سوسيولوجيا التحوّلات الدينيّة التديّن الفردي نموذجاً


فئة :  مقالات

سوسيولوجيا التحوّلات الدينيّة التديّن الفردي نموذجاً

لعبت العولمة - خصوصاً الثقافية - دوراً كبيراً في تغيير مجموعة من المرجعيات والمفاهيم والرؤى والتصورات والمعتقدات، حتى تلك التي تبدو عصيّة على التغيير والتحول والانتقال، ومنها بطبيعة الحال، الديانات السماوية الكبرى. ولعل من أهمها الديانة الإسلامية، فقد بينت السنوات الأخيرة (20 سنة الأخيرة)، حجم التحولات والتغيرات التي طرأت على أنساق التمثلات والسلوكات والمواقف والاتجاهات والقيم في تمثل الدين الاسلامي عند غالبية المجتمعات الإسلامية. فكيف يمكن فهم سرّ هذه التحولات في الحقل الديني الذي يتميز بحدة التعقيد والتركيب؟ وما المظاهر الكبرى لهذه التحولات؟ وما العوامل المسببة لهذه التحولات؟ وبأي معنى يمكن الحديث عن التدين الفردي، كأحد المظاهر الكبرى المميزة لهذا النسق؟

بالرجوع إلى بعض الدراسات والأبحاث التي تناولت إشكالية تأثير العولمة على طبيعة التدين في العالم، نجد أنّ بعض الباحثين (أولفي روا[1]، جيل كبيل،... وغيرهم)، وبمستويات مختلفة- يعبّرون عن كون العولمة، كفكر ومنظومة قيم ومشروع حداثي، ساهم في إحداث مجموعة من القطائع والتصدعات في الخصوصيات الثقافية للعديد من المجتمعات، لاسيما الإسلامية منها تحديداً. حيث خلقت موجات التحديث القسري أو المفكر فيه مجموعة من المظاهر المؤرقة التي تؤشر على وجود "أزمة هويّة" عند غالبية أبناء العالم الإسلامي، ففي الوقت الذي ينحو خطاب العولمة إلى سحق كلّ الخصوصيات الثقافية والدينية والقيمية، مرّة باسم التحرر ومرّة باسم التحديث، ومرّة باسم القيم الكونية، فإننا نعثر على ردود فعل عنيفة أحياناً تدعو إلى التعلق بالقيم الخصوصيّة إلى حد التقوقع والدوغمائية، وفي أحيان كثيرة نعثر على خطاب توفيقي تلفيقي "البريكولاج" بلغة "ليفي سيتروس". ومفاد هذا الخطاب الثاني هو أنّ المسلم يمكنه أن يعيش في هذا العالم المعولم، لكن مع الاحتفاظ بقيمه وبدينه وبثقافته. في هذا الصدد يمكن الرجوع إلى الاستقصاء الكبير حول "من يتحدث باسم الإسلام[2]"، لجون اسبيزيتو، وداليا مجاهد، 2009، إذ يبين بلغة الأرقام والمعطيات نماذج من هذه الإجابات التي تتبنى خطاباً توفيقياً بين العولمة/ الحداثة المعاصرة، من جهة وبين الدين من جهة أخرى.

بيد أنّ الأمر الذي حفزنا على كتابة هذا المقال هو أنّ المسألة لا تتوقف عند هذا الحد، أي إيجاد إجابة جماعية لتحدٍ عولمي جارف. بل إنّ ما نودّ أن يتمّ الانتباه إليه هو بروز حالات من التدين في العالم الإسلامي، شكلت شبه قطيعة في نمط التدين السابق، ولعل أبرزها على الإطلاق: حالة التدين الفردي، فما المقصود بهذا المفهوم؟

