فكرة التقريب بين المذاهب: من أفق الأمّة الإسلاميّة الواحدة إلى أفق دولة المواطنين


فئة :  مقالات

فكرة التقريب بين المذاهب:  من أفق الأمّة الإسلاميّة الواحدة إلى أفق دولة المواطنين

تقديم:

أدّت الثورات العربية سنة 2011 إلى ضُعف سلطة الدولة، وتآكل ما تبقى من سيادتها الوطنية وتفتيتها إلى كيانات عُصبوية أصغر منها، حيث أيقظت هذه الثورات أطر الانتماء القديمة من قبيلة ودين وطائفة وجهة، والدفع بها جميعها إلى الصراعات العرقية والمذهبية وتمزيق الهوية الوطنية الجامعة لصالح العصبيات الضيقة، بعد أن أسالت هذه الصراعات دماء بعض المسلمين الغاضبين أو المغضوب عليهم على يد بعض المسلمين المتعصّبين لهذا المذهب أو ذاك، فكثرت الحروب والفتن وانتشر معها التكفير والتطرّف المذهبي والطائفي، هذا ما نرى صداه اليوم في الأحداث الدائرة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان والبحرين، وما تشهده هذه الدول من تفجيرات واقتتال وحروب أكلت الأخضر واليابس نتيجة سياسات قائمة على أسس دينية مذهبية مقيتة، وأخرى طائفية شعارها "فرِّقْ تَسُدْ" و"اُنصرْ أخاك ظالما أو مظلوما".

وحريّ بالباحث اليوم، أن يتساءل عن أسباب الصراعات المذهبية والطائفية المُستفحلة في الكثير من الدول العربية، وهو تساؤل يفترض بالضّرورة البحث عن الأسباب التّي مازالت تجعل العلاقات بين المذاهب الإسلامية علاقات مُتوتّرة، وتدفعها في الكثير من الأحيان إلى أن تكون علاقات عنيفة ودموية، وهنا نُشير إلى أنّ الحلّ الدّيني فشل في مقابل الدولة المدنية، حيث إنّ الصراعات الطائفية والمذهبية في الغرب حُلّت بالتمييز بين العلاقات الدينية والعلاقات الوطنية داخل الدولة، وجعل العلاقات الوطنية هي الأساس.

وفي هذا الإطار، سنتناول فكرة التقريب بين المذاهب وتطوّرها في الفكر العربي الحديث والمعاصر والراهن.

ومع تجدّد الحديث عن الهُويّة المذهبية والطائفية في الواقع العربي المعاصر، يُصبح التساؤل واردًا حول ما إذا كان أصحاب فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية قد طرحوا حلولا واقعية، لتجنّب الحُروب الأهلية الطاحنة التّي تُمزّق اليوم أكثر من بلد عربي، ويُصبح البحث مشروعا عن تطوّر هذه الفكرة نفسها تحت تأثير حقائق الوقائع الاجتماعية والسياسية في البلدان العربية، وخاصّة بعد ثورات 2011

1 ـ التقريب بين المذاهب ومشروع الأمّة الإسلامية قبل الخلاف

قبل الحديث عن التقريب بين المذاهب الإسلامية يجدر بنا تعريف المذهب، وعملية تحديد المفاهيم هنا ضرورية لفهم كيفية تشكّل المصطلحات وتطوّرها وتداخلها وتمايزها عن غيرها من المصطلحات، إضافة إلى علاقتها بمفاهيم أخرى كالطائفة والانتماء والتعصّب والاختلاف، ثمّ إنّ تحديد واستعمال المفاهيم يُحيلنا على نوعية المقاربة التّي سنعتمدها في بحثنا.

والمذهب كما جاء في لسان العرب، هو "المُعتقد الذي يُذهب إليه".[1]

واصطلاحا هو الاتجاه الفكري في أيّ فنّ من فنون العلم، إلاّ أنه غلب استعماله على اتباع مذهب من مذاهب أئمّة السلف في العقيدة أو الفقه أو الأصول أو نحوها من الأبواب، وبذلك تُعتبر المذاهب جُملة من الأحكام التّي اشتملت عليها تلك المسائل والحاصلة عن طريق الاجتهاد.

