الشعب يريد، بحث جذري في الانتفاضة العربية


فئة :  قراءات في كتب

الشعب يريد، بحث جذري في الانتفاضة العربية

الأشقر، جلبير والشافي، عمر (مترجم):

الشعب يريد، بحث جذري في الانتفاضة العربية

(بيروت: دار الساقي، الطبعة الأولى 2013) 377 صفحة


شهدت المنطقة العربية مع مطلع العام 2011 م العديد من التحولات السياسية الهامة في التاريخ العربي الحديث، حيث خرجت جموع الشعب تطالب بتغيير النظم الحاكمة في تونس ومصر وليبيا واليمن، وقد حققت الإرادة الشعبية مطالبها بإسقاط بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي وعلي صالح، غير أنّ هذه الدول قد دخلت عقب هذه الأحداث في غمرات التحول السياسي وتحدياته، وربما تعثر بعضها حتى الآن مثل اليمن وليبيا، ولذلك تعجّ المكتبات العربية بالكثير من المؤلفات التي تعرضت لتفسير هذه التحولات التي اختلف الدارسون والباحثون حول توصيفها، فالبعض يصفها "ثورات"، والبعض الآخر يصفها "انتفاضات" أو "احتجاجات"، ومن هنا تكمن أهمية هذا الكتاب الذي قدمه جلبير الأشقر تحت عنوان "الشعب يريد، بحث جذري في الانتفاضة العربية، الصادر عن دار الساقي ـ بيروت، في طبعته الأولى عام 2013، والذي سوف نتوقف حول أهم مضامينه التالية:

تتوزع محاور هذا الكتاب، حوالي 377 صفحة، على مقدمة وستة فصول رئيسة وخاتمة، جاءت المقدمة تحت عنوان: "انتفاضات وثورات"، والفصل الأول تحت عنوان: "التنمية المعاقة"، والفصل الثاني: "النمطيات الخاصة للرأسمالية"، والفصل الثالث: "العوامل السياسية الإقليمية"، والرابع: "القوى الفاعلة الثورية ومعطيات العملية الثورية "، والفصل الخامس: "كشوف حساب مؤقتة للانتفاضة العربية، والفصل السادس: "محاولات استيعاب الانتفاضة"، ثم أخيراً الخاتمة، وجاءت تحت عنوان: "مستقبل الانتفاضة العربية".

ويتمحور هذا الكتاب حول تفسير التحولات السياسية "الانتفاضة العربية" والعوامل الداخلية والإقليمية التي تفسرها، والعوامل التي تعوقها، ويحاول تحليل ديناميات الأحداث لاستخلاص الدروس المستفادة وتفحص آفاقها، والتعرف على الجذور العميقة للظاهرة، وقد استعان المؤلف بالمنهجين التاريخي والمقارن في تحليله لظاهرة الانتفاضة العربية، على حد وصفه، سارداً أفكاره التي تتدفق بسلاسة وترتيب منطقي وبرؤية سياسية علمية ناقدة.

ولذلك استهل المؤلف كتابه هذا بإثارة سؤال محوري: هل تشهد المنطقة منذ عام 2011 حقبة من الثورة الاجتماعية ناتجة عن انسداد في تطور القوى المنتجة يعود إلى عوامل مشتركة بين بلدان المنطقة مقارنة بالمناطق الأخرى؟

وينطلق المؤلف من مقولة ماركسية (فرضية بحثية): عند مرحلة معينة من تطور أي مجتمع، تدخل قوى المجتمع الإنتاجية المادية في تناقض مع علاقات الإنتاج القائمة، وتتحول تلك العلاقات من أشكال تتطور القوى المنتجة من خلالها إلى قيود تعوق هذه القوى، وعندئذ تبدأ حقبة الثورة الاجتماعية ...". ويحاول أن يطبق هذه المقولة على المجتمعات الناطقة بالعربية.

وقد بدأ المؤلف بتعريف بعض المفاهيم الأساسية التي بنى عليها نسقه الفكري في مقدمة الكتاب، والتي جاءت تحت عنوان: "انتفاضات وثورات"، حيث وجد أنّ المصطلح العربي للثورة هو لفظ مشتق من فعل ثار الذي يطابق في الأصل مفهوم التمرد (revolt) أكثر من الثورة من مضمونه الحديث (revolution)، بينما مصطلح الانتفاضة الذي أدخله إلى المعجم الدولي سكان الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل 1967، إنما يغطي مجموع أشكال التحولات السياسية في العالم العربي. ولذا فهو يرى أنّ تسميات الثورة العربية الكبرى (1916-1918)، الثورة السورية الكبرى 1925 وثورة فلسطين 1916، كلها استخدامات سليمة بمعنى الانتفاضة، ويطلق اسم الثوار في اللغة العربية على العصاة والمتمردين والقائمين بالثورات بمعناه الحديث على حد السواء.

