الدين اليوناني من شركية الأساطير إلى التوحيد العقلاني حوار مع المفكر المصري مصطفى النشار


فئة :  حوارات

الدين اليوناني من شركية الأساطير إلى التوحيد العقلاني حوار مع المفكر المصري مصطفى النشار

يمثل البحث في الدين اليوناني بحثا في أصول المعتقد البشري عند قدماء اليونان، وكيف تصور اليوناني القديم عالم الآلهة مؤمنًا في شركية واضحة بآلهة الأوليمب الاثني عشر الذين ورد ذكرهم في الإلياذة. وإن كانت فكرة التوحيد قد شغلته وأرّقته منذ البداية، منذ أن آمن بزيوس رب الأرباب والسلطة والقانون، الذي انتصر تماما على كل الأقوياء والعمالقة، وتمكن من السيطرة على قوى السموات والأرض وما فيهما وما بينهما؛ إلا أنَّه عاد ونسب له أفعالا وصفاتا لا تليق أبدا بالأسوياء من البشر فضلا عن الآلهة. وهنا تظهر إشكالية الدين اليوناني في كونه دينًا محدود الأفق ضيق المجال، يتمثل الله على أنه ذو طابع إنساني، يفتقد لعنصر حرية الروح؛ لأنه جعل القدر والضرورة تتحكم في كل الأشياء بما فيها الآلهة. كما أنه وضع الآلهة في سياق تصوري واحد مع البشر، فآلهة اليونان يقعون في نفس الأخطاء التي يقع فيها البشر، وينزلقون إلى نفس المزالق التي ينزلق إليها البشر وتستهويهم نفس الشهوات، يتشاجرون ويتناحرون بالضبط كما يفعل البشر العاديون؛ إلا أنهم لا يموتون ولا تدركهم الشيخوخة، ولهم قوى خارقة لا يدركها البشر. وقد عمل هذا الحوار على تقديم تصور كامل للدين اليوناني منذ بداياته وحتى آخر مآلاته موضحا تلك التطورات التي طرأت على هذا الدين، وعملت على تعديله ورفع تشوش أفكاره وتناقضاته؛ وتبرئة ساحة الآلهة من كل المثالب والجرائم المنسوبة إليها، بل إن أحد الفلاسفة اللاحقين تمنى لو أنه أمسك بهوميروس ليذيقه كل ألوان العذاب جزاءً له عن تلك التعاليم الدينية الفاسدة التي أغرى بها العوام، والتي انتشرت بينهم رغم عدم منطقيتها، وقد ظلت محاولات التصحيح والتعديل، حتى بدأ البعض يصل إلى ما اعتقده الكثير من الباحثين أنه التوحيد.

ومن أجل إلقاء الضوء على المناطق المجهولة في الدين اليوناني التي قد تكون سقطت من الباحثين في هذا الموضوع، والإجابة عن الأسئلة الغامضة التي تؤرق الباحثين حول الدين اليوناني، وبيان المناطق التي لم تُبحث بعد.. كان هذا الحوار مع المفكر المصري الدكتور مصطفى النشار أستاذ الفلسفة اليونانية، والرئيس الأسبق لقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة والعميد الأسبق لكليات: التربية جامعة القاهرة - فرع بني سويف، وكلية العلوم الاجتماعية بجامعة السادس من أكتوبر، وكلية رياض الأطفال جامعة القاهرة. وصاحب ما يربو على (55) مؤلفا في الفلسفة اليونانية وسائر التخصصات الفلسفية الأخرى، من بينها "مكانة المرأة في فلسفة أفلاطون" و"من التاريخ إلى فلسفة التاريخ - قراءة في الفكر التاريخي عند اليونان"، و"تطور الفلسفة السياسية من صولون حتى ابن خلدون"، و"الحرية والديمقراطية والمواطنة - قراءة فلسفة أرسطو السياسية"، و"الإنسان والحكمة والسعادة في الفلسفة اليونانية"، و"من الإبستمولوجيا إلى الفانتازيا - دراسات في الفلسفة القديمة".

غيضان السيد علي: الأستاذ الدكتور مصطفى النشار، لكم باع طويل مع الفلسفة اليونانية وفكرها التنويري يقرب من أربعين عاما اهتممت فيها بكل كبيرة وصغيرة فيما يخص هذه الفلسفة، فهل ما زال هناك من مناطق في هذه الفلسفة تودون أن تلقوا الضوء عليها في المستقبل؟ وكيف كان اهتمامكم بالدين اليوناني يحتل مكانة مهمة في رحلتكم الطويلة مع الفلسفة اليونانية؟

د. مصطفى النشار: بداية أشكركم على هذه الدعوة الكريمة للمشاركة بهذا الحوار في هذه المنصة الفكرية الجادة بامتياز "مؤمنون بلا حدود".

- أمَّا عن سؤالكم الأول فيما يخص أهم المناطق التي لم تُدرس بشكل كاف بعد، وأوجه إليها تلاميذي فهي تتعلق بتاريخ الأكاديمية وفلاسفتها بعد أفلاطون، وكذلك تاريخ اللوقيين والمدرسة المشائية بعد أرسطو، وكذلك شراح أرسطو الكبار من اليونانيين أمثال الإسكندر الأفروديسي وثامسطيوس. أمَّا المنطقة التي خلت من الدراسات المعمقة حتى الآن، فهى دور مدارس الترجمة وكيفية انتقال الفكر والعلوم اليونانية إلى اللغة العربية، وتاريخ الترجمات وتطور المصطلحات المعربة في هذه الترجمات؛ حيث ستكشف مثل هذه الدراسات المعمقة عن الجهود المضنية التي بذلها المترجمون من اليونانية إلى السريانية والآرامية وغيرها من اللغات القديمة إلى اللغة العربية، وكيف استطاعت اللغة العربية عبر ذلك أن تكون لغة الفلسفة والعلم الأولي في العالم طوال العصور الوسطى وحتى العصر الحديث.

