتاب، وبالتالي فهذا العرض هو من باب التحفيز على القراءة وليس تحقيق الاكتفاء.

وكما ألمحنا خلال التقديم لهذا العرض، فإننا سنعود إلى المؤرّخ الفيلسوف هوبزباوم، من أجل استجلاء موقفه من "الربيع الثوري" الذي انطلقت شرارته في أواخر العام 2010، والذي ما زلت تفاعلاته مستمرِّة، ربما إلى أجل ليس بالقريب، فكيف يُرهص هوبزباوم، مستفيداً من التاريخ الغربي، للحِراك العربي الإسلامي؟

لم تسعف الأقدار مؤرّخنا لكي يعايش أحداث "الرّبيع الثوري"، لكنه استطاع أن يدلي بموقفه فيما يتعلق بالمرحلة التي استطاع معاينتها. ففي الحوارات التي أجراها معه الكاتب أمير طاهري (إريك هوبزباوم والربيع العربي، الشرق الأوسط، 7 أكتوبر 2012)، وهو من المهتمين بكتابات هوبزبوام، والذي التقاه أكثر من مرة في لندن، يقول صاحب كتاب "عصر التطرّفات": "حسناً، حتى الآن لم أكن أستطيع أن أزعم سوى أنني مصري المولد. أما الآن، فيمكنني أن أقول إن قلبي مصري"، وكان ذلك خِلال الأيّام الأولى للثورة المصرية، حيث كانت الأنظار متّجهة إلى ميدان التحرير. وفي إطار استشرافه لمستقبل هذه الثورة ونظيرتها، أرهَصَ هوبزباوم إلى أنّ "نجاح ثورة أو فشلها لا يمكن أن يقاس بنتائجها السياسية المباشرة وحدها، إن حقيقة أن المجتمعات العربية أظهرت أنها تمتلك إمكانية وقدرة العمل الثوري تعد نجاحاً في حد ذاتها"، ويمكن للثورات في المنطقة العربية الإسلامية أن تنتهي إلى "فشل سياسي مبدئي، لكنها بالتأكيد سوف تلهم الأفكار الإصلاحية على المدَييْن المتوسط والبعيد"، وذلك على غرار ما حدث مع الثورات الأوروبية لعام 1848 التي غيّرت الخريطة الجيوسياسية لأوروبا ومهدت الطريق لإجراء إصلاحات اجتماعية وسياسية كبرى خلال نصف القرن الذي تلاها. ورغم ماركسيته المُعلَنة إلا أن إيريك هوبزباوم في حواره مع أمير طاهري، يعترف بأن "النموذج اللينيني، الذي يفترض فيه أن تعمل البروليتاريا كطليعة للثورة، ليس له فائدة تذكر في فهم ثورات الربيع العربي التي كانت في معظمها ثورات عفوية تلقائية نتجت عن السخط الشعبي".

وجماع القول بالنسبة لهذا العرض، هو أن تركيزنا على كتاب "عصر الثورة" لهوبزباوم، ليس من باب المصادفة، وإنما لأنه بدا لنا في ظل الأحداث الرّاهنة، أنالعودة إلى التاريخ من أجل استشراف المستقبل (أمر ضروريّ)، لأننا على يقين بأن الحاضر لا يمكن أن يُفسِّر نفسه، ولكن ينبغي دائماً ربطه بالتاريخ، ليس فقط من أجل الفهم، ولكن أيضاً بُغية التدبُّر وأخذ العِبر، فلو علم الفاعِلون في الأوضاع العربية الإسلامية الحالية بأن الثورات العربية تأكل أبناءها كما حدث مع روبسبير ورفاقه، وأن اللّون الواحد والأيدلوجية المتفرّدة لا مكان لها في أنظمة حكم ما بعد الثورات، وأن الأفضل للشعوب الثائرة أن تعيش مراحل انتقالية طويلة، يتوافق فيها الجميع، وتُبنى فيها التكتلات متعدّدة المشارب، نقول لو علموا ذلك لكان بمقدورِهم تَجنُّب سِلبيات ما بعد الثورة، وتقليص المُدَد الزمنية لبِناء دُوّلٍ مستقرة تتأسّس على قِيم الحرّية والديمقراطية والمساواة، وتجنّب الإقصاء و التهميش والاحتكار والتفرّد.


[1]ـ يعبِّر هوبزباوم في حوار له مع صحيفة الأوبزرفر البريطانية في شتنبر 2012، عن رفضه الصّريح للصهونية، والسياسات التي يقوم عليها الكيان الإسرائيلي، يقول هوبزباوم من ضمن ما يقول: "أعتقد اعتقاداً جازماً أن على اليهود أن يقولوا إن بوسع المرء أن يكون يهودياً دون أن يكون مؤيّداً لإسرائيل"، أورده المؤرّخ العربي مصطفى الحمارنة ضمن تقديمه للترجمة العربية لكتاب عصر الثورة".

[2]ـ نعتمد هنا الترجمة العربية لكتاب"عصر الثورة، أوروبا (1789-1848)" الصادرة عن المنظمة العربية للترجمة، والتي تكفّل بنقلها إلى العربية د. فايز الصُيّاغ، وقدّم لها المؤرّخ د. مصطفى الحمارنة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 2007