الدين الشعبي ودين الفطرة


فئة :  مقالات

الدين الشعبي ودين الفطرة

الناس لا يتخلون عن شرطهم الديني، ولا يجوز حملهم على ذلك بأي شكل من أشكال القسر والإكراه، مع أنهم لم يختاروا مذاهبهم اختياراً، بل وجدوا آباءهم على ملَّة أو سنَّة فاتبعوها؛ لأن الدين يلبي حاجة روحية واجتماعية. هذا يعني أن للدين بعدين مختلفين: بعد روحي، هو حقيقة الدين، يتصل بالوجدان والضمير، وهذان فرديان دوماً، وبعد اجتماعي، يتصل بالعمران، بالمعنى الخلدوني، ويتجلى في مظاهر الدين، من عبادات وشعائر وطقوس ومؤسسات وعصبيات. المحتوى الأخلاقي للدين، أو المحتوى الإنساني (العام)، مؤسس على الضمير الفردي، ولكن، على اعتبار الفرد كائناً نوعياً أولاً واجتماعياً ثانياً. ولذلك، يظل الرهان معقوداً على الإمكانات الأخلاقية للفرد والأسرة والمجتمع.

البعد الروحي للدين هو ما يسميه ماركس "الروح الإنساني الذي يسري في الدين"، والذي يمكن أن يتعيَّن أو يتموضع في العلاقات الاجتماعية والإنسانية وفي المعاملات والمبادلات. هذا البعد الروحي حاكم على البعد الاجتماعي، أو يفترض أن يكون كذلك، لكي لا يكون "الدين" باعثاً على الكراهية والتعصب والتطرف، وعاملاً من عوامل الفرقة والنزاع وسبباً لامتياز جماعة على غيرها، ولذلك يُعتبر الإلحاد شكلاً من أشكال العدمية. إن حقيقة أي شيء أو مضمونه حاكمة على شكله ومظهره، فالشكل أو المظهر متغير تابع لمتغير، ولكنه يؤثر فيه، مثلما يتأثر به، والعبرة دوماً في اتساق ظاهر الدين مع حقيقته الإنسانية أو عدم اتساقه.

قلما يتنبه الناس إلى التناسب الطردي بين تدهور الشرط الإنساني والانحطاط الأخلاقي من جهة، وبين ازدهار المظاهر الدينية ومظاهر الغلو والتطرف المذهبي، من الجهة المقابلة، وقلما يتنبهون إلى أن الاستبداد، بوجهيه: السياسي والديني، هو علة التدهور والانحطاط، والباعث على الغلو في العبادات والشعائر والطقوس؛ ذلك أن الاستبداد ذاته هو تناقض مطلق بين الشكل والمضمون، يرافقه دوماً تناقض مطلق بين حقيقة الدين ومظاهره. فلا تخفى العلاقات الوطيدة بين الاستبداد والفساد، وبين الفساد والقمع، فشراء الضمائر و / أو إفسادها يقتضيان كم الأفواه وقمع الحريات، تحت طائلة التكفير. وأول الضمائر التي يشتريها المستبدون ويفسدونها هي ضمائر الفقهاء والعلماء ورجال الدين، وهؤلاء يتلاعبون بعقول البسطاء من "العامة" ويفسدون ضمائرهم بالتهييج والتحريض على "العدو" الذي يحتاج إليه المستبدون حاجة وجودية، فليس بوسع الاستبداد أن يعيش بلا عدو، وليس بوسع العنصرية أن تنمو بلا عدو أيضاً.

لذلك لا نوافق الذين يتحدثون، اليوم، عن دين شعبي بسيط، ويبرئونه من النزعات المذهبية، وهو ألعوبة بأيدي الفقهاء و"الأولياء" ووعاظ السلاطين، وهؤلاء، شأنهم شأن المستبدين، يمارسون ولاية على عقول البسطاء وقلوبهم وضمائرهم، بحجة تخليص نفوسهم من الآثام والذنوب، ويحولونهم إلى أدوات للسلطة ووسائل لتحقيق غاياتها؛ فلا يمكن أن تتوافق حرية الضمير مع وجود وسيط أو وسطاء بين الله والإنسان، لا يمكن أن تتوافق حرية الضمير مع وجود سلطة خارجية تضغط عليه، وترض الروح الإنساني، الذي هو قوامه وعماده، ومبدؤه ومآله. ولا يمكن لأي إنسان أن يعرف الله معرفة حقيقية، إذا لم يعرف ذاته بلا وسيط.