- أمَّا اهتمامي بدراسة الدين والديانات اليونانية، فقد بدأ من بداية تخصصي في مجال الفلسفة القديمة؛ حيث كانت أول دراساتي عن فكرة الألوهية عند أفلاطون قد قادتني إلى دراسة جذور الفكرة في الفكر اليوناني السابق على أفلاطون، وخاصة لدى هوميروس وهزيود والديانة الأوليمبية، وكذلك لدى أتباع الديانة الأورفية والديانة الديونسيوسية، ومن ثم الديانة الفيثاغورية التي عُدت تجديدا لهاتين الديانتين السابقتين، كما قادتني قبل ذلك إلى دراسة جذور فكرة الألوهية وحقيقة الوجود في الفكر الشرقي القديم، وخاصة في مصر والهند وفارس وبابل. ولازال اهتمامي يتجدد بنفس النوعية من الدراسة، وقد بدا ذلك بوضوح من خلال كتابي "الفكر الفلسفي في مصر القديمة" الذي درست فيه قضية الألوهية ونظريات الوجود، ومن ثم العقائد الدينية في مصر القديمة، وكذلك في كتابي الذي صدر مؤخرا عام 2014م "مدخل جديد إلى فلسفة الدين" حيث اعتبرت أن المؤسس الأول لهذا الفرع من فروع الفلسفة هو اكسينوفان؛ فقد كان أول من تفلسف حول الدين والتدين في اليونان، وانتقد الديانات التقليدية التي كان أبرز سماتها التعددية والتجسيد ودعا في فلسفته إلى شبه ديانة جديدة لعبادة إله واحد "هو والعالم شيء واحد".

غيضان السيد علي: تناول هوميروس الدين اليوناني بالتفصيل في الإلياذة والأوديسة وصور لنا عالم الآلهة، فإلى أي مدى قدَّم هوميروس من خلال أساطيره عوالم الآلهة اليونانية وأسس الديانة اليونانية؟ وما هي أهم المآخذ التي يمكن أن نرصدها على تصور هوميروس لعالم الآلهة؟

د. مصطفى النشار: بداية لابد أن نعرف أن الالياذة تعني "ملحمة إليون" وموضوعها رواية بعض الأحداث التي حدثت في أيام قليلة من العام الأخير من الأعوام العشرة التي نشبت فيها الحرب حول مدينة "إليون" نحو سنة 1200 أو 1100 قبل الميلاد بين الطرواديين (أهل مدينة طروادة) والإخائيين، وسُميت هذه الحرب بالحرب الطروادية؛ حيث قاومت فيها طروادة بقيادة "نسطور" ملكهم المسن، وكان "هكتور" هو بطلهم في هذه الحرب غزو الإخائيين الذين كانوا مجموعة من القبائل الذين جاءوا تحت قيادة الملك "آجاممنون" وكان "أخيل" هو بطلهم في هذه الحرب. وكان السبب الظاهر أو المعلن لهذه الحرب هو سبي "باريس" ابن ملك إليون لـ"هيلانه" زوجة ملك الإخائيين ورفض الطرواديين إعادتها.

أمَّا الأوديسة، فهي تشتق اسمها من كلمة يونانية تعني سلسلة من الرحلات أو رحلة ممتدة وتتخللها الصعوبات والأهوال. وتصف هذه الملحمة رحلة "أوديسيوس ابن ليرت" ملك "أتيكا" الذي كان قد تزوج من "بينيلوبي" فترة قصيرة استدعي بعدها - رغم عدم رضاه عن ذلك - للمشاركة في الحرب الطروادية، وعانى في سفره الذي استمر حوالي العشرين عاما أهوالا كثيرة، وحينما عاد من طرواده وجد زوجته تعاني من شرور ومؤامرات من حاولوا خطبتها ظنا منهم أنه قد قتل فقام بقتلهم جميعا قبل أن ينجح أحدهم في الاتصال بزوجته.

