الشـيخ والمـــريـد (1)


فئة :  مقالات

الشـيخ والمـــريـد (1)

الشـيخ والمـــريـد (1)

برهانُ الدّين مُحقق ترمذي

شيخُ مولانا جلال الدّين الرّومي


اظْفَرْ بتراثِ والدِكَ بالنصيبِ الكاملِ

ومثل الشّمسِ ستنثرُ النورَ على امتداد العالم


من الحلقات المهمة في حياة الرّومي حلقة تعلّمه وتلمذته على يد السيد برهان الدين، وفيما راجعته من كتابات (عربية) تدرس حياة مولانا، لم أرَ اهتمامًا بهذه الشخصية التي أثّرت في معارف مولانا الدينية ومعراجه الروحي. لأجل ذلك، أردت أن أخصص هذه المقالة للحديث عنه؛ فربما كانت سببًا للتعريف به أو الاهتمام به بشكل لائق من قبل الباحثين المختصين في التصوف والعرفان الفارسي، وستقتصر المعلومات الواردة في هذه المقالة على الاعتماد على ما تُرجم من كتابات عن الفارسية، وأغلبها يعود إلى عمل العلاّمة بديع الزمان فروزانفر (حياة مولانا جلال الدين محمد – المشهور بـ(مولوي) الذي ترجمه الأستاذ عيسى علي العاكوب، ونشره تحت عنوان: من بلخ إلى قونية - سيرة حياة مولانا جلال الدّين الرومي. والعمل الأوسع لفرانكلين د. لويس صاحب كتاب الرومي، ماضيًا وحاضرًا وشرقًا وغربًا، ترجمة الأستاذ عيسى علي العاكوب أيضًا. وكذلك كتاب (المعارف) المنسوب لبرهان الدين محقق ترمذي.

من هو المُحقق الترمذي الذي علّم مولانا دروس الروح؟

برهان الدين محقق ترمذي، هو من السادات الحسينية في (ترمذ)، تحدّث سلطان ولد في مثنويه عن إرادة برهان محقق وتلمذته لبهاء ولد سلطان العلماء، فقال: عندما جاء إلى بلخ في شبابه، أراد الاستقرار هناك، وعندما رأى ذلك الطالب سلطان العلماء -الذي كان عشق الحقّ غالبًا عليه- صار برهان مريدًا له من القلب والروح، لكي يصنع روحًا من شيخ الروح، وصل في الإرادة إلى أن يكون مرادًا؛ لأن شيخه أعطاه عطاءً لا حدود له.

برهان محقق إذن، هو أحد تلامذة والد مولانا جلال الدين، ويوصف بحُجّة الحقِّ، والواصل إلى الحقّ، والمُكمّل، والمتمم.

اشتهر برهان محقق بكونه معلمًا ومرشدًا وشيخًا لمولانا جلال الدين، وذلك في الفترة [1232-1241م]. كما اشتهر من قبل بكونه تلميذًا لسلطان العلماء؛ يقول برهانُ معتزًّا بشيخه: "أرى الأنبياء والأولياء في اللوح المحفوظ، أعرفُ كلّ واحدٍ منهم، وبعد أحمد المُرسلُ وُجِد كثيرٌ من الأولياء لم يكن لأحدٍ منهم منزلة سيدنا بهاء الدين، ليس في هذا مُراءةٌ".[1]

ويُظهر هذا القول مدى محبة وإجلال وتقدير محقق ترمذي لشيخه، وسينعكس ذلك لاحقًا على رؤيته لفكرة الشيخ والمريد التي تشكّل جزءًا مهمًا في فكره الصوفي.

لا يُعرفُ على وجه الدّقة والتأكيد إذا ما كان برهان الدين ترمذي قد خلف آثارًا مكتوبة، لكن نُسب إليه من بعد رحيله كتاب المعارف الذي يحتوي مجموعة من المواعظ إضافة إلى تفسير سورتي مُحمّد والفتح، وقد قام بتحقيق الكتاب العلاّمة فروزانفر أهم الدارسين لمولانا جلال الدين الرومي في العصر الحديث، ونشره في صورته الفارسية في إيران عام 1961م[2].

