الشرط التربوي في الخطاب الحداثي: المدى والحدود


فئة :  مقالات

الشرط التربوي في الخطاب الحداثي: المدى والحدود

توطئة:

لم يكن بدعاً من الأمر أن ينكبّ الفلاسفة في الخطاب الأنواري-الحداثي على الكتابة بغزارة في مجال التربية، وأن ينخرطوا في التنظير لها حتى اعتبروها "تمريناً فلسفياً"، لا بد من إنجازه ليتأتى لهم أن يفحصوا في ضوئه أطروحاتهم الفلسفية بشأن تجديد الإنسان وتطوير المجتمع البشري في أفق يحقق اكتمال النوع الإنساني باكتمال الوعي بالتاريخ وبالتقدم كفكرة تقود التاريخ بآلية التربية؛ لذلك تعاطى منظرو الفكر التنويري لتجديد النظر في المسألة التربوية، ولم يكونوا فيها من الزاهدين.

وقد درج التقليد الفلسفي منذ أفلاطون على اعتبار التنظير للتربية من صميم، بل من صلب، الاشتغال الفلسفي المتعلق بالسياسة التي يحصل بها تجويد الوضع الإنساني؛ لذلك انطوى كتاب الجمهورية لأفلاطون على رسالة تربوية لفلسفته المثالية، ولم تخلُ الفلسفة الأرسطية من إيماءات تربوية، صريحة أو ضمنية، ضمّتها دفات كتبه الشهيرة ككتاب السياسة وكتابي الأخلاق لنيقوماخوس، والأخلاق لأديموس...

 تعاطى منظرو الفكر التنويري لتجديد النظر في المسألة التربوية، ولم يكونوا فيها من الزاهدين.

وهكذا، لم يتخلّ الفلاسفة عن العناية بالتربية، ولم يكفّوا عن الكَلَف بها حتى اعتبروها مَهمّة أساسيّة وجوهرية من المهَمات الفكرية السّامية للفيلسوف بوصفه مربيَ الإنسانِ؛ ولـمّا كانت التربية الاجتماعية، وبالتالي الإنسانية لا تغيب عن المشاريع الفكرية للفلاسفة مهما أوغلت أقدامهم في عوالم التجريد، فإنّ استجلاء البعد التربوي الصريح أو المسكوت عنه، الضمني أو المعلن، في رُؤاهم الفلسفية شأنٌ لابدّ من تقصِّيه لمن يطلب توضيح الرؤية وإضاءة الأفق الإنساني؛ لذلك على المفكِّر أن يفطِن للبعد التّربوي المطويّ في ثنايا كلِّ فلسفة، حتى وإن لم يفرد الفيلسوف كتاباً ويخصِّصه للمسألة التربوية؛ غير أن التّربية ستأخذ مع الفكر الأنواري بعداً جديداً، وستحتلّ مكانة مركزية في الخطاب الفلسفي الحداثي، ذلك أنّ الرهان على التربية سيغدو قوياً، وسيتمكن الخطاب التربوي من احتلال الصدارة في الفكر الحداثي الغربي.

ولهذا سنتولى النظر في القيم التربوية التي حملها الخطاب الحداثي، وسننطلق من إبراز الكيفية التي اتّخِذت فيها التربية بمثابة شرط جوهري للتنوير وبالتالي للحداثة، كما سنعمل على رصد المحطّات الكبرى واستكناه اللحظات الفكرية المؤسسة للخطاب التربوي الحداثي من خلال النماذج التي تجسّدت في أعمال فلاسفة - مربِّين من عيار روسو وكانط...، وسننطلق من هذا الأخير دون أن نراعي الترتيب الزمني، لأننا سنعالج الإشكال من منطلق المسوِّغات الأنوارية التي شكلت الخلفية الموجهة للتربية من خلال ضبط العلاقة القائمة بين الخطاب الحداثي والتربية بوصفها؛ أي التربية، الشرط الضروري الذي اقتضاه الفكر الأنواري ورفعته الحداثة شعاراً لها.