إنَّ أبرز سمات قصائد هوميروس فيما يتعلق بالديانة اليونانية أنه جعل الآلهة أكثر بشرية وجعل البشر أقرب إلى الألوهية؛ إذ من المعروف - على حد تعبير د. أحمد عثمان في كتابه الشهير "الأدب الإغريقي" أن هوميروس قد أنزل الآلهة من قمة الأوليمبوس (أي السماء عند الإغريق) إلى الأرض ليشاركوا الناس حياتهم اليومية ولذا نجدهم في الالياذة والأوديسة يقعون في نفس الأخطاء التي يقع فيها البشر وينزلقون إلى نفس المزالق التي ينزلق إليها البشر وتستهويهم نفس الشهوات، يتشاجرون ويتناحرون بالضبط كما يفعل البشر العاديون. لكن رغم أن هذه الآلهة لها شكل وأفعال البشر، إلا أن الشيخوخة لاتدركهم وكذا الموت، ويتمتعون بقدرات وقوى تفوق بكثير طاقة البشر؛ إذ عندما يومئ زيوس - وهو إله السماء وكبير الآلهة يهتز جبل الأوليمبوس، وعندما يقدم بوسيدون إله البحر من ساموطراقيا إلى أيجاي تميد الجبال والغابات من تحته، كما أنه يقطع هذه الرحلة الطويلة في ثلاث خطوات ليس إلا، وعندما يصيح هو أو آريس إله الحرب فإن صيحة كل منهما تعادل صيحات تسعة أو عشرة آلاف رجل. إذن، فإن للآلهة قوة بلا حدود ولأنهم يعيشون للأبد، فإنهم يقضون معظم وقتهم على نحو ممتع وباستجمام إلى أقصى حد. ومع ذلك، فإن حياتهم لا تخلو من صراعات وشقاق. إن الآلهة عند هوميروس ليسوا عالمين بكل شيء، حتى إنهم يجهلون آخر الأنباء الواردة من ميدان القتال بطروادة؛ فآريس إله الحرب قد لفته سحابة ذهبية فوق الأوليمبوس، ولم يعلم بأن ابنه قد قُتل. وقد يكون فيما يفعلونه لقطات ومواقف كوميدية؛ فها هي هيرا زوجة زيوس تظهر في مشهد لا يخلو من لمسة كوميدية، حينما تتزين له وتجذبه من ميدان الحرب إلى فراشها لتنجح في أن تنسيه أمر الحرب الطروادية، وتنفذ بذلك خططها الخاصة المعادية للطرواديين. لقد تباين موقف الآلهة من طرفي الحرب الطروادية، حيث إن كل واحد منهم قد اتخذ موقفا يوافق هواه ومزاجه الشخصي؛ فأثينا وهيرا كانتا تكرهان طروادة والطرواديين بسبب حكم باريس في مسابقة الجمال لصالح أفروديتي ضدهما، والأخيرة تناصر الجانب الطروادي وباريس وفاء بوعودها له وهكذا... إنَّ الآلهة والإلهات تعطف على من يجزل لهم العطاء ويتوسع في تقديم القرابين؛ ولذلك عندما أراد العراف الطاعن في السن "خريسيس" أن يسترد ابنته من "أجاممنون" تضرع للإله "أبوللو" وذكَّره بالروابط القديمة والمتينة التي جمعت بينهما فنزل أبوللو كالليل ونشر الوباء بين صفوف الأخيين، لقد اعتبر أبوللو أن إهانة كاهنة بمثابة إهانة موجهة له شخصيا فتبنى القضية بنفسه!

وهكذا كان عالم الآلهة عند هوميروس بما فيه من تصوير أسطوري لآلهة هم كالبشر في أشكالهم وسلوكياتهم، وإن تميزوا بالخلود وطول العمر، وهو بذلك قد ألبس الآلهة ثوب وطباع البشر كما خلع على بعض البشر صفات هؤلاء الآلهة، وجعل من الممكن اتصال العالمين ببعض ليس للرعاية والعناية والمساعدة فقط، بل أيضا للتزاوج والاغتصاب والمشاركة في الصراع والمساخر! ومن ثم حق لأفلاطون - رغم حبه للشعر والشعراء - أن يستبعد تداول وتعلم هذه القصائد التي تصور العالم الإلهي بهذه الصورة الهزلية في جمهوريته المثالية أو مدينته الفاضلة.

د.غيضان السيد علي: مثّل زيوس كبير الآلهة وصاحب الصولجان، فهل يمكن الحديث عن توحيد في الإلياذة؟ أم إنها ديانة شركية تعددية لا ميزة فيها لإله على الآخر؟

مصطفى النشار: إن الديانة اليونانية في الأساس ومنذ بدايتها، سواء قبل هوميرس أو بعده ليست ديانة توحيد، بل هي ديانة وثنية تؤمن بتعدد الآلهة، وأن كل واحد من هذه الآلهة له مجال محدد يتحكم فيه، وإن كانوا جميعا في النهاية يخضعون لكبيرهم زيوس. ولقد وضع الخيال الاغريقي الخصب الآلهة والإلهات في أماكن محددة قيل إنها هي التي كثر ترددهم عليها أو هي أماكن عبادتهم. وكان بوسع البشر أن يستدعوا هذه الآلهة عن طريق الصلوات وتقديم الأضاحي والقرابين، فيرونهم قادمين سواء على هيئة إنسانية أو كطيور كما يظهر في الرسوم الموكينية، أو يتخيلونهم حاضرين عند تقديم تلك القرابين، وفي هذه الحالة الأخيرة كان لابد وأن تقع بعض العلامات الخارقة الدالة على تواجد الآلهة، كأن يتطاير الشرر إلى الفضاء من نار القرابين أو تومئ نخلة عند قدوم أبوللون كما ورد في نشيد لكاليماخوس، وعندما تتلبد السماء بالغيوم المتجمعة حول الجبل أو يزمجر الرعد، فإن هذا يكون النذير بقدوم زيوس نفسه.

