مولانا جلال الدّين الرومي : القدّيس الصوفيّ والشاعر


فئة :  مقالات

مولانا جلال الدّين الرومي : القدّيس الصوفيّ والشاعر

مولانا جلال الدّين الرومي[1]:

القدّيس الصوفيّ والشاعر

مَن منّا لم يسمع بجلال الدين الرومي، ولم يعشق روحَه؟

ولكن، مَن منّا يعرف حقيقة مولانا الرومي، وأبعاده وأعماقه وأسراره؟ ومَن منّا يعرف كتبه ومؤلّفاته؟

لا أحد يعرفه حقّ المعرفة، خصوصًا نحن العرب. نعرف القليل مما هو شهير من مقولاته، ومن خلال مواقع الإنترنت، فمن يتصفح الفيسبوك يُفاجأ بالكثير من الأقوال المنسوبة إليه، لكنها لا تنتمي إلى روحه. إنهم يسرقون هذه الروح، ويتعاملون مع "الخارجيّ" فيه، لكن مَن يعرف "المثنوي" و"فيه ما فيه" وقصائد "شمس التبريزي"، مثلًا؟

هنا، محاولة للتعرف على هذا الشاعر المفكّر والفيلسوف، وسنتعرف عليه من مصادر عدة، من كتاباته أساسًا، ومما كُتب عنه أيضًا، وخصوصًا ما كتبه الغربيّون، وعلى نحو أشدّ خصوصيّة كتاب لمؤلّف أمريكي تتمّ ترجمته حاليّا، وسنعتمد فقرات منه.

الغربيّون يعرفون الرومي أكثر مما نعرفه، وكتبوا عنه الكثير من الدّراسات. نحن نعوم على سطح مياه الرومي، بينما يضعه الباحثون في موقعه تاريخيًّا وجغرافيًّا، ويفسّرون أحاديثه وأقواله مستندين إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية، ويظهرون علاقته بالإسلام، ليُبعدوا عنه شبهة الزندقة. فهذا باحث أمريكي، هو جون بالدوك يرى أنّ "القارئ الغربيّ يقرأ أشعار الرومي بمعزل عن، بل بتجاهل لعناصر خلفية الرومي الثقافية"؛ أي أنه لا يعتبره مسلمًا (ثقافيًّا).

عن الرومي وزمنه

الرومي المولود في القرن الثالث عشر ميلادي، جاء في سياق تاريخيّ محتشد بالحروب والتحوّلات، ففي زمنه وقعت حروب وتغيرات كثيرة، وهو ما نجده في كتاب "جوهر الرومي" للباحث جون بالدوك (كتاب قيد الترجمة إلى العربية، من قبل الدكتورة لمى سخنيني)؛ ففي فصول هذا الكتاب نتعرف على الرومي من جوانب عدّة. ثمة لمحة عامة عن السیاق السیاسي والروحي الأوسع لأوروبا والعالم الإسلامي في القرن الثالث عشر ميلادي، كما يقدم وصفًا موجزًا لحياة الرومي ومقدمة لكتاباته. ثمّ يستكشف خلفيّة الرومي الإسلامية: حياة النبيّ محمّد، والقرآن والمبادئ الأساسية - الأركان الخمسة للدين الإسلاميّ. ويأخذنا إلى التطور التاريخي للتصوف، ووضعه في القلب من روح الإسلام. ولأن جمهور الرومي كان على دراية ببعض جوانب الصوفية، فإن كتاباته لا تقدّم تفسيرًا منهجيًا للتصوف، ولذلك يتضمن الكتاب شرحًا موجزًا للمسار الصوفيّ، ويستكشف عددًا قليلًا من الشخصيات الكثيرة التي تظهر في كتابات الرومي في كثير من الأحيان، وبعضهم قد يكون مألوفًا لدى الجمهور الغربي، عبر الثقافة والنصوص اليهودية - المسيحية: إبراهيم، يوسف (ابن يعقوب)، موسى، مريم، المسيح. وبالنسبة إلى الرومي، فغالبًا ما تأتي هذه الشخصيات في قدر من الاختزال. يستكشف بعض المعاني الأساسية التي ينقُلها الرومي من خلال هذه الشخصيات وغيرها، كما أن الكتاب يستحضر جوهرَ كتابات الرومي: تعاليمَه عن طبيعة الإنسان، وقدراتنا الفِطريّة للتنوير الروحي، وعلاقتَنا بالوحدة الإلهية. وعلاوة على ذلك، فإنّ فهمَ الرومي العميق لكلّ من عِلم النفس البشري والروحي، أعطاه نظرة ثاقبة حول أسباب قيامنا بالأشياء التي نقوم بها، والتفكير في الأشياء التي نفكّر بها.