استشكال:

نعتقد جازمين أنّ استشكال العلاقة التي نشأت بين الخطاب الحداثي والشرط التربوي، ستفسح لنا إمكانات المضيِّ حُقُباً نحو غايتين نتغيّا من ورائهما تحقيق هدفين اثنين: يتحدّد أولهما في استمداد القيمة العملية التي قد تُسعفنا في النهوض بقضايا ترشيد المجتمع الإسلامي، لا اقتباساً جاهلاً بالفروق، ولا نقلاً متجاهلاً للمماثلة المستحيلة بين لحظتين تاريخيتين متباينتين، وحضارتين مختلفتين، وإنما بالوعي بمدى وحدود البعد الكوني للخطاب الذي يخاطب الإنسان حيثما كان.

وأما ثانيهما، فينحصر في الاشتغال، تفاعلاً وتكاملاً، بالراهن المتعلق من جهة بإشكالية النهوض في الخطاب الإسلامي المعاصر بشرائط التنوير الذي تلعب فيه التربية دور الآلية والمحرك الفعلي والحقيقي لترشيد الإنسان المسلم، ومن جهة أخرى، بتأمين الجدل الإيجابي في الخطاب التنويري من النقد ما بعد الحداثي خصوصاً من الرؤية السلبية التي باتت تقوِّض ما أقامته الحداثة من قيم نُقدِّر، في سياقنا العربي الإسلامي، أننا ما نزال في حاجة إليها؛ ذلك أنّ ما كالته رؤية كلٍّ من ثيودور آدورنو وهوركهايمر من مراجعات نقدية للمفاهيم الأنوارية، وما كشفت عنه جدلية الأنوار من تهافتات للمبادئ التي أشادت بها الحداثة وعلى رأسها مفهوم التقدُّم وفكرة التفاؤل في شأن مستقبل البشرية، لا يعني من يهتم بالتحولات الإيجابية التي حملها الفكر الحداثي حين عوّل على التربية واعتبرها آلية للتنشئة الاجتماعية.

يمكن أن ننطلق من التساؤلات التالية التي نعتبر أنها ستضيء لنا عتمات استشكالنا للعلاقة بين الحداثة والشرط التربوي:

- كيف أمكن للحداثة أن تتّخذ التربية كشرط لإمكان تحققها؟

- بأيِّ معنى حملت الحداثة مشروعاً تربوياً وشمولياً للإنسان؟ وما مدى وحدود هذا المشروع؟

لم يتخلّ الفلاسفة عن العناية بالتربية، ولم يكفّوا عن الكَلَف بها حتى اعتبروها مَهمّة أساسيّة وجوهرية من المهَمات الفكرية السّامية للفيلسوف بوصفه مربيَ الإنسانِ

- إذا كانت الحداثة قد رفعت شعار "تحسين النوع البشري"(كانط)، وتحرير الإنسان من كلّ سلطان بإطلاق سلطته على نفسه وعلى الكون(روسو) من خلال التربية، وإذا كانت قد هيّأته لاستقبال الأنوار، فهل استطاعت أن تحقِّق الترشيد العقلاني الأمثل للإنسان؟

- ما موقف الحداثة والتنوير من الفكر الديني في علاقته بالتربية خصوصاً عند كلّ من روسو وكانط وهيغل؟ وما هو الدور الذي تبقّى للدين في التربية (فيبر)؟

- هل استطاعت الحداثة أن تنقل الإنسان من الحالة الطبيعية إلى حالة التسيّد على الطبيعة ليحقق غاياته بوصفه إنساناً، وكائناً اجتماعياً ثم بوصفه حيواناً سياسياً (مونتيسكيو، روسو،...) ؟

