الشباب المغربي وحرية المعتقد جدل القيم الكونية والخصوصية


فئة :  مقالات

الشباب المغربي وحرية المعتقد جدل القيم الكونية والخصوصية

 الشباب المغربي وحرية المعتقد جدل القيم الكونية والخصوصية([1])


إن المغرب أقر مبدئياً بأنه يحترم حرية المعتقد، لكنه عملياً لا وجود لذلك على أرض الواقع، كما هو الشأن مع مجموعة من الدول العربية - والتي لم يسمح المجال بالوقوف عندها - فهي الأخرى لا تقر بحرية المعتقد. إن الواقع العربي والمغربي تحديداً، يعج بمجموعة من التوجهات المعتقدية الجديدة، والتي تعبر عن نفسها عبر المواقع الإلكترونية وفي المنتديات، وأغلب الذين يعلنون عن تحررهم العقدي هم في الغالب من فئة الشباب.

على سبيل الاستهلال

من بين القضايا الشائكة في المعتقدات الدينية، نجد قضية حرية المعتقد، وقد شغلت هذه المسألة العديد من العلماء والمفكرين والباحثين، واليوم نجد أن السؤال حولها يتجدد، وذلك بالنظر لحجم التحولات التي مست المنظومات القيمية بالوطن العربي، ولعل إطلالة سريعة على ما تتداوله الصحف والمواقع الإلكترونية، وحتى بعض الندوات والملتقيات، يبين حجم النقاش النخبوي وحتى المجتمعي في هذه المسألة. ولكي نفهم بعضاً من هذه التحولات القيمية التي تؤثر بشكل كبير في قضية المعتقد، نشير إلى ما حصل في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وبداية الألفية الثالثة، حيث إن أزمة الحداثة، كما تحدث عنها، كل من "بيرغر" و"لوكمان"، والتي لا يمكن تفسيرها من خلال ما توصل إليه "كارل ماركس"، عندما تحدث عن مفهوم الاغتراب "Aliénation"، أو في ما طرحه من قبل دوركهايم في مفهوم "الأنومي"، أو حتى من خلال العلمنة التي حدثت بسبب تراجع دور المؤسسات الدينية في إنتاج القيم المجتمعية، بل إن سبب الأزمة هو في تعددية القيم، أو تعدد المرجعيات، وتنازع الفاعلين حول المرجعية المولدة للمعنى؛ فالأفراد ليس لديهم إشباع على مستوى تناسقية القيم، وأن القيم العامة لا تجد طريقها للتطبيق بشكل موحد وملائم في جميع مناحي الحياة المجتمعية. وبالتالي، يمكن الحديث عن ضياع المرجعيات، وأنه لا توجد حقيقة موحدة للجميع.

نفهم من هذا السياق، أن العالم دخل موجة من التحولات القيمة، عنوانها الأبرز، بروز "ظواهر اللامعيارية Anomie والصدمة، Trauma، والقلق من المجهول uncertainty، وفقدان الاتجاه disorientation. قد تدفع الناس العاديين إلى طرح أسئلة من قبيل: أين نحن؟ من أين أتينا؟ إلى أين نذهب؟ وهل ما نفعله جيد أم سيء؟

انطلاقاً من هذه المقدمة الاستهلالية، نتساءل كيف يمكننا فهم الخريطة الدينية والاعتقادية عند فئة الشباب المغربي؟ وكيف يمكن أن نفك السحر عن ظاهرة التوتر التي بدأت تظهر في هذه الساحة، بين مفهوم حرية المعتقد الذي تنص عليه القيم الكونية، وبين مفهوم "الردة" في الثقافة الدينية الإسلامية؟ وما القراءة السوسيولوجية الممكنة لفهم هذا الواقع؟ وما هي السناريوهات المحتملة في المستقبل؟

أولاً: حرية المعتقد بين القيم الكونية والقيم المحلية (مناقشة فتوى قتل المرتد)

حري بنا، ونحن نناقش مسألة حرية المعتقد، أن نقدم تأطيراً سوسيوتاريخياً لقضية حرية المعتقد من وجهة نظر الفكر الإسلامي، على اعتبار أن هذه القضية لازالت تطرح باستمرار، وما الضجة التي أثيرت مؤخراً حول فتوى المجلس العلمي الأعلى (المغرب) بشأن "قتل المرتد" إلا نموذجا لهذا الجدال. وقد تفاعلت هذه القضية ووصلت إلى البرلمان المغربي، مما حدا بوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، (أحمد التوفيق) إلى التأكيد بأن هذه الفتوى "تعبر عن رأي وليست ملزمة، لأنها غير منسجمة مع السياق العام للسياسة المتبعة بالمملكة المغربية".