وهكذا فإنّ مفهوم الثورة يشير بوجه عام إلى حركة سياسية ترمي إلى الإطاحة بالسلطة السياسية من أسفل، ولا يتضمن بالضرورة استخدام السلاح، في حين أنّ الانقلاب هو فعل لفصيل ينتمي إلى الجيش في أغلب الأحيان يستولي على السلطة بقوة السلاح، بيد أنّ المنطقة العربية شهدت عبر تاريخها انقلابات عسكرية أفضت إلى تحولات عميقة في المؤسسات السياسية والبنى الاجتماعية بما لا يدع مجالاً للشك في طبيعته الثورية. وبالتالي اسم الثورة أكثر بكثير من إنتاج الانتفاضة المستهلكة التي لم تؤد حتى الآن إلى الإطاحة المحدودة التي كانت تسيطر على الدولة، لذلك فهو يميل إلى إطلاق مصطلح الانتفاضة بدلاً من الثورة.

ثم ينتقل المؤلف إلى مناقشة أهم العوامل المحركة لهذه الانتفاضة العربية، ويرى أنّ التنمية المعاقة التي جعلها عنواناً للفصل الأول من الكتاب، هي العامل الأكثر تاثيراً وتفسيراً من العوامل السياسية الأخرى، ويرى أنّ أزمة المنطقة العربية ليست سوى إحدى نتائج نمط الإنتاج الرأسمالي المعولم المعاصر. ولذا لا يمكن اعتبارها تعبيراً عن انسداد عام في نمط الإنتاج، ولا حتى تعبيراً عن انسداد مقتصر على محيطه فقط، وحتى لو ثبت في نهاية المطاف أنّ الأزمة التي تعانيها حالياً الاقتصادات الأكثر تقدماً في مركز النظام العالمي ـ الاقتصادات الأوروبية في المقام الأول ـ تعبر عن انسداد مستعصٍ على الحل ومولد لتحول اجتماعي وسياسي، فإنّ تزامن هذه الأزمة مع تلك التي يعانيها الفضاء الناطق بالعربية لن يصبح تفسيره من باب علاقة السبب بالنتيجة. ولذلك أثار المؤلف سؤالاً هاماً: هل تشهد المنطقة منذ عام 2011، حقبة من الثورة الاجتماعية ناتجة عن انسداد في تطور القوى المنتجة يعود إلى عوامل مشتركة بين بلدان المنطقة والبلدان الأخرى؟

ويجيب المؤلف عن السؤال بأنّ هذا الفوران لم يحمل معه حتى الآن على الأقل تغييراً جذرياً في نمط الإنتاج، وظاهرياً لا يلوح في الأفق السيرورة الجارية في الفضاء الناطق بالعربية إلى شيء مماثل في عمقه للتحول الكبير، الذي انتهى إلى إدماج البلدان المسماة "شيوعية" في الرأسمالية المعولمة. ويقدر أنّ أزمة البلدان الناطقة بالعربية تقتصر في نمطياتها على هذا الفضاء العربي، وهي تعود بداهة إلى عوامل خاصة، وليس إلى أزمة الرأسمالية المعولمة في عمومها، أو حتى أزمة "النيو ليبرالية" من حيث كونها نمط الإدارة المهيمن على رأسمالية مرحلة العولمة الحالية.

ويخلص من مقارنة الفضاء الناطق بالعربية بالمناطق المحيطة الأخرى للنظام الاقتصادي العالمي، ولاسيما بلدان المجموعة الأفروآسيوية التي تنتمي إليها المنطقة العربية، إلا أنّ تطور القوى المنتجة يمكن أن تعيقه علاقة الإنتاج المحكومة لنمط إنتاج عمومي. في مثل هذه الحالة لا يقتضي تجاوز الانسداد بالضرورة إلغاء نمط الإنتاج العمومي، إنما يتطلب تغيير النمطية أو نمط التنظيم. ولا تمرّ بالضرورة تغيرات كهذه عبر ثورات اجتماعية أو حتى سياسية، فهي قد تنتج عن أزمات اقتصادية تفضي بالضرورة إلى تغيير المسار من قبل تلك الطبقة المسيطرة اقتصادياً. وفي بعض الحالات لا يمكن فك الانسداد عبر ثورة اجتماعية دون أن تفضي هذه الثورة إلى تغيير جذري في نمط الإنتاج. وهو في هذا السياق يتبنى التعريف الذي أعطاه المؤرخ الفرنسي ألبير سودول للثورة: "تحول جذري في العلاقات الاجتماعية والبنى السياسية على أساس نمط إنتاج متجدد شريطة القبول بأنّ التجديد يمكن أن يقتصر على تعبير عميق في نمط الإنتاج دون أن يؤدي بالضرورة إلى تغيير في النمط العمومي".

