الرسالة المحمدية بين السلطة الدينية والزمنية


فئة :  قراءات في كتب

الرسالة المحمدية بين السلطة الدينية والزمنية

 الرسالة المحمدية بين السلطة الدينية والزمنية

قراءة في كتاب "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" تأليف عبد المجيد الشرفي


تمهيد: يعرض هذا الكتاب الذي بين أيدينا (الإسلام بين الرسالة والتاريخ) لقضية مهمة شغلت الفكر الإسلامي قديمًا وحديثًا، وهي قضية الاجتهاد، حيث يرى المؤلف أننا بحاجة ماسة وملحة إلى رفع التباس خطير كثيًرا ما يوقع في سوء التفاهم؛ فالمجتهد قديمًا كان محل تقليد العامة، ومجتهد اليوم يبدي مجرد رأي لا يلزم صاحبه، فالاجتهاد المطلوب اليوم ليس هو الاجتهاد المقيد ولا الاجتهاد المطلق بمعناه الأصولي الفقهي، فذاك اجتهاد في استنباط ما يسمى بالأحكام الشرعية مما ليس فيه نص، وهو ينخرط في منظومة بالإمكان تجاوزها. إنما الاجتهاد المطلوب هو تفكر وتدبر يهمه الوفاء لجوهر الرسالة المحمدية، وهو لا يخشى معارضة المسلمات بدعوى أنها من المعلوم من الدين بالضرورة، متى تستوجب المعارضة، ولا يقدس السلف بقدر ما يدافع عن الخلف، لذا يدعو المؤلف إلى إرساء حوار في صميم المسائل المعروضة، ‘يعرض عن القشور والحواشي ويتمسك باللب والأصل.

ولقد صدر هذا الكتاب (الإسلام بين الرسالة والتاريخ) لمؤلفه عبد المجيد الشرفي عن دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2001، ويقع في 218 صفحة. ويشتمل على مقدمة وبابين رئيسين وخاتمة. المقدمة من (ص6-11) والباب الأول بعنوان (خصائص الرسالة المحمدية) ويتضمن خمسة فصول، الفصل الأول بعنوان (الإطار النظري والتاريخي) ص16-29. أما الفصل الثاني فيندرج تحت عنوان (الدعوة المحمدية) ص30-46. أما الفصل الثالث فهو بعنوان (مميزات الرسالة المحمدية) ص47-58. وجاء الفصل الرابع موسوما بـ (قضية التشريع) ص59-85. أما الفصل الخامس، فكان بعنوان (ختم النبوة) ص86-99. أما الباب الثاني فهو بعنوان (الرسالة في التاريخ) ويتضمن ثلاثة فصول، الفصل الأول بعنوان (خلافة الرسول) ص101-118. أما الفصل الثاني بعنوان (مأسسة الدين) ص119-131. أما الفصل الثالث بعنوان (التنظير للمؤسسة) 132-188. والخاتمة من ص195-202. وقائمة المصادر والمراجع من ص203- 218.