غيضان السيد علي: هل كان للدين اليوناني شرائع وكهنة ورجال دين؟ أم إنه كان دين خلوًا من أية تحديدات وتعيينات؟ وما هو تقييمكم لوصف هيجل لهذا الدين بأنه دين الجمال؟

د. مصطفى النشار: في الحقيقة إننا في اليونان لسنا أمام ديانة واحدة، وإنما لدينا العديد من الأديان التي اختلطت أساطيرها مع بعضها البعض مثل الديانة الأوليمبية، وهي أشهرها والديانة الديونسيوسية والديانة الأورفية والديانة الفيثاغورية، وبالتأكيد لكل من هذه الديانات من تزعمها وآمن بها ودعا إليها، وكذلك لكل منها عبادات وطقوس تتميز بها؛ وقد ارتبطت الديانة الأولمبية، رغم قدمها بأشعار وملاحم هوميروس وهزيود كما ارتبطت الديانة الدويونسيوسية باسم الإله ديونيسيوس إله الخمر والبهجة واللهو، وارتبطت الديانة الأورفية باورفيوس، وكذلك سميت الأخيرة باسم مؤسسها وزعيمها فيثاغورس. وبالطبع، فقد كان لكل منها طقوسها واحتفالاتها الدينية فالدونيسيوسيون على سبيل المثال كانوا يقيمون لإلههم عدة احتفالات أهمها ديونوسيا الأكبر وديونوسيا الأصغر، وكان من أهم طقوس هذه الاحتفالات أن يتجمع اتباع الإله من النسوة والرجال وهم في قمة النشوة والسكر وتبدأ الطقوس بإحضار عنزة أو رجل فيمزقونه ويشربن دمه احياء لذكرى تمزيق ديونيسيوس، وكانوا يعتقدون أن الإله بهذه الطريقة سيدخل أجسادهم، ويستحوذ على أرواحهم فيتحدون به اتحادا صوفيا!

والمعروف أنَّه كان لزيوس مثلا عشرات المعابد في معظم بلاد اليونان، وكان أشهرها معبد أوليمبيا، وكان كهنته يجتمعون في كهف في دودونا بابيروس ليفسرون أوامره التي تنقلها إليهم حركة أوراق الأشجار وخاصة أشجار البلوط.

أما عن مقولة هيجل عن أن "دين اليونان هو دين الجمال"، فربما يرجع ذلك إلى أن اليونانيين في ديانتهم الأوليمبية قد صوروا آلهتهم كمؤلفين موسيقيين وعازفين بارعين، بل ومبتكرين للآلات الموسيقية؛ فالإله هرميس هو الذي ابتكر القيثارة ثم أعطاها للإله أبوللون. والإله أبوللون هو الذي صاغ ألحانا شجية على القيثارة، وهو الذي عزف على قيثارته وسط الآلهة فوق جبل الأوليمب، فنسي الآلهة كل شيء حولهم. والإله هرميس أيضا هو الذي ابتكر المزمار الذي يستخدمه الرعاه، وهو أول من عزف عليه ألحانا رائعة ساحرة، والإله بان هو الذي ابتكر اليراع وعزف عليه ألحانا تشبه تغريد العندليب في فصل الربيع. والربة أثينا هي التي ابتكرت الفلوت، بالرغم من أنها لم تستخدمه. وهناك الموسيات وهن ربات الفنون والآداب لم يبتكرن آلات موسيقية، ولم يعزفن عليها لكن أصواتهن فاقت في جمالها كل أصوات المغنيين من البشر. ولم يكن غريبا في هذا الإطار أن يرتبط ببعض زعماء الديانات كأورفيوس وفيثاغورس بالفن والموسيقى؛ فقد نسب أورفيوس إلى آلهة تجيد العزف والغناء، حيث قيل إن والدته كانت من الموسيات التسع - كاليوبي الشقراء ذات الصوت الرخيم، وقيل في إحدى الروايات أن والده هو الإله أبوللون عازف القيثارة الشهير وتعلم على يده العزف على القيثارة كما اكتسب موهبة الغناء من والدته الموسية كاليوبي. ومن المعروف أن فيثاغوس كان يهوى الموسيقى، وهو الذي اكتشف السلم الموسيقي. وبالطبع، لا يخفى علينا أن فن النحت وازدهاره في بلاد اليونان قد ارتبط بالمنحوتات التي تجسد الآلهة اليونانية في الكثير من الأوضاع، فقد بلغت القمة في جودة فن النحت ومثالا يحتذي به فنانو النحت حتى اليوم.

غيضان السيد علي: كيف ترون انقسام الآلهة في الإلياذة وانحياز بعض الآلهة إلى الإغريق وبعضها إلى الطرواديين؟ وهل يمكن عقلنة دخول الآلهة في حلبة الصراع البشري؟ أم إن ذلك يعبر عن سذاجة العقلية اليونانية في العصور المبكرة وسيطرة التفكير الأسطوري عليها؟