ويرى المؤلف أنّ معدل بطالة الشباب ليس هو العامل الوحيد الذي يفسر هذا الانفجار الاجتماعي، ولا يجد تفسيره الوحيد في الهرم السكاني وفي القاعدة البالغة الاتساع على نحو ما ترى نظرية تضخم نسبة الشباب youth bulge، ويرى أنها نظرية صيغت ضمن إطار وكالة الاستخبارات الأمريكية في مسعاها لتفسير أصول النزعات، والتي على غرارها طور غراهام فوللر أطروحته بشأن الشرق الأوسط، وتعتمد الأطروحة ذاتها على تفسير الاضطراب الاجتماعي ـ السياسي، الذي لا يفسره نسبة إلى السياسات في حد ذاتها، إنما يرجعه إلى آليات الاستيعاب السياسي والاقتصادي لتضخم البطالة، والعلاج الذي يقدمه هو التحرير السياسي والتحول الديمقراطي، والتعليم، وتحديد النسل، ويرى جلبير أنها تدابير لا تتحدث عن النظامين الاقتصادي والاجتماعي أو التبعية إزاء القوى الغربية، إنما ترمي إلى الإبقاء على هذين النظامين وتلك التبعية على الأمد الطويل.

ثم يتعرض بالنقد لأطروحة هاينسون التي يصفها بالاستفزازية، ويرى أنّ التحسن في المستوى الاقتصادي والاجتماعي تجعله أميل إلى التمرد، ويؤكد أنّ أطروحة هانسون خاطئة، فهو يرى أنّ الميل إلى العنف في مجتمع ما يتناسب طردياً مع زيادة نسبة المنتمين إلى الشريحة العمرية 15-29، ويرى على عكس هاينسون أنّ أهم ما يميز الشباب في منطقة الشرق الأوسط ليس الديموجرافيا وحدها، بل الظروف الاجتماعية والسياسية السائدة أيضاً، ويخلص المؤلف في الفصل الأول إلى نتيجة هامة، وهي أنّ ما يعنيه في هذا الفصل ليس التناقض بين النظام الرأسمالي والقوى المنتجة فى المطلق، بل إعادة خصوصية مرتبطة بنمطيات معينة للرأسمالية، وهذه النمطيات تجعل من المنطقة العربية ضمن إطار التطور اللامتكافىء على الصعيد العالمي.

ويشير إلى تأثير الأزمة العالمية والانتفاضة العربية، ويرى أنّ تأثير تلك الأزمة يختلف بكثير من بلد إلى آخر في المنطقة، بما في ذلك البلدان التي شهدت أهم الانتفاضات حتى الآن، حيث كان للأزمة تأثير أقوى في مناطق نامية أخرى، فالمشاكل الأساسية التي تعانيها المنطقة، تفرض إضفاء الطابع النسبي لتأثير الركود العالمي الكبير على الانفجار الثوري في الفضاء الناطق بالعربية، فالفرضية القائلة إنّ الأزمة العربية تشكل بالأساس تناسخاً للأزمة العالمية لا تصمد أمام الفحص، ولم يضطلع الركود الكبير سوى كونه عاملاً مساعداً لعوامل البنيوية وراء الانفجار الإقليمي.

وهو يختلف، بحكم المنطق المقارن نفسه، مع الطروحات الأخرى التي تفسر الانفجار الاجتماعي- السياسي في المنطقة، مثل تفسير ذلك الانفجار الاجتماعي ـ السياسي بإفلاس النيوليبرالية، ويرى أنّ هذا الطرح لا يصمد أمام التباين بين الأداءات الاقتصادية للمنطقة والأداءات الجيدة في بلدان نامية أخرى، مثل شيلي أو الهند أو تركيا، التي طبقت الوصفات النيوليبرالية، وخاصة أنّ المؤسسات المالية الدولية نفسها قد أقرت منذ سنوات عديدة بأنّ نتائج وصفاتها التابعة لتوافق واشنطن تتوقف على وضع الطهاة الموالين لها موضع التطبيق، وأنّ المنطقة العربية تعاني من ضعف إجراءات التحرير الاقتصادي، وأنّ مشكلاتها الراهنة لم تجد لها حلاً سوى المزيد من التدابير في الاتجاه ذاته.

ثم يتناول المؤلف تأثير القوى الخارجية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، ويبين أنّ التحولات التي طرأت على المنطقة خلال القرنين الأخيرين، قد ارتبطت بسياسة هذه القوى في إبقاء المنطقة في حالة تبعية، ودعم الحركات الاجتماعية الدينية الأكثر تشدداً التي لا تختلف في مصالحها الاقتصادية، لأنّ القاعدة الاجتماعية لهذه الحركات تقوم على البرجوازية الصغيرة أو الريفية، وهي محافظة وليست ثورية، إلا أنها يمكن أن توظف ثورياً في لحظات ما قبل الانهيار.