"الدين (في بعده الاجتماعي - السياسي) هو الاعتراف بالإنسان بطريقة غير مباشرة، (واعتراف الإنسان بذاته بطريقة غير مباشرة) أي من خلال وسيط، وذلكم هو لب الاغتراب. الدولة هي الوسيط بين الإنسان وحريته، فكما أن المسيح وسيط يحمِّله الإنسان كل ألوهيته، كل تحيزه الديني، فإِن الدولة هي الوسيط الذي يضع فيه كل بشريَّته وكل تحيُّزه البشري".

لقد استقل المجال السياسي عندنا عن المجال الديني استقلالاً ما، ولكن من دون حرية الضمير، لذلك ظل التنازع قائماً على هوية الدولة ودين رئيسها ومصدر التشريع، كما راحت السلطة القومية "العلمانية" تفرض "إيمانها" وعقيدتها على المجتمع، تحت طائلة التخوين، ضاربة بتعدد "القوميات" عرض الحائط، وراحت الجماعات الدينية تفرض "إيمانها" وتأويلها الخاص للنصوص "المقدسة" على المؤمنين، تحت طائلة التكفير، ضاربة عرض الحائط بتعدد الأديان والمذاهب. التخوين والتكفير صنوان متشابهان إبستمولوجياً وأخلاقياً، وقد كشفت الحرب الدائرة، في غير مكان، عن ذلك بوضوح.

مبدأ حرية الضمير أو حرية الاعتقاد وحرية التعبير عنه هو ما يؤسس لمساواة قانونية عميقة وراسخة، لأن إيمان الفرد بأية عقيدة لا يمنحه أي امتياز على أقرانه أو أقرانها ونظرائه أو نظيراتها ولا يمنح الرجال أي امتياز على النساء.

في معالجته للدين، أوصى جان جاك روسو الأستاذ ألا يكلم تلميذه عن الخلق والخالق قبل أن يتجاوز الخامسة عشرة. ودعا إلى عقيدة فطرية بسيطة سمحة خالية من كل تعصب، لا تترسخ إلا في فؤاد هُذِّب لهذا الغرض بالذات، كما أن النظام الجمهوري الديمقراطي لا يستمر إلا إذا قام على تعاقد بين أفراد تربوا منذ الطفولة، ليكونوا مواطنات ومواطنين حقاً. واهم من يظن أن الإصلاح قد يأتي من فوق. هذا ترميم يعالج الأعراض فقط. لا مناص من خلق مُستأنف حتى يتسنى بناء مجتمع جديد ونشر عقيدة جديدة[1].

تتلخص رؤية روسو للدين، حسب العروي في الآتي: "الإيمان في خدمة النفس، الدين في خدمة المجتمع، المجتمع في خدمة الفرد". هذا يعني أن الفرد الإنساني (الإنسان) هو المبدأ والغاية. سيقول ماركس، بعد ذلك: وجد الدين من أجل الإنسان، ولم يوجد الإنسان من أجل الدين. قد نتمكن من معرفة كل شيء عن الدين، لكننا لن نتمكن من معرفة أي شيء عن الإيمان، أي عن الوجدان والضمير الفرديين. ونفترض أن السلوك (الاجتماعي) لا يطابق الوجدان والضمير بالضرورة، أو لا يطابقهما دائماً. ومن الصعب، بل من المتعذر أن نعرف أي السلوكيات يطابق وجدان الفرد وضميره. نعرف بعض السلوكيات التي نفترض أنها لا تطابق معاييرنا الأخلاقية، فنصف صاحبها بانعدام الضمير. الإيمان خاص بأفراد الجماعة الإنسانية كافة، أما الأديان فخاصة بالجماعات والمجتمعات. "بما أننا نرفض الخضوع لأية سلطة بشرية، لا نصادق على أية عقيدة متوارثة في بلد مولدنا. كل ما يمكن أن يهدينها إليه نور العقل، في حدود الطبيعة، هو دين الفطرة"[2].

المنطلق عند روسو دائماً هو وجدان الفرد الحر المستقل، هذه الفردية البارزة عند روسو، ويجب أن تكون كذلك عندنا، هي، من أحد جوانبها، احتجاج على تغييب الفرد وإذابته في "جماعة أو مجتمع" على مر القرون السابقة، واحتجاج على هدر إنسانيته تاريخياً. ومن البديهي، أن نقول إن تغييب الفرد هو تغييب الإنسان. نحتاج إلى مفردات جديدة لوصف الفرد وأحواله في مجتمعات التسلط والاستبداد التي، إما أن تفرض عقيدتها على الأفراد، بمختلف وسائل الفرض وأساليبه، وإما أن تمنع الفرد من التعبير عما يؤمن به، وغالباً ما تفعل هذا وذاك معاً.