- ما هو الخيط النّاظم بين الخطابات الفلسفية الحداثية حول التربية؟ وما هي صُور وأشكال النظم التعليمية الحداثية والتحولات التي حصلت في التربية على مستوى الخطاب والممارسة (فيبر والتعليم البروتسطانتي)؟

- لقد نُسجت في الخطاب الفلسفي لكلّ من كانط وهيغل وشائج فكرية لم تُقصِ البعد الديني من الخطاب التربوي، فهل كانت ثمَّة من ضرورة للتّفكير في البعد الدِّيني للخطاب الحداثي حول التربية؟ وهل أمَّن تجديد النّظر في الموضوعات اللاهوتية انفتاح الفكر على آفاق مُشرعة على المستقبل يمكن استلهامها، في سياق الفكر الإسلامي المعاصر، واتخاذها شرطاً لحداثة إسلامية ممكنة؟

اللحظة الكانطية:

لقد أسلفنا أننا لن نراعي الزمن الخطي؛ لأننا نشتغل في زمنية لها منطقها الفكري الذي يحتاج منا إلى فهمه لا في تعاقبه وتواليه، بل في بنيته ونسقه؛ وعلى هذا الأساس، اخترنا أن نعالج الإشكالات التي طرحناها في لحظات نربطها بفيلسوف معين تجمعه بغيره محددات يستوعبها سياق واحد؛ ولما كنا قد حصرنا غرضنا في بيان الشرط التربوي في الخطاب لحداثي، فقد قدّرنا أن نتخذ إلى ذلك سبيلاً التمسناه في ما يعرف بالـ"نموذج المثالي"، بالمعنى الفيبيري، حيث افترضنا نموذجاً تربوياً يحقِّق الحداثة كمطلب في سلوك الفرد، وفي تفاعل الأفراد داخل المجتمع، وفي تطوير النوع البشري، نموذجاً يحظى بالقدرة على تحقيق شروط إمكان الحداثة في أفقها التنويري، وذلك حتى نتمكن من إبراز التصور الحداثي للتربية بوصفها المقوم الأساسي لإقامة المجتمع الحداثي.

وليست تخفى على من خبر تشكل الخطاب الحداثي الغربي ما كانت تحتلُّه اللّحظة الكانطية من أهمية كبرى في هذا السياق؛ فقد كتب كانط في التربية، وأودع في رسالته التربوية أمهات أفكاره، وسنلاحظ في ما سيأتي أنّ اهتمام كانط بالتربية لم يكن من قبيل العناية العارضة، بل كان اشتغاله بالتنظير التربوي من صميم مشروعه التنويري الذي قصد ترشيد الإنسان، لقد اقتضت الرؤية الأنوارية التربية كشرط لتحققها، لذلك كان الخطاب الأنواري، في جوهره، خطاباً تربوياً.

كتب كانط في التربية شيئاً قد يبدو جديداً بالنسبة لمن يدمنون على قراءة كانط والفلسفة الكنطية في جانبها الفلسفي الإشكالي، غير أنّ هذا الجديد قد يدفعنا إلى التساؤل عن البعد الفلسفي لآراء كانط التربوية، حتى وإن كان كانط لم يكن يستحضر كتبه الفلسفية ليبني عليها تلك الآراء، وإن لم يكن قد عمد إلى تأليف "في التربية"، وإنما "اضطرته ظروف التدريس في الجامعة إلى تسجيل بعض تأملاته في هذا الموضوع"[1]؛ يبقى أمامنا إذن افتراضان : إما أن نتعامل مع كتاب كانط "في التربية" (uber pedagogik) في غربة عن فلسفة كانط، فنقبل معه دعوته إلى عدم إعطاء مساهمته التربوية كبير اهتمام، وإما أن نحاول رفع هذه المفارقة باعتماد قراءة "في التربية" قراءةً تستهدف استكناه هذا البحث بواسطة المنطلقات والمحددات الفلسفية، سواء انطلاقاً من فلسفة كانط نفسها أو من مؤشرات الأفكار التربوية عليه (خصوصاً أفكار روسو وبازهوف وغيرهما).