كان برهان محقق مولعًا بالشّعرِ أكثر من شيخه بهاء ولد؛ فنراه يذكر في كتاب المعارف من أشعار الحلاّج، والعطار، وخاقاني، ونظامي، وغيرهم. وبشكل خاص كان ولعه شديدًا بسنائي الغزنوي، حتى أن من كانوا يقرأون له أو يستمعون إليه لاحظوا تأثره بكلام سنائي الذي انعكس على أسلوبه بصبغة جمالية راقية. وقد تعجّب مولانا من شكوى الناس بتأثر برهان محقق بسنائي، إذ طالما أنه ينتج شيئًا جميلًا فعلام التّعجب!

على الرغم من استشهاد برهان محقق بأشعار السابقين وآثارهم في معارفه، إلاّ أنه يرفض أن تكون تجربة رابعة والحلاج والبسطامي صالحة للمحاكاة، ولعله في ذلك يشير إلى أمرين؛ أولهما: ذاتية التجربة الصوفية، والأمر الثاني: أهمية السلوك على يد شيخ، لا الاكتفاء بتقليد تجارب السابقين؛ فالسير على انفراد منذ بداية الطريق قد يؤدي إلى ضلال الفرد، وسنلاحظ في تعاليم برهان محقق تشديده على التعويل على الشيخ في الطريق.

انتقل برهان من قيصرية إلى قونية لرعاية الرّومي بناء على وصية شيخه ووالد مولانا، من أجل أن يتم أمر الرومي على أكمل حال، ويصعد في سماوات الروح مثل مَلَكٍ من الملائكة، ويكون سببًا في حياة النفوس البشرية. وعندما أتمّ مولانا منهاجه الدراسي، وكمل بناؤه العلمي، قال له برهان: "أي روحي ونور عيني، برغم أنك بذلت جهودًا في تحصيل العلوم، وصرت مُشارًا إليك بالبنان، اعلم أن وراء هذه العلوم علمًا آخر، هذه العلوم قشرٌ له، وقد آثرني والدُك بمفتاح ذلك العلم، ومطلوب منك تحصيل ذلك العلم"... صار الرّومي مريدًا لبرهان من أعماق روحه، وطأطأ الرأس، وكان بين يديه كالميّت يتعلّم دروس الحياة. وبعدها درّس برهانُ الرومي العلوم اليقينية، ولقنه طريق السلوك وآداب المشايخ. وبفضل إرشاده صار نورًا كلّه.[3]

وعندما بلغ الرومي الكمال والولاية، سجد برهان شكرًا لله، واحتضن مولانا، وقبّل وجهه الكريم، وقال: "أنت في جميع العلوم العقلية والنقلية والكسبية لا نظير لك في البشر! وصرت المشار إليك بالبنان لدى الأنبياء والأولياء في أسرار الباطن وسرّ سير أهل الحقائق ومكاشفات الروحانيين"، وأذن له بأن يباشر هداية الخلائق وإرشادهم والأخذ بأيديهم.

تعاليم برهان محقق الصوفية

- شدد برهان على ترك الدنيا وعدم الانشغال بها أو الانخداع بمظهرها البرّاق، إذ المحبة لا تُبقي ولا تذر تعلّقًا بالدنيا! وإذا أحب الإنسانُ ربّه وعشقه كان قُوته ذِكرَه؛ فهو معشوقه الأوحد، ولا يشرك في حبه شيء. وهنا نجد كثرة من أحاديث المصطفى التي تحض على ذم الدنيا وذمّ طلاّبها، من أمثال: (الدنيا جيفة وطلاّبها كلاب).

- مخالفة النفسِ شرطُ القربِ؛ فكل استجابة للنفسِ بُعدٌ عن الحقّ، وبقدرِ المخالفة يكون القرب للمحبوب، حتى أنه يبالغ في هذه الفكرة، فيقول: "إذا صالحت نفسك صرت في حربٍ مع الله".

- وإذا كانت مخالفة النفس شرطًا، فإفناؤها ضرورة، حيث تبدأ الولادة الجديدة، ويتحقق السالك بـ(موتوا قبل أن تموتوا). يقول برهان محقق: "إنّ لُبّ العبادة هو إفناء النّفس، وبقيةُ العبادة ليست سوى القشر، وما لم تفن عن هذا الوجود، فلن تحصل على وجود من وجوده تعالى؛ فمُت قبل الموتِ، وادفن نفسك في قبر مخالفة النفس وابتهج".