فالرومي كان يكتب في قونية، في القرن الثالث عشر ميلادي (الآن في الأناضول، تركيا). وكان جمهوره المباشر غارقًا في التقاليد الإسلامية، وكان يفهم على الفور إشارات الرومي إلى النبي محمّد، والقرآن، والشخصيات شبه الأسطورية للثقافتين الفارسية والعربية. وعلاوة على ذلك، كان الرومي مدرّسًا صوفيًّا (شيخًا)، وكان كثير من أفراد جمهوره، هم تلاميذه، أو كانوا على دراية جيدة بالمصطلحات المرتبطة بالطريق الصوفيّ، ومع ذلك، فالقارئ الغربيّ يقرأ أشعار الرومي بمعزل عن، بل بتجاهل لعناصر خلفية الرومي الثقافية، ويمكن أن يقال الشّيءُ ذاتُه عن الخلفية التاريخية الأوسع للقرن الثالث عشر ميلادي.

الرّومي...قصائد محرّمة

على خُطى رجالات التصوّف، وأشدّهم تطرُّفًا في التوحّد بالله، والغَزَل الإلهيّ، والهرطقة، بل الزندقة، يأخذُنا "مولانا" جلالُ الدين الرومي، في ديوانه "قصائد محرّمة"، في رحلة لن نعودَ منها كما كُنّا قبلها، رحلةٍ سوف تجتثّ الكثير من الأفكار والمعتقدات التقليديّة في الأديان عُمومًا، وفي دين الإسلام خصوصًا، لأنّها- أي الرحلة- تخوض في تجربة ترى إلى العِشق بوصفه الأعمقَ والأقدمَ من الأديان في تاريخ البشرية، العِشق هو الوحيد الذي يجمع بني البشر منذ بدايات نشوء الكون، فيما الأديانُ حديثة العهد نسبيًّا.

في قصائد هذا الديوان، مثلًا، تبرز معالمُ العلاقة ما بين "مَولانا" وبين "القُطب" شمس الدين التبريزيّ، بوصف هذا الأخير هو "الطريقُ" إلى الله، فنعيش علاقةَ العِشق الرُّوحانيّ في أسمى صورها. علاقة يرسم الرّومي ملامحَها بلُغةٍ شَفّافة، ورموز وعَلاماتٍ من عالَمه الثريّ المُحتشد بالحُبّ، تقع في منطقة من الغموض تتطلّبُ فكَ "شيفراتها"، لتذوّقها والاستمتاع بطَلاوة معانيها وعُذوبتها.

جوهر الرومي

كثيرًا ما يُنظر إلى الرّومي بمنأى عن الخلفيّة التاريخية الواسعة له، والمقصود من هذه النظرة العامة المكثفة للعالم الأوروبي والإسلامي، هو وضع الرومي في بيئته السياسية والروحية.جلال الدّين الرومي، كما يظهر في تصوير هذا الباحث الأمريكيّ (بالدوك)، هو القدّيس الصوفيّ والشاعر، من القرن الثالث عشر ميلادي، وكان راويَ قصصٍ محترفًا. وقصّة "الفيل في الظلام" واحدة من أكثر قصصه شعبية، يروي قائلًا:"وضع بعض الهندوس فيلًا للعرض في غرفة معتمة. جاء الكثير من الناس لرؤيته، وبما أنه من المستحيل أن يُرى الفيل في الظلام، فقد تحسّسوه براحات أياديهم. أحدُهم وضع يدَه على خرطوم الفيل، وهتف "هذا المخلوق يشبه أنبوب تصريف". وآخر وضع يدَه على أذن الفيل، وقال "شكلُه مُشابهٌ لمَروحة". وثالث، تحسّس ساقَ الفيل، قال "إنه مثل عمود". ووضع رابعٌ يدَه على ظهر الفيل، وقال "حقًّا، هذا الفيل على شكل عرش". وعلى هذا المنوال، كلّ شخص من هؤلاء الأشخاص يصف الفيل من الجزء الذي لمسه، واختلفت أوصافهم اعتمادًا على وجهة نظر كلّ منهم، أحدهم وصفه ملويًا مثل حرف الدال، وآخر وصفه مستقيمًا مثل حرف الألف. فلو كان كلّ منهم يحمل شمعة، فإن أوصافهم لن تكون مختلفة؛ فالمعرفة المكتسبة من خلال حواسّنا، هي مماثلة للمعرفة التي يتمّ الحصول عليها مع راحة اليد: فراحةُ اليد لا يمكنها أن تقبض على الفيل كله. إنّ عين المحيط أمر، وعين الزبد أمر آخر. إذن، تجاهَل الزبد وانظر بعين المحيط. طوال اليوم، رذاذ الزبد يتناثر مرتفعًا من المحيط. أنت ترى الرذاذ، ولكنك لا ترى المحيط، يا له من شيء غريب!".رؤيتنا للرّومي