نُسجت في الخطاب الفلسفي لكلّ من كانط وهيغل وشائج فكرية لم تُقصِ البعد الديني من الخطاب التربوي،

وبذلك نكون على مشرفة من ربط آراء كانط التربوية بروح فكره الأنواري الذي اقترنت فيه فلسفته بالمشروع الاجتماعي.

لقد اخترنا أن نلاحق هذا الافتراض الأخير، وارتأينا أن نحاول قراءة كتاب في التربية لكانط بواسطة تحديد منطلقاته وأسسه المعتمدة؛ أي أن نقوم بتجميع شتات آراء كانط التربوية وتوزيعها على فلسفته من جهة وعلى الفكر التربوي المعاصر له من جهة ثانية؛ و سنردّ، بهذه العملية، هذه المقاربة إلى عناصرها المكونة التي كانت، في الأصل، نتاج ممارسة كانط التعليمية.

لم يكن كانط يرغب في نشر بحثه "في التربية"، وهذه المشكلة الأولى التي تصادفنا في البحث قبل الشروع فيه، بالفعل، أورد كانط، "في مشروع وصيته لسنة 1791 ألا ننشر أوراقه التي يخلفها بعد وفاته"[2]، وذلك- بصريح عبارة كانط- لأنه ارتأى أنه لن ينتفع بها أحد، ولأنّ استحالة قراءتها قد تعرضها لسوء الفهم[3]؛ هذا التنكر غير الصريح لكانط، يمكن أن نرده إلى احتمالين: إما أن كانط لم يكن يرغب في كتابة هذا البحث، لذلك لم يقتنع بنشره، وإذا كان هذا الاحتمال أكثر ترقباً، وبالتالي إذا كانت مساهمة كانط في ميدان التربية غير مرغوب فيها من قِبله، فإنّ ما يقوي هذا الاحتمال هو أن كانط نفسه لم يكتفِ بالإعلان بوصيته بعدم نشر (uber pedagogik) بعد موته، بل إنه أبدى عدم رغبته في نشره حتى إبّان حياته، فهل يعني ذلك أنّ كانط لم يكن مقتنعاً بأفكاره في التربية، أم أنه كان يعتقد أنّ أفكاره التربوية لم تتجاوز السابقين عليه، أو معاصريه ومجايليه ممّن كتبوا في التربية وعُنوا بفلسفتها؟

ينتفي الاحتمال الأول بمجرد أن نتمعّن في النّص الذي يبدو واضحاً عند كانط من "سوء الفهم"، ذلك أن كانط كتب هذه الأفكار ما بين سنتي "1786 / 1787 ؛ أي بعد أن وجد طريقه الخاص"[4] ومعنى هذا أن الفكر التربوي الكانطي لا يمكن أن يشكل إلا مساهمة تصدر عن فلسفته وتنضبط بمنطلقاتها المحكومة بالنقدية criticisme التي تحدد مجال العقل وتعي، بالتالي، حدوده.

وإذا كان روسو قد كتب "إميل أو في التربية" قبل كانط، وإذا كان هذا الأخير قد اطلع عليه؛ فلا بدّ من الكشف عن مدى التقاطع أو التباين بينهما، لذلك فإننا سنتعامل مع هذا البحث (أو "في التربية") انطلاقا من فلسفة كانط، وإن كانت هنالك صعوبة مؤقتة تكمن في ضرورة قراءة "في التربية"، انطلاقاً من كتابات كانط الأخرى واستجلاء الحضور المضمر للنقدية ولتجلي مؤشرات الفكر الأنواري في الرؤية التربوية الكانطية.