في مقدمة الكتاب يطرح المؤلف سؤالًا مهما لماذا هذا الكتاب؟ وما عساه أن يضيف إلى المؤلفات العديدة التي تناولت موضوع الإسلام تاريخًا وعقيدة وشريعة؟ والإجابة هي أن معظم ما ينتجه الفكر الإسلامي في عصرنا الحالي أو أيامنا هو إما إعادة لما جاء عند القدماء، أو توظيف وإسقاط تحتل فيهما الإيديولوجيا مكان الحقيقة والعلم (ونحن من جانبنا لا نتفق مع هذا الطرح لأن هناك كتابات إبداعية أتت بجديد في مجال الفكر الإسلامي. ثم يلقي الضوء على السبب الرئيس وراء هذا التقصير في تقديم تصور عام يجمع بين الوفاء للإسلام بما هو رسالة صالحة عبر الزمان والمكان ومقتضيات العصر، ويرجع ذلك إلى عاملين أساسيين: أولهما وهو الأهم، أن المجتمعات الإسلامية المعاصرة مجتمعات متخلفة حضاريا، لا تتفاعل إيجابيا مع ما تنتجه المجتمعات المتقدمة في ميادين العلوم والمعارف. ثانيهما: يتمثل في أن الدراسات الدينية كانت في الأغلب حكرًا على ذوي الثقافة التقليدي، وهؤلاء من وجهة نظره عاجزون بحكم تكوينهم عن مسايرة ما يحدث في حقول المعرفة الحديثة المتصلة بالظاهرة الدينية عموما[1]. (ونحن نختلف مع وجهة النظر هذه، لأن الدراسات الدينية والعلوم الدينية حمل لوائها الكثير من العلماء ذوي الثقافة الدينية المتجددة في عصور إسلامية كثيرة، وكان لهؤلاء العلماء بصمات واضحة).

من هنا تأتى أهمية هذا الكتاب الذي يراهن على المستقبل ويحاول قدر المستطاع الاستجابة لحاجات الفئات الصاعدة معا إلى فكر إسلامي متجدد يأخذ بمقتضيات العصر، ثم يشير إلى أن الاجتهاد يعتبر سبيلًا مهمًا في تقدم الأمة، والآخذ بيديها إلى سبيل التقدم والرقي، وهذا الاجتهاد جوهره الوفاء لجوهر الرسالة المحمدية، هو اجتهاد لا يخشى معارضة المسلمات، كما لا يقدس السلف بقدر ما يدافع عن الخلف، هذا الاجتهاد يجب أن يأخذ في الاعتبار المتغيرات الاجتماعية والظروف والأحوال المعاشة[2].

ثم يتطرق إلى تحليل الفصل الأول (الإطار النظري والتاريخي) ويشير إلى حقيقة تاريخية مهمة، وهي إذا كان تحديد الرسالة النبوية بمعناها الشائع يعد أمرًا يسيرًا إلى حد ما، على أساس أنها تمثل الخطاب الذي يضطلع النبي الرسول بإبلاغ مضمونه إلى معاصريه، إلا أن التأويلات المتعلقة بهذه الرسالة ومحتواها متعددة إلى ما لانهاية، لذا فإن تجليات المقدس وأشكال التدين عبر التاريخ قد عرفت تنويعات لا حصر لها، وتدل عليها الحفريات العديدة والاكتشافات الأثرية المتوالية، كذلك تدل عليها معتقدات الشعوب البدائية، وأن الدين قد أدى تاريخيًا دورًا أساسيًا في منح المؤسسات الاجتماعية صلاحية تتجاوز واقعها الاختياري، إذ ينزلها في إطار مرجعي يتسم في الآن نفسه بالقداسة والعمومية[3].

وبناء على هذا، فإن الرسالة المحمدية تقدم نفسها على أنها مواصلة للرسالات السابقة، ولا وجود لأي مانع من اعتبارها كذلك واستخلاص النتائج المترتبة عن هذا الوضع الذي يدعمه المنهج التاريخي الصارم، كما أن الفترة التي ظهر فيها الإسلام تمثل فترة تحول على مختلف الأصعدة، فترة شبيهة بالفترات التي تستدعي بطبيعتها بروز الأشخاص الذين يحملون أملًا رحبًا، ويفتحون الآفاق المسدودة، فكان محمد بن عبد الله هو الذي قام بهذه المهمة[4].

