الشعري والسيرذاتي في "شرفة يتيمة" لصلاح بوسريف


فئة :  مقالات

الشعري والسيرذاتي في "شرفة يتيمة" لصلاح بوسريف

الشعري والسيرذاتي

في "شرفة يتيمة" لصلاح بوسريف[1]

"أن نحكي عن الكائن قصصا، فهذا أمرٌ، أمّا أن نُمسك بالكائن في الكينونة التي تخصُّه، فذلك أمرٌ آخر"

م. هايدغر

"اليد التي لا تكتب رجل"

صلاح بوسريف

 

تنوير لا بد منه

في تجربته الشعرية الأخيرة "شرفة يتيمة"[2]، سعى الشّاعر المغربي المختلف صلاح بوسريف، إلى فتح أفق جديد في الكتابة السير ذاتية في الشعر المغربي والعربي الراهنين، على حدّ سواء، انطلاقا من وضعه الأنا الشاعرة، في مواجهة أناها، ككينونة مضاعفة، من خلال فعل الكتابة المعاكسة، تلك التي تبدأ من اليسار إلى اليمين؛ أقصد الكتابة التي تعيد صوغ ما كان، في قالب ما لم يكن، اعتبارا منه – الشاعر – أن الكتابة كشفٌ وتأويل (أليثيا)، بتعبير هايدغر، لوجود يتعارض ومنطق المطابقة والما صدق.

هو وعيٌ شعري جديد، كما سيتبين، ينأى عن شعرية قصيدة الطلل، التي حولت الشعري العربي، إلى مجرد دوكسا جمالي، وميتافيزيقا شعرية، تُقدْسن ما تواضع أو اتُّفق عليه، اعتباطا، في العصر الجاهلي، دون نيّة التكريس، أو القولبة حتى. وعطفا على ذلك، هو وعيٌ بويطيقي، يعتبر المعرفة، أديم الكتابة، وهي تحرثُ أرضها، في سفر التكوين. والحقّ أن هناك الكثير من الأعمال الشعرية، المتواشجة في وشائج سير ذاتية، ظهرت في الآونة الأخيرة، على امتداد وطننا العربي، حتى أصبحت ظاهرة بادية للعيان، ولافتة للنظر؛ إلا أن ما يجعل تجربة صلاح بوسريف، قيد الدراسة والمدارسة، مائزة ومؤسِّسة، في اعتقادي الخاص، كونها صادرة عن وعي شعري جارح... وعي يسعى جاهدا (إبداعا ونقدا وتنظيرا) لاجتراح فعل الكتابة بألم متجدد، ذاك الذي ينجم عن صدمة المغايرة، أقصد، ألم الانفصال عن الأصل، كما لوح بذلك آخر الفلاسفة النسقيين الألمان "هيجل".

لذلك تبدو مراجعة بعض فهومات، هذا الشاعر، للشعر، مسألة ضرورية، لفهم هذا الاندفاع الدؤوب واللاينقطع نحو الانفصال.. نحو الألم.. نحو المغايرة.

1 – هذا الرجل... هذا الشاعر:

بداءة، وجبت الإشارة إلى أن الشاعر صلاح بوسريف، ينظر إلى الكتابة الشعرية، باعتبارها مشروع ديوان واحد، تستحكم فيه رؤية واضحة، تتغذى وتتقوت مما هو إبستيمي – عرفاني، أعني الكتابة بالمعرفة. رهانٌ ظل يدافع عنه هذا الشاعر/ الناقد، إبداعا ونقدا وتنظيرا، أزيد من ثلاثة عقود ونيف.

فالشعر، بالنسبة إلى صلاح، صنو المعرفة، إن لم نقل هو المعرفة بعينها[3]، بلهُ كشفٌ أنطولوجي، بطريقة خاصة، تجعل العالم يتفتّح على آفاق جديدة، بغض النظر عن حجم الخسائر الممكنة. وليس من شك، أن حدوسات هذا الشاعر الإبستيمية، نجدها متجذرة، في الفلسفة الوجودية الما بعد حداثية، خاصة عند الألماني هايدغر، إذ كثيرا ما نجد صلاح بوسريف مطوقا بها، في تنظيراته، وفتوحاته النقدية، وفهوماته الشعرية.