ويفهم من هذا التصريح لوزير الأوقاف المغربي، أن المملكة المغربية، ما دامت تنص في دستورها لعام 2011، أنها تستلهم القيم الكونية كما هي متعارف عليها في شقها الحقوقي، ومن بينها بطبيعة الحال –حرية المعتقد- والذي تنص المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "أن لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية التعبير عن ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة، وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرا أم مع الجماعة". ولذلك، ذكر الوزير أن الفتوى لا تعدو أن تكون مجرد رأي، وهذا ما يجعلنا نتساءل: هل هناك تناقض بين المؤسسات الدينية الرسمية؟

إلا أنه قبل الإجابة عن هذا السؤال أو الإشكالية، لا بأس من الاقتراب من مضمون الفتوى وتفحصه في ضوء الاجتهادات المعاصرة، ونتبين هل هناك فعلا حرية المعتقد في الدين الإسلامي، نظرا لأن القرآن وردت فيه آيات كثيرة تتحدث عن حرية الاعتقاد، منها الآية المشهورة في سورة البقرة: "لا إكراه في الدين". وبالتالي كان لزاماً علينا أن نفحص الأمر جيّداً، ولهذا رجعنا إلى بعض التحليلات التي عالجت الموضوع، فوجدنا أن أحد منظري الحركة الإسلامية، وهو راشد الغنوشي، يؤكد أن حرية المعتقد مكفولة بنص القرآن، وأن ذلك يتماشى مع حقوق الإنسان: "... إن الذي حدث (يقصد محاربة الذين رفضوا إعطاء الزكاة في عهد أبي بكر) لم يكن رفضا للدين، ولكنه كان تمرداً على الدولة، ولو أن مجموعة رفضت دفع الضرائب لدولتها لحوربت، ولعد ذلك خروجاً على سلطة الدولة، ما يتطلب الرد الحازم، خاصة إذا حمل السلاح لفرض ذلك. إن الردة (التي حدثت في التاريخ) مسألة سياسية وليست عقائدية، (...) ومن دواعي الاختلاف حول الموضوع عدم وجود نص يفصل في صفتها(العقوبة)، ذلك أن أول مظهر لذلك حدث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما يفسر غياب نص قاطع". وفي مقطع آخر، يتحدث عن مفهوم الحرية في الإسلام استناداً إلى تفسير للآية: "لا إكراه في الدين"، فيقول "راشد الغنوشي": "تكاد تجمع كتب التفسير والفقه على اعتبار آية "لا إكراه في الدين"(البقرة: 256)، قاعدة كبرى من قواعد الإسلام وركناً عظيماً من أركان سماحته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح لأحد أن يكره أهله على الخروج منه". ولهذا عد مفكرو الإسلام حرية الاعتقاد من بين أسبق الحريات العامة، لأنها بمثابة القاعدة والأساس، وأنها أول حقوق الإنسان". إن التفسير الذي توصل إليه "الغنوشي"، يمثل في نظرنا تفسيراً متنوراً وثورياً وتجديداً في الفقه الإسلامي، لأنه يحاول أن يؤول النصوص الدينية بما يتوافق مع مقاصدها العليا. فحرية العقيدة، مكفولة بنص قرآني واضح لا لبس فيه ولا تأويل، ولهذا نستغرب من فحوى الفتوى التي صدرت عن المجلس العلمي الأعلى بالمغرب، وأيضاً من تصريح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، والذي يبين حدة التناقض بين المؤسستين.

ثانياً: الشباب المغربي ومطلب حرية الاعتقاد

من الناحية الكمية لا توجد أرقام مضبوطة عن حجم التبشير أو حتى عن اللادينيين أو "الملحدين" في المغرب، وهو كباقي المواضيع الإشكالية، يتم التلاعب فيه بالأرقام، فتقارير الولايات المتحدة الأمريكية حول "الحريات الدينية"، والتي تصدرها كل سنة تضخم العدد (44 ألف "متنصر" مغربي)، فيما يتحدث الباحثون المغاربة عن (2000 إلى 5000 "متنصر"). وبعيداً عن لغة الأرقام، فإن البحث الميداني العلمي هو الكفيل برصد حجم تطور عدد المتحولين الدينيين، أو ما يصطلح عليه بالإنجليزية بـThe religious conversion.