ونستنتج من كُلّ ما سبق، أنّ التمذهب يعني علاقة تبعية لجماعة مذهبية من ضمن مذاهب عدّة في إطار دين بعينه، وممّا جاء في تعريفه: "إنّ التمذهب هو تبنّي عقيدة دينية، أو انحياز إلى مدرسة فقهية أو عقدية في تفسير دين مُعيّن، أو هو انتماء إلى نمط من أنماط التديّن في الديانة ذاتها يُنظّم ممارسات جماعة دينيّة في العبادات والمُعاملات؛ أي على مستوى الطقوس والعقائد في الحياة اليومية للمؤمن في حالة الفرق الدينية. وقد اتّخذت الأديان كافة بالضرورة شكل المذاهب، بعد مرور فترة على نشوئها"[2].

وكانت المذاهب في نشأتها الأولى تعبيرا عن إبداعيْن: عقليّ وعلميّ أنتجا تعدّد الآراء، وساهما في بروز تيّارات عقلية تعتمد الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية وتأويل النُصوص الدّينية على النحو الذّي أغنى الفكر الإسلامي عقيدة وشريعة، وأتاح للمسلمين أنّ يستفيدوا من بعضهم البعض في إطار من الحوار المتبادل على أساس الحُجّة والمنطق.

ولكن بفعل عوامل سياسية وثقافية وتاريخية عديدة، تحوّل هذا التعدّد المذهبي في وجه من وجوهه على الأقل من عامل للازدهار الحضاري والتقارب الثقافي إلى عامل للصراع والاقتتال بين المسلمين.

وقد اعتبر كثير من المسلمين في العصر الحديث، أنّ الفُرقة المذهبية هي واحدة من أهمّ العوامل التّي تقف وراء الضُعف والتخلّف الذّي أضحى عليه المسلمون. وهذا السياق التاريخي هو الذّي انبثقت منه فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية، والذّي يمثل مدخلا إلى قراءة السياسة التّي انتهجها الفكر التقريبي. لقد طرح التقريب بعد أن تراكمت على العالم الإسلامي غُيوم الفرقة والصراع الداخلي الذّي بلغ حدّ الشطط. ففكرة كهذه كانت أشبه بمغامرة من حيث إنّها تحتاج إلى وقت كافٍ لبناء صرح من الثقة أوّلا، في مواجهة حُصون منيعة يصعب اختراقها أو حتّى مُجرّد الاقتراب منها، حُصون بنتها المدارس الإسلامية المختلفة لتحمي ذاتها، وتُدافع عن وجودها بشكل يضمن شرعيّة استمراراها.

واجه المشروع التقريبي حصونا محكومة بالحساسيّة المفرطة للانتماء المذهبي، والتّي ترى في الآخر خطرا يُهدّد كيانها ويستأصل وجودها. لذلك، كان من الصعب الحديث عن التقريب من دون اختراق سياجها الداخلي؛ أي من داخل المذهب نفسه، فلا معنى للإصلاح ما لم يكن من الداخل.

ربما يستغرب البعض من أنّ أصوات التقريب بين المذاهب بدأت من داخل الفضاء الشيعي، وهي أصوات تُنادي بالوحدة والتسامح مع الآخر والقبول بالتحاور معه وفق أرضية مشتركة للوصول إلى نقاش بنّاء ومُثمر، يُساهم في دفع عجلة التقريب إلى الأمام والقضاء على المرض الذّي مزّق الأمة الإسلامية إلى مذاهب وطوائف وعشائر ... يقول الشيخ محمد تقي القُمّي: "والتنبّه للمرض أوّل خُطوة نحو العلاج ومن هنا بدأ المفكّرون يحاولون إنقاذ الأمّة من سباتها، ويكافحون للرجوع بها إلى الطور الطبيعي، وكثرت المحاولات، وظهر الوعي ثمّ جاءت فكرة التقريب، وهي تتّفق مع طبيعة التطوّر والعقل السليم وأسس دين الأخوّة والتوحيد"[3].