إن الشعر، عند صاحبنا، يتهندم بأنطولوجيا الاختلاف، ما يجعله "شغوفا بمجهوله ومنفتحا على صيرورته"[4]، مثلما أن الشعر، عند هايدغر، طريقة خاصة في إظهار الحقيقة، باعتبارها كشفا وانكشافا (أليثيا)، نقلا عن الفلاسفة اليونان الأوائل. الشعر، عند صلاح، هو "أحد ممكنات توسيع اللغة، وهو كما النثر، طريقة في النظر إلى الأشياء"[5]، نفس النظرة نلفيها ثاوية في الفلسفة الهايدغيرية، إذ الشعر، بالنسبة إلى هذا الفيلسوف الوجودي، هو الذي يعيد للكلمة ماهيتها الشعرية، بالإنصات لنداء الوجود، مستحقا بذلك أن يكون "الفن الأكثر خطورة".[6]

والحاصل، إن الشعر، بالنسبة إلى صلاح بوسريف، هو بسطٌ للحقيقة الكاشفة، تلك التي تكشف الوجود وتحجبه في الآن نفسه، على طريقة هايدغر[7]، وهو بذلك لا يني يدفع الكتابة الشعرية، إلى أبعد حاسّة، قادرة على أن تُنصت لنداء الوجود؛ فاللغة، في نظره، لم تعد "تكتفي بتسمية الشيء، بل ستذهب إلى وضعه في مواجهة عرائه".[8]

2 – التخييل الذاتي والمضاعفة الأجناسية:

في كتابه "الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر"، ذهب الشاعر صلاح بوسريف، إلى أن مشروع الكتابة، بمقترحها اللاأجناسي؛ أي ذاك التعتيم الذي تمارسه على مفهوم الجنس، قد "عملت على إنجاز ما سماه ج. م. شايفر بـ – المضاعفة الأجناسية – أي بنقل النص من المجال الضيق للأدب، إلى وضعه في أفق انشراحه".[9]

فمن الواضح، بشكل لا يمكن لكل عين فاحصة أن تُخطئه، أن مسألة تصنيف الإبداع الأدبي، في وقتنا الراهن، أًصبحت محط قلق وارتياب كبيرين، في ظل ما بات يعرف بتداخل الأجناس الأدبية، إذ لم تعُدْ هناك حدود بين "الشعري" و"النثري"، بما يجعل النص الأدبي أكثر انشراحا وانفتاحا على طبوغرافيات إبداعية غير مسبوقة، تتجاوز مقولة الأجناس الأدبية المتعارف عليها؛ ومن ثم بات من الضروري، على الدراسات والفاعلية النقدية، عربيا، أن تعيد صياغة أسئلتها بطريقة مغايرة، في أفق مفهوم جديد للأدب.

ولعل العمل الشعري، قيد الدراسة، يندرج في هذا الأفق، وذلك من خلال وضعه الشعر، كجنس، في مواجهة السيرة الذاتية، كجنس آخر، ساعيا، من وراء ذلك، إلى كتابة منشرحة، ومقوضا بذلك، مقولة "نقاء الأجناس الأدبية"، التي استعاض عنها بمقولة "التعتيم الأجناسي"؛ فما هو السبيل إلى سلسبيل؟

2-1. حوار الصمت أم نداء الذات؟

لما كانت الكتابة السير ذاتية "كتابة غير عادية بالنسبة إلى الذي يكتبها والذي يقرؤها، وعلى هذا النحو نراها تخضع لشروط خاصة تتصل بفعل الكتابة لا بالكتابة ذاتها"[10]، فإن انتقالها إلى مجال الشعر، في وقتنا الراهن، أصبح مطلبا ملحا، في ظل بحث الشاعر المخاطر (بالمعنى النيتشوي)، بشغف كبير، عن أفق لاحتمالات جديدة في مجاله، على اعتبار أن التجريب، هو أحد أهم اشتراطات الحداثة. لم يعد جنس السيرة الذاتية، بعد ولوجه محراب الشعر، محكوما، في تحديد هويته، أو مرتبطا بخلوص النثر، كما يقول أحدهم، وإنما دخل حدّ الشعر على الخط، ما جعل السؤال يُطرح من جديد، وإن بصيغة أخرى هذه المرة، حول جنسٍ أدبي جديد، سمي تجاوزا بـ "القصيدة السير ذاتية". والسؤال هو: أيهما الأحقّ باحتواء الآخر، هل الشعر أم النثر؟