يحكي الباحثّ الأمريكيّ هذه القصة من قصص الرومي، ليوضح طبيعة شخصية هذا المتصوّف الشاعر والمتعدد الأبعاد، من جهة، وليوضح، من جهة ثانية، شخصية الإنسان عمومًا؛ فهو يرى أن هذه القصة توضح أوجهَ القصور من وجهة النظر الإنسانية حول "محيط الواقع"، ويمكن تطبيق هذه القصة على رؤيتنا الشخصية للرومي. وكما كان الحال مع أولئك الذين استشعروا الفيلَ في الظلام براحات أياديهم، سيكون حالُنا مع الرومي، فحُكمنا عليه سيعتمد على الجانب الذي نلمسه منه، أو على الجانب الذي قد يمسُّنا هو به. وكما يشير الرومي نفسه في ختام قصته، فإننا نميل إلى تركيز اهتمامنا على الجوانب الأكثر وضوحًا من الأشياء، على الأجزاء التي يمكن أن تحدّد نظرنا وخبرتنا في الحياة، لذلك، فبالنسبة إلى البعض منّا، فإنّ الرومي هو أساسًا شاعر، وللبعض الآخر فإن الرومي حكواتيّ، وقد نراه صوفيًّا أو قدّيسًا، في حين أنّه لبعضنا الآخر هو المرشد الروحيّ والمعلّم، والمعروف باحترام ومحبة بـ "مولانا"، و"سيّدنا". ومهما كانت وجهة نظرنا الشخصية عن الرومي، فإنّ الاحتمال الأكبر هو أن نراه من خلال "عين الزبد" بدلًا من "عين المحيط". ومع ذلك، فجوهر تعليم الرومي سيحوّل عيننا الحسيّة إلى عين مبصرة للمحيط.

فمن هو جلال الدين الرومي إذن؟

ليس سهلًا التعرّف على الرومي، تكوينه ومقولاته الأساسيّة، لكن من الضروريّ التوقّف عند مسألة تتعلّق بما يمكن تسميته "جوهر الرومي"، وهي تقوم على ثنائيّ مهمّ يرتبط بالشكل والجوهر، هاتين المفردتين في عمل الرومي، والتمييز بينهما، من أهم ما يميّز الرومي، ويتفرّع منهما الفرق بين الداخل والخارج، والعقل والروح. وفي هذا السياق، نعود إلى ما يقوله الباحث الأمريكيّ نفسه، حيث يرى أن الرومي في كتاباته غالبا ما يعود إلى موضوعَي "الشكل" و"الجوهر"، لتوضيح المبدأ القائل بأن تصوّرنا الإنسانيّ للعالم يركّز عادة على المظهر الخارجيّ للأشياء، على "الشكل" الخارجيّ. ونتيجة لذلك، فإنّنا نميل إلى أن نكون غير مدركين للجانب غير المرئيّ، والطبيعة الحقيقية أو معنى الأشياء، وجوهرها الداخليّ.ثم يقول إن من هم شبيهون بالروميّ، والذين حقّقوا رؤية موحدة للعالم الخارجيّ والداخليّ، ينظرون إلى الأمور بشكل مختلف. إنهم يرَون الأشياء من الداخل إلى الخارج، وليس من الخارج إلى الداخل. إن موضوع "الشكل" و"الجوهر" يتجلى أيضًا في كتابات الرومي بطريقة أخرى، حيث إن إلهامَه يتقدم من الداخل إلى الخارج، ومن الدافع الروحيّ إلى التعبير اللفظيّ. وهكذا، وكلّما كنّا قادرين على اختراق الشكل الخارجيّ من كلماته، سنكون أقرب إلى التقاط لمحة عن المصدر الذي جاءت كلماتُه منه. وهذا يتطلّب قفزةً ذهنية هائلة. والروميّ مدرك لهذا الأمر، لأنه في مجموعة أشعاره المعروفة باسم "ديوان شمس التبريزي" يقول:

"اقرأني بعُمق"، بقدر ما تريد، فإنك لن تعرفني

لأني أختلف في مائة طريقة عمّا تراه بي

ضع نفسَك وراء عينيّ، وشاهدني كما أنا أرى نفسي

حيث أنا قد اخترتُ أن أسكن في مكان لا يمكن لك أن تراه

ومن بين وجهات النظر الشائعة، بل السائدة، أن الرومي قد فعل فِعْل الساحر في الغرب، فما هو هذا السحر؟ ولماذا يتلقّفه الغربيّون، ويعيدون تصديره إلى المشرق؟ ألا تلفت هذه المسألة انتباهنا؟ كيف نستورد "بضاعتنا التي رُدّت إلينا؟".

يستحضر الباحث بعض أشعار الرومي ليتحدث عن علاقته بالغرب، وكيفية استقباله هناك:

عندما يصبح المرءُ أداة للروح

تختفي صفاتُه البشرية.

فكلُّ ما يقول،

روح نقية تتحدّث

فالذي ينتمي إلى هذا العالم

يتحدّث بصوت ذلك الذي ينتمي إلى العالم الآخر

وإذا كان للروح هذا التأثير الكبير

فما أعظم القدرة

لدى من يملك هذه الروح.

فهو يرى أن هذا الجانب في شخصية "مولانا"قد يكون هو مفتاح جاذبية الرومي الهائلة للجمهور الغربي في القرن الحادي والعشرين، ويقول: "مهما كان افتراضُنا لجاذبيته الخارجية، فعلى المستوى الداخليّ، كلماته تتناغم مع الروح الهاجعة عميقًا في رُوحنا، تنشط فيها الحياة، ولحظيًّا تندلع في أعماقنا مثل جَنين يتحرك في الرحم. ولكن ما لم نبقَ في حالة تأهّب، فإنّ الذات الأنانية (المغرورة)، قد تُطالب بهذه النزعة وكأنها من حقّها. وهنا نجد أنفسنا، نفكر "كان لي تجربة مؤثّرة"، ولكن هذه الـ "أنا" الأنانية (المغرورة) تغلق ستار الانفصال مرة أخرى.

في "طريقة" الرّومي ونهجه

للرّومي "طريقة" كما لكل أصحاب التصوّف و"الطرق" الصوفيّة، ويمكننا، بل علينا،العودة إلى كلماته مرارًا وتكرارًا، في محاولة لأن نقترب من معانيها الداخلية، من خلال عينيه، حتى يصبح حجابُ الانفصال أقلّ غموضًا. وعندها، سنبدأ في رؤية النهج (المسار) الذي ينتظرنا - وهو النهج (المسار) الذي قد نكون نتبعه فعلًا؛ وحيث يتعلّق الأمر بذلك النهج بالذات، ينصحنا الرّومي بالبحث عن مرشد روحيّ - أو شيخ مرشِد- لديه معرفة وثيقة بكلّ من النهج والروح في طُرقها خلاله. فإذا كنّا نخطو في النهج من تلقاء أنفسنا، ومن دون دليل، فمن المرجّح بأنّ ذاتنا ستتولى زمام الأمور، متعهّدة لنا بأنّنا نحقّق تقدمًا جيدًا، بينما نحن، في الواقع، لن نذهب إلى أي مكان.إلى أين يقودنا هذا النهج (المسار) للرومي؟من بين إجابات عدّة يقدّمها القرآن، هناك إجابتان على وجه الخصوص تتضمنهما أعمال الرومي؛ الأولى في الآية "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" (سورة البقرة س 2: 156)، والثانية في الآية "وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (سورة البقرة س 2: 115). وعلاوة على ذلك، وكما ينصّ شِعرُه الصوفيّ في ديوانه الشهير "شمس تبريز"، فالمسار "النهج" الذي نسافر فيه مع الرومي، ليس سوى مسار الحبّ، يقول:

اسْكرْ بالعِشق، لأنّ العِشق هو كلّ ما هنالك

ما لم تجعل هذا العِشق رفيقًا لك

لن يتمّ قبولُك من المحبوب

عن ترجمة الرّومي إلى العربية

كُثرٌ هم الذين ترجموا أشعار الرومي وكتاباته، ومن يبحث في المواقع الإلكترونية سيجد عشرات النسخ، في مستويات ونماذج مختلفة، الكثير منها يعاني مشكلات لغوية فاحشة. ومن بين هذه الترجمات، تستوقفني باهتمام شديد ترجمة أستاذة جامعية، تخصّصها يبدو بعيدًا تمامًا عن التصوّف والشعر، هي البروفيسور لمى سخنيني، المتخصّصة في الفيزياء الطبيّة، لكنّها على صلة بعالم الروح والتصوّف، حيث قدّمت ترجمة لكتاب "قصائد مُحرّمة" يمكن اعتبارها الأرقى بين ما قرأت من ترجمات.

عن علاقتها بالرومي وعالمه، وترجمتها له، تقول سخنيني:

لا تزال قراءة مولانا جلال الدين الرومي، والقراءة عنه، والكتابة عن عوالمه، تشكل لي لحظات ثمينة، أبحث عنها بين ساعات يومي المزدحمة بأمور العالم الكثيرة. فالرجوع إليه، هو الرجوع إلى نفسي الأسمى والأنقى؛ فهو الناطق بالحكمة وبدين الله، دين العشق. فنوره ينير جوانب عديدة من ظلمة هذا العالم المتهالك الغارق في الاضطرابات والنزاعات. وأنفاسه تبعث الحياة لقارئيه ومريديه، حتى بعد القرون الطويلة على مغادرته لدنيانا. وكي تكتب عن الرومي، أو تترجم له بعض أبياته أو إحدى مقالاته، يجب أن تصدّق به، وتؤمن بدين العشق، أو تصبح كلماتك ككأس ماء دافئ من غير طعم أو روح. ومن غير معرفتك الوثيقة، وإيمانك بدين الله الإسلام، ستجرّد كلماته من معانيها الأصلية.

وعن ترجمات كتاباته تقول سخنيني: للأسف، فإن النصوص (النثرية أو الشعرية) التي تُرجمت عن مولانا جلال الدين الرومي، قد عانت من عدم فهم لتعاليمه؛ فالترجمات الحديثة لقصائده، مسحت عنها الصبغة الدينية، من دون أية معرفة للثقافة الإسلامية والفكرية والروحية التي مثلها الرومي في كتاباته، وهذا ما ساعد هذه النصوص على الانتشار في العالم الغربي. ولكن مثل هذه الترجمات عرجاء بساق خشبية، فبعد أن أُخرجت من سياقها الإسلامي الصحيح، ومن ثقافة الرومي وفلسفته الإنسانية العميقة، فقدت هذه النصوص الأصلية الروح الدينية، وأصبحت مجرّد قصائد "حب". والأكثر من هذا، فقد أعيدت صياغة بعض النصوص الشعرية بعد تجريدها من فكرها الإسلامي، بغرض انتشارها شعبيًا؛ فاللغة التي تبدو سهلة ومألوفة، تعكس أفكارًا سطحية وغير دقيقة، وتخرج خارج المعاني الأصلية. فالقضية الرئيسة عند الرومي هي: "بلوغ الهدف من حياة الإنسان". وهنا نحن في حاجة إلى أن نتذكر أنه كان يتحدث في إطار من الثقافة والتراث الإسلاميّين، الإطار الذي كان يجعل من هذا الهدف واضحًا.

وأخيرًا، وعن أهميّة كتاب "جوهر الرومي" وترجمته، تقول د. لمى سخنيني "إن أهمية هذا الكتاب تكمن في كونه يوصل إلى القراء فكرة موجزة، لكن كافية، عن حياة مولانا جلال الدين الرومي وفكره وتعاليمه. فهذا الكتاب هو، في المقام الأول، مقدّمة لحياة جلال الدين الرومي، ونهجه في اتّجاه الاستسلام الذاتيّ، والتخلي عن الذات الأنانية، والاستسلام لدين الله. فقد تمّ ترتيب الفصول بطريقة ترتقي من العالم الخارجيّ والتاريخيّ، إلى الجوهر الداخليّ والروحيّ لتعاليم الرومي".

[1]- مجلة ذوات العدد49