ومن أوائل أصوات التقريب في الفضاء السُنّي نذكر المُصلح جمال الدّين الأفغاني "السيّد جمال الدّين الأفغاني يستهدف إصلاحية شاملة في بلاد الشرق، ويرى أنّ سبب المحنة يرجع إلى أنّ أُولي الأمر في الأمم الإسلامية مُتّحدون على الخلاف ومُختلفون على الاتّحاد، مُطاعون للمستعمرين وللمستغلّين، جادّون في خدمتهم، ولذا فإنّه يدعو إلى قيام "الجامعة الإسلامية" لتنهض الدولة الإسلامية، وتلحق بركب الأمم المُتقدّمة"[4].

وقد تدعّم هذا المسعى التقريبي من خلال الزيارات التّي قام بها علماء الشيعة لمصر نذكر منها زيارات السّيد عبد الحسين شرف الدين الذّي بادر بالحوار مع شيخ الأزهر آنذاك سليم البشري (سنة 1910)، وتناقش معه في بعض القضايا الخلافية بين المذهبين السُنّي والشيعي، ثم زيارة السيّد محمد حسين آل كاشف الغطّاء (سنة 1911) الذي سافر إلى مصر وتحاور مع علماء الأزهر، وزيارة الشيخ عبد الكريم الزنجاني (سنة 1936) الذّي تناقش في زيارته مع شيخ الأزهر مصطفى المراغي حول تحسين العلاقات بين المسلمين، كما لا ننسى هنا زيارات الشيخ محمد جواد مُغنية ومُرتضى عسكري ومحمد واعظ زادة وهادي خسروشاهي وغيرهم من الذّين ساهموا في دفع عجلة التقريب إلى الأمام[5].

وبفضل هذه الزيارات انتقلت فكرة التقريب إلى مرحلة جديدة سنة 1947، حيث تمّت مأسستها في إطار مُؤسسة "دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة"، وهي مؤسّسة حدّدت لنفسها قانونا ومجلّة ناطقة باسمها، وهي "رسالة الإسلام" ونظاما يعمل وفقهَ دُعاة التقريب ضمن مشروع جماعي بعد أن كانت جُهودا فردية لعقود من الزمن.

وتحوّل معها المشروع التقريبي إلى مشروع نهضوي إصلاحي رافقته مُحاولة العبور من مفهوم الجماعة عند أهل السُنّة، والذّي رفعه جمال الدّين الأفغاني إلى مفهوم أوسع منه، وهو مفهوم الأمّة في أبعادها المختلفة عند الشيعة. ففي ظلّ سؤال النهضة حضر سؤال التقريب، كبديل لسؤال أو كمركّب جديد من سؤال النهضة، وكما سأل "شكيب أرسلان" سؤاله المشهور في الثلاثينيات من القرن العشرين: "لماذا تأخّر العرب وتقدّم غيرهم؟"، وجعل سؤاله عنوانا لكتاب عالج فيه هذا الإشكال، عاد دعاة التقريب وأعادوا إنتاج هذا السؤال، ولكن بصيغة جديدة في إطار مشروع الإصلاح الديني: "لماذا انقسم المُسلمون واتّحد غيرهم؟".

إنّ مطلب جماعة التقريب هو تحقيق الوحدة الإسلامية؛ أي وحدة المسلمين بالمعنى السياسي والحضاري والاجتماعي، وحدة تنطلق من أرضية مُشتركة بين المسلمين يُمكن الاشتغال عليها بتوسيع دائرة المشترك، وتضييق الخناق على الأمور المُختلف عليها.

والوحدة الإسلامية لا تعني الذوبان التام في هذا المذهب أو ذاك، كما لا تعني أن يتسنّن الشيعي أو يتشيّع السُنّي، لأنها تصبح بذلك مطلبا بالغ الغلوّ والتطرف، الوحدة المطلوبة هي أن يتّحد أهل الإسلام على الأصول الجامعة للمسلمين والقبول بالحوار مع الآخر المخالف في المذهب، وبالتالي فهي تمثّل وحدة الأمة، وحدة العقيدة، وحدة الأهداف.

لقد رأى المصلحون السُنّة والشيعة وغيرهم من أصحاب المذاهب خلال النصف الأول من القرن العشرين في التقريب حماية لدماء المسلمين، وحفاظا على وحدة الأمّة، وهي مُعرّضة للتلاشي والذوبان من جرّاء تعرّضها إلى هجمات استعمارية شرسة.