- من أهم الرياضات الصّوفية التي يحضُّ برهان عليها، (الصّيام)؛ والصيام هنا بترك ما سوى الله، لا ترك الطعام والشراب فحسب، أو ترك الحلال والحرام، بل أن يترك السالك كل شيءٍ دون الله، حتى يخف جسده بما فيه من ثقل الرغبات، ويتحول هذا الجسد من سجن إلى سراج ومصباح يُضاء بنور القرب والمحبة؛ فالصيام يحقق الهدوء والأناة والصبر. علينا أن نهدأ قبل أن نتكلم، علينا أن نتروى قبل أن نُقدم على إحداث أي أمر من الأمور. وفي حديث برهان عن الصّيام، يستخدم أسلوب القصّ في دعم وصاياه ونصائحه، كما سيفعل لاحقًا تلميذه النجيب مولانا جلال الدين الرّومي.[4]

- على الإنسان أن يتوق إلى الحقيقة، مثلما تتوق السمكة إلى الماء، ليس فقط أن تتوق إلى غدير أو جدول، بل إلى محيط، وهكذا يمكن للسمكة أن تتحول إلى تمساح؛ "لا بد من بحرٍ لكي تغدو السمكة تمساحًا".

- إذا كان القرآن قد وصف قومًا بقوله: "أولئك كتب في قلوبهم الإيمان". وإذا كان النّبيُ قد وصّى الجماعة المؤمنة بقوله: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي"، ووصف أهل بيته بقوله: "أذكركم الله"، وشدد على هذا الوصف؛ فإن برهان محقق يرى أن الشيخ الصوفي والمرشد والمعلم هو الذي يدرك المعنى الحقيقي للإسلام، وهو حامل رسالة العشق والمحبة، ويقول في هذا المعنى: "كتاب الله باطن الشيخ .. الكتابُ هو المعنى الذي توارى فيه... والعترةُ هم جسم الشيخ... ولأنك ليس لديك الأهلية لقراءة الكتاب، فإن العترة تُعلّمك سر هذا الكتاب". ولا يُعلّم الشيخ الأسرار فحسب، بل هو الذي يوصلك إلى كل شيء؛ فالشيخ كما يراه برهان مثل شجرة عظيمة للدين، جذورها عند الله وفروعها تظلّ البشر، وعلى المريد أن يطلب ظلّ الشيخ، ليكون ملجأ يظله من شمس الدنيا الحارقة. والشيخ مثل المرآة، تنظر إليك بقدر ما تنظر إليها، وعلى المريد ألا ينظر إلاّ إلى شيخه، إذ بينه وبين الحق لا يبقى قيد شعرة!

- العلمُ حجابٌ عند برهان محقق، إذ بعد أن يتمّ السالك معرفة العلوم بكافة أنواعها يصير مبتدئًا في طريق السلوك، وقد نبّه برهان مولانا إلى هذا المعنى بعد أن تلقّى علوم (الظاهر) بعد وفاة أبيه، قائلًا: "لتكن جوهرتك هي أنت... أنت أنت وأنا أنا مُحال... أنت أنا وأنا أنت وصال".

- إن ذِكر الله يغدو كاملًا عندما ينسى الإنسان كل شيء إلا الله، وعندما يكتمل ذكر الله يحصل النسيان لغيره؛ فكلمات المحبوب حياة، ومن هنا يرى برهان محقق أنه على المريد أن يشغل نفسه بقراءة القرآن، وترديد كلمات الحقّ على لسانه، ومتى ما فرغ من هذين العالمين، عالم الظاهر والباطن صار حيًّا يرى الحقّ.

- لا يقيم برهان محقق وزنًا كبيرًا لقواعد الجرح والتعديل التي يهتم بها أهل الحديث، ولا يرى أنها مدعاة للافتخار كما هو الشأن قديمًا؛ إذا كان هذا المذهب عنده غيرُ مُرضٍ، فالمعرفة الحقيقية تكمن في معرفة الله، والمحروم من هذه المعرفة يظل محجوبًا عن الحقيقة، ولا يمكن أن يكون يومًا ما عارفًا. أما العارفُ عنده، فهو من على مذهب (حدّثني قلبي عن ربّي).