إنّ مفهوم التدين الفردي جاء نتيجة طبيعية للتحولات الكبرى التي عرفها الحقل الديني، وهو يعني أنّ الفرد/ المسلم، خصوصاً الشاب، يصبح مرجعاً لنفسه في الاستمداد والتلقي والممارسة والتوجيه والسلوك والتمثل. حيث يسقط كلّ المرجيعات والسلطة الدينية، سواء كانت تقليدية كالمسجد والأسرة والزاوية، أو حركات الإسلام السياسي، أو غيرها من المؤسسات الرسمية أو غير الرسمية التي كانت تنتج وتعيد إنتاج القيم الدينية. ولا شك أنّ هذا المفهوم، جاء ليحلّ محلّ التدين الجماعي المرتبط بالولاء للأسرة وللقبيلة وللأمّة وللجماعة وما إلى ذلك. ومن بين مميزات التدين الفردي أنّه يستطيع أن ينشئ نموذجه التديني، بمعزل عن كلّ المؤثرات والحيثيات والقواعد والأعراف والمؤسسات التي كانت تشرط طبيعة التدين عمّا سبق[3]. وغني عن البيان أنّ هذا النمط التديني الحديث، يحتاج إلى دراسات واستقصاءات لفك ألغازه الخفية، لكنّ الذي يهمنا في هذه المساهمة هو التركيز على بعص العوامل التي ساهمت في ظهوره. فكيف يمكن شرح ذلك؟

أولاً: الثورة المعرفية وتأثيرها على إنتاج وإعادة إنتاج القيم الدينية

مثلت الثورة التربوية التي عرفتها مجتمعاتنا الإسلامية محطة فارقة في تدويل المعلومة، وفي الوصول إليها وفي انتشارها وفي إنتاجها وإعادة إنتاجها. ولا نعني بالثورة التربوية الوقوف عند المؤشرات الكميّة التي تقدمها التقارير الدولية والإقليمية والمحلية، والتي تتحدث عن تراجع في اكتساب المعرفة في الرقعة الإسلامية مقارنة بباقي التجمعات البشرية الأخرى، بقدر ما يهمنا أن نلاحظ آثارها على واقع التدين اليومي والمعاش. إذ أنّ وصول أعداد لا بأس بها إلى مصادر المعرفة والكتابة والقراءة وفي بعض الحالات القدرة على التأليف، فرصة لتملك جزء من السلطة، ونقصد تحديداً السلطة المعرفية الدينية، التي كانت محتكرة من قبل "أهل الحل والعقد" أو العلماء أو الحاكم...، وقد أظهر هذا التحول، قدرة على انتزاع التحكم المعرفي الديني، لعل من أبرز سماته الكبرى التنامي الكبير للفتاوى في حياة المسلمين اليوم، وما يصاحبها من تداعيات في تمثل الدين والعيش به. هذا علاوة على قدرة الأجيال الجديدة على بناء معرفتها بالمقدّس بطريقة عقلانية وتلفيقية واستهلاكية، حتى في التعامل مع نصوص الوحي، سواء أكان قرآناً أم سنّة. لكنّ أهمّ تجلٍ للتدين الفردي في علاقته بتملك المعرفة الدينية، هو تحرير القول المقدّس من يد سدنة "أهل الحل والعقد" في العالم الإسلامي. طبعاً هناك آثار جانية لهذا التحوّل، وهي تكون في جميع مراحل التغير الاجتماعي، لكنّ الذي يهمنا هو القدرة على مزاحمة هذه المؤسسات التقليدية التي لم تستطع أن تواكب التطورات الجديدة التي حملتها العولمة للدين، فلم يعد هناك مجال خصوصي، الكلّ دخل في مرحلة إعادة التشكل والتشكيل.