أغلب الظن، أن سؤالا من هذا النوع، أصبح متجاوزا، في ظل الحوار الذي دأبت عليه، في وقتنا الراهن، كل الأجناس الأدبية، في إنصات عميق للذات، بشواغلها ونداءاتها، مؤسسة بذلك أعراف كتابية، غير آبهة بعقدة الانتماء، ولا حتى مآل الخطاب. فقط الذات في حوار صامت مع ذاتها، داخل خطاب لا يريد أن ينغلق. بعبارة أدق، إن هذا الحوار، لهو شرفة جديدة، تطل على كينونة مضاعفة ومتوهجة، شرفة يتيمة بكل تأكيد...بما لليتم من دلالات.

2-2. حدود السير شعري

إن المتأمل لإضمامة الشاعر صلاح بوسريف "شرفة يتيمة"، بكتبها الثلاثة، بمكنته أن يلاحظ الحضور القوي، للأنا الشاعرة، باعتبارها المركز البؤري الفاعل في أمشاج العملية السردية المبتهرة من ذاكرة مليئة بالفجوات، والشقوق، لصالح بعْدٍ تخييلي، متعدد الأضلاع، إذ من المفروض، على أيّ إجراء قرائي، أن يخضعه للآلة التأويلية، أثناء مباشرة النص.

فالشاعر، منذ نصه الأول، ما فتئ يعلن، بشكل خفي وماكر، عن ميثاق ضمني، بينه وبين القارئ، فحواه أن الأمر يتعلق بكتابة شعرية مختلفة وملبدة بتخييل ذاتي، يقوم على تفجير البنية الحدثية وشعرنتها، في توالج فني ماتع، بين جنسين أدبيين مختلفين تماما، أقصد تزاوج فني رائق بين الشعر والنثر. لنتأمل هذا المقطع:

"قيل لي: إن مطرا خفيفا هب حين كنت على وشك أن أكون

وأن آخر العام كان أول انهماري. ظن الكل أنني سأشرح

وزر من جاؤوا قبلي، وأن من كان

لا

يريدني ذكرا

شط به الفرح،

وما عاد يحتمل كل هذا البلل". ص 13

يتبين، من خلال هذا النموذج، وهو غيض من فيض، كيف أن الشاعر عمل جاهدا، على خرق النمط، الذي دأبت القصيدة، بشفاهيتها، على ترسيخه. لقد اختار الشاعر لعمله هذا، مسارا غير مسارات شعريات القصيدة الشفاهية. فلا نظم ولا نثر. فقط اللغة تعيد بناء عوالمها بشكل أكثر انشراحا. الحكم هذا، يسري على كل نصوص هذا العمل، من ألفه إلى يائه، وسأسوق نموذجا آخر للاستئناس، فقط لا غير:

"الغابة لا تحتمل كل هذا التعب.

وعولٌ كثيرة

نأت بنفسها بعيدا

وتركت العشب وحيدا

بلا

تخوم.

الشمس أيضا

تركت صباحاتها تنام كما تشاء". ص 147

ثمة خروج حقيقي للجملة الشعرية، بكثير من الدفق السردي، والسيلان النثري، إلى وضع جديد للغة، تعيد فيه بناء نظام خطابها. والحق أن صلاح، قد تنبه وفطن، منذ أعماله الأولى، لمدى أهمية المكونات السردية، في رفد القول الشعري، عنده، بإمكانات أنموذجية هائلة، من شأنها أن تضاعف احتمالات شعريته.