وعن دور القوى الفاعلة في العملية الثورية، أكد جلبير على وجود هذا التناقض الذي ذكره في مقولته الماركسية التي انطلق منها، وهي أنّ هناك تناقضاً في المنطقة العربية، التي تضافرت فيها ظروف تاريخية وتيارات سياسية بعينها، وخلقت هذه الظروف الحالة الثورية التي تستمر متى بقيت الظروف المتضافرة والمتعددة، ويرى أنّ جماعة الإخوان المسلمين لم تعمل على إحداث تحولات جذرية في البنى الاقتصادية بل أبقت عليها، ويرى أنّ التغير الذي حدث هو استبدال رأسمالية المحاسيب بـما سماه "رأسمالية نيوليبرالية غير مقيدة".

وعن مستقبل الانتفاضة العربية في المنطقة العربية يرى المؤلف أنّ السيرورة الثورية في المنطقة سوف تتجاوز عمّا قريب عمر الستين عاماً، ومن المرجح أنها ستمتد لسنوات طويلة مقبلة، ويرى أنّ أهم ما حققته الانتفاضة العربية هو قدرة الإرادة الشعبية على الفعل والتغيير.

خلاصة وتقييم:

إنّ أيّ تقييم أو تحليل موضوعي لهذا الكتاب، من حيث الإشكالية والمنهج العلمي والنتائج التي توصل إليها، يجعل المتخصص السياسىي يلاحظ الكثير من الملاحظات الإيجابية حول سلامة طرح الأفكار والحجج التي ساقها لدعم وجهة نظره وأطروحته، وأعتقد أننا أمام عمل بحثي من الطراز الأول، تكمن أهميته في معاصرته للتطورات الهامة التي تمرّ بها المنطقة العربية، وخاصة ما ورد فيه من أطروحات ضرورية في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة العربية.

لكن من أهم الملاحظات التي تؤخذ على المؤلف هي تأثره باتجاهه الإيدلوجي الماركسي، حيث يحاول أن يفسر التحولات السياسية التي شهدتها بعض الدول العربية مع مطلع عام 2011 من منظور ماركسي، وكأنه ما يزال يدافع عن الفكر الماركسي كحل للمشكلات العربية المعاصرة، وهذا يعني أنه يغفل الكثير من الجوانب الأخرى التي تفسر هذه التطورات الجارية، وخاصة تلك التي تنبع من رؤية ذاتية عربية خالصة لواقعنا العربي بعيداً عن التأثر بالرؤى الغربية والخارجية، سواء كانت ليبرالية أو ماركسية أو غيرها.

ومن الملاحظات التي تؤخذ أيضاً على مترجم الكتاب هو الترجمة الحرفية أحياناً التي أثرت بلا شك على سلامة الصياغة واللغة، وأعتقد أنّ الكتاب كان بحاجة إلى مراجعة لغوية وسياسية متخصصة.

وعلى أية حال، يُعدّ هذا الكتاب إضافة جديدة للمكتبة العربية، فهو يناقش ظاهرة معاصرة ما تزال محل جدل واهتمام العديد من المؤسسات الأكاديمية والبحثية ومؤسسات صنع القرار على مستوى العالم . ويتمتع مؤلفه بخبرة سياسية واسعة ورؤية علمية ناقدة وثاقبة، وهو يعمل أستاذاً لدراسات التنمية والعلاقات الدولية في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، ويكرس معظم مؤلفاته لمعاينة القضايا العربية المعاصرة، مستعيناً بالمنهج العلمي والأدوات البحثية والتحليلية لتفسير الظاهرة تفسيراً علمياً موضوعياً، كما تتميز كتاباته بعمق التحليل والرؤية الاستشرافية للمستقبل، والقراءة المعاصرة للظواهر السياسية في سياقها الدولي والإقليمي المتغير.

ويحسب للمؤلف أنه تناول موضوعاً من الموضوعات البحثية المعاصرة التي ما تزال محل جدل وصخب أكاديمي وبحثي، ويعدّ موضوع الساعة بالنسبة إلى القضايا المطروحة، ويحسب للمؤلف أيضاً أنه قدّم للمكتبة العربية دراسة هامة، تعتبر من الدراسات المقارنة التي قارنت التطورات الجارية في المنطقة بالتطورات والتحولات السياسية التي شهدتها مناطق أخرى في العالم في أوروبا وآسيا، لا سيما منطقة أوروبا الشرقية غداة انهيار الاتحاد السوفييتي.