د. مصطفى النشار: بالفعل، تزخر القصائد الهوميرية بالعلاقات المباشرة بين الآلهة والبشر، وخاصة في مجالات الصراعات والنزاعات بين هؤلاء وأولئك؛ فقد انقسم الآلهة بين مؤيد للطرواديين ومؤيد لللإخائيين منذ بداية الإلياذة؛ حيث اتضح أن الإله أبوللون كان مؤيدا للطرواديين، كما تظهر الإلهة أثينا والإلهة هيرا ككارهتين لطروادة والطرواديين. وقد ذكر "سليمان البستاني" على هامش ترجمته وتحقيقه للإلياذة أن "أفستاثيوس" قد علل سبب انحياز كل إله من الآلهة إلى أحد الفريقين تعليلا لطيفًا؛ حيث قال: جعل "هوميروس" في جانب الإغريق "هيرا" و"أثينا" و"فوسيذ" و"هرمس" و"هيفاست". أمَّا "هيرا"، فمن خصائصها حفظ العلائق الزوجية ومعاقبة الخائن، ومعلوم أن سبب الحرب خيانة زوجة وعشيقها. أما "أثينا"، فلأنها إلهة الحكمة والحرب ومن جملة شؤونها تعقب الغادر. و"فوسيذ" إله البحار وكان اليونان في عداد أتباعه لكون معظمهم سكنة جزر وسواحل وبحار. و"هرمس" من مزاياه النظر في خدع الحرب، ومعلوم أن الإغريق لم يظفروا بطروادة إلا بخدعة "أوذيس" وحصانه الخشبي. و"هيفاست" عدو الفسقة والفجار ورب الصناعة فسبب ميله إلى الإغريق ظاهر... وجعل في جانب الطرواد "آريس" و"الزهرة" و"ارتميس" و"لاتونة" و"زنثس" و"فيبوس". فـ"آريس"رب الحرب ومن خصاله السلب والنهب، وقد بدأ بهما الطرواد. و"الزهرة" ربة الجمال والفسق وأمرها مع هيلانة وباريسمشهور، وأرطميس من جملة مميزاتها الرقص وكان الطرواد أمهر فيه من اليونان، وزنثس نهر طروادي، فهو أولى بقومه، و"فيبوس" رب النبال وجل اعتماد الطرواد كان على رماتهم. وأما "لاطونة"، فما من سبب ظاهر لانحيازها إلى الطرواد، إلا أن تكون مالت إليهم مشوقة بميل أولادها... وبالطبع، فقد غلب الطابع الأسطوري في تلك القصائد والديانات على الطابع العقلي والمنطقي، رغم أن هوميروس قد تجنب في كثير من الأحيان جعل أبطاله كدمى في أيدى الآلهة؛ فهذا "بيرياموس" يعلن أمام "هيلينا" أن الآلهة وليست هي هم المسؤولون عن مصائب طرواده الناجمة عن خرق باريس لقواعد وأصول الضيافة والمرء في العادة ميال لتلمس الأعذار، ومن ثم فهو يلقي باللائمة على الآلهة، وإن اعترف أحيانا بمسؤوليته.

وعلى كل حال، فقد نال هذا التصور الإنساني والأسطوري لعالم الآلهة النقد من معظم فلاسفة اليونان من اكسينوفان، حتى أفلاطون وأرسطو.

غيضان السيد علي: يقال إن الديانة اليونانية انتقلت نقلة نوعية مع فلاسفة القرن السادس قبل الميلاد، هل توافق على هذا القول؟ أم إن فلاسفة القرن الخامس (اكسينوفان وبارمنيدس وإمبيدوقليس) هم أصحاب النقلة النوعية؟ وهل كانت هذه النقلة إلى التوحيد العقلي الخالص أم إلى شبه التوحيد؟

د. مصطفى النشار: في الحقيقة لا أستطيع أن أجيبكم إجابة قطعية عن هذه التساؤلات؛ لأن الأمر فيما يتعلق بعلاقة نشأة الفلسفة بالدين في بلاد اليونان في القرن السادس قبل الميلاد قد اختلط فيها العقلي بالأسطوري، الروحي بالتجريبي والمادي! لكن الملاحظ أنه منذ هذا القرن بدأ التوجه نحو نوع من العقلانية والوحدانية؛ فقد بدا زيوس أقل تشخصا وأصبح هو الأب لتلك العائلة المشاغبة المقيمة في أعالي الأوليمب، وهو يتحرك تجاه مركز القوة السامية في العالم، وقد أدى هذا الاتجاه إلى إعادة اصلاح فكرة القدر؛ فبمجرد أن يحكم العالم بارادة فردية a single will أو حتى بواسطة إرادة سامية قادرة على التغلب على الجميع، من الممكن للقدر Destiny أن يكون متضمنا في تلك الإرادة وهذه النتيجة تمثل بالنسبة إلى الدين أهمية عظيمة على حد تعبير كورنفورد F. M. Cornford. وقد استفادت الفلسفة من هذا التوجه، فقد نشأت في جو من التدين القوى والشعور الصوفي، وإن كان ثمة اختلاف بينهما (أي بين الفلسفة والتدين) فهو اختلاف ظاهري وحسب يخفى تشابها جوهريا وباطنيا بينهما. وليس ذلك إلا انعكاس، لأنهما معا نتاج للعقل الإنساني في فترتين متعاقبتين، وأنهما معا يعالجان المسائل عينها ولكن بطرائق مختلفة؛ فالفلسفة كانت تعنى في البداية بدراسة الطبيعة الخارجية محاولة استقصاء المبادئ التي أمكن للمتأخرين شرحها. وعلى كل حال، فالقرنان الخامس والرابع قبل الميلاد قد شهدا بعد ذلك تقارب طريق الفلسفة مع الاتجاه التوحيدي لدى شعراء الإصلاح؛ فالطابع الفلسفي في المدرسة السقراطية الأفلاطونية في ذروته تقابل فيه لأول وهلة تصور الصانع الخيّر للعالم؛ فزيوس هوميروس لم يُجمد في وضعه كما هو، بل اختص بتوليد الألهة الصغرى وحتى الأكبر منها يعد طفلا للسماء والأرض وأصغر من العالم. وليس معنى ذلك بالطبع أن الفلسفة الإغريقية نشأت في أحضان الدين أو أنها هي والدين شيء واحد؛ لأنَّ الفلاسفة قد أكسبوا هذا التفكير الديني صيغة جديدة، فالأصل الذي انصرفوا إلى البحث عنه لم يقدموه في مصطلحات أسطورية؛ إذ إنهم لم يلجؤوا إلى وصف أب إلهي أول، كما أنهم لم يبحثوا عن الأصل بمعنى الحالة الأولية التي تحل محلها حالات كينونة لاحقة، بل لقد اجتهدوا في طلب أساس للوجود حلولي وأبدي، فاللفظة الإغريقية التي تعني "الأصل" ليس مدلولها "البداية"، بل تعني "المبدأ القديم" أو "السبب الأول" وهذا معناه تحويل مشكلات الإنسان في الطبيعة من صعيد الإيمان والحدس الشعري إلى المجال الذهني العقلي، لكن لم يعبروا عنه بألفاظ تنتمي إلى الفكر الموضوعي المنظم، بل جاء تعبيرهم عنه أشبه بنطق الوحي الملهم، ولا عجب فقد انطلق هؤلاء المفكرون بجرأة نادرة من فرضية لم تثبت أبدا وقالوا "إن الكون كل قابل للفهم". وبعبارة أخرى، لقد افترضوا أن وراء الفوضى من إدراكاتنا نظام واحد، وأننا علاوة على ذلك نستطيع فهم وتفسير هذا النظام.