3 – من السير ذاتي إلى التخييل الذاتي:

يجب أن نتفق أولا، على أن هذا العمل الشعري، السير ذاتي، هو تشكيل سيري مختلف تماما عن السيرة الذاتية، كما هو متعارف عليها في التنظيرات الغربية. إنه تشكيل يتموقع ما بين السيرة الذاتية والشعر، مع فائض كبير في منسوب التخييل. فالجملة الشعرية في نصوص الديوان، تتماوج بتماوج الذات الشاعرة/ الساردة، في بعدها الوجودي والرؤيوي؛ مؤشرة بذلك، على خطاب يرقى إلى مستوى التخييل الذاتي، القادر على تصحيح التاريخ الشخصي للشاعر، أو بالأحرى تأويله، وفتحه لكينونة أخرى على الطريقة التي يريدها هذا الرجل.

إن أنا صلاح بوسريف، وهي تنقل، حياتها الخاصة، إلى فضاء الكتابة، لا تني تفتح كوات وفجوات، في الماضي، منذ الولادة، تطلُّ من خلالها، على كينونة متحجبة، وملبدة بيتمها، متنكرة بذلك، للمرجعية الواقعية لهذه الأنا في إنيتها. يقول الشاعر:

"وحين من غفوتي خرجتُ، نساءٌ كثيرات حدقن في

إحداهن، فقط، كانت أنجبتني

كلهن، كن أمهاتي.

تخيلت المكان، ربما، قبل أن

تحشرني نطفي". ص 16

تظهر الكينونة، عند صلاح، كما هو واضح في هذا المقطع، من خلال جدلية التحجّب واللاّ تحجب. فالشاعر، باللغة وإليها، يستدعي الوجود (الماضي.. الولادة... الطفولة) كما كان... وكما لم يكن، بالحجب والكشف في الوقت ذاته. هي لعبة ماكرة، ومفارقة، غايتها الإنصات المتمعن لنداء الوجود، عبر اللغة ككينونة، وكشف، لا كوسيط؛ أليست اللغة هي "بيت الوجود"، ومسكنه، ومثواه، على حد تعبير هايدغر. اللغة هي الوجود بعينه.

الأكثر من هذا، أن الشاعر، لا يتوقف عن الشك في المرجعية الواقعية لكينونته، مستعيضا عنها، بحياة أخرى، غير تلك التي عاشها، معتمدا، في ذلك، على طاقته التخييلية الهائلة. نقرأ في الصفحة 13:

"أهكذا كان دمي، منذ أول الخلق فاترا، أم وجودي، حتى

الآن، ليس سوى خدعة.

ثم يضيف في الصفحة الموالية:

ببعض ما طوقتني به مرارتي، أضفت إلي

جرح الوجود، هذا العدم الذي به أحيا".

بناء على المثبت أعلاه، فإن الخطاب السير ذاتي، في الديوان، بكتبه الثلاثة، يتبدى متواشجا في وشائج ذاتية تأملية، منسحبا بذلك، لصالح خطاب تخييلي ذاتي جديد، يمكن اعتباره البنية الدالية الأساسية، في هذا العمل. والشاعر، بذلك، وبكثير من الشك والاحتمال، يفتح أفقا جديدا، في طبوغرافية الكتابة الشعرية العربية الراهنة... لا شك في ذلك.

4 – أفق لكينونة أكثر انشراحا:

يتشكل البعد الأوتوبيوغرافي، في هذا العمل، عبر أشكال فنية، تتجاوز الواقعية السيرية، في أفق تخليص الأنا الشاعرة، من تاريخيتها الملبدة بهندام مرجعية ثابتة، لصالح وضع اعتباري، يليق بالفاعلية التخييلية الشعرية. لقد سخر الشاعر، كل طاقته التخييلية، من أجل منح حياته معنى مضاعفا، انطلاقا من رؤية ناضجة، وواعية بجزئيات وتفاصيل الوقائع الماضية، في كلياتها؛ فاليد تخطُّ ما وراء الواقع، لا بتذكر الأحداث كما حصلت، وإنما بتجاهلها، ونسيانها، مانحا كينونته وضعا جديدا، تم ترميمه بـ "وعي حدوسي- عرفاني" عميق وحصيف:

"لا بأس، إن كنت غير أليف بما يكفي

فيدي نأت بي إلى مجاهل

لم أكن أدركتُ ضراوتها بعد". ص 33

ولا غرو في أن عملية الاسترجاع السيري، بماهيتها التطابقية؛ أي مطابقتها للحقيقة، لم تكن تعني الشاعر في شيء. وهو بذلك، قد خالف العرف السيري المتداول، باستيلاده لكينونة، تهندمت لا بجمالية القبح (ميرلوبونتي)، وإنما بقبح جمالية القبح، من خلال تجريب الحياة، في احتمالاتها الأخرى، وبرؤية مقلوبة، تنظر إلى الواقع، في جمالية قبحه، وكأني بالشاعر، يمنح نفسه، فرصة الإمساك بما ضاع منه، مع تكريسه تخييليا؛ أقصد بذلك، الوجه الآخر، لوجود متعدد الاحتمالات. يقول:

"_ لا

شجر

وحدها فسائل الجيرانيوم

كانت تُناهز شغفي

وتصبو لبلل

طالما دشّ دبيبه في شغفي.

لا

شيء يؤكد العكس

فالشجر امتداد لجسدي". ص 63

"_ لا

وقت لي

لأبدّد أنفاسي

في أرض

ترابها كان أوج انشراحي". ص 99

إن الشاعر، كما هو بيّن، في هذين النموذجين، رافضٌ، وجاحد بكل الوقائع، التي تحققت في حياته عينيا، معيدا، في الوقت نفسه، النظر، بما يليق باختلافه ومغايرته، في هذه الأشياء، في أفق مضاعفة معنى كينونته. ليست الحقيقة، في هذا المقام، هي المطابقة، بل هي الكشف (أليثيا/ هايدغر)، والنبش في كليات الوقائع، بحثا عن كينونة أخرى، ثاوية في كينونة مزيفة وملبدة بحقيقة واهية ومغلطة. أليس هو القائل:

"ليس وجودي، ما أنا عليه

فأنا في غفلة من هذا الوجود

اختلقت وجودي، لأكون

" أنا من أنا". (لا يقين في الغابة. ص 18)

لقد أضحت الأنا الشاعرة، متعارضة مع الواقع كمعطى مفروض، وكافرة به، ساعية ما أمكن، إلى خلق مصيرها/ كينونتها، منذ البداية، متماهية بكثير من الوعي، مع المقولة النيتشوية المعتبرة "إرادة القوة"، كإرادة مُبادِرة، لا تقبل بالواقع كما هو، وإنما تُقرّرُ مصيرها بيدها.

هنا تحديدا، يسمو الفعل السيري، عند صلاح بوسريف، وينتقل من النثري الفج، ذي الطبيعة التوثيقية، إلى الشعري المنشرح، ذي الطبيعة التخييلية، أو بلغة أخرى، في هذه المسافة فقط، تتشعرن المادة السيرية، متخطية وثوقية المطابقة، نحو الكشف عن أفق جديد لعالم متخيل، كان ولم يكن..مانحا، بذلك، لكينونة الشاعر، بعدا ثنائيا، وثلاثيا... يقول:

"بحدسك الذي لا تضاهيه في رجاحته خبرة خيميائي جرب السحر، أو زاوله عن قصد عرفت أن يدك ستكون الشرفة التي منها سترى كيف تحيا البذرة في رحم التربة، ولا تموت، متى كانت ضافية بالمجاز". (لا يقين في الغابة ص 14)

5 – أيتها الآلهة... امنحيني يقينا واحدا:

منذ العنوان، باعتباره بنية دالة كبرى، تُؤطر الرؤيا الصادِرِ عنها فعلُ الكتابة، في هذا العمل الشعري، عمليةَ السرد المستقوية والمتشاكسة بتشاكس موتيفاتها التخييلية العميقة. إن فعل السرد، ها هنا، لعبة مبتهرة، من حساسية جديدة، ترى في اليتم، انفصالا عن أصل طهراني، بقدر ما يُحدث جرحا وألما، بقدر ما يفتح شرفة نحو أفق جديد في الكتابة والحياة معا، والذي هو - الأفق -، ليس سوى أفق المغايرة والاختلاف.