وذهب بعض العُلماء إلى حدّ اعتبار أنّ مطلب الوحدة لا يمكن أن يتحقّق دون العودة إلى الذات الإسلامية الأولى الصافية التّي لم تُلوثها آراء الفقهاء ولا اجتهادات العلماء الخاطئة، الذّات الإسلاميّة المُحمديّة قبل ظهور المذاهب والفرق، الذّات التّي دعا إليها أصحاب المشروع التقريبي، ومنهم المُفكّر علي شريعتي "والآن أقولها كلمة صريحة، إنّ منطلقنا هو الذّات الإسلامية نفسها، وينبغي أن نجعل شعارنا هو العودة إلى هذه الذّات نفسها، لأنّها الذات الوحيدة القريبة منّا من بين كلّ الذوات، وهي الثقافة الوحيدة التّي لا تزال حيّة حتّى الآن، وهي الروح والإيمان والحياة الوحيدة في المجتمع الآن، ذلك المجتمع الذي ينبغي أن يطرح الإسلام بعيدا عن صُورته المُكرّرة ومقاليده اللاّواعية العفوية، وهي أكبر عوامل الانحطاط"[6].

2 ـ مشروع التقريب ومفارقات الوضع العربي الرّاهن: استفحال الصراع المذهبي والطائفي، وتفكّك المجتمعات القطرية بدل توحّد الأمّة الإسلامية

إنّ الغرض الذي كان يرمي إليه دُعاة التقريب هو سيادة الإسلام على المذاهب، وليس العكس كما هو موجود في الواقع؛ أي صُنع عقيدة إسلامية قبل ظهور المذهبية، ولكن ما نيل المطالب بالتمني، إذ لم ينجح المسلمون في التحرّر من أسر الموروث التاريخي.

ومن العوامل التي ما فتئت تُغذّي العداء المذهبي بين المسلمين هو كون العالم العربي السُنّي بات يشعر اليوم بحساسية مفرطة تجاه النمو المتواصل للعالم الشيعي، والذي ما انفك يتزايد يوما بعد يوم في كافة المجالات.

وما يزال واقع المسلمين اليوم يدلّ بشكل قطعي أنّ المذهب أكبر من الإسلام ومقاصده، ولعلّنا لا نجانب الصواب، إن قلنا بأنّ الولاء للمذهب فاق الولاء للوطن. فإلى حدّ اللحظة لم يقدر المسلمون على جعل الإسلام الصحيح هو الإسلام الحاكم على المذاهب، إسلام يُشكّل الإطار العام والحاضن لجميع التيّارات والمدارس والمذاهب الإسلامية، والأمر المُثير للغرابة والدّهشة هو تمدّد وتطوّر العصبيات المذهبية بشكل متسارع وجنوني تزامنا مع تطور المجتمعات والدول الحديثة، وظهور حقوق الإنسان والدساتير والقوانين المنظمة للعلاقات بين الأفراد والمؤسّسات.

يقول الباحث المغربي إدريس هاني: "ليست المشكلة أنّنا لا زلنا أسرى انقساماتنا التاريخية فحسب، بل المُشكلة أنّنا لم نستطع أّنّ نتقدم في ثقافة التسامح أو الحوار. فبقينا على حالنا من الفُرقة والتشرذم وبقيت نار العصبيّة مُسيطرة على الضمير الإسلامي كلّه حتّى داخل المذهب الواحد، بل في عُمق الرأي الواحد كما هو الحال في المدارس الفقهية السُنّية الأربعة، أو ما نجده في المدرسة الشيعيّة من صراع وتنافر بين الجعفرية والإسماعيلية والزيدية وغيرها من المذاهب"[7].

صفوة القول، إنّ الخطاب التقريبي لم يُحقّق تواصلا فعليا بين المسلمين وكشف عن أزمة حوار وثقة ظلّت مكبّلة لدُعاة التقريب الذّين مازالت تسيطر عليهم فكرة وجود فرقة ناجية تحتكر الحقيقة والخلاص دون غيرها من الفرق الإسلامية، ويعتقدون أنّ الرأي واحد وعلى الآخرين الاقتناع بذلك، ووجد الخطاب التقريبي نفسه في أزمة نسقية خطيرة، فهو من جهة يدعو إلى الحوار والاعتراف بالآخر، والتحرّر من كلّ وصاية على العقيدة وصاحبها، ولكنّه من جهة ثانية يحتفظ ببذور الفُرقة والخلاف، ولا غرابة في أن يدعو الخطاب إلى التعدّد والتنوّع والاختلاف، وينزع في الآن ذاته إلى التنميط وتوحيد التمثّلات، ورفض كل تجديد يمسّ التقليد كما أرساه أربابه منذ قرون خلت"[8].