لكن السؤال المطروح علينا جميعاً في هذه البلاد الملقاة على هامش التاريخ منذ قرون، هل حقاً لا نريد أن نخضع لسلطة شخص مثلنا، هل نرفض حقاً الخضوع لأية سلطة بشرية؟ سيقول بعضنا إنهم يخضعون لسلطة غير بشرية، كسلطة القرآن أو الإنجيل، على سبيل المثال. من حقنا أن نسأل هؤلاء؛ هل يخضعون لهذه السلطة غير البشرية مباشرة، كما يخضع المؤمنون أم بوساطة الأئمة والفقهاء والعلماء ورجال الدين أو الإكليروس؟ ألا تحول هذه الوساطة الإيمان إلى مجرد اتباع وتبعية لأشخاص، قد يكونون دجالين ومنافقين و"بلا ضمير"، وما أكثر هؤلاء من المتعيشين على الدين؟ لا يمكن أن تقوم ديمقراطية في ظل سلطة أو سلطات شخصية، نربي أطفالنا على طاعتها قبل أن يتعلموا المشي والكلام، فيعيدون إنتاجها، وهكذا جيلاً بعد جيل. أول أشكال التنكر لإنسانية الفرد هو أن نعلمه ما نريد وننطقه بما نريد ونجعله يهتم بما نريد أن يهتم به. وأدهى أن نرغمه على تصديق كل ما نعتقد به، فينتهي إما إلى شخص ليس هو، وإما أن يرفض الكل ويصبح سينيكياً.

إننا نتوفر على الضمير لنحب الخير والحق والجمال، وعلى العقل لنعرفها وعلى الحرية لنختارها، والحرية هي جوهر الضمير، إذا حذفناها تتزعزع منظومة الأخلاق. الضمير والعقل والحرية هي مبادئ الحياة الأخلاقية، التي تتحدد بمدى انسجام هذه المبادئ ومدى انفصامها، ويتحدد معنى السعادة ومعنى الشقاء. كيفما قلبت الأمر، لا بد أن تصل إلى أن الضمير يوجه العقل والعقل يوجه الحرية، والحرية جوهر الضمير، والغاية هي تصالح الإنسان مع نفسه ومع العالم. التبعية أو العبودية تقيد الضمير وتفسده، فقط الشخص الحر المستقل يستطيع أن يعمل على هدي ضميره. "يقال: كان لا بد من الوحي لكي نعرف على أية صورة يريد الخالق أن نعبده. ويُستشهد على ذلك بعدد الطقوس البشعة التي سنها الإنسان، بدون انتباه إلى أن مرد الاختلاف هو بالضبط تعدد الوحي. ما أن بدا للبشر أن يُنطقوا الخالق حتى أنطقه كل واحد على هواه، وضمَّن كلامه ما أراد من معان. لو اكتفوا بما أملاه الخالق على قلب كل فرد لما وجد على الأرض سوى دين واحد".

"أو ليست وحدة الشعائر ضرورية؟ لا شك في ذلك. لكن هل الأمر بالخطورة التي تستدعي تدخل الرب؟ يجب أن نفصل ظاهر الدين عن حقيقته. ما يطلبه منا الخالق هو أن نعبده بالقلب، وتلك عبادة واحدة إن كانت صادقة. من العجب الأخرق أن نعتقد أن نوع اللباس الذي يرتديه القس، ترتيب الألفاظ التي ينطق بها، الحركات التي يقوم بها أمام المعبد، عدد الركعات التي ينجزها، كل ذلك يحظى باهتمام الخالق [3]. أما الشعائر، فتلك مسألة نظام وسياسة، ولا تستلزم أي وحي. لو كان قلب الإنسان هو معبده الوحيد لما كان فوق الأرض سوى دين واحد، ولكانت البِيَع والكنائس والمساجد والمعابد ظاهرات اجتماعية، لأنها أماكن يؤمها مؤمنون وغير مؤمنين، أتقياء ومنافقون، بعضهم يقنِّعون نفاقهم بالعلم، وبعضهم الآخر بالمال والجاه، ولطالما كانت، ولا تزال، منابر لتمجيد الطغاة. وتتساءلون لماذا يهتم الطغاة ببناء المساجد؟


[1] جان جاك روسو، دين الفطرة، ترجمة عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، 2012، ص ص 9 – 10

[2] روسو، 16

[3] روسو، ص 90