تتحدد القناعة التي ننطلق منها في أنّ نيّة كتابة في مجال التربية لا يمكن عزلها البتّة عن المشروع الأنواري الحداثي؛ فحريّ بكانط، وهو فيلسوف عاش في لحظة اختمار الوعي الاجتماعي، الذي أسهم فيه كألماني مساهمة أكيدة، طلب فيها بلورة وصوغ رؤية فلسفية لإعداد الإنسان للعهد الجديد وتهيئته لتقبل الأنوار؛ لذلك نعتبر أن كانط قد ربط فلسفته وتربيته بالمشروع الاجتماعي الذي عبّر عنه في كتاباته السياسية، وفي أكثر من عمل ألحق الظروف على إنجازه كموقفه من الأنوار في : (was ist Aufklarung) ما هي الأنوار؟ أو في كتابه : صراع كليات الجامعة...

 نتمكن من إبراز التصور الحداثي للتربية بوصفها المقوم الأساسي لإقامة المجتمع الحداثي.

أما الاحتمال الثاني، وهو الذي وجدنا ضرورة الوقوف عليه؛ فهو يكمن في التعامل مع هذا المبحث من منطلق الفلسفة الكانطية النقدية بوصفها جزءاً لا ينفصل عن ضوابط هذا المنظور الفلسفي المخصوص؛ وعلى هذا الأساس، سنتعامل مع اللحظة الكانطية عبر قراءتين: نعمل في القراءة الداخلية على ضبط وتبيين الفكر الكانطي التربوي عاملين على سبر العلائق المتبادلة بين العناصر المكوِّنة للبحث وهذه القراءة ندعوها قراءة من الداخل، لأنها تستهدف عزل هذه الأفكار عن الفكر التربوي الذي كانت تدور في فلكه، وبالتالي لكونها تستهدف المنطق الداخلي للخطاب التربوي الكانطي الذي يطابق الفلسفة الكانطية (إذا علمنا، كما سبقت الإشارة، أنّ البحث كتب مابين 1786و 1787) التي تبلورت وأخذت مجراها الخاص بعد أن استقلت عن الفلسفات التي كانت وظلت تدور في فلكها.

أما القراءة الثانية، فترمي إلى ربط البحث بأصوله الأولى وقراءته باستحضار الكتابات الفلسفية والتربوية السابقة والمعاصرة، كما سنعمل على استدعاء الأسس المركزية للفلسفة النقدية ساعين إلى ربطها بالفكر التربوي الكانطي؛ وهكذا سنستحضر كتابات كانط الأخرى كـ "صراع كليات الجامعة"، وجوابه عن سؤال:"ما الأنوار؟"، وبعض الكتابات الأخرى لكي نستكنه الصرح الفلسفي الكانطي، ونكشف عن مدى تماسكه فيما يتعلق بالفلسفة التربوية.

وهكذا، ستصبح قراءتنا للّحظة الكانطية استقصاء للشرط التربوي في الرؤية الفلسفية التربوية لكانط، سنسعى من خلاله إلى رصد كتاب "في التربية" بقصد إدراجه في صلب التنظير الكانطي للفكر الأنواري، لنرفع عنه غربته عن الشروع الفلسفي الكانطي، ثم لنعيد إليه الاعتبار بما يجعله يضاهي كتاب روسو "إيميل أو في التربية"،وإن كان كتاب روسو هذا اعتبر جزءاً لا يتجزأ من فلسفته أو بالأحرى تمريناً على فلسفته، في الوقت الذي تنكر كانط لكتابه "في التربية"؛ فجعله يعاني من الغربة عن نسقه الفلسفي.