ثانياً: تأثير الإعلام الديني على التدين الفردي

لم يكن للعامل الأول المعرفي أن يخترق وحده طبيعة التدين ويحدث كلّ تلك التحولات المهمة والخطيرة في آن واحد، بدون أن يكون مسنوداً ببروز فاعلين جدد في الساحة الدينية ـ الذين كانوا نتيجة الآثار العميقة للعولمة ولموجة الثورة الإعلامية الجديدة - وهم الذين يمكن وسمهم بـ"الدعاة الجدد[4]". إذ عمل الإعلام الديني الجديد على فك الارتباط بالمؤسسات التقليدية وبالمنبر وبالخطيب الأرضي، والتلقي المباشر إلى نوع جديد من الخطاب الفضائي (نسبة إلى الفضائيات التي أصبحت تؤثث مشهدنا الإعلامي الإسلامي)، وإلى "دعاة عصريين حداثيين"، وإلى لغة وخطاب جديد متساهل في القضايا الأخلاقية، منفتح على قضايا العصر (محاربة التلوث، المخدرات، حوادث السير، ...)، ومستلهم للأدبيات الجديدة في التنمية البشرية، وقدرة على التواصل والإقناع والتعبئة.

كلّ ذلك أفضى إلى بناء منظومة جديدة من القيم الدينية عند الشباب المسلم ـ بشكل خاص- وعند الفتيات بصفة تستحق كلّ المتابعة والاستكشاف. وقد كان لافتاً أن يتلقى الجيل الحالي أطره المرجعية وتصوراته وأفكاره من خلال فئة من "الدعاة" قدّمت خطاباً دينياً يركز على القيم الفردية في التدين، وكأنّ الشاب المسلم والشابة المسلمة يتدينان في عالم منعزل عن الآخرين، ودون مراعاة للشروط البنيوية التي تؤثر في السلوكات والممارسات والاتجاهات. ولكي نعطي مثالاً على ذلك، يمكن الإشارة إلى نوعية الخطابات التي كان يروجها الداعية "عمرو خالد" في العشرية الماضية من القرن الحادي والعشرين. إذ أنه ذات مرّة طلب من مستمعيه ومتتبعيه ومشاهديه أن يقوموا بحملة مليون ختمة للقرآن؟ وفي مرّة أخرى، خرج بمشروع إنشاء "جمعيات لصناع الحياة"، وكلها مشاريع ومطالب كانت تلقى إقبالاً عند الفئة العريضة من محبيه من الشباب، وقد سبق لنا أن توقفنا عند نوعية هذه الاستجابات أثناء إجرائنا لبحث دكتوراه حول "تديّن الشباب المغربي، 2013، جامعة محمد الخامس". حيث عبّر لنا العديد ممّن استعنا بهم عن كونهم معجبين بهذا الداعية "الحداثي" و"اللطيف" (أي الجميل)، الذي لا يتحدث معنا بلغة "أهل القبور" و"العذاب" و"الجنة" و"الوعد" و"الوعيد"، بل إنه يقدّم لنا الإسلام في صيغة معاصرة وحداثية.

جميل جداً أن نجد مثل هؤلاء الشباب والشابات يعبّرون عن إعجابهم بهذا النموذج "الدعوي"، لكنّ الذي يجمل بنا الانتباه إليه، هو أنّ نوعية هذا الخطاب يتجاهل الشروط الموضوعية التي تشرط التدين عن الأفراد والجماعات، ويحدث شرخاً في تمثل التدين بطريقة يوتوبية حالمة، لأنّه يقدّم تدين الفرد أولاً وقبل كل شيء هو الشرط لتحقيق التقدم والرقي والسعادة الدنوية والأخروية، وهذا لعمري اجتزاء واختزال أيّما اختزال لطبيعة الدين ولفلسفته في الوجود.

