المسيحية في الأحاديث النبوية


فئة :  قراءات في كتب

المسيحية في الأحاديث النبوية

صدر حديثًا للباحث عبد الرزّاق الدّغري كتاب (المسيحية في الأحاديث النبوية) ضمن سلسلة (في حوار النصوص الدينية) التي يشرف عليها حمّادي المسعودي، عن دار مسكيلياني للنشر تونس 2012م. والكتاب في الأصل رسالة لنيل شهادة الماجستير في الدراسات المقارنة في الحضارة، نوقشت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في القيروان في 14-12-2006م من قِبل لجنة مكوّنة من حمّادي المسعودي مشرفًا، ومحمد بوهلال ومحمد بن عيّاد مناقشين، ونال صاحبه شهادة الماجستير بملاحظة حسن جدًّا.

استهدف الباحث في دراسته استخراج أشكال الحضور المسيحي في الحديث النبوي، وبيان موقف هذا النصّ من المعتقدات والتّصورات والطقوس المسيحية، وأسباب استحضارها فيه، ورمى كذلك إلى النظر في الردود عليها، وفي مختلف المعاملات بين المسلمين والنصارى، وفي موقف الحديث من الفئات النصرانية، وكيفية التواصل مع أصحابها.

وزّع الباحث دراسته على بابين، خصص الأول منهما للبحث في المعتقدات المسيحية في الأحاديث النبوية؛ والثاني للكلام على النبي محمد والنصارى في حالتي الحرب والسلم، قاصدًا تجاوز النظرة التقليدية في التعامل مع النصوص النبوية، وهي نظرة تميّزت في الأغلب الأعم -كما يصفها- بكثير من التمجيد والتقديس لهذه النصوص، وأغفلت الانتباه إلى خلفيات الأحاديث المنقولة عن النبي التي تتحدث عن النصارى، وما يمكن أن تنطوي عليه من وجوه الإضافة والتوظيف السياسي والإيديولوجي في عصر علماء الحديث، وما تتضمنه من قصص دينية مسيحية تسرّبت إلى الثقافة العربية الإسلامية.

والتزم الباحث في دراسته المنهج النقدي المقارن، فقد رآه مناسبًا لبحثه، إذ يبحث في مادة الحديث النبوي وينظر في دلالاتها، ويقوم بمقارنة نصوص الحديث بالنصوص المسيحية، لتبيّن علاقة الفكر الكامن في الحديث النبوي بالفكر المسيحي والقرآني، كما انتهج في بعض مراحل الدراسة منهجًا تاريخيًا يصبو إلى تقصّى الحقائق التاريخية المتصلة بفترة النبوة والعلاقة بين النصارى وأهل الإسلام، وينظر في مطابقة الأحاديث للواقع التاريخي.

وقد خص الباب الأول للدّراسة بمقدمة استعرض فيها مجمل القضايا التي سيعرضها في فصول هذا الباب، فقد قسّمه إلى فصلين، تعلّق أولهما بالنظر في الأحاديث التي اتصلت بالأشخاص المُقدّسين عند النصارى (مريم – المسيح – يوحنا)، وقد سعى فيه إلى بيان رؤية النصارى لهم انطلاقًا من الحديث النبوي ومظاهر تكذيب الرسول وإنكاره لما قالته النصارى في شأنهم.

أما الفصل الثاني، فقد خصصه لبيان كيفية تمثّل النبي محمد لأهم المقولات النصرانية، وخاصة ما تعلّق بتجسد المسيح وصلبه وقيامته، مجيبًا عن السؤالين التاليين:

ما هي صورة الأشخاص النصارى المذكورين في الحديث النبوي؟

كيف فهم النبيُّ العقائد النصرانية المتّصلة بشخص المسيح؟ وكيف تمثّلها؟

إن أبرز ما أمكن التوصّل إليه في الفصل الأول من خلال دراسة صورة المسيح وأمه مريم ويحيى، يتمثّل أساسًا في تأكيد الحديث الفرق الواضح بين مفهومي النبوة والألوهية. وذلك عبر التمييز بين شخصية عيسى النبي المولود من مريم العذراء، بقدرة إلهية خارقة وبأمر منه، وبين الله الخالق المتفرّد في صفاته وذاته المنزّه عن كل التشابه والمماثلة؛ فعيسى نبي من الأنبياء، خصّه الله بالإنجيل، وبجملة من المعجزات والدلائل لتثبيت نبوته، آمن بالأنبياء قبله، وبشّر بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلّم، يعود قبل يوم القيامة ليؤكد انتسابه إلى الإسلام وعقيدة التوحيد، مصدّقًا برسالة النبي محمد، منكرًا لما ينسبه إليه النصارى من أمور لم يقلها ولم يدع إليها مطلقًا.

وشخصية مريم عليها السلام تظهر لها من المكانة والحظوة في أحاديث الرسول ما جعلها أفضل النساء وأكملهن، نظرًا إلى صلاحها وتقواها وعبادتها لله، وكونها والدة لنبيّ ، وهي في مرتبة عليا، لكنها لا تتجاوز مرتبة البشرية كما تصورها الأناجيل ومصادر الإيمان المسيحي.