لم يعمل كلٌّ من روسو في كتابه "إميل" وكانط في كتابه "في التربية" سوى على إنجاز تمرين على فلسفتيهما، وقد اتخذ هذا التمرين بالنسبة لروسو طابع خلق حيوان مدني يطبق رؤية الأنوار بعد أن يخضع لتنشئة طبيعية، واتخذ مع كانط بعداً آخر راجع فيه مفهوم الحالة الطبيعية (état de nature)، لذلك، فإنّ تمرين كانط سيكون معكوساً؛ ففي تربيته الأخلاقية والدينية ظلّ كانط محكوماً بهاجس فلسفته النقدية التي لا تعمل إلا على رسم حدود العقل، لأنّ النقدية هي تبيان حدود العقل، وبالتالي عدم إدخاله في حلقات هو بطبعه عاجز عن الخوض فيها، إنّ الخطأ عند كانط من صميم العقل، لذلك هناك حدود يقف عندها هذا العقل؛ فالتمرين الذي سينجزه كانط هو تقديم تربية واعية بهذه الحدود.

في تربيته الأخلاقية والدينية ظلّ كانط محكوماً بهاجس فلسفته النقدية التي لا تعمل إلا على رسم حدود العقل، لأنّ النقدية هي تبيان حدود العقل

تفترض مقاربتنا، إذن، ضرورة التعامل مع فلسفة كانط كوحدة عضوية تتبادل أجزاءها آصرة قرابية وثقى، حيث إنّ جميع الكتابات تستغرق كتابه "في التربية" بشكل أو بآخر، كما أنّ الإمدادات النظرية التي تطعّم التصور الكانطي للتربية، تجعلنا نتلمّس عن كثب أنّ لكل نور ضلالاً.

وعلى هذا الأساس، فإنّ الغربة التي يعانيها هذا الكتاب تتأتى من "سوء الفهم" الذي طالما حذّر منه كانط، عندما رفض لأتباعه أن ينشروا كتابه هذا، بل إنّ نشره سنة 1783 (في كهولة كانط) كان تحت إملاءات التعاملات التي بدأ يشنها أعداء الفلسفة النقدية خصوصاً هردر (Herder)، عندما نشر كتابه: "ميتا النقد"؛ فارتأى الأستاذ كنزخن (Meister Gensichen) أن ينشر جميع كتب كانط ومؤلفاته، فعهد بهذه الدراسة : في التربية إلى رنك (Rink) الذي نشرها على الفور؛ وإذا كان الأمر كذلك فينبغي التعامل بحذر مع هذه الكرّاسة التي قد يؤدي "سوء فهمها" إلى فكّ آصرتها مع النقدية.

وإذا تبين لنا أنّ كتاب : في التربية يحمل دلالة عميقة في فلسفة كانط كالتي يحملها كتاب روسو في التربية لفلسفته، فلا بدّ من التعامل مع المفاهيم والأفكار النقدية التي تحظر باستمرار في المتن لا كأفكار تتردد، وإنما ينبغي اعتبارها أسساً فلسفية توجه الرؤية الكانطية التربوية، لذلك فإنّ التلميحات لا بدّ أن تأخذ نصيبها من الحقيقة في التوليف الكلّي.

إذا أقررنا لكتاب "في التربية" بهذه القرابة مع فلسفته النقدية من جهة، ثمّ مع مشروعه التنويري من جهة أخرى، فلن نغفل المؤشرات التي ظلت حيّة في الفكر الكانطي خصوصاً فلسفة الأنورايين؛ وإذا كان هيوم قد أيقظ كانط من سباته في مجال الفلسفة، فإنّ كانط لم يكتف بهذا التوصيف، بل أضاف إليه توصيفاً آخر اعتبر فيه أنّ روسو يمثل، في نظره، "فيزيائي الأخلاق" لدقته المماثلة لدقة وصرامة قوانين نيوتن"؛ لقد لفت روسو انتباه كانط إلى المسائل الأخلاقية والتربوية.