لقد جمع الشاعر بين ثلاثة كتب، في عمل واحد، تَأطَّرَ بانشراح الأفق (شرفة)، وبالانقطاع (يتيمة)، مع مَنْحِهِ الكُتُب الثلاثة، عناوينَ توحي بالشخصية المغايرة والمختلفة، في ذات الشاعر، والتي تفَتَّقتْ منذ الطفولة، وأخذت تنمو وتكبر، إلى أن استوت واستقوت. والعناوين هي كالتالي: خبز العائلة - حجر الفلاسفة - لا يقين في الغابة.

وعلى الرُّغم من أن هذا الديوان، هو عبارة عن تخييل ذاتي، يوحي منذ الوهلة الأولى، بأن الشاعر يُطل من إنيته، على حياته الماضية، إلا أنه، في طبقاته السفلى، يُخفي سيرة ذاتية أخرى، تتعلق برؤية الشاعر لموضوعة الكتابة والشعر، منذ أن كان صغيرا، في إطار ما سماه أحدهم بـ "شعرنة الميتا لغة".[11]

لقد أعاد صلاح، ترميم أناه الشاعرة، في هذا التخييل الذاتي، بما يناسب أفقه / شرفته، مختصرا إياها في ثلاثة عناوين متنامية بطريقة تدريجية، نفهمها كما يلي:

_ خبز العائلة: بداية التكوين والبناء الكينوناتي.

_ حجر الفلاسفة: اختياره المرجعية الفلسفية كقاعدة وخلفية معرفية.

_ لا يقين في الغابة: شكه في المواضعات، وإيمانه بأنه لا يقين في المعرفة، وبكثير من التبطين، شكه في الاختيارات الجمالية المعطاة في مجال الشعر.

إن الشاعر، منذ طفولته المبكرة، التي تعرضت لليتم، بما تحمله العبارة من تأويلات، من مثيل الانفصال، والانقطاع الكارثي (روني طوم)، قلت إن الشاعر منذ صغره، كان يروم الاختلاف عن أقرانه ومغايرتهم، في التعلم وكذا في سعيه وراء المعرفة. يقول:

"تعلّموا القراءة والحساب

واكتفيتُ بالخط.

يدي

كانت تزاول النسيان

ولساني

كان أوشك أن ينام في خرسه". ص35

فالشاعر، منذ بداية كينونته الكريستالية، وهو يراهن على الخط والكتابة، مع ميله الشديد، إلى المحو والنسيان والصمت..، منتصرا للكتابي على حساب الشفاهي، للهدم والتفكيك، على حساب النقل والتكرار، كأني به مشبع بفكرة التفلسف/ التفكير بالمطرقة النيتشوية. إن منطق التجاوز والتخطي والمغايرة، هو منطق متحقق لدى الشاعر، بالفعل والقوة. كان ذلك قبل أن يتأثر ويتشرب فلسفة ما بعد الحداثة:

"من زج بي

في هذا الماء

وأنا ما زلت لم أناهز بعد

أول القطر". ص 35

لقد اختار الشاعر، الطريق الصعب، منذ الصبى. طريق المغامرة والمخاطرة، بالمعنى النيتشوي الصرف، مهما كلفه ذلك من خسارات.. وعداوات:

"لم

كل إخوتي ذهبوا صوب ريح واحدة

زرافات كانوا يذهبون إلى نفس الشرفات

ووحدي

كنت أراوغ الطرق بخسارات

لم

أنج بعد من فداحتها". ص34

هو اختيار صعب فعلا، في مرحلة، يتحصن فيها الإنسان، بضم رأسه لباقي الرؤوس، مثلما القطيع الذي يتحصن خوفا من الطارئ، أو بما يسميه أحدهم بفوبيا المختلف والمغاير.