واتضحت معالم النبوة والأخوة في الأحاديث النبوية، حين تم البحث عن صورة يحيى، فمثله كمثل عيسى ومحمد في النبوة، ولا تقلّ منزلته عند الخالق ولا نبوته عن نبوة عيسى ومكانته، بل إن عيسى واصل رسالة التوحيد التي بدأ يحيى بنشرها.

كذلك اتضح للباحث من خلال هذا الفصل، أن الحديث النبوي تضمّن عناصر قد أُخِذت من القرآن وأخرى من الإنجيل والتوراة كعودة المسيح في آخر الزمان. ويرى الباحث أنه قد غلب على الكثير من هذه الأحاديث الطابع الخيالي والأسطوري، وخالفت العقل وغايرت الحقيقة، متى قارنّاها بالقرآن وأخضعناها لعلم الجرح والتعديل، ونظرنا في مضامينها وفي الإطار الذي قيلت فيه.

كذلك، فإن من رأي الباحث أن جملة من الأحاديث تكشف عن الصراع على السلطة بين الإسلام والمسيحية، مثل تلك التي تؤكد أن محمدًا خاتم النبيين وأنه اللبنة الأخيرة، والأحاديث التي تثبت تبشير عيسى بمحمد ونشره لرسالة الإسلام قبيل فناء العالم. إن هذه الأحاديث بمثابة ردود إسلامية على التصور المسيحي لعيسى وعلى عقيدة عودة المسيح الإنجيلي، ذلك أن كل طرفٍ يرى أن نبيه خاتم المبعوثين، وأن الخلاص يكون به، وأن ديانته آخر الرسالات.

ويأتي الفصل الثاني من الباب الأول في هذه الدراسة، ليدرس الباحث المقولات المسيحية في الحديث النبوي، ويبدأ بمقولة (التثليث) ثم (الصَّلب) ثم (القيامة والخلاص).. مؤصّلاً لها من الكتابات المسيحية أولاً، مستعرضًا ما يتحدث عنه من الأحاديث النبوية، ليتطرق إلى أسباب رفض الحديث النبوي لهذه المقولات ودواعي هذا الرفض.

ورأى الباحث أن الحديث أكّد نبوة عيسى وبشريته، وحاول إثبات التوحيد المطلق لله ونفي كل معبود آخر سواه في الوجود، كما أكّد الحديث على انعدام صلب المسيح أو كونه فاديًا وموته لأجل خطايا البشر، وأثبت مقابل ذلك أن كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه....، واعتبر أن الخلاص فرديٌّ.

وإن كان للنصارى بمختلف أجناسهم وفئاتهم كيان ووجود وتاريخ داخل الجزيرة العربية، ولهم بالمسلمين علاقات، سواء على مستوى التعايش أو الصدام؛ فقد عمل الباحث على جمع الأحاديث التي توضّح طبيعة العلاقة بين المسلمين والنصارى، وقد قسّم العمل في هذا الباب إلى قسمين، الفصل الأول: علاقة المسلمين بالنصارى في مراحل السلم؛ الفصل الثاني: علاقة المسلمين بالنصارى في حالة الحرب .

وقد تبيّن في الفصل الأول للباحث أهمية موقع النصارى ومكانتهم في المجتمع الإسلامي، وما أقرّه لهم النبيّ من حريات وحقوق، وأنهم أهل ذمّة تصنيفًا لهم لا احتقارا أو انتقاصًا. ومكّن الحديث النبوي من تأسيس ومدّ جسور المواطنة معهم، وردّ العدوان عنهم وحمايتهم من كل أشكال الاعتداء والظّلم؛ فشكّلوا كيانًا دينيًا وروحيًّا مميزًا ومحترمًا داخل الدولة الإسلامية.

ورأت الدراسة من خلال بحث العادات والطقوس الدينية النصرانية في الحديث النبوي، أن بعض هذه العادات تم تحويرها في الحديث لتعبّر عن تحوّل المجتمع وتغيّره، وعن عقيدة التوحيد المطلق لله، وكان ذلك لحاجات طقوسية اقتضاها واقع الأمة الإسلامية في عهد النبي وعهد الصحابة والتابعين، وقد اتضح من خلال الدرس تداخل الفكر الشعبي الخرافي عن السابقين بالفكر الديني الذي ينهى عن التّشبه بالغير، ويُحذّر من كل ضروب الشرك بالله، ويرسم ملامح جديدة للمجتمع الإسلامي الناشئ يخالف بها الوثنيين والنصارى والأمم الأخرى.

وتوصلت الدراسة إلى إبراز تمجيد المسلمين ورواة الحديث عند حديثهم عن النصارى لنبوة محمد والرّسالة الإسلامية من خلال ذكر المواقف السياسية للقادة والملوك الذين توجّه إليهم النبي بدعوته، ومن خلال بشارات الرهبان والكتب والرسائل والأنبياء السابقين، وعبر تصوّر إسلامي يقوم على إثبات دوام الإسلام وبقائه وزوال عقيدة النصرانية عند قدوم الساعة؛ فالإسلام آخر الأديان وخاتمها، والمسلمون أفضل الأمم.