ثم يصل إلى الفصل الثاني (الدعوة المحمدية) ويلفت الانتباه إلى أن حياة محمد (ص) قد جرت تحت أضواء التاريخ الساطعة، وأن أقدم العناصر التي بلغتنا عن حياته قد امتزجت بعناصر من الذهنية الأسطورية (الميثية) التي كانت مسيطرة على فكر القدماء، ولم يعدل ويغير من هذا الاتجاه سوى ما يقدمه القرآن من صورة بشرية ثرية بعيدة عن المثالية المطلقة، من هنا يجب تخليص حياة محمد من الصبغة الأسطورية التي أضيفت عليها، لذا فإن النظرة الإيمانية تتأرجح بين الإشادة بخصال محمد المثالية من جهة، والتأكيد على أنه نال النبوة باصطفاء إلهي لا باستعداد بشري من جهة ثانية، والحقيقة أن الاصطفاء الإلهي لا يتنافى والاستعداد البشري، إنما الفارق بينهما أن من يقبل مبدأ الاصطفاء يقبله عن طريق الاختيار والإيمان، فلا يمكن الاستدلال عليه بالحجج العقلية وحدها[5].

فالرسالة النبوية تنطلق من الموجود لتغييره ولتوجيهه وجهة مخالفة لما نشأ عليه الناس وارتضوه، فهي تراعي المألوف، لا تقف عنده أو تزكيه، وأن الآراء الموروثة والقيم والأخلاق والمصالح لا تضمحل بمجرد ظهور الرسالة النبوية. إنها في الغالب تنحني انحناء القصبة عند هبوب الريح ولا تنكسر أو تموت، فهي تنتظر مرور العاصفة لتنتصب قائمة من جديد وتبرز في ثوب غير ثوبها القديم. وعليه، فإن الرسالة النبوية مصدرها الله، ومع ذلك هي مؤطرة في الزمان والمكان فيبلغها إنسان له كامل شروط الإنسانية، وأن التوحيد الخالص هو جوهر رسالة الأنبياء جميعهم، والإحسان والبر فعل الخير وإتيان الأعمال الصالحة هو ما دعوا إليه دون استثناء.[6]

ثم نصل إلى المحطة الثالثة من الكتاب (مميزات الرسالة المحمدية) ويستعرض في هذا الفصل طبيعة الرسالة المحمدية بغرض رفع الالتباس واستعمال المصطلحات حسب مدلولها الأصلي، لا الذي اكتسبته بفعل مؤثرات عديدة، وأن من أهم سمات ومميزات الرسالة المحمدية الطابع الشفوي للخطاب النبوي، والذي افتقدنا مثلما افتقدت كل الأجيال الإسلامية منذ زمن التابعيين، معرفة خصائص هذا الخطاب والظروف الدقيقة الحافة به، والشخص أو الأشخاص المعنيين والغايات المراد بلوغها، إلى غير هذا أو ذاك من الأوضاع الخاصة بكل أية أو مجموعة من الآيات أو سورة من السور. ثم يلفت الانتباه إلى حقيقة مهمة، وهي أن لفظ (القرآن) لا يصح أن يطلق حقيقة إلا على الرسالة الشفوية التي بلغها الرسول إلى الجماعة التي عاصرته، وأن الواقع التاريخي الذي لا يماري فيه أحد أن (الذكر) الذي وعد بحفظه هو المحتوى، وليس الظرف، هو مضمون الدعوة بما انطوت عليه من تبشير وإنذار، وأن القرآن عندما تحدى الكافرين بأن يأتوا بعشر سور أو حتى سورة واحدة، فليس ذلك لأنه معجز ببلاغته بقدر ما هو راجع إلى مصدره الإلهي[7]. (ونحن من جانبنا نرى أن المؤلف جانبه الصواب لأن القرآن يمثل محتوى الرسالة المحمدية نظريا وعمليا، وخاطب معاصري الرسول ومن جاء من بعدهم).