- من كلمات برهان الدين محقق ترمذي التي احتفظ بها مولانا، وكان يرددها لحسام الدين قائلًا: إنني أحتفظ بها ذكرى من السيد برهان:

"الرّوح من نور عرش الله مبدؤها، وتربة الأرض أصل الجسم والبدن، قد ألّف الملك الجبّار بينهما، ليصلحا لقبول العهد والمِحنِ، الرّوح في غربةٍ والجسم في وطنٍ، فارحم غريبًا كئيبًا نازحَ الوطنِ."


[1]- لم يكن يرى برهان محقق أحدًا في درجة بهاء ولد، حتى أنه حينما دعا للرومي بعلو الدرجات، دعا له أن يبلغ رتبة والده سلطان العلماء.

[2]- يقع الكتاب في 235 صفحة، وجاء ترتيبه على يد العلامة فروزانفر على الصورة التالية: مقدّمة مصحّح ألف- معارف برهان محقق- تفسير سورة محمد- تفسير سورة فتح- حواشي وتعليقات- فهرست آيات قرآن- فهرست أحاديث- فهرست كلمات مشايخ وأمثال عربي- فهرست حكم وأمثال فارسي- فهرست أشعار فارسي وعربي- فهرست مصطلحات ونوادر لغات وتعبيرات- فهرست أسماء رجال وطوائف- فهرست بلاد وأماكن- فهرست أسامي كتب- فهرست تكملة حواشي.

يلاحظ في كتاب المعارف، أن برهان محقق يعتمد على الكتابات العرفانية العربية؛ فنراه يذكر من كلام الحلاج والبسطامي والقشيري والكلاباذي وابن أبي الدنيا وغيرهم، ومن أمثال منقولاته الروحية عن المتصوفين السابقين:

-"أحياني بحَياته وأنارني بنُور ذاتِه".

-"البدن يفنى ويموت والرّوح لا يفنى ولا يموت".

-"الأُنْسُ مَعَ اللَّهِ نُورٌ سَاطِعٌ، وَالأُنْسُ مَعَ مَا سِواهُ سُمٌّ قَاطِعٌ".

-"الْبُهْتَانُ عَلَى الْبَرِيءِ أَثْقَلُ مِنَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، وَالْحَقُّ أَوْسَعُ مِنَ الأَرْضِ، وَقَلْبُ الْقَانِعِ أَغْنَى مِنَ الْبَحْرِ".

-"الذّكرُ خروج من ميدان الغفلة إلى فضاء المشاهدة على غلبة الخوف وشدّة الحبّ".

-"الشّوقُ نورُ شجرة المحبّة والعشق ثمرتُها".

[3]- يقول مولانا: انضج وابتعد عن التغيّر، وامض مثل برهان محقق، وصرْ نورًا، وإذا ما تحررت من نفسك صرت كلك برهانًا.

[4]- يذكر الأفلاكي أن سيدة عظيمة، كانت آسية وقتها، صارت مريدة لبرهان محقق، وفي يومٍ من الأيام سألته: إنك في الصّبا قد أكملت الرياضة والمجاهدة؛ فما معنى أنك في آخر العمر لا تصوم، ويفوتك أغلب الصلوات؟ فقال يا بنتي، نحن مثل جمال الأحمال، حملنا الأحمال الثقيلة، وذقنا شدائد الزمان، وقطعنا الطرق البعيدة والطويلة، واجتزنا مراحل ومنازل لا حدود لها، وأسقطنا صوف الوجود ووبره، فصرنا ناحلين ونحيفين وغير مرغوب فينا، وأصبحنا تحت الأحمال الثقيلة، قليلي الأكل، ضيقي الحلوق، والآن رُبطنا لأيام قليلة لأكل الشعير، وعندما نسمن نُذبح في عيد الوصال، لأن الأضحية الضعيفة لا تصلح في مطبخ السلطان وتسمّن دائمًا.