3 ـ تطوّر فكرة التقريب واستيعاب مفهوم الدولة الوطنيّة في العصر الراهن

هنا لا بدّ أن نسوق مُلاحظة مفادها أنّ التقريب بين المذاهب في الفكر الإسلامي الحديث جاء خدمة للجماعة الإسلامية ككلّ، حيث لم يتعرّض دُعاته إلى جدلية العلاقة القائمة بين المذهب والدولة. لذلك، تغلّب الولاء للمذهب على الولاء للدولة وهذا ما جعل أصحاب التقريب في الفكر الإسلامي المعاصر في حرج من أمرهم، فكيف سيتم التقريب بين الدول الإسلامية ونار الفُرقة تسود بين المواطنين في البلد الواحد؟ لذلك اهتم التقريبيّون بمُستوى تعايش المواطنين في الدّولة الواحدة، وجعلوا الولاء لدولهم الأمّ فوق كلّ ولاء آخر من خلال نشر ثقافة التسامح والحوار، نلمس تطوّر ثقافة التقريب من خلال أعمال زكي ميلاد ومحمد محفوظ، أو مع روّاد فقه الإصلاح الشّيعي مثل الشيخ حيدر حبّ الله، والشيخ علي الأمين الذّي رأى أنّ روابط المذاهب لا يجوز أن تكون على حساب الأوطان. "فعلى مستوى الولاء للوطن والقوم، لا فرق بين شيعي وسُنّي، ولا بين مُسلم ومسيحي، والرّوابط الدينيّة بين هذه الشعوب لا يجوز أن تكون على حساب أوطانها وشعوبها ودولها؛ فشيعة العراق علاقتهم الدّينية بشيعة إيران تعني مزيدا من التعاون والتواد، ولا تعني انخراطا في المشروع السياسي لشيعة إيران والعكس هو الصحيح.

وهكذا شيعة الخليج وشيعة لبنان وغيرهم، فلكلّ منهم مشروعه المرتبط بشعبه ووطنه. ومن هنا يجب التفرقة بين الشّيعة والتشيّع؛ فالشيعة هم أبناء شعوبهم وأوطانهم، تفصل بينهم الحُدود والقوميّات المُتعدّدة والمشاريع والأنظمة السياسية المختلفة. وأمّا التشيّع، فهو انتماء فكري عقائدي واختيار لنهج أئمّة أهل البيت في الدّين والحياة، لا يتنافى مع انتماء المرء لوطنه ولزوم الوفاء له"[9]، فلا يُنظر للوطن على أنّه كمّ من المذاهب والطوائف، بل هو وطن واحد لشعب واحد يحكمُه نظام سياسي يساوي بين أفراد الشعب في الحقوق والواجبات، ويسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية لمختلف الفئات، ولا يجب أنّ يكون الحاكم من المذهب الأكثر عددا، بل يجب أن يكون من الشعب، حيث إنّه يستمدُّ شرعيته من القوانين المُنظّمة للأفراد والمجتمع لا من خلال انتمائه الدّيني أو المذهبي، لذلك فإنّ أصحاب المشروع التقريبي في العصر الراهن رفضوا منطق الأكثرية العدديّة أو منطق الأقلية، لأنهما يكرّسان الانفصال والانقسام داخل نسيج الدولة.

لذلك، فإنّ فكرة التقريب بين المذاهب في الفكر الإسلامي الراهن لم تعدّ مدفوعة بهدف العودة إلى واقع الأمّة الدينية المُوحّدة (الأمّة الإسلامية)، بل أصبحت مدفوعة بهاجس الحرص على تجنّب الصراعات في البلد الواحد بما ينجرّ عنها من إلغاء الحواجز المذهبية التّي تحكّمت في المسلم طيلة عقود من الزمن، وهي دعوة صريحة للتسامح والسلم الاجتماعي من أجل البناء والعيش المُشترك داخل دولة موحّدة تتّسع للجميع.