لذا المقصود بالقرآن ليس ذلك الخطاب الذي يصدر عن محمد فحسب، بل هو أساسًا المحتوى الذي أراد الله تبليغه ويصفه بأنه قرآن كريم في كتاب مكنون، فكان قياس الغائب على الشاهد هو الذي أوقعهم هنا كما في مناسبات عديدة، في إسقاط البشري على المتعالي وإخضاعه قسرا لمقولاته المحدودة، أي حدث خلط بين الحقائق الغيبية المجردة والحقائق البشرية، وللخروج من هذا المأزق يجب ألا نغفل من وجهة نظره الأسلوب الذي توخاه الوحي، والذي يقوم على الرمز والاستعارة والإشارة حتى يستوعب الإنسان المراد منه[8].

ثم يواصل المؤلف سيره في تحليل فصول الكتاب إلى أن يصل إلى المحطة الرابعة (قضية التشريع)، ويؤكد على أهمية الجانب التشريعي في القرآن، وهذا الجانب هو الذي عليه مدار الجدل والخصام أكثر من غيره، وأول ما تجدر ملاحظته في هذا النطاق أن الوحي لا يتحدث البتة عن (شريعة) بمعنى القانون الإلهي، بل يستعملها بمعنى الطريق، فوظيفته بيان الاتجاه الذي يجدر بالمؤمن أن يسير فيه، لذا هو ملزم من هذه الناحية. أما تفاصيل السلوك في هذا الاتجاه، فمنها مقدار ضئيل دل عليه، هو بمثابة الحلول الظرفية لمشاكل اعترضت إجماع المسلمين، وذلك ما يفسر الاختلاف فيها مراعاة للأحوال المختلفة. (ونحن نرى أن التشريع القرآني يمثل حياة كاملة وهو بمثابة قانون إلهي ملزم في جوانب كثيرة للمؤمنين به، لأنه تنزيل العزيز الحميد، ويراعي في نفس الوقت الظروف والأحوال مثل تشريعات العبادات والمعاملات)، ويؤكد أنه لا يجوز الفصل بين الرسالة المكية والرسالة المدنية، مثلما لا يجوز فصل ما يسمى خطأ (بآيات الأحكام) بعضها عن بعض، وعزلها عن السياق التاريخي. فالأحكام هي مصطلح فقهي يدل في ترتيب تنازلي على الواجب-المندوب والمباح والمكروه، وهذه التمييزات لا أساس لها في الرسالة المحمدية، فالرسالة تهتم بما هو خير وما هو شر في اللحظة التي وقعت فيها النازلة، فيكون ما ترشد إليه قاعدة لمعايير السلوك المستقيم والأخلاق الفاضلة التي يتعين على المسلم استنباطها[9]. (من جانبنا نشير هنا أن الرسالة تتضمن قيم ومبادئ تصلح لعصور لاحقة نأخذ منها العظات والعبر حتى وأن كانت في عصور سابقة)

ويشير إلى نقطة مهمة، وهي أننا إذا غضضنا النظر عن الإنتاج الفقهي الضخم الذي استنفذ طاقة أجيال وأجيال من العلماء ورجعنا إلى ما في القرآن من حث متواصل على الصلاة لاحظنا عدم التنصيص على عدد الصلوات وكيفيتها بدءا بالنية والطهارة، وأن النبي (ص) كان يؤدي صلاته على نحو معين، وكان المسلمون يقتدون به إلا أن ذلك لا يعنى من وجهة نظره أن المسلمين مضطرون في كل الأماكن والأزمنة والظروف الالتزام بذلك النحو. (ونحن نرى أنه يجب الالتزام بما جاء به الرسول، لأنه وحي من عند الله وتشريع إلهي، الرسول قال في حديث صلوا كما رأيتموني أصلي هذا توجيه للمعاصرين له ولمن جاءوا من بعده) ويقول إنه لم يتعمد إثارة القضايا المتعلقة بأركان الإسلام وشرائعه من باب استفزاز الشعور الديني، لأنه أكد أن من يرى ضرورة الالتزام بطرق الأداء التي أقرها الفقهاء يتعين عليه القيام بما يراه واجبا، فليس لنا ولا لغيرنا أن يقلل من شأن الانفعال الذاتي الخاص الملازم لأنماط العبادة في كل دين[10].