وللكتابة، عند الشاعر، جذور أنثوية صرفة. الكتابةُ أنثوية الأصل.. بما تحمله الأنوثة من خصوبة، واستمرارية:

"للإناث حظ ليس حظ الذكر

كم تمنيت أن أزاوج في شخصي بين جنسين

ربما لأحظى ببعض مباهج اللباس

وشهوات الطعام والسفر". ص 199

فإذا كان للأنثى، كما يقول الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو، لسانٌ مشطور، وأنها وحدها القادرة على الحكي والسرد، فإن الكتابة بالنسبة إلى صلاح، أنثى قادرة على سرد الوجود، في احتمالاته الثاوية في تجاويف المتحجّب، وكذا استيلاد ممكناته التي بها ولها نؤثث فضاء المستقبل وانشراح الحياة.

إن الكتابة، عند صلاح بوسريف، هي حرثٌ وزرع، في أرض بكر، بيدٍ مرتعشةٍ، ارتعاش من تخدّر، كما لو أنها البداية والنشأة، بحثا عن الخلود. إنها دعوة صريحة ورائدة، للعودة إلى روح "جلجامش"، النص الأول، الذي حرث الأرض، ولبس ترابها، فخرج الدّمُ منها صافيا. يقول في كتاب (لا يقين في الغابة.ص 19):

"أن تحرث أو تكتب، سيان، الكتابة زرع في أرض، طينها خدرٌ يشبه

أفيون الشعوب".

6 – لا يقين في الغابة:

عندما نقرأ الكتاب الثالث، من هذه السيرة، أو بالأصح، هذا التخييل الذاتي، الموسوم بـ "لا يقين في الغابة"، نزداد يقينا، بأن الشاعر صلاح بوسريف، قد أعاد صوغ حياته الشخصية، انطلاقا من الإقامة فيها أولا، باحثا، بعد ذلك، عن تحرجاتها الداخلية، وتوتراتها المتصادية والمتدانية في نفس الوقت، بنيّة تقويض مرجعيتها الممتلئة، لفائدة كينونة غائبة، وذلك بنسيانه السير المستقيم والتطوري، مع استئصاله اللاّحضور من الحضور نفسه. هي كينونة كفرت، منذ ولادتها، بالمطلق.. واليقين.. والحقيقة، منتصرة للمجازي والشعري فقط. يقول الشاعر في إحدى جحوده وكفره، بالمعنى الإيجابي للكلمتين:

"أيها الولد.

النزق

الضال

الأرعن.

القلق الذي لم ينحن لطاعة الغيم.

يا أنت.

يا

من خرجت من عضد ريح،

هي من بدّدت غيمك في الغيب". (لا يقين في الغابة) ص 11

إن توغل الشاعر، في هذه الرؤيا الكارثية (روني طوم)، قاده إلى الشك، في كل الثوابت، منذ نعومة أظافره، مانحا وجوده، فرصة الانكشاف، لتكريس اختلاف أنطولوجي صعب المنال. اختلاف يحقق وجوده، في أوّل حالهِ؛ أي قبل أن تتدخّل الأسماء، لتعطيه لبوسا واقعيا:

1 – "الوجود كتاب مفتوح على تأويلات، لا أحد استطاع

أن يجزم بالمعنى الذي يكون حاسما في أسر انشراحه؟" (لايقين في الغابة. ص 21)

2 – "كان السّرُّ بيننا

أن

أبقي على شكي،

إذا ما أنا رغبت في استباق اليقين

إلى

ما يضع به الحق نفسه في غدير

ما بدا به لخلقه أنه اليقين". (لا يقين في الغابة. ص 29)

والواضح أن الشاعر صلاح، وهو يمحي عن الأشياء أسماءها، كاشفا سيرته الذاتية، دون تسمية الأشياء، أثناء ترتيبه لأفضيته، وأزمنته، بشكل أكثر طمأنينة، قلت إن الشاعر، في سعيه هذا، ظل متشبثا بمبدأ النسبية، وتعدد المنظورات، كسبيل قد يحرره، من ربقة القدر وحتمية المصير، ويمنحه بالمقابل، فرصة البزوغ بشكل أكثر انفتاحا على العالم، وأن يسترد ما فاته أو ضاع منه، من أجل كينونة أجّلت، أو تم نسيانها.. ربما.