لكنّ الإشكال الذّي يرافق المشروع التقريبي في الفكر الإسلامي الراهن يتعلّق بوجود جماعات سياسيّة تغيب عنها رُوح المسؤوليّة السياسية، عندما تُمسك بالسُلطة وتجعل المذهب، عمليّا، إيديولوجيا سياسية للدّولة.

ويزداد الوضع خطورة حينما توظّف هذه الأنظمة الورقة المذهبية لمُمارسة القمع على المُختلفين، فيخرج الخلاف من بُعده الدّيني إلى السياسي، ويُصبح الخارج عن المذهب أو الإسلام هو بالضّرورة خارجا عن الدّولة، ويغدُو معه التقريب رهين الإرادة السياسية التّي تُوظّفه خدمة لمصالحها.

يصطدم اليوم المشروع التقريبي بالسّياسات، حيث إنّ الدُول الإسلامية التّي من المفروض أن يتكرّس فيها مشروع التقريب (مثل العراق ولبنان وسوريا واليمن) تعيش توترا سياسيا وطائفيا، فاحتكرت كلّ محاولة للإصلاح، إضافة إلى تبعيتها للغرب، وكلنا نعلم أنّ الغرب من مصالحه بقاء الفُرقة سائدة بالدول العربية الإسلامية بما لا يُهدّد مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو مشروع تقوم أسُسه على تفتيت المنطقة وتفكيك روابطها الدّينية والقومية، فتُصبح الدول الإسلامية منعزلة عن بعضها وتُعتبر العراق أنموذجا حقيقيا لحضور هذه السياسات التّي تريد أن تبلغ بالصراعات المذهبية الداخلية إلى مُنتهاها، وأصبحت معها العراق مُقسّمة إلى طوائف ومذاهب وعشائر وصحوات، طوائف تدعم المشروع الصوري الديمقراطي الذّي أتى به الاحتلال الأمريكي وكرّسه بقوّة الدبّابات والمدافع، وأخرى تُدين بالولاء والتبعية لإيران التّي نصّبت نفسها الحامي الوحيد للشيعة المضطهدة في المنطقة حسب زعمها، فسقطت العراق في براثن الطائفية التّي تسعى لضرب العمل الدولتي وإلغاء المواطنة.

الخاتمة:

مٌشكلة الدولة في العالم العربي أنّها لم تستطع تجاوز الأشكال والبُنى التقليدية القائمة، بل ولم تستطع أن تجد حلاّ للمعادلة الصعبة بين إدارة الروابط ما قبل السياسية نحو بناء كيانيّ سياسيّ موحّد وتعزيز بناء الدولة المدنية الحديثة، فبقيت الدولة حبيسة بين معضلة المفهوم وصعوبة التطبيق، واتّسعت معها الفجوة التي تفصل بين النقاشات النظرية والتطبيق العملي لكيفيّة المُمارسة السياسية الفعليّة على أرض الواقع وكيفيّة التعامل مع الروابط القديمة، وكيفيّة إدارة الاختلافات، سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة.

وسيظّل النقاش حول الدولة وطبيعتها وشكلها ومُشكلاتها إحدى القضايا الكبرى التّي تشغلنا على اختلاف تصوراتنا وتوجّهاتنا، لأنّ الدولة لم تقم حقيقة بالمعنى التاريخي الذّي شهدته تجربتنا الإسلامية التاريخية قبل نشوء الدولة الحديثة ولا بالمعنى الحديث للدولة الذي عرفته أوروبا، المُشكلة أنّنا انخرطنا في عملية التحديث دون فهم مرتكزات الحداثة وقيمها، فلم نسع للإصلاح والتجديد، بل أخذنا أنموذجا مُسقطا من الغرب "إنّ الدولة القائمة في عالمنا اليوم دولة مُستوردة على حدّ تعبير نزيه نصيف الأيوبي وبرتران بادي، فُرضت على عالمنا فرضا من الإمبريالية الغربية، وتضخّمت تضخّما شديدا تحت رعايتها حتّى تحُقق مصالحها وتحافظ على هيمنتها، ثم ّجاءت الاستقطابات الأيديولوجية فزادتها تعقيدا واتّسعت الهُوّة وظهر سيل من الأفكار والنقاشات، يُمكن النّظر إليها من زوايا مختلفة ومتعدّدة، بعضها سياسي وبعضها معرفي وبعضها قانوني، إلى غير ذلك."[10].