ثالثاً: خلاصات وآفاق للتساؤل والنقد والحوار

بدون مبالغة، يمكن القول إنّ موجة العولمة والتحديث مسألة حتمية في كلّ المجتمعات، بما فيها تلك المجتمعات المتقدمة التي قطعت أشواطاً معقولة في التحديث المعقلن والهادئ. وبطبيعة الحال، فإنّ تدفقات المعلومات والقيم والرموز والصور وما إلى ذلك، تؤثر في كلّ الأنساق، بما فيها الأديان. وقد تلقت المجتمعات الإسلامية هذه التدفقات بأبهى صورها وتجلياتها، لعل من بينها ما سمّيناه في هذه المساهمة "التدين الفردي"، الذي يجب ألّا يفهم أنه تدين "أسوأ" أو "أفضل" من التدين الجماعي. إذ أننا لا نصدر هنا عن حكم قيمي، بقدر ما يهمنا أن نفهم الظاهرة بشكل موضوعي وبارد. ولعل طبيعة هذا التدين والعوامل التي تغذيه تساهم بشكل أو بآخر في بروز نموذجين من التدين: الأول الميل نحو الردكلة أو التعصب والتخندق[5]، لما يغذيه من خطاب هوياتي عزيز على النفس وأثير عندها، وما يلقيه في "المستهلك" من صور ونماذج تحنّ لماض يوتوبي حالم. وفي المقابل، هناك توجه ثانٍ، ما زال يؤثث هذا الفضاء الديني الشبابي المسلم، وهو بروز القيم الاستهلاكية الدينية، بحيث يخيل لك وأنت تلاحظ طريقة التدين الحالي، وكأنك في "سوق ممتاز" (سوبر ماركت)، يعمل الفرد على تقمص شتى أنواع "المعروضات" الدينية، بما يتلاءم مع نوعية الاستراتيجيات التي يقيمها الفرد في علاقته مع المقدّس. ولهذا لا نستغرب عندما نشاهد نماذج من هذا التدين، كـ"حجاب البحر"، و"الأغنية الإسلامية" و"الفستان الإسلامي"، و"المشروب الإسلامي الحلال[6]" مع "كوكا كولا"، والعناق الحار مع الحجاب والنقاب و"الرقص الإسلامي" وما إلى ذلك من مسمّيات.

إنه تدين فردي وفرداني يقطع مع المسلكيات القديمة ومع كلّ المؤسسات الرسمية وغيرها، ويتجاوز مرحلة الإسلاموية وما بعد الإسلاموية...، إنّه تدين بطعم العولمة والحداثة وما بعد الحداثة، إنّه خليط من المقدّس والمدنّس، يخالف ما توصل إليه أبو السوسيولوجيا الدينية "إميل دوركايم"[7] في القرن التاسع عشر.


[1] أوليفي روا، الاسلام المعولم، ترجمة، عزيز لزرق، منشورات، مركز طارق بن زياد، الرباط، 2004

[2]جون إسبيزيتو، مجاهد، "داليا كيف يفكر حقا مليار مسلم" ترجمة، عزت شعبان، 2009، دار الشروق/القاهرة.

[3] محمد أبو الرب، "دور الخطاب الدعوي التقني في بروز المجتمعات الشخصانية"، المستقبل العربي، عدد عدد397، السنة الخامسة والثلاثون، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان.

[4] فؤاد وسام، "التدين الجديد: محاولة لفهم الظاهرة والأبعاد"، أشرف على التحرير، شبكة "إسلام أون لاين.نت"، والدار العربية للعلوم ناشرون، ط، 2008، (لبنان).

[5] انظر في هذا الصدد: رول ميير، السلفية العالمية: الحركات السلفية المعاصرة في عالم متغير، ترجمة، محمد محمود التوبة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2014

[6] محمد مصباح، الاعلام الجديد العولمة وتحدي خصخة القيم، مقال منشور، في مؤسسة مؤمنون بلا حدود، انظر الموقع التالي:

http://www. mominoun.com/articles/الإعلام-الجديد-العولمة-وتحدي-خصخصة-القيم-1369

وجب الاشارة إلى أننا اعتمدنا على بعض الأفكار الواردة في الدراسية، لكن بطريقتنا الخاصة، لذا وجب التذكير والتنويه.

[7] انظر نقدا لهذين المفهومين: المقدس والمدنس كما يستعملها التقليد الدوركايمي، عبد اللطيف الهرماسي، "في الموروث الديني الإسلامي: قراءة سوسيولوجية تاريخية"، التنوير للطابة والنشر والتوزيع، لبنان، 2012، خصوصا القسم الأول: قضايا في المنهج والنظرية.