وفي هذا الإطار العام، نستطيع القول إنَّ فلاسفة القرنين السادس والخامس كانوا أصحاب نقلة نوعية في الإيمان بالألوهية والدين اليوناني؛ فقد نجح فيثاغورس (572 - 497 ق.م) في صب الدين الأورفي الذي علق به الكثير من الأساطير في قالب عقلي، كما نجح أكسينوفان (570 - 480 م) في تقديم أول محاولة لتخليص اللاهوت اليوناني من آثار التفكير الأسطوري الذي صبغ به من منذ أيام هوميروس وهزيود فضلا عن أنه ربما يكون أقرب فلاسفة اليونان من السابقين على سقراط إلى الإيمان بالتوحيد؛ فقد رفض أكسينوفان فكرة تجسيم الآلهة واتفق معه زعماء الإيلية بارمنيدس وزينون وميليسوس في القول بوحدة الأشياء جميعا، وقد أطلق على هذه الوحدة الساكنة اسم الألوهية، وقد ذكر عنه أرسطو أنه القائل بأن الواحد هو الإله. ولقد كتب أكسينوفان أن "الإله يرى ككل، يفكر ككل، يسمع ككل، كذلك فوعي الإله ليس معتمدا على أعضاء حسية أو على أي شيء يضاهيها". ومن صفاته، أنه "أعظم الآلهة والبشر جميعا ولا يشبه في هيئته أو عقله واحدا من البشر". وهذا التوجه لدى أكسينوفان نحو واحدية الإله وتجريده لا يضاهيه في الزمن القديم إلا ما قدمه الملك الفيلسوف اخناتون في مصر القديمة منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد.

غيضان السيد علي: أنكر السوفسطائيون الآلهة وعدوها من اختراع البشر، كيف ترون هذا وفقًا لمذهب السوفسطائيين في المعرفة والأخلاق؟

د. مصطفى النشار: لقد اتسقت رؤية السوفسطائيين للألوهية مع نظريتهم في المعرفة؛ حيث قال كبيرهم بروتاجوراس: "إنَّ الإنسان بحواسه هو معيار الأشياء جميعا" ومن ثم، فهو معيار الوجود ومعيار الخير والشر في آن معا، ومن هنا كان إيمانهم بالنسبية في كل شيء. ولما كانت الآلهة لا يمكن أن تقع في خبرة الإنسان الحسية، فقد قال: "بروتاجوراس" قولته المشهورة: "أما بخصوص الآلهة، فأنا لا أعرف هل هي موجودة أم لا؛ وذلك لغموض الموضوع وقصر الحياة". وقد استند "بروتاجوراس" في ذلك على الأسطورة الشائعة الشهيرة آنذاك "أسطورة برومثيوس" وقال إنَّ الإنسان هو صانع حضارته؛ أي إن الإنسان هو الذي ابتدع كل مظاهر الحضارة بما فيها الدين الذي ارتضاه لنفسه وآمن به! وكان يقصد بالطبع أن البشر هم من اصطنعوا لأنفسهم دياناتهم المختلفة وآمنوا بها!

غيضان السيد علي: هل شهدت فكرة الألوهية تطورا ملحوظا مع سقراط وأفلاطون نحو التوحيد، وذلك في ضوء اهتماماتكم وإسهاماتكم المتعددة حول فكرة الألوهية عند أفلاطون؟

د. مصطفى النشار: لاشك في أن فكر سقراط وأفلاطون كان أكثر وضوحا فيما يتعلق بموضوع الألوهية؛ حيث ثبت من المحاورات السقراطية لأفلاطون، والتي عبرت عن فكر سقراط أن سقراط كان رغم إيمانه بالديانات اليونانية التقليدية وخاصة الديانة الأوليمبية، كان فيما يبدو مؤمنا بصورة من صور الوحدانية، حيث كان كثيرا ما يستخدم في هذه المحاورات لفظ الإله بصيغة المفرد، فقد فعل ذلك في مطلع دفاعه عن نفسه في محاورة "الدفاع"، حينما قال: حسنا فلتسير الأمور على النحو الذي يراه "الإله"، ثم قوله بعد ذلك إنه كان يحاول أن يجعل كلمة "الإله" هي العليا وأنه يطيع "الإله" أكثر من طاعته لقومه، وأنه لا يخاف من أحد طالما يطيع "الإله". وقد اختتم خطابه الإيماني هذا في محاورة الدفاع بعد الحكم عليه بقوله: والآن أنا إلى الموت، وأنتم إلى الحياة، أيَّنا مصيره أفضل، العلم عند "الإله"! ومن هذه العبارات وغيرها نكتشف أن سقراط كان بالفعل مبتدعا لاتجاه روحي يميل إلى الصوفية، حيث كان اعتقاده الأساسي أن "الإله" خيّر، وأن للكون عقلا مدبرا خيّرا وهذه النظرة المؤمنة بأن للكون إلها يدبره ويرعاه كانت ضيقة جدا عند اليونانيين السابقين على سقراط.