ثم يصل المؤلف إلى الفصل الخامس الذي يحمل عنوان (ختم النبوة) ويطرح سؤالا مهما هل المقصود بالقول إن محمدا خاتم الأنبياء هو أنه آخرهم ليس إلا، وأن رسالته المتأخرة في الزمن عن رسالات الأنبياء قبله مصدقة لها، ومهيمنة عليها فحسب؟ الإجابة أن هناك إمكانيتين منطقيتين يمكن أن يتم بحسبهما هذا الختم:

الإمكانية الأولى: هي التي ذهب إليها جمهور المسلمين، وبمقتضاها تختم النبوة من الداخل؛ أي أن الذي يختم يبقى داخل الإطار الذي ينتمي إليه، بمعنى ما لم يختمه لا سبيل إلى الخروج منه وتجاوزه، ولا يدل الختم في هذه الصورة إلا على ترتيب زمني، وعلى أن محمدا يأتي في آخر قائمة الأنبياء، والتي تبدأ بآدم وتنتهي بمحمد.

الإمكانية الثانية: هي أنها ختم لها من الخارج، أي أن هذا الختم يضع حدًا نهائًيا لضرورة اعتماد الإنسان على مصدر في المعرفة ومعيار في السلوك مستمدين من غير مؤهلاته الذاتية، وهنا الختم الخارجي هو إيذان بانفتاح عصر جديد في وجه البشرية، وتدشين لمرحلة جديدة في التاريخ لا يحتاج فيها الإنسان إلى من يقوده وإلى من يتكئ عليه في كل صغيرة وكبيرة، وتكون وظيفة نبي الإسلام في هذه الحالة إرشاد الإنسان إلى مسؤوليته الجديدة وتحميله تبعات اختياراته[11]. (ومن وجهة نظرنا أن الختم الداخلي للنبوة لا يتعارض مع الختم الخارجي الذي يشير إليه المؤلف، لأن الختم الداخلي ختم زمني ورسالته (ص) هي آخر الرسالات، ومع ذلك تتضمن بما تحمله من قيم ومبادئ فتح آفاق مستقبلية للإنسانية، فالرسول مبشرا ونذيرًا وليس يحمل وصاية على أحد، لأنه ليس بمسيطر على أحد)

وبناء على ذلك، فإن محمدا قد ختم النبوة ليقضي على التكرار وليفتح المجال للمستقبل الذي يبنيه الإنسان مع أبناء جنسه في كنف الحرية الذاتية، وهنا يكون محمد (ص) قد أرسى الدعائم المتينة لأخلاق كونية بحق، ولا يكون دوره محصورا في تقديم وصفات جاهزة ما على المسلم إلا أن يطبقها آليًا.

ثم يصل إلى تحليل الباب الثاني (الرسالة في التاريخ)، ويشير إلى أنه لن يهتم بالأحداث التاريخية في حد ذاتها، رغم أن ما حدث للمسلمين عقب وفاة الرسول مباشرة وطيلة فترة الخلافة الراشدة، لكن الذي يسعى إلى بيانه من وراء هذه الأحداث هو الجواب عن السؤال التالي: إذا كان ما قلناه عن طبيعة الرسالة المحمدية صحيحا فلماذا لم يطبقه المسلمون الأوائل؟ ويشير إلى أن الفارق بين الأهداف التي رمت إليها الرسالة ومآلها في التاريخ لا يستغرب، بل يكاد يكون القاعدة في الحركات الدينية والفلسفية، لكن من المؤكد أن ما أضفى عليهم من صفات الكمال والعصمة ليس له صلة بالواقع التاريخي، ولا داعي من وجهة نظره ضرب الأمثلة على انغماسهم في الصراعات العنيفة والدموية، فكتب التاريخ محشوة بالأخبار الدالة على هذه الظواهر وأمثالها[12] (هذا في رأينا تطبيق بشرى لمحتويات الرسالة المحمدية وطبيعي أن يخطأ ويصيب شأنه كل ما هو بشري ولا يقلل من قيمة ما تحتويه الرسالة من قيم ومبادئ).