أما بعد،

إن الشاعر صلاح بوسريف، وهو يعيد كتابة سيرة ذاته، بطريقة أخرى، أقل ما يمكن أن يقال عنها، إنها بلورية.. مليئة بالفجوات، ما فتئ "يقوي في مقام كتابه، حضور الدال الشعري بأضلاعه البلورية الكثيفة التي تتراقص على أجناب الصفحة، بقدر ما هي تكتب وتمحو في آن، وبالتالي يجعل الكتابة، باعتبارها نصا ديناميا مفتوحا، يتجاوز حدود النوع"[12]، ما يجعلني أقول باطمئنان شديد، إن هذا العمل الشعري المختلف، قد فتح أرضا مجهولة، في الشعر العربي، باعتبار الأخير كثرة، بقدر ما دفع الكتابة الشعرية، لدى صلاح، إلى مضايقها البهية، فاتحة الطريق أمام ماء الشعر الرقراقة، ومتقدمة بخطى واثقة ووثيقة نحو ما يمكن تسميته بالحداثة المتقدمة جدا..جدا...

 

قائمة المصادر والمراجع:

1- صلاح بوسريف: "شرفة يتيمة"، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2015، وهي تضم ثلاثة كتب: الأول موسوم بـ "خبز العائلة"، والثاني تحت عنوان "حجر الفلاسفة"، والثالث تحت عنوان "لا يقين في الغابة".

2- صلاح بوسريف: "رهانات الحداثة – أفق لأشكال محتملة"، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1996، مطبعة النجاح الجديدة.

3- صلاح بوسريف: "المغايرة والاختلاف في الشعر المغربي المعاصر"، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1998، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء.

4- بوسريف: "الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر"، دار الحرف للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى يناير2007

5- عبد الغفار مكاوي: "نداء الحقيقة- مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر: ماهية الحقيقة – نظرية أفلاطون عن الحقيقة – أليثيا: هيراقليطس الشذرة السادسة عشرة"، القاهرة – مصر، دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط1، 2002

6- عبد اللطيف الوراري: "في راهن الشعر المغربي – من الجيل إلى الحساسية"، منشورات دار التوحيدي، الطبعة الأولى 2014

7- د. محمد الباردي: "عندما تتكلم الذات، السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث"، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، سوريا، 2005

8- مارتن هيدجر: "إنشاد المنادى- قراءة في شعر هولدرلن وتراكل"، تلخيص وترجمة بسام حجار، بيروت – لبنان، الدار البيضاء – المغرب، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994

 

 

[1]- مجلة ذوات العدد47

[2] صلاح بوسريف: "شرفة يتيمة"، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2015، وهي تضم كتابين، الأول موسوم ب "خبز العائلة"، والثاني تحت عنوان "حجر الفلاسفة"، فيما صدر الكتاب الثالث من هذه السيرة الشعرية، بشكل مستقل لاحقا، عن نفس الدار، موسوما ب "لا يقين في الغابة".

[3] صلاح بوسريف: "رهانات الحداثة – أفق لأشكال محتملة"، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى1996، مطبعة النجاح الجديدة، ص 6

[4] صلاح بوسريف: "المغايرة والاختلاف في الشعر المغربي المعاصر"، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1998، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، ص8

[5] بوسريف: "الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر"، دار الحرف للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى يناير2007، ص98

[6] مارتن هيدجر: "إنشاد المنادى- قراءة في شعر هولدرلن وتراكل"، تلخيص وترجمة بسام حجار، بيروت – لبنان، الدار البيضاء – المغرب، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994، ص65

[7] انظر عبد الغفار مكاوي: "نداء الحقيقة- مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر: ماهية الحقيقة – نظرية أفلاطون عن الحقيقة – أليثيا: هيراقليطس الشذرة السادسة عشرة"، القاهرة – مصر، دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط1، 2002، ص156

[8] بوسريف: "الكتابي والشفاهي" مذكور. ص64

[9] نفسه، ص46

[10] د. محمد الباردي: "عندما تتكلم الذات، السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث"، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، سوريا، 2005، ص49

[11] عبد اللطيف الوراري: "في راهن الشعر المغربي – من الجيل إلى الحساسية"، منشورات دار التوحيدي، الطبعة الأولى 2014، ص 33

[12] نفسه، ص 33