ويضاف إلى هذا الواقع، أنّ الأنوار (Aufklarung) تحضر حضوراّ قوياّ في التنظير الكانطي للتربية؛ ولا غرو أنّ كانط يستحضر، كما سنرى، الأنوار التي غالباً ما تركز على ضرورة إشاعة الجرأة على استعمال العقل خصوصاً، وهو يعلم أنّ ديدرو وروسو وفولتير ومونتيسكيو أنشأوا الموسوعة بعد أن كوّنوا مجموعتهم المعروفة الموسوعيين encyclopédistes التي اشترطت على نفسها أن تقدّم مُجمل ما توصل إليه الفكر الإنساني بغية نشر الأنوار؛ فقد استهدف الموسوعيون تجديد المعرفة وتأسيسها على النظر العلمي الذي يتجاوز النظر اللاهوتي.

سنقرأ النصّ التربوي الكانطي من منطلق نركز فيه على إبراز قيمة وأهمية اعتبار التربية شرطاً للحداثة، ومن هنا فإنّ هذه القراءة تفترض نوعاً من الكشف إذ لا علم إلا بالمختفي كما قال باشلار

لقد شكلت الأنوار الهاجس الذي سيتحكّم في التصور الكانطي، غير أنّ كانط سيلقح الأنوار بالنقدية وسيضع لها، في جوابه عن سؤال : ما الأنوار؟، شرائط سوف نستجليها فيما سيأتي لاحقا؛ ومن المؤكد أنّ كانط قد قرأ الفكر الأنواري الفرنسي، واستلهم كتابات روسو إلى درجة أنه قرأ "إميل أو في التربية" و"هلويس الجديدة" 1762 بحماس كبير، كما ناقش في فكره السياسي الأطروحات المتعلقة بالتربية والثقافة في مقابل الحالة الطبيعية، لذلك فإنّ الوعي بالإشكالية العامة، التي تحرك فيها الأنواريون من جهة، وقراءات كانط من جهة أخرى، تملي ضرورة القراءة التي تكشف عن الإشارات التي تحضر في كتاب: "في التربية".

تقتضي الموضوعية أن نثبت أنّ الأبعاد الأنوارية الحداثية بوصفها تجليات لروح المشروع الكانطي مشروطة بالتربية التي اعتبر كانط من الصعب التوصّل إلى ضبط قواعدها وقوانينها؛ لذلك سنقرأ النصّ التربوي الكانطي من منطلق نركز فيه على إبراز قيمة وأهمية اعتبار التربية شرطاً للحداثة، ومن هنا فإنّ هذه القراءة تفترض نوعاً من الكشف إذ لا علم إلا بالمختفي كما قال باشلار.

ولكي نتلمس هذا المختفي الذي يثوي في الكتابة الكانطية الصارمة، نستحضر لوسيان كولدمان الذي وجد في الفلسفة الكانطية تلك المنظارية المأساوية (Vision tragique) التي تطوّق فيلسوف كونيكسبورغ (Koenigsberg) يقول لوسيان كولدمان: (على سبيل المثال) "الإنسان يتجاوز الإنسان" هي الإثبات المأساوي للفكر المأساوي (التراجيدي) والجدلي الذي لا تستطيع أيّة دراسة خالصة، وغير مبالية بأحكام القيمة، أن تقيمه".[5]

حين كان كانط يرى أنّ التقدم البشري لا يتمّ ولا يتحقّق في الفرد، وإنما يتجلى في النوع البشري؛ فقد كان وعيه هذا هو الذي شكّل المنظور المأساوي الذي انعكس حتى في مجال التربية؛ فالغاية التي تحدّدها التربية لا يراها المشرِّع، لأنه لا يستطيع أن يضبط النوع البشري في صيرورته. هاهنا يتحطم الجدل في السلب. ولكن، مهلاً ... ثمّة في اللحظة الكانطية تفاؤل خفيّ سنتولى الكشف عنه بعد حين.

(يتبع)


1ـ عبد الرحمن بدوي: فلسفة الدين والتربية عند كانط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط. 1 ـ 1990، ص : 103

[2]ـ نفسه، الصفحة نفسها.

[3]ـ .....

[4] ـ ....

5- Lucien Goldman , Le dieu caché, Gallimard, Ic, pp. 279 – 280