وبالطبع، فقد كان من الطبيعي أن يلتقط أفلاطون هذا الخيط من أستاذه؛ حيث استخدم هو الآخر لفظ الألوهية بصيغة المفرد في حوالي ثمانية عشر موضعا في محاوراته المختلفة، وقد ذكرتها في الفصل الأخير من كتابي "فكرة الألوهية عند أفلاطون" وقد توصلت في هذه الدراسة المطولة والفريدة إلى نتائج غاية في الأهمية منها أن مفهوم الألوهية قد تطور لدى أفلاطون بصورة أكثر نضجا، حيث كان أول من برهن بوضوح على وجود "الإله" وآمن بالعناية الإلهية. وذلك على الرغم من أنه اكتفى بأن الإله "صانع العالم" من مادة قديمة ولم يتوصل إلى مسألة "الخلق من عدم" كما ينسب إليه البعض ذلك! وقد نبهت في ختام تلك الدراسة إلى أن كثيرا من الخلط قد وقع في محاولات فهم تصور أفلاطون للألوهية، حيث حصره كل دارس في دائرة معينة ضيقه؛ فقد قال البعض أن الإله عند أفلاطون هو "مثال الخير" وقال آخرون إنَّه "الصانع" وهكذا..، وحينما ناقشنا هذه التصورات وغيرها، وجدنا أن أفلاطون قد أراد بهذه المسميات المختلفة التعبير عن صفات هذا الإله الواحد الذي صنع هذا العالم على أرقى صورة وبثَّ فيه كل الخير والجمال. ومع ذلك، فلم ننكر ماعلق بهذا التصور السامي للألوهية عند أفلاطون من إيمان بالتعددية والصور الشائعة التي يشوبها بعض الأساطير والخزعبلات بحسب ما كان شائعا وموروثا في عصره.

غيضان السيد علي: هل سار أرسطو ومن جاء بعده من فلاسفة اليونان على خطى أفلاطون؟ وهل تم تجاوز أو تطور أم انتكاس لفكرة الألوهية نحو التوحيد؟

د. مصطفى النشار: أعتقد أن أرسطو قد استلهم هو الآخر الروح السقراطية والأفلاطونية لكن جاء تعبيره مختلفا عنهما؛ فقد تميز التصور السقراطي والأفلاطوني للألوهية روحا صوفية أكثر سموا، بينما جاءت نظرية أرسطو خالية من العواطف المشبوبة والروحانية الصوفية؛ حيث ارتبطت رؤيته للإله بنظرياته العلمية وفلسفته الميتافيزيقية؛ فالإله الأرسطي الواحد جاء من كونه "صورة خالصة" لا يصح أن تشوبها مادة، ولا ينبغي أن تتعلق أو تعنى بالعالم المادي، ومن ثمَّ، ومن هذه الزاوية فهو إله مفارق للعالم الطبيعي لا يهتم بأمره رغم أنه هو علته وعلة الحركة فيه! فهو علة الحركه لكنه هو نفسه "المحرك الذي لا يتحرك". إنه اذن علة الحركه الغائية وليس علتها الفاعلة المباشرة، إنه "المعشوق" الذي يتحرك عشاقه نحوه شوقا إليه وحبا فيه! لقد اعتقد أرسطو إذن كسقراط وأفلاطون بوجود إله واحد ووصفه بأنه الصورة الخالصة وموجود بالفعل الخالص أي بالكمال الخالص، وأنه "عقل وعاقل ومعقول"؛ أي إنَّ ماهيته هي الفكر والتأمل، لكنه لا يفكر إلا في ذاته، ومن ثم يمكن أن نعد مذهبه التأليهي أكثر تجريدا وأكثر عقلانية، لكنه جاء خلوا من الإيمان بالعناية لما فيه من إنكار لإمكانية أن يهتم هذا الإله المفارق بالعالم الذي هو علته!!

وقد تطورت الفلسفة اليونانية بعد أرسطو في العصر الهلينستي في اتجاهات شتى، حيث جاء الشكاك ليشككوا في كل شيء بما في ذلك وجود الآلهة وإمكان الوصول إلى الحقيقة، وجاء أبيقور والأبيقوريين ليعيدوا الاتجاه المادي الذري إلى واجهة المشهد، ومن ثم فقد صوروا الوجود الإلهي على أنه وجود مادي ذري أكثر نقاء ولطفا يؤثر في مشاعرنا الداخلية، فنؤمن بوجود الآلهة في مكان ما في هذا الكون الشاسع، وفيما بين هذه العوالم المادية ما نراه منها وما لم نره. أمَّا الرواقيون، فقد آمنوا بنوع من وحدة الوجود التي ترى أن الوجود في جوهره مادي، لكن به جانبين؛ جانب إيجابي فعال يمثل الوجود الإلهي فيه الأساس، وجانب سلبي منفعل تبدو فيه مادية العالم الظاهرة بعناصرها وموجوداتها المختلفة. وقد تميزت عقيدتهم الدينية بالإيمان الواضح بالعناية الإلهية باعتبار أن الآلهة منبثة في أرجاء الوجود حتى المادي منه وكل شيء، بالتالي يحدث وفقا لإرادة الآلهة ووفقا للقدر المحتوم.