وقد تمكنا من تكوين هذه الصورة، نظرا لأن الظاهرة الدينية، قابلة للتخفي والتستر، وهذا ما تقربنا منه هذه المقابلة؛ فقد صرح لنا المبحوث (حمزة، 21سنة، عالي) وهو شيعي المذهب، عن كونه يشعر بانزعاج كبير جرَّاء عدم التنصيص في الدستور الحالي (دستور 2011) على حرية المعتقد، ولو تم ذلك لظهر في المغرب الآلاف من المنتسبين لهذا المذهب. يقول حمزة: "نحس بأن هناك تضييقا علينا، وأن الدولة لا تحترم حرية المعتقد، للأسف "العدالة والتنمية"(يقصد الحزب الإسلامي بالمغرب)، هدد بالخروج إلى الشارع إذا تم التنصيص على حرية المعتقد، وذلك في فترة 20 فبراير، بل هناك حرية ممارسة الشعائر الدينية. وهناك معطى قانوني دستوري يحد من حرية المعتقد، وهي مرتبطة بالدرجة الأولى بالشيعة، وليس خوفا من حملات المبشرين كما يدعون، لأنه لا يدخل إلى المسيحية إلا واحد أو اثنان في السنة على عكس التشيع الذي يتنامى بوتيرة سريعة".

ينم هذا التصريح عن وعي سياسي متميز لدى هذا الشاب، فهو يظهر أنه متتبع للشأن السياسي، بل إنه يعبر عن مواقف سياسية جد معبرة، فقد اعتبر أن موقف "حزب العدالة والتنمية"، هو السبب في عدم التنصيص على حرية المعتقد. ومن جهة ثانية، نقرأ في التصريح أن وتيرة تزايد الشيعة بالمغرب متنامية، مما يظهر إلى أي حد نحتاج في المستقبل القريب إلى دراسة سوسيولوجية لرصد هذا الواقع المتموج والشديد التركيب. وأكثر من ذلك، فإن رؤية الشاب الشيعي، تنطلق للمستقبل، عندما يأمل أن تعترف الحكومة المغربية بحق الشيعيين بالتواجد وبالتعبير عن مواقفهم والسماح لهم كباقي الأطراف من ممارسة حقهم الديني والعقدي والمذهبي تحت شعار "الدين لله والوطن للجميع"، لنستمع لهذا المقطع:

"نتمنى أن يعترف المغرب بحرية المعتقد ويعمل على تطبيق ذلك، ونطالب بعدم التمييز، لأننا في النهاية إخوة. هناك عنف رمزي يمارس علينا "(حمزة، 21 سنة، عالي).

إن جدلية العلاقة بين حرية المعتقد وحماية الدين، شكلت على الدوام محور جذب ونقاش، وتقاطب في جميع الدول، وقد ظهر ذلك في التجربة المغربية، إبان إطلاق ورش التعديلات الدستورية الأخيرة التي انطلقت مع الربيع العربي. وإذ نعتقد أن الأمر لن يتوقف بمجرد تغيير القوانين أو الدساتير، بل إن ذلك سيبقى خاضعا لعدة سياقات وحيثيات وعوامل، لعل من أهمها دور الإعلام في تحريك المعارك والنقاشات والصراعات حتى، فإن ذلك ما يؤشر في نظرنا إلى وجود تحولات عميقة في الخريطة الدينية بالمغرب، قد لا ينتبه إليها بالشكل المطلوب.

ثالثاً: خلاصات واستنتاجات وآفاق للتساؤل والحوار

على الرغم من الإقرار مبدئياً بأن المغرب يحترم حرية المعتقد والمذهب، فإنه لا وجود لذلك عملياً في الواقع، كما هو الشأن مع مجموعة من الدول العربية – والتي لم يسمح المجال بالوقوف عندها- فهي الأخرى لا تقر بحرية المعتقد. إن الواقع العربي والمغربي تحديداً، يعج بمجموعة من التوجهات المعتقدية الجديدة، والتي تعبر عن نفسها عبر المواقع الإلكترونية وفي المنتديات، وأغلب الذين يعلنون عن تحررهم العقدي هم في الغالب من فئة الشباب.

لكل ذلك، أعتقد أن النخب العلمية والأكاديمية، عليها أن تقتحم هذا الموضوع، بإنجاز دراسات معمقة للكشف عن الخريطة الدينية في المجتمع المغربي والعربي على السواء، وتكون هذه الدراسات، مقدمة لإقناع السياسيين وصناع القرار، بضرورة تغيير القوانين والمسلكيات والسياسات العمومية، المتوجهة إلى الشباب بشكل خاص، في إطار يضمن حرية المعتقد حقيقة، ويزيل جميع أنواع التناقضات والتوترات التي لا زالت تكتنف الخصوصية العربية، فمطلب حرية المعتقد لم يعد مطلباً دينياً أو قانونياً، بل هو مطلب تنموي بالدرجة الأولى، فلا تنمية بدون حرية ولا حرية بدون حرية المعتقد.


[1]- نشر هذا المقال في مجلة ذوات، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 2