ثم يلقي الضوء على الفصل الأول من هذا الباب ويحمل الفصل عنوان (خلافة الرسول) ويرى أن هناك عددا من الإمكانات المتاحة نظريًا لتجسيد الدعوة في الواقع الاجتماعي والسياسي إثر وفاة الرسول منها: 1-أنه لم يكن في ذاك الظرف سبيل إلى العودة إلى ما كانت عليه الأوضاع في الحجاز قبل البعثة.

2-تدل أحداث السقيفة على أن إمكانية الحرب الأهلية بين المسلمين كانت واردة. ويلفت انتباهنا إلى أن عامل السن والخبرة أثر حاسم في تعيين أبي بكر الصديق خليفة للرسول. (ليس هذا فحسب في اختيار أبي بكر، بل من جانبنا هناك عوامل أخرى منها أنه أول من آمن وصدق الرسول وضحى بالمال في سبيل الدعوة وأنه تحمل الكثير في سبيلها، وجعله الرسول يصلى بالناس في مرضه الأخير وكأنه إشارة غير مباشرة لخلافة أبي بكر للرسول) ويشير هناك إلى ملاحظتين أساسيتين يجب أن نضعهما في الاعتبار: الأولى أن الاعتبارات الدينية كانت إما غائبة تماما أو ثانوية في اختيار أبي بكر. (ليس صحيح بل الاعتبارات الدينية أساسية وجوهرية في اختيار أبي بكر للخلافة هذا من وجهة نظرنا)

الثانية: أن تعيين أبي بكر في هذا المنصب، مثل تعيين الخلفاء والملوك من بعده لم يكن إطلاقا شأنًا يهم جميع المسلمين نساء ورجال، بل لم يكن يشغلهم سوى زعمائهم وذوي النفوذ. (ليس هذا بصحيح كيف لا يكون اختيار خليفة للرسول يهم المسلمين أي شيء يهمهم إذن؟ ويرى أنه بعد وفاة صاحب الرسالة طفت القيم السائدة وغشت القيم الثورية التي أعلن عنها الدين الجديد[13].

ثم يواصل تحليله حتى يصل إلي الفصل الثاني (مأسسة الدين) ويشير إلى حقيقة تاريخية، وهي أن الإسلام لم يشذ عن سائر الأديان والمعتقدات من حيث خضوع الرسالة التي انبنى عليها لمقتضيات التنظيم والمأسسة، ويعرف المأسسة بأنها الانتقال من النظرية إلي التطبيق، وهذه المأسسة قد تمثلت في سيرورات ثلاث: أولا في التميز عن الآخرين، وإبراز ما يفصل طائفة المسلمين عن غيرها من المجموعات البشرية.

ثانيا: في تحويل مختلف أشكال العبادة إلى طقوس موحدة لا مجال فيها للاجتهاد الشخصي. (لا نتفق مع المؤلف في ذلك بل هناك اجتهادات شخصية في تاريخ الإسلام حتى في حياة الرسول مثل اجتهادات عمر بن الخطاب، وحديث بعث معاذ بن جبل إلى اليمن)

ثالثا: تحويل الدين إلى مؤسسة تمثل كذلك في تشكيل مجموعة من العقائد الملزمة التي لا يجوز إنكارها. (لا بل هناك من أنكر العبادات بعد وفاة الرسول وخير مثال حركة الردة وإنكار الزكاة على يد مسيلمة وغيره). ويتوصل إلى نتيجة مفادها أنه من الخطأ التمادي في السير على نهج السلف في كل ما ارتآه عندما عمل على الانتقال بالرسالة المحمدية من مستوى النظرية إلى التطبيق.[14]