أمَّا ما يسمى لدى المؤرخ الغربي بالأفلاطونية المحدثة، والتي يقصد بها عادة فلسفة أفلوطين (205 - 270 م) وتلاميذه، فنسميه نحن مدرسة الإسكندرية الفلسفية ونعتبره عصرا فلسفيا جديدا أثرت فيه الفلسفة اليونانية نعم! لكن كان التأثير الأعظم فيه للديانات التراثية كالهرمسية المصرية القديمة والغنوصية والزرادشتية والمانوية وغيرها، كما كان للديانتين السماويتين اليهودية والمسيحية تأثيرهما الكبير في ذلك العصر الفلسفي الجديد عصر الإسكندرية بما حفلت به من تيارات فلسفية توفيقية دينية بدأت تعلن عن نفسها بوضوح منذ منتصف القرن الأول قبل الميلاد، حيث ظهر اريستوبولس وفيلون ليمثلوا التيار التوفيقي اليهودي في الإسكندرية كما ظهر التيار الغنوصى المسيحي الذي حاول أعلامه باسيليدس وفالنتينوس ومرقيون التوفيق بين المسيحية والعقيدة الثتائية الزرادشتية، ثم ظهرت مدرسة الموعظين المسيحيين التي تزعمها كلمنت وأوريجين السكندريين اللذان استخدما التأويل الرمزي في التوفيق بين المسيحية والفلسفة اليونانية وخاصة فلسفة أفلاطون والرواقية.

أمَّا كبير فلاسفة العالم آنذاك أفلوطين الفيلسوف السكندري المصري المولود في صعيد مصر، فقد تشكلت فلسفته على يد معلمه المصري "أمونيوس ساكاس" الذي كان مسيحيا ارتد عن المسيحية، وانتهج نهجا فلسفيا مصريا قديما يقوم على سرية التعاليم، ويبث تعاليما فلسفية عقلية ذات طابع روحي صوفي، ومن ثم جاءت تعاليم أفلوطين الفلسفية التي عبر عنها في مؤلفه الشهير "التاسوعات" ذات طابع شرقي واضح؛ إذ آمن بنوع من وحدة الوجود فيضية حركية سلسة تنبع بدايتها من "المطلق" أو "الواحد" - الذي لم يسمه إلها، رغم أنَّه بدا كذلك لكل قرائه - الذي من فرط كماله فاض - على غير إرادة منه - بالوجود على كل الموجودات من "العقل الكلي" إلى "النفس الكلية"، وهم يمثلون ما أطلق عليه أقانيم أو مبادئ العالم المعقول إلى "مبدأ الطبيعة" والعالم المحسوس بكل موجوداته المتكثرة في ظاهرها لكن حقيقتها الخافية والجوهرية هي الوحدة، حيث ترتد جميعها في حقيقة الأمر إلى المطلق الذي فاضت عنه وترتد إليه كما ترتد مياه النبع إلى النبع، أو كما ترتد أشعة الشمس إلى الشمس. وقد كانت هذه الفلسفة الإيمانية الفيضية ذات الطابع الصوفي صاحبة التأثير الأكبر بعد ذلك على فلاسفة الإسلام التوفيقيين وخاصة الفارابي وابن سينا، وليس كما هو شائع أن التأثير عليهما كان من أفلاطون وأرسطو، لأن فلسفتهما التوفيقية قد اعتمدت في واقع الحال على كتاب يدعى "آثولوجيا أرسطوطاليس"، وهو مؤلف نسب خطأ إلى أرسطو من مترجمه عبد المسيح ابن ناعمه الحمصي، وكان في الواقع مجرد بعض تاسوعات أفلوطين. وقد كان هذا المذهب الأفلوطيني يرى أن النفس الإنسانية قبس من النفس الكلية والإلهية، وهي أشبه بقطعه من الذهب النفيس مغطاة بطبقة طينيه (هي رمز الجسد) ينبغي تجليتها وتنظيفها لتعود صافية نقية طاهرة قادرة على الاتحاد بأصلها الإلهي هو آخر المذاهب الدينية أو شبه الدينية في هذا الزمن القديم شرقه وغربه الذي سلم نفسه بعد ذلك للفلسفات الدينية السماوية بفروعها الثلاثة، فكانت الفلسفات الإسلامية والمسيحية واليهودية فيما سمي بالعصور الوسطي قياسا على التقسيم الغربي للعصور الفلسفية. وقد رتبتهم بهذا الترتيب عمدا بحسب الأهمية وشدة التأثير في الآخرين.

غيضان السيد علي: هل يمكن الحديث عن تطور للدين اليوناني بالمفهوم الهيجلي أم إنه كان يدور في فلك الشرك والتوحيد في حركة دائرية مغلقة؟

د. مصطفى النشار: إنَّ العقائد الدينية اليونانية قد تطورت بلا شك - كما أشرنا من قبل - عبر مراحل مختلفة من المرحلة الأسطورية حتى بلغت الذروة من وجهة نظرنا عند هؤلاء الفلاسفة الثلاثة الكبار (سقراط وأفلاطون وأرسطو)، ولاشك أن الديالكتيك أو الجدل بمعناه التقليدي وليس بمعناه الهيجلي هو الذي لعب الدور الأكبر في ذلك التطور.

في الختام، نتوجه بخالص الشكر والتقدير للمفكر المصري الكبير الدكتور مصطفى النشار على هذه الرؤية الموسوعية للدين اليوناني التي لا تصدر إلا عن متخصص كبير بحجمه وثقله في الفلسفة بعامة والفلسفة اليونانية على وجه الخصوص.