كما إنّ ثقافة التسامح لا تفي بالمطلوب، وهو المُساواة الكاملة وبناء دولة المواطنة، ويجب أن تكون مساواة تامة بين المواطن المُسلم والمواطن المسيحي، الشّيعي والسُنّي، العلماني والمُتديّن، فلا يُعقل مثلا اضطهاد ما يسمّى "الأقليات" المسيحيّة في العالم العربي (ليسوا مُجرّد أقليّة بلّ هم جزء لا يتجزّأ من النسيج الوطني وهم السُكّان الأصليّون)، كما لا يُعقل التحريض ضدّ الشيعة ونشر الكراهية ضدّهم ولا التحريض ضدّ العلمانيين واتهامهم بالعمالة للغرب ولا التحريض ضدّ الإسلاميين واتهامهم بالتطرّف والإرهاب؛ فالمُساواة بين الجميع أمام القانون في دولة الإنسان؛ أي إن الدولة المتعددة هي غاية ما ينشد المواطن العربي.

الدّولة نتاج المجتمع الوطني، ولا يمكن إنتاج المجتمع الوطني إلاّ وفق قيم المساواة والعدالة والحُريّة ووفق مبادئ المواطنة والديمقراطية. فهذه القيم والمبادئ وحدها تمثّل الأسس القادرة على توفير إطار تعايشي بين الأعراق والأديان والمذاهب والطوائف المختلفة، وهي القادرة على بناء مشروع وطني مُوحّد وفعّال في مواجهة مشاريع التفتيت والانقسامات، وبإقرارها واحترامها وتفعيلها سياسيا وثقافيا وقانونيا تنتج الروح الكُلّية المجتمعية. وعلى هذه الأرضية، تنتج الهُويّة الوطنية وهو الأساس الطبيعي والشرعي لقيام الدولة، باعتبارها جماعة سياسية وطنية؛ أي دولة المواطنة المدنية التّي لا تفصل الدّين عن الدولة، بل تدعو إلى التنوع الهُويّاتي لإثراء المشهد السياسي الوطني وإكمال المسار الديمقراطي.

  


[1] ابن منظور "لسان العرب" ج6، مادة ذهب، دار صادر بيروت، 2005، ص ص 48ـ49

[2] مقال لعزمي بشارة بعنوان "الطائفة والطائفية من اللفظ ودلالاته المتبدلة إلى المصطلح السوسيولوجي التحليلي"، مجلة عمران، العدد 23، 20فبراير 2018، ص 1

[3] محمد تقي القمّي "قصة التقريب أمة واحدة ثقافة واحدة"، اعداد وتقديم سيد هادي الخسروشاهي، مطبعة نكار، إيران، 2007، ص 151

[4] محمد الطهاري "مفهوم الإصلاح بين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده"، المِؤسسة الوطنية للكتاب، د ط، الجزائر 1984، ص 67

[5] ورد ضمن مقال لزكي ميلاد "المسلمون والشيعة ومسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية"، مجلة "كلمة"، العدد 87، 2010، ص 13

[6] علي شريعتي "العودة إلى الذات"، ترجمة إبراهيم الدسوقي شتّا، تقديم زكي ميلاد، دار الكتاب اللبناني، د ط، بيروت، 2011، ص 108

[7] مقال لإدريس هاني "بين حق الاختلاف وضرورة الوحدة"، مجلة هسبرس، المغرب، 2010

[8] مقال لعلي بن مبارك بعنوان "الحوار التقريبي بين المذاهب الإسلامية والإشكاليات والآفاق"، موقع الجسرة الثقافي (www.al-jasra-cultural).

[9] علي الأمين "ولاية الدولة ودولة الفقيه"، دار مدارك للنشر، ط2، 2012، لبنان، ص ص 63ـ64

[10] برهان غليون "مآزق الدولة بين الإسلاميين والعلمانيين": فصل بعنوان "الدولة معضلة المفهوم والتطبيق" تحرير وتقديم معتزّ الخطيب، جسور للترجمة والنشر، ط1، بيروت، 2016، ص 10