ثم يتحدث المؤلف في الفصل الثالث (التنظير للمؤسسة) أنه من الأهمية بمكان أن نتبين آثار هذه الصيرورة في المجهود النظري الذي بذله العلماء لتجسيدها في مختلف جوانب الفكر الإسلامي، ويرى أن الرأي الشائع بخصوص التماثل والتماهي بين إنتاج العلماء في فترة التدوين والحلول التي ارتآها السلف، إنما هو وهم كبير يتعين تبديده. ويشير إلى أن القضاء بين المتنازعين كان من أهم الوظائف التي قام بها النبي (ص) في هذا المضمار وأوكله إلى عدد من الصحابة، وهنا حدث ما لم يكن بد من حصوله أو حدوثه، وهو التخلي إلى حد كبير عن مؤسسة التحكيم المعهودة في النظام القبلي وتعويضها بمؤسسة القضاء، وفي هذا الوضع لم يكن القاضي إذن يستمد سلطته مثل الحكم من رضا المتنازعين، بل يستمدها من السلطة السياسة التي عينته[15]. من هنا الاختلاف في الأحكام ترك أثر في علم مثل علم الفقه، وأن الفقهاء اعتنوا بالأحكام في البداية لتقليص الفجوة بين ما كان متنافرًا، ويحاولون أن يجدوا منظومة متماسكة، ومحاولة أن يكون للطائفة الإسلامية فيها نظام موحد، إلا أن الانتماءات حالت دون التوحيد الكامل. ويؤكد على حقيقة مهمة وهي أن الاختلاف بين المذاهب الفقهية ليس في مستوى الحلول التي يرتضيها كل واحد منها بقدر ما هو في مستوى تبريرات هذه الحلول[16].

ثم في الخاتمة يرى أن المقارنة بين الرسالة المحمدية وتطبيقاتها في التاريخ تطرح قضايا شائكة لا يجد المسلم بدا من مواجهتها بكل أمانة وشجاعة، وأن المظهر المؤسسي المتبلور في إنتاج العلماء ليس المظهر الوحيد لتجلي الرسالة في التاريخ، فإسلام الفئات الشعبية العريضة، والإسلام المعيشة عموما لا يتطابق دائما مع ما ينهض عليه إسلام العلماء، فالمجتمعات الإسلامية المعاصرة ليست بمعزل عن السيرورات التي تعمل عملها في سائر المجتمعات، ثم يطرح تساؤل أخير وهو إذا كان تلمسنا لخصائص الرسالة المحمدية ولتجلياتها في التاريخ صحيحًا أو بعيد عن الصحة فهلا يحملنا ذلك على النظر إلي مستقبلها بكثير من التفاؤل رغم جسامة العقبات والتحديات؟ ويجيب أن ما نشهده في السنوات الأخيرة من وعي إسلامي جديد ليبشر بأن طريق المستقبل مفتوح ولا يحتاج في سلوكه إلا نبذ الأوهام والثقة بالنفس والعمل الدؤوب[17].


[1]- عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2001، ص 7

[2]- عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص 10

[3]- المرجع السابق: ص 19

[4]- عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص25. انظر أيضا: أحمد شحلان: مفهوم الأمية في القران، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، عدد1، 1977، ص 123

[5]- عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ: ص 34

[6]- المرجع نفسه، ص 45

[7]- المرجع السابق: ص 50

[8]- عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص 56

[9]- المرجع السابق: ص 61

[10]- عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص 65

[11]- المرجع نفسه، ص 92

[12]- خليل عبد الكريم: شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، القاهرة، 1997، ص 145

[13]- عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص 106

[14]- عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص 123

[15]- المرجع السابق: ص 131

[16]- المرجع السابق: ص 144.

[17]- عبد المجيد الشرفي: الاسلام بين الرسالة